كلام فى ما يجرى يونية 2005

محمد حسنين هيكل

"رغم أن الأستاذ هيكل ـ التزامًا بقرار اتخذه ـ يبتعد عن التعليق المباشر ـ كتابة ـ علي أحداث جارية، إلا أننا ـ دون تعسفٍ أو مبالغة ـ نري في بعضِ ما قاله

المحـتــوي

"رغم أن الأستاذ هيكل ـ التزامًا بقرار اتخذه ـ يبتعد عن التعليق المباشر ـ كتابة ـ علي أحداث جارية، إلا أننا ـ دون تعسفٍ أو مبالغة ـ نري في بعضِ ما قاله قبل سنواتٍ اقترابًا ـ وربما تنبيهًا مبكرًا ـ لمخاطر أزمة عندما طرقت أخيرا أبوابنا، بدت لبعضنا «مفاجِئةً» وما كان لها أن تكون كذلك. قبل أعوام ثلاثةٍ كاملةٍ أو كادت (14 أكتوبر 2002)، وفي افتتاح الموسم الثقافي للجامعة الأمريكية بالقاهرة، ألقي هيكل محاضرةً تحدث فيها عن ضرورة أن نرتب أوراقنا «الآن» لمستقبلٍ، وإن كان نظريا ـ بحكم الطبيعة ـ في رحم الغيب، إلا أن وقع أقدامه الثقيلة يمكن أن يكون مسموعا لمن يريد أن ينصت .. فيسمع. المحاضرة التي أجملت مضمونَها في عنوانها «المستقبل ـ الآن» كان لها وقتها ردودُ فعل متعددة، و«متعدية» في بعضها لخطوطٍ كان تجاوزُها يشير مبكرا إلي أن مصر ستواجه ما تواجهه الآن. .......... نستأذنُ قارئنا.. ونستأذن أستاذنا في أن نعيدَ قراء`ة المحاضرة." وجهات نظر" حضرات السيدات والسادة إنني سعيد إذ أجد نفسي الليلة وسط هذه الصحبة الكريمة المهتمة بالشأن العام، والحريصة علي متابعة الحوار فيه. وسعيد أيضا أنني أتكلم في هذه القاعة التي سمعت علي مدار تاريخها صوت الحوار مفتوحا دون قيد. وسعيد أخيرا أن ذلك يجري في رحاب هذه الجامعة التي قامت ومازالت تقوم بدور تعليمي وتنويري أضاف إلي العقل العربي ومازال يضيف. وحديثي الليلة حول موضوع حسبته لازما ــ وغرضي منه إلقاء نظرة فاحصة ومتأملة علي أحوال مصر قبل نهاية هذه السنة بالذات ــ فتلك كما قيل وتكرر بإلحاح طوال شهورها ــ ذكري مرور نصف قرن علي ثورة سنة 1952 ــ وقيمة أي مناسبة من هذا المستوي أنها تذكير بما جري بالأمس، وتفكير فيما يجري اليوم، واستشراف لشكل غد مأمول ومرتجي. وربما تفضل البعض ولاحظ أنني علي شدة ما اقتربت من ثورة يوليو ومن قائدها ــ تباعدت عامدا عن مناسبة الذكري ولم أشارك بفعل أو بقول في احتفالاتها ــ لسببين: أولهما ذاتي ــ والثاني موضوعي. ــ السبب الذاتي ــ أن ذلك الاحتفال بالطريقة التي جري بها كان هوائيا ــ صاخبا ــ ومسرحيا. وفيما بدا لي فقد كان الاحتفال الذي امتد عاما بأكمله (كما قيل) ــ مناسبات لا أظن أن أيا منها ترك علامة، أو استنهض همة، أو رسم خطا يومئ إلي أفق أو يدل علي طريق. ــ والسبب الموضوعي ــ أن الاحتفال جري محاولة للتوفيق والتزويق، خلطت السياق وتعسفت مع المراحل، حتي بلغت حدا شديد الوطأة ــ ليس علي التاريخ فحسب، وإنما علي العقل وعلي الوعي، وبالتالي علي المستقبل، وعلي الضرورات التي تستدعي النظر إليه ودراسته والاستعداد لرحلته. ولقد كان يمكن لمناسبة الذكري أن تضع أمام الشعب والأمة خريطة تكشف وترشد، لكنها لسوء الحظ وضعت أمامه ألبوم صور لا منطق فيه ولا معني. كانت الصور لأربعة رجال رُتبت مواقعهم متصلة ببعضها، متتالية واحدة بعد الأخري. وفي وضع الصور إيحاء بأن الجميع عائلة متماسكة، وعصر ممتد، وسياق متسق، وبالتالي فهم في الهوية رؤية واحدة، وفي المرجعية سند واحد، ثم إنهم في النتيجة شرعية متصلة، وظني أن ذلك غير صحيح. ولست هنا في مجال إصدار حكم أختار به أو أنحاز ــ مع أن ذلك إنساني! ــ وإنما مطلبي الآن مجرد الملاحظة، والتحديد، والتمييز، لأنه في القواعد الأساسية للحساب لا يجمع غير المتشابه! وحقيقة الأمر ــ بدون مقارنة أو مفاضلة أو تقييم ــ أننا أمام أربع صور حول كل واحدة منها إطار يحدد ويفصل، والألبوم من أوله لآخره ناطق بأن تلك الخمسين سنة لم تكن عمرا تدفق طبيعيا مرحلة بعد مرحلة، وإنما هي بكل الشواهد ــ عصور متعددة ــ اختلفت ــ وتناقضت ــ وفي بعض الأحيان تصادمت. وترتبت علي هذه الأحوال نتائج: أبرزها، تباين رؤي للهوية وتباين نظر إلي المرجعية، وبالتالي تباين أسس في الشرعية. وقد تكون تلك طبيعة ظروف تبدلت ــ أو طبيعة نفوس تغيرت في وطن خرج (طبق مقولة عالِم الاجتماع الأشهر «ماكس فيبر») من مرحلة الإطار الأبوي التقليدي للشرعية ــ إلي شرعية مرحلة الانتقال وفيها دور الرجل الواحد سواء كان ذلك الرجل زعيما شعبيا، أو خلفا له من أقرانه، أو من جهاز الدولة المسئول عن تسيير الأمور ــ (وذلك تقدير «فرانسيس فوكوياما» وهو عالِم اجتماع آخر معاصر)، مع العلم (وتلك مرة أخري عودة إلي «ماكس فيبر») ــ أن كلا من المرحلتين التقليدية الأبوية، ومرحلة الرجل الواحد وما بعدها تمهد للنموذج الأرقي من الشرعية وهو الشرعية الدستورية القانونية. وقد كان ذلك هو الهدف الذي كافح الشعب المصري ــ وغيره من شعوب الأمة العربية لبلوغه ومازالوا ــ مؤمنين أنه حق الوطن وكرامته ودرس التاريخ وعبرته. وكان هناك شكل لهذا النموذج من الشرعية قبل الثورة ــ لكن نتائج التجربة تكشف أنه ظل استعارة للمظهر دون الجوهر لأن الشرعية الدستورية والقانونية تتأتي وتترسخ نتيجة تطور اقتصادي وسياسي وثقافي يتجلي معه نوع من النمو المجتمعي يعطي للشعوب والأمم فرصة للحوار تتكافأ فيه المواقع، ومن ثم تتوازن المصالح وتتوافق الأهداف. وللإنصاف فإنه في بلدان مستعمرة أو محتلة، وهو ما كان عليه الحال في كل البلدان العربية إلي بداية الخمسينيات من القرن العشرين، فإن الكلام عن الشرعية الدستورية القانونية يجيء حلما متخطيا للواقع، لأن الاستعمار والاحتلال الأجنبي كلاهما مانع من الشرعية، والممكن الوحيد في مثل تلك الظروف هو ملء الفراغ بنوع من نصوص القانون تفرضه القوة الغالبة. وحكم الحياة في مواجهته ظهور نوع من مشروعية المقاومة يعبر عن إصرار يتحدي الواقع المفروض ويجاهد للانتصار عليه. ومن قبل الثورة ــ وبعدها ــ وحتي الآن، فليس من باب التجاوز أن يقال أن ما عاشه العالم العربي ظل محصورا في نوعين ــ أو إطارين من الشرعية ينتظران ثالثهما طبق مقولة «ماكس فيبر»: ــ عرف العالم العربي تجربة الشرعية الأبوية التقليدية ــ قبلية أو عائلية ــ وهي مازالت حاكمة حتي الآن في بعض أوطان الأمة، تسمي نفسها ملكيات أو سلطنات أو مشيخات أو أوصافا من هذا القبيل. ــ وعرف العالم العربي تجربة شرعية الانتقال يبرز

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions