نـــون.. استنساخ الديمقراطية على الطريقة الأمريكية يناير 2003

سلامة أحمد سلامة

فى أعقاب الهجمات التى تعرضت لها أمريكا فى سبتمبر 2001، فرضت وسائل الإعلام الأمريكية على نفسها حظرًا يقرب من التحريم، على ما يمكن أن يشير من قريب أو بعيد

المحـتــوي

فى أعقاب الهجمات التى تعرضت لها أمريكا فى سبتمبر 2001، فرضت وسائل الإعلام الأمريكية على نفسها حظرًا يقرب من التحريم، على ما يمكن أن يشير من قريب أو بعيد إلى مسئولية أمريكا نفسها عن الأسباب والظروف التى أفضت إلى وقوع هذه الهجمات. وأبعدت بعض محطات التليفزيون والصحافة المطبوعة بعض الصحفيين الذين حاولوا ترديد مثل هذه الأقوال والآراء. غير أن أى شخص على قدر من الجدية ممن يحيطون علمًا بطبيعة العلاقات التى تربط بين الولايات المتحدة الأمريكية والعالم العربى والإسلامى فى الشرق الأوسط، كان يدرك عن يقين أن هذه هى الحقيقة. بل إنها لا تعدو أن تكون غير جزء من الحقيقة. فليس هناك من يجهل أن ممالأة أمريكا لإسرائيل سياسيا واقتصاديا وعسكريا فى الصراع الإسرائيلى الفلسطينى، منذ عام 67، بل وقبل ذلك، قد أدى إلى تآكل الموقف الأمريكى تدريجيا فى العالم العربى، وأنشأ علاقة مركبة من الحب والكراهية، من الانبهار والازدراء، من استجداء المسـاعدة وصب اللعنات بين الغالبية الغالبة من طبقات الرأى العام على اختلافها. ولكن السياسيين والمفكرين الذين يعملون تحت عباءة المؤسسة الأمريكية اكتفوا بالوقوف عند أعراض المشكلة دون جذورها. فالمسألة فى نظرهم لا تعدو أن تكون تعارضًا حادًا فى منظومة القيم بين أمريكا والغرب من ناحية، والعالم الإسلامى من ناحية أخرى.. المجتمعات الإسلامية فى رأيهم ـ وقد يكون ذلك صحيحًا بدرجة ما ولكنه ليس السبب فى أحداث سبتمبر ـ تعانى من تخلف شديد فى درجة الحريات المدنية والسياسية، وفى التنمية الاقتصادية، وفى وضع المرأة. ومرد ذلك فى تصورهم إلى أن المجتمعات الإسلامية تمسكت بنظام للقيم يرفض الحرية الدينية، والتكنولوجيا الغربية، وأساليب الحكم السائدة فى الغرب. وهو ما أدى فى اعتقادهم الذى ما فتئوا يرددونه إلى جمود هذه المجتمعات وافتقارها إلى الديناميكية اللازمة لمواجهة تحديات العصر. حتى أصبحت بمرور الوقت تربة صالحة لتوليد الإحباط واليأس بين الشباب. واختمار نزعات العنف والإرهاب فى ظل تزايد الهوة بين الأغنياء والفقراء، وتضاعف معدلات البطالة، وعجز النظم التعليمية وامتلاء المناهج بالمبادئ التى تروج للجهاد والثورة من ناحية أو للخضوع والخنوع للسلطة من ناحية أخرى. وخلال الفترة الأخيرة تصاعدت هذه النغمة فى الغرب وفى أمريكا على وجه الخصوص، لتبرر للرأى العام الأمريكى أسباب الهجمات التى تعرضت لها البلاد فى سبتمبر. وفى المحاضرة التى ألقاها باول فولفيتز نائب وزير الدفاع الأمريكى فى لندن أخيرًا، ودعا فيها صراحة إلى ضرورة تغيير الأنظمة فى عدد من الدول العربية، لم يتردد فى القول بأن نظام الاختيار الحر الذى تقوم عليه الديمقراطية. يصطدم بمبادئ الأصولية الإسلامية، التى انقلبت إلى نوع من الثورة على الحكومات غير الدينية وعلى الغرب.. وانتهى فى محاضرته إلى التنبؤ بأن «لونا» جديدًا من «الإسلام» سوف ينبثق من أعماق هذه التيارات، أكثر تلاؤمًا مع الديمقراطية وتكيفًا مع منظومة القيم التى تعبر عنها حضارة الغرب.. إسلامًا يصلح للعصر، ولا يعادى أمريكا والغرب، ولا يكون عقبة فى طريق التقدم. وبينما يرى فولفيتز فى التطور الذى حدث فى تركيا مدعاة للتفاؤل بقرب انتشار هذا الاتجاه، فإنه يرى أن «الأنظمة السلطوية فى مصر والسعودية وباكستان لا تبدى استعدادًا للتكيف مع هذا الزلزال التاريخى الذى يكتسح العالم». ثم انضمت إلى «الكورس» أصوات أخرى غير فولفيتز، مهدت للخطاب المهم الذى بشر به كولين باول وزير الخارجية العالم العربى والإسلامى بقرب انبلاج فجر الديمقراطية على العرب بمساعدة أمريكا. وكان من أهمها تلك المحاضرة التى ألقاها ريتشارد هاس مدير إدارة التخطيط بوزارة الخارجية الأمريكية، ونعى فيها على العالم الإسلامى تلك الفجوة الديمقراطية الهائلة التى تفصل بينه وبين العالم. ولكى لا تبدو تلك المقولة اختراعًا أمريكيا صرفًا، فقد استند هاس إلى تقرير التنمية البشرية عن العالم العربى الذى نشرته الأمم المتحدة قبل عدة شهور، وصور فيه المنطقة العربية فى وضع متخلف عن مناطق العالم الأخرى فى العديد من أوجه الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكان لابد أن تحمل أمريكا على عاتقها مسئولية الرسالة التى نذرت نفسها لها وهى نشر الديمقراطية فى العالم.. وفى العالم العربى على وجه الخصوص. ولا يجد هاس فى ذلك شيئًا غريبًا أو خارجًا عن المألوف. فمبادئ المنفعة الأمريكية تطوع كل شيء لخدمة أهدافها.. انتشار الديمقراطية فى العالم الإسلامى لن يعود بالنفع على شعوب هذه الدول فحسب، بل يعود بالنفع أيضًا على أمريكا نفسها. لماذا؟ لأن الديمقراطية تفتح آفاق الحرية الاقتصادية، وتحرر الأنظمة السياسية المغلقة، وتخفف من الضغوط الداخلية التى تولد التطرف، وتجعل من اليسير على الأنظمة الحاكمة أن تتحالف مع أمريكا فى محاربة الإرهاب ونزع أسلحة الدمار الشامل. تلك هى فلسفة «المشاركة الجديدة» التى ستحكم العلاقات الأمريكية بالعالم الإسلامى، والتى تردد كولين باول وزير الخارجية الأمريكية ثلاث مرات قبل إعلانها. وفى ظنه أن هذه المشاركة لابد أن تدعم التنمية فى ثلاثة مجالات رئيسية من أجل دفع التقدم فى العالم العربى لإصلاح الاقتصاد، والتعليم، والنظام السياسى. يحار المرء كثيرًا فى فهم الدوافع الأمريكية وراء توقيت إعلان هذه المبادرة وأهدافها الحقيقية. وعلى الرغم من أن الإدارة الأمريكية تنكر تمامًا أن يكون لها أجندة خفية وراء الدعوة المباغتة للإصلاح المدنى والاقتصادى والسياسى الذى وضعته وخططت له دون مشاورة أحد من أصحاب الشأن فى العالم العربى الإسلامى.. إلا أن التصورات الأمريكية لتنفيذ هذه الرؤية الإصلاحية تبدو وكأنها ستتم فى معامل البحث الأمريكية. وكأنها تجربة لاستنساخ الديمقراطية تتم وسط شروط معملية فى أحد مراكز الأبحاث الأمريكية، بعيدًا عن أجواء الريبة والسخط التى تسد أفق الرؤية فى العالم العربى. سواء بالنسبة لخضوع السياسة الأمريكية للتأثيرات الليكودية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، أو بالنسبة لمنطق الحرب الذى فرضته إدارة الرئيس بوش على

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions