القـرار السياسي الأمــــــريــــكـي في زمـــن قــادم! أكتوبر 2003

محمد حسنين هيكل

أولا:جيوش تبحث عن غطاء! تبدو الإشارات المتكررة ــ في هذه الأحاديث ــ إلي دور متزايد للقوات المسلحة في صنع القرار السياسي الأمريكي أمرا مستغربا

المحـتــوي

أولا:جيوش تبحث عن غطاء! تبدو الإشارات المتكررة ــ في هذه الأحاديث ــ إلي دور متزايد للقوات المسلحة في صنع القرار السياسي الأمريكي أمرا مستغربا ــ لكن سبب الإشارات المتكررة مما يمكن شرحه (وذلك موضوع هذا الحديث) ــ كما أن دواعي الاستغراب مما يمكن فهمه، لأن الولايات المتحدة الأمريكية ــ ليست واحدة من "جمهوريات الموز" التي عرفتها دول أمريكا الوسطي في عصر من العصور ــ أو "نظم قشر الموز" التي تزحلقت عليها أوطان عربيــــة كثيرة ــ (ملكية أو جمهـورية ــ فردية أو عائلية) ــ إلي حيث لا تعـرف ولا تريد! ومع ذلك ــ وبرغم كل شيء ــ فأي مراقب جــــــاد للحــــــياة السياسية الأمريكيـــــة يستطيع أن يلمح (حتي خلال زيارة عابرة) ــ إشارات تومئ إلي أن القوات المسلحة الأمريكية تتجاذبها عوامل تدفعها أكثر وأكثر إلي جدل مع القــــرار السياسي لم يكن مألوفا من قبل! وكما يظهر ــ فإن إدارة الرئيس "چورچ بوش" وهي تشق طريقها لغزو العراق ــ خاضت معركتين في نفس الوقت: * معركة محدودة التكاليف ــ حتي الآن ــ بداعي إسقاط نظام الرئيس "صدام حسين". * ومعركة مجهولة التكاليف ــ مازالت مستمرة ــ بداعي خلافها مع رئاسة القوات المسلحة الأمريكية حول "مشروعية" و"معقولية" المطالب الإمبراطورية الملهوفة التي طرحتها ومكنت لها مجموعة قليلة العدد (بضع مئات) من الرجال والنساء ــ سيطروا علي البيت الأبيض وعلي الإدارة وعلي الحزب الجمهوري، أي علي القرار الأمريكي، ثم قاموا بتوظيفه ــ بمنطق "الاستيلاء" ــ علي طريقة بارونات شركات النفط، والسلاح، والصناعات الإلكترونية والاستهلاكية، واحتكارات الإعلام والإعلان، وبورصة الأوراق المالية وغيرها ــ وتوصلوا لاستدراج السلاح الأمريكي نحو منحدر يتنازل بفكرة "القوة" ــ حتي تصبح "ظاهرة عنف"، ويهبط بإستراتيچيات الحرب لتصبح "ممارسة قتل"، وتلك هي النتيجة المحققة إذا تخلت السلطة عن القانون، وتلاعب أصحاب القرار بالمشروعية، وسخروا قيمة العمل العام ستارا للمصالح، متسببين بذلك في أزمة ضمير تستهلك كرامة الدول، وتهين وعيها، وتقسم المجتمعات علي نفسها، وتبدد الثقة الضرورية في الضــــمــــانات الدســــتورية والأخـــــلاقية التي تمنح السلطة هيبتها وتفرض طاعتها! ذلك أن الجيوش تحارب وتضحي راضية تحت رايات أوطانها حفاظا علي مصالح وأمن شعوبها، لكنه عندما يطلب من الجيوش أن تقاتل ــ ثم تنكشف وتنجلي دوافع الحرب، ويبين أنها جاءت خديعة للمواطنين وكذبا عليهم ــ إذن فهناك مراجعات، وهناك حسابات، وهناك عواقب، وذلك بالضبط ما يجري اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية ــ (وفي بريطانيا). ......................
...................... [وكانت فضيحة ووترجيت التي أطاحت برئاسة "ريتشارد نيكسون" في السبعينيات من القرن الماضي هي الخديعة والكذب علي الشعب الأمريكي ــ ولم تكن مجرد أمر "نيكسون" بوضع أجهزة تنصت في مقر الحزب الديمقراطي لكي يعرف الخطط الانتخابية لخصومه السياسيين ــ مسبقا ويفسدها عليهم! كذلك لم تكن فضيحة "مونيكا لوينسكي" التي كادت تطيح بالرئيس "بيل كلينتون" ــ علاقته بمندوبة شابة في البيت الأبيض مارس معها نوعا من الجنس في مكتبه (والحقيقة أنها هي التي اعتدت عليه ولم يكن هو الذي بدأ) ــ وإنما كانت خطيئة "كلينتون" أنه عندما سُئل خادع وكذب ــ وأمعن في الإنكار طويلا، مسيئا بذلك إلي منصبه، ومستهترا بأصوات الناخبين التي وضعته في مكتبه]. [وبالطبع فإنه يصعب حتي هذه اللحظة تصور أن تؤثر خديعة الشعب الأمريكي والكذب عليه في موضوع العراق بمثل ما أثرت فضيحة ووترجيت وفضيحــــة "مونيكا لوينســـــكي" ــ لأن قضايا الداخل مباشرة وحساسة، في حين أن قضايا الخارج تخالطها اعتبارات كثيرة ــ لكنه الحساب العسير في أقل القليل ــ وقد تنعكس آثاره علي انتخابات الرئاسة نهاية العام القادم ــ (خصوصا إذا تفاعلت مع أزمة الاقتصاد الأمريكي)]. .....................
..................... ومن الطبيعي أن أي مشروع إمبراطوري يطرح نفسه علي الأزمنة الحديثة ــ يتعين عليه أن يتقدم إلي مقصــــده علي مراحـــل ــ واحدة بعد الأخري. ثم إن أي مشروع إمبراطوري عليه أن يعرض نفسه في كل مرحلة بما يتوافق معها، فقد انقضي الزمن الذي كان فيه الغزاة (من الإسكندر الأكبر ــ إلي چنكيز خان) يظهرون بجيوشهم فجأة علي حافة الأفق، حاجبين عين الشمس بجحافلهم، تاركين الأعنة لجيادهم، شاهرين السيوف علي أعدائهم ــ عواصف من النار والدم. وعليه فإن المشروع الإمبراطوري الأمريكي ــ الحديث ــ طرح نفسه علي زمانه خلال مراحل ــ لكل واحدة منها لبوسها: * في مرحلة أولي كان الأسلوب هو "الغواية" (نموذج الحياة الأمريكية وحرية كل فرد في السعي وراء الفرصة و"السعادة"!). * وفي مرحلة ثانية كان الأسلوب هو الاستعداد "لمشاركة" العالم مقاديره (كما حدث في الحرب العالمية الأولي حين جاءت الجيوش الأمريكية من وراء البحار طرفا في معركة الإمبراطوريات العجوزة أو الطامعة). * وفي مرحلة ثالثة كان الطرح الأمريكي استجابة لنداء "المبدأ" (كما حدث في حالة النقاط الأربعة عشرة التي أعلنها الرئيس "وودرو ويلسون" بعد الحرب العالمية الأولي (حقا لكل شعوب الأرض في تقرير مصائرها). * وفي مرحلة رابعة كان الأسلوب هو تحمل العبء الأكبر من ضريبة الحرية (في الحرب العالمية الثانية ضد الفاشية والنازية). * وفي مرحلة خامسة كان الأسلوب بلوغ مرحلة قيادة العالم في المواجهة ضد الشــــــــيوعية، وكانت لأمريكا فيها وسيلتان: المساعدات الاقتصادية من ناحية، وأعمال المخابرات الخفية من ناحية أخري. * وأخيرا حلت المرحلة السادسة، ولم يعد للمشروع الأمريكي أن يتخفي أو يداري، لأن "تفـــــوق القوة" وتفردها أدي إلي اعتبار السلاح أداة للمشروع تسبق غيرهــــا مـــن الأدوات وتتقـــــــــــدمها دون تردد! ومن حسن حظ الإمبراطورية الأمريكية أن قواتها المسلحة كانت جاهزة لمشروعها ــ عندما علا شأنه وحان أوانه في نظر الحالمين به والملهوفين عليه، فقد كانت مؤسسات التفكير الإستراتيچي قائمة ــ وقوة السلاح

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions