أمن الإنسان فى البلدان العربية:تقـرير جـديد وآلية مغــايرة



تشغل السيدة «أمة العليم السوسوة» منصب الأمين العام المساعد للأمم المتحدة، والمدير المساعد والمدير الإقليمي للدول العربية ببرنامج الأمم المتحدة الإنمائى.

بعد أيام قليلة يعلن برنامج الأمم المتحدة الإنمائى الإصدار الخامس فى سلسلة تقارير التنمية الإنسانية العربية تحت عنوان «تحديات أمن الإنسان فى البلدان العربية» والذى يُعمِل التوصيف الأشمل لمفهوم أمن الإنسان الذى قدمه تقرير التنمية البشرية الدولى لعام 1994 كعدسة كاشفة يتفحص من خلالها عن كثب أوضاع التنمية الإنسانية فى المنطقة. فى هذه المقاربة يتخطى التحليل النطاق التقليدى للأمن الذى يركز بالأساس على المفهوم الضيق لأمن الدولة إلى مفهوم موسع يتخذ الإنسان محوره الأساسى. ويشدد التقرير على علاقة الارتباط الوثيق بين أمن الدولة وأمن الإنسان إلا أنه يؤكد على أن نمط العلاقة الساثد تقليديا والذى يتم فيه تغليب الأول على الأخير، يؤدى إلى عدم تحقق أى منهما، فى حين أن ضمان أمن الإنسان بأبعاده المتعددة ــ والذى هو بالأساس مسؤولية الدولة ــ يؤدى إلى تعاظم فرص التنمية وتعزيز أمن الدولة ذاتها.
التقرير يتناول بالرصد والتحليل المعمق أبعادا متعددة من التهديدات التى تواجه أمن الإنسان فى البلدان العربية وتشمل الأضرار التى تصيب قاعدة الموارد الطبيعية (البعد البيئي)، وتلك المرتبطة بدور الدولة فى تحقيق أمن الإنسان (البعد السياسي)، وتلك التى تؤثر بشكل غير متناسب فى الفئات المستضعفة (البعدان الشخصى والاجتماعي). كما تشمل المخاطر الاقتصادية والفقر والبطالة (البعد الاقتصادي)، والافتقار إلى الغذاء (البعد الغذائي)، وقصور الرعاية الصحية الأساسية (البعد الصحي)، فضلا عن المصدر الرئيسى الذى يتهدد أمن الإنسان بشكل شامل ومنهجى والمتمثل فى الاحتلال الأجنبى للأراضى العربية.
عدسة الأمن الإنسانى كما يُعملها التقرير تظهر لنا مدى هشاشة أوضاع هذه الأبعاد الرئيسية لمفهوم الأمن فى بلداننا العربية على اختلافها، مما يؤدى إلى معايشة مواطنيها تهديدات جوهرية مشتركة تحد بشكل حقيقى ومؤثر من قدراتهم ومن الخيارات المتاحة لهم ليعيشوا حياة كريمة وليتمتعوا بحرياتهم وحقوقهم الأساسية، بل وفى بعض الأحيان ليضمنوا الحد الأدنى المتمثل فى البقاء. وبهذا فهى تحد من قدرة البلدان العربية على إحراز تقدم حقيقى أو معالجة مواطن القصور التى تعوق مسيرة التنمية الإنسانية بها فى مجالات تأتى على رأسها المعرفة والحريات وتمكين المرأة، وهى أولويات تنموية طرحتها الأجزاء الأربعة السابقة التى كونت السلسلة الأولى من تقارير التنمية الإنسانية العربية.


وتقرير هذا العام يستكمل مسيرة السلسلة الأولى فى النقد الذاتى المتبصر والرصين لأحوال التنمية فى البلدان العربية والذى يمثل خلاصة جهد مجموعة متميزة من الخبراء والباحثين ذوى الجذور العميقة فى المنطقة والخبرة الواسعة بواقعها التنموى وديناميات التغيير بها، وهو نقد يمارسونه فى استقلالية فكرية تامة يحرص عليها ويدعمها برنامج الأمم المتحدة الإنمائى. شهدت عملية إعداد تقرير هذا العام مجموعة من التغيرات شملت توسيع نطاق المشاركة فى لجنته الاستشارية لتشمل تمثيلاً واسعاً لمختلف التيارات الفكرية فى المنطقة وزيادة التمثيل النسائى ولكن لعل أهم التغيرات تمثل فى إتاحة الفرصة لما يربو على المائة من الشابات والشبان من مختلف أرجاء المنطقة للمشاركة بآرائهم فى صياغة التقرير بشكل فاعل من خلال ثلاث جلسات تشاورية.
وقد آثرنا هذه المرة ألا تمثل مناسبة إعلان التقرير محطته النهائية بل أن تؤذن ببداية حوار واسع حول مقاربته بين مؤيد ومعارض لتحليلاته وأطروحاته، وهو حوار سيسعى برنامج الأمم المتحدة الإنمائى هذا العام إلى ترسيخ جديته وتنوعه وتعدديته الفكرية مع توسيع نطاقه الجغرافى والزمنى بشكل منظم من خلال اعتماد آلية جديدة لحوار ممتد على مدى ما يقرب من عام. وذلك بإطلاق التقرير من خلال سلسلة من الحوارات العامة الموسعة فى مدن عربية متعددة.
تبدأ السلسلة بحوار بيروت والذى يتلو مباشرة إعلان التقرير ، قبل أن تنتشر الحوارات شرقاً وغرباً فى ضيافة هيئات عربية متميزة فى الإسكندرية، ودبي، والرباط، والدوحة، وتونس، وعمان، لتتيح الفرصة لعدد وافر من صانعى القرار، وقادة الرأى وهيئات المجتمع المدني، لتفحص القضايا التى يطرحها التقرير وتدارس ما قد تثيره من أفكار وخيارات للتعامل مع مشكلات وقضايا أمن الإنسان فى البلدان العربية.
هذا وقد عهد البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة إلى مجلة «وجهات نظر» الفكرية الرصينة التى تصدر من القاهرة لتتولى تنظيم وإدارة سلسلة الحوارات لما تتسم به من استقلالية، ولما لها من وزن ومصداقية فى الأوساط الفكرية العربية، عـــــــلى أن يتـــم نشـــــــــر خلاصة تلك الحوارات بالطريقة الملائمة.
يستمر الحوار كذلك من خلال سلسلة من موائد البحث المستديرة يشارك فيها الخبراء ذوو الصلة، وتستضيفها مجموعة متميزة من مراكز الأبحاث والفكر فى البلدان العربية، إلى جانب موقع إليكترونى تفاعلى يجرى العمل على تطويره ليوسع قاعدة التعاطى مع التقرير إلى جمهور الفضاء الإلكترونى العريض وبالأخص من الشباب والذين سنعمل هذه المرة على أن نصدر لهم نسخة خاصة «شبابية» من التقرير.
ويحدونا الأمل أن تفرز هذه الإستراتيجية المتكاملة حواراً جاداً وعملى التوجه يغطى كافة أرجاء البلدان العربية ويصل إلى مواطنيها على تعدد انتماءاتهم بما يتناسب مع الجهد الكبير والمتفانى الذى بذله القائمون على إعداد هذا التقرير، وبما يرقى إلى أهمية موضوعه الرئيس.
إن أمن الإنسان فى البلدان العربية لهو موضوع خطير وآنى يستحق أن يشغل البال العربى العام ويتبوأ مكان الصدارة فى حواراته، لا أن يبقى حبيساً بين دفتى كتاب يرجع إليه المتخصصون بين حين وآخر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة