الـقـات الشــجرة الملعـــونة في اليمـــن



كثيرًا ما يظهر الرئيس اليمني علي عبدالله صالح علي شاشة التليفزيون في لباسه الرياضي وهو يمارس العدو والسباحة والغوص، ربما وهو يتعامل مع الكمبيوتر والإنترنت، تأكيدًا علي إقلاعه عن تعاطي القات، وكيف أصبح هكذا موفور الصحة والحيوية والنشاط، لعل الشعب اليمني يحتذي حذوه، في إطار الدعاية للمشروع القومي الذي بدأه بنفسه واختار له شعار «يمن بلا قات»! عن شجرة القات قال رجالات اليمن من السياسيين والعلماء والأدباء والشعراء الكثير من النقد والذم والهجاء، ونهضت جمعيات أهلية عديدة لمواجهة كوارث القات علي كل صعيد منذ عام 1995، بل خرجت أوائل عام 2003 مظاهرات شعبية ضخمة وغير مسبوقة في طول البلاد وعرضها، ضمت أكثر من خمسة ملايين يمني من بين تعداد السكان البالغ 20 مليون مواطن، وتصدرها مختلف ألوان الطيف الرسمي والشعبي، فيما يشبه إعلان حرب المجتمع اليمني ضد ديكتاتورية القات، ومع ذلك يظل التحرر والانعتاق من لعنة القات أشبه بالأمنيات السعيدة وأحلام اليقظة، حيث لاتزال الشجرة الملعونة تتحدي الجميع، بل تجتذب يوميًا المزيد من الضحايا المتيمين بها، رغم ما يتواتر عن مضارها كونها تذهب بالعقول والجيوب، وتفتك بالصحة العامة، وتهدر الوقت والدخل القومي والخاص! وتعجب للشعب اليمني الباسل كيف خاض الثورات والانتفاضات بإرادته الصلبة تباعًا، ونجح في التحرر من حكم أئمة آل حميد الدين البغيض في الشمال والاستعمار البريطاني في الجنوب، حتي قوض أسوار عزلته عن العالم التي امتدت قرونًا، وشرع في استعادة الوصال بموروثاته الحضارية، وكيف حقق معجزة الوحدة اليمنية وعض عليها بالنواجز حين داهمتها المؤامرة الانفصالية عام 1994، ثم يزداد العجب لأنه نفس الشعب الذي يكابد الاستسلام والخضوع الطوعي لسلطان القات! كنت في اليمن إثر اندلاع ثورة 26 سبتمبر عام 1962، وفجأة أوشك نجمها الساطع علي الأفول، حين انبري الرئيس عبد الله السلال يندد بلعنة القات، ويدعو اليمنيين إلي الإقلاع عن تعاطيه، ويتوعد باقتلاع أشجاره، فلما أدرك أنه يسبح ضد التيار سكت عن الكلام المباح! في عام 1972 عاد الأستاذ محسن العيني رئيس الحكومة اليمنية آنذاك إلي تأجيج الحرب ضد القات عبر أسلوب مختلف، لجأ أولاً للقاضي عبد الرحمن الإيرياني رئيس المجلس الجمهوري، وهو كان شخصية تاريخية بارزة ومرجعية دينية موضع احترام الجميع، وأقنعه بإصدار فتوي تؤكد أن القات مكروه شرعًا، بالنظر لمضاره العديدة، في الوقت الذي صدر قرار العيني باقتلاع أشجار القات المزروعة في الأراضي المملوكة للدولة أو التابعة للأوقاف، بدعوي عدم مشروعية الصرف من ريعها علي إيواء الأيتام وتعمير المساجد! لكن أحدًا من أصحاب مزارع القات لم يأبه لهذه المبادرات ولا اقتلع أشجاره، ووجدوا من بين رجال الدين من يفتيهم في المقابل بمشروعية زراعة وبيع وشراء القات والاستمتاع بتخزينه عن قناعة وباطمئنان! لم يعدم محسن العيني الوسيلة لمواصلة الحرب علي القات، جلب من مصر شحنة من الصناديق تحتوي علي كم هائل من دودة القطن التي تفتك بمحصولها القومي، ثم كلف من يسربها في الخفاء إلي بعض مزارع القات، لعلها وعساها تلعب دورًا قوميًا في القضاء علي أشجاره الملعونة، ولابد أنها سوف تزحف وتلتهم أوراقها، بل وقدر أن تبيض وتفرخ الملايين، وبعدها سوف تنتشر في غيرها من مزارع القات وتعريتها بالتالي من أوراقها، إيذانًا بالنهاية المحتومة لهذا الداء الوبيل! وعلي ما يبدو أن دودة القطن المصري ـ علي حد سخريات أهل اليمن ـ رفضت التدخل فيما لا يعنيها، ومن ثم امتنعت عن تنغيص المزاج اليمني، وربما راق لها القات واستحلبته هنيئًا مريئًا كما لو أنها المعينة في المثل القائل «جئتك يا عبد المعين تعينني.. وجدت يا عبد المعين في حاجة لمن يعينك، بينما لم يصدق علي هذه الحالة المثل القائل «وداوني بالتي كانت هي الداء»! لكن العيني لم يتراجع، دعا الأدباء والشعراء والوعاظ إلي مساندة حملته ضد القات وأجزل لهم العطاء، ومن ثم انبري أحدهم وهو الشاعر أحمد المعلمي ونظم قصيدة عصماء يندد فيها بالقات مطلعها: ورأي أن يحارب القات فالقات بلاء دواؤه غير سهل إنه سبة علينا وعار نحن منها ممرغون بوحل إنه آفة أقل مساويها مضي ساعات من غير شغل قاتل للأوقات وهو بلاء لشباب فينا وشيخ وكهل نحن نحيا عصر الفضا لم نعد نحيا بجهل حياة عير وبغل قد غزا عصرنا الكواكب بينما بعضنا فيه ماشيًا دون نعل فلما سمع محسن العيني القصيدة أعجب بها، وكاد يعمم تداولها في أجهزة الإعلام، لكنه تراجع عندما عرف أن الشاعر كتبها وهو يخزن القات وألقاها في أحد مجالس «تقويت» القات! هكذا تأزمت العلاقة كما لو أنها الثأر بين محسن العيني ومافيا القات، حتي نال شرف وصفه بـ «العدو الأول للقات» إثر قوله مؤخرًا في حديث صحفي «لا يمكن أن نبقي تنابلة السلطان.. نُخزن ونوسوس، نحلم ونتواكل ونكسُل.. ونمد أيدينا للغير، يقيمون لنا المدارس والمستشفيات، ويقدمون لنا الطعام، وينشئون المصانع ويستصلحون الأرض، ويفتحون لنا الجامعات ويقدمون المنح الدراسية لأولادنا و.. كأننا قرة عين الزمان»! علي أنه في حوار معه عبر الفضائية اليمنية، استدرك وقع الصدمة في موقفه من القات، وقال إن اليمنيين كانوا في الماضي لا يداومون التخزين كما هو حالهم اليوم، إذ كانوا بين حين وآخر يخزنون بعضًا من أوراقه، ثم استطرد قائلاً «صحيح أن مجالس القات متنفس للحوار ومبعث للمسرات، إلا أنها باتت ظاهرة خطيرة، خاصة أن الشباب والأطفال راحوا ينضمون تباعًا إلي جموع المخزنين، ومن هنا استشعاري للخطر الذي يهدد حاضر اليمن ومستقبله» ولعله أقل وأدل علي مصداقية وضرورات تجسيد شعار الحملة القومية «يمن بلا قات»! القات مع أبرهة الحبشي: القات مصدره أفريقيا، واسمه في الصومال «تشات»، وفي كينيا له عدة أسماء بحسب أنواعه.. «ميراء».. كاث.. ميرانجي.. ليس.. طمايات.. ميلونجي.. ماونج، وفي يوغندا يعرف بـ «موستات»، وفي الحبشة ومنها دخل اليمن في ركاب أبرهة وهو في طريقه لهدم الكعبة يسميه الأثيوبيون تيج أو تدج، وقد اكتشف الإمام شرف الدين القات في اليمن علي حد رواية بعض المؤرخين، بينما يؤكد البعض الآخر أن الرعاة لاحظوا كم تنتشي أغنامهم كلما اقتاتت من أشجار برية معينة، فلما مضغوا واستحلبوا أوراق تلك الأشجار أدركوا سرها، ومن ثم ذاع صيتها وراح اليمنيون يقبلون علي زراعتها وتعاطي أوراقها جيلاً إثر جيل، ومن المؤسف حقًا أن يقتلعوا أشجار البن اليمني الفاخر، وإحلال أشجار القات البغيضة مكانها! والشاهد أن شهرة البن اليمني طبقت الآفاق منذ قرون مضت إلي حد صدور عشرات الكتب التي تتغني بأوصافه وشمائله بلغات العالم، وبينها «كل شيء عن البن» الصادر عام 1935 لمؤلفه ويليام إيكرز.. يقول: لعدة أجيال ظل «بن المخا» ـ نسبة إلي تصديره للخارج عبر ميناء المخا ـ متميزًا عن كل بن العالم بنكهته الحارة وعطره وقليل من حموضته المستحبة، ويقول كيفن نوكس في كتابه «مبادئ البن» الصادر عام 1957 «احتساء فنجان واحد من بن المخا يغنيك عن مذاق كل أنواع البن»، ويقول جون ثورن في مؤلفه «كتاب البن» إن بن اليمن له طعم النبيذ المعتق برائحة العطر»، وفي معرض البن السنوي الذي أقيم في سان فرانسيسكو في 14 أبريل عام 2000، كانت النشرة الصادرة عن أكبر شركة لتوزيع البن في العالم تقول: نحن ننفرد بالتعامل الحضاري منذ ستين عامًا مع بن المخا، فهو أفضل بن علي الإطلاق، إذ يتميز بنكهة الفاكهة والبهارات وطعم الشيكولاته وأريج عطري فريد». والمشكلة أن زراعات القات كما العملة الرديئة التي تطرد العملة الجيدة من السوق، حيث بلغت مساحاته المزروعة زهاء 37% من الأراضي الخصبة، وتؤكد نتائج الإحصاء الزراعي أن هذه المساحة كانت 8000 هكتار عام 1970 وزادت بنهاية عام 2000 نحو 934.102 هكتارًا، أي أن نسبة التوسع في زراعة القات بلغت 87.11%، ومعظم هذه الأراضي كانت تُزرع بالبن وشتي أنواع البقول والفاكهة، بينما يقدر عدد مزارع القات بحوالي 180 ألف مزرعة، موزعة بين أكثر المناطق ارتفاعًا ما بين 800 إلي 2600 متر عن سطح البحر، ومعظمها في محافظات صنعاء وحجة والمحاديت وإب وتعز والبيضا وعمران والضالع. مشكلة ثانية وتتعلق بالسحب المتواصل للمياه الجوفية واستخدامها في ري أشجار القات بنحو 830 مليون متر مكعب سنويًا، وفي شربها كذلك خلال عملية تخزين ومضغ القات، مما يؤدي بالضرورة إلي جفاف وملوحة الآبار الجوفية، والتهديد باستنزاف الاحتياطي الاستراتيجي من المياه، وفاقم من خطورة التفريط في الثروة المائية، زيادة حفر الآبار عشوائيًا، خاصة أن البنوك تتباري في مد المزارعين بقروض ميسرة لشراء معدات الحفر والفخ! المشكلة الأخري وتكمن في انعكاسات «القات» السلبية علي العلاقات الاجتماعية حيث يلتهم شراء القات بين 30 إلي 50% من ميزانية الأسرة، بينما تتراوح نسبة المتعاطين بين الذكور من 75 إلي 85%، وما بين 35 إلي 45% بين الإناث، ويرصد بحث أكاديمي ميداني قيمة ما يستهلكه اليمنيون سنويًا علي شراء القات زهاء مليارين ونصف المليار دولار بما يفوق ميزانية الدولة، والأدهي والأمر يتمثل في ظواهر الانحراف الأخلاقي، عبر تفشي حوادث الرشوة والاختلاس بين الموظفين محدودي الدخل لشراء ما يلزمهم من القات وارتياد مجالسه كمظهر للتفاخر والتواصل الاجتماعي مع الأصدقاء، وقد يتعثر الزوج عن الوفاء بمتطلبات أسرته والقات، وعندئذ قد يضغط علي زوجته كي تبيع مصاغها ويحدث الشجار الذي يؤدي في النهاية إلي الطلاق! علي أن القات فجَّر في السنوات الأخيرة مصيبة كبري، حين استخدم المزارعون أصنافًا مغشوشة من المبيدات الحشرية والأسمدة العضوية لأول مرة لتسريع نمو أشجاره والإكثار من أوراقه، مما أدي لزيادة أرباحهم بشكل غير مسبوق، حتي انكشف مصدر انتاجها في إسرائيل رغم منع استخدامها دوليًا، مثل الـ«د.د.تي والتوباز والديوكسين والسماد الحديدي»، مما أدي إلي تصاعد نسبة مرضي السرطان والفشل الكلوي، خاصة في مناطق زراعة القات مثل إب وماويه وشرعب وهمدان وجبل حبر، وهكذا أضيفت أمراض جديدة إلي جملة الأمراض المعروفة للقات، وبينها التليف الكبدي وتشوهات الأجنة وزيادة التوتر العصبي والمغص والإسهال والصداع والضعف الجنسي والجفاف العاطفي بين المتزوجين، إلي غير ذلك من الإصابة بجلطة المخ لدي المصابين بتصلب الشرايين، واحتمال الإصابة بالبواسير والقلق والاضطرابات النفسية والعصبية، وتكسير الدهون وزيادة ضربات القلب والعقم، فضلاً عن تصاعد معدلات حوادث السيارات والسرقات والنهب المسلح! دحض الشبهات حول القات: إذا كان اليمنيون يدركون إلي أي حد مساوئ ومفاسد ومضار القات الاجتماعية والاقتصادية والزراعية والصحية والنفسية.. فلماذا إذن كل هذا الإسراف في تعاطيه؟ ولماذا يضيعون نحو 20 مليون ساعة يوميًا في ممارسة هذه العادة المرذولة بلا طائل من العمل والإنتاج أو الإبداع؟ لماذا وتعاطي القات يمكن الإقلاع عنه بسهولة إذا ما توافرت الرغبة والإرادة.. خاصة أن القات منبه لا يفضي للإدمان كما هوالحال مع المخدرات النباتية والمصنّعة؟ لابد أن وراءه إذن سرًا لا يدرك وسحرًا طاغيًا يستبد بالأفئدة والعقول والجيوب، فهل تراه كذلك؟ الإجابة دائمًا يختلف حولها أهل اليمن وعلي النقيض، بين فريق لا يجد في القات سوي الضياع والهلاك، وبين من يراه كذلك ولكن يظل أقل خطرًا من الانزلاق إلي هاوية المخدرات، والدليل علي ذلك أن أجهزة الأمن في مصر نجحت إلي حد كبير في إغلاق منافذ تهريب الحشيش اللبناني، فكانت النتيجة أكثر وبالاً بعد انتشار شم بودرة الهيروين والكوكايين الأخف وزنًا والأكثر ربحًا والأفدح خطرًا، حيث الشفاء من إدمانها يحتاج إلي وقت طويل وكلفة باهظة، إلي ذلك يضيف أصحاب هذا الرأي الإشارة إلي أن زراعة وتجارة ونقل وبيع القات يستوعب ما يزيد علي مليون مواطن من العاملين في هذه المجالات، فكيف يجوز في حالة منع القات، إضافة هذا العدد إلي نحو مليوني عاطل في اليمن بلا عمل! يقول الشاعر اليمني الكبير إبراهيم الحضراني وهو من خصوم القات: قف معي يامن تخاف الأزمات نضرب القات بسوط اللعنات ما رأينا مثله ضررًا ينزل السوء بمجد العائلات يقتل الإنسان مستقبله عندما يألف تدخينًا وقات ويقول الشاعر السوري المعسليمان العيسي بعد أن جرَّب تخزين القات وعاش أجواء مجالسه: سم به وطن الأحرار يقتات سم يدمر من عاشوا ومن ماتوا متي ستنفض عنك الداء يا بلدي متي سيعدم هذا المجرم القات لكن هناك ممن يطيب له تخزين القات، لا يصدق ولا يريد أن يصدق ما يتردد عن أضراره، كما لا يري ثمة طعمًا للحياة ولا جدوي لها بدونه، ثم إن تخزين القات مسئولية متعاطيه، ولا دخل للدولة أو المجتمع بالحريات الشخصية! بل إنني سمعت من الشيخ عبدالله الأحمر شيخ مشايخ قبيلة حاشد ورمز القبيلة المستنيرة في اليمن، إضافة لكونه رئيس مجلس النواب ما يتفق مع هذا الرأي، إذ يري أن لكل شعب مزاجًا خاصًا يروِّح به عن همومه ومتاعبه ويمنحه الشعور بالسعادة والراحة، ومن هنا راق القات مزاجًا خاصًا لليمنيين دون غيره من المسكرات أو المغيبات، ولعله يفسر لماذا يزرع اللبنانيون الحشيش بينما يدخنه غيرهم مثل المصريين. حتي فقهاء الإسلام في اليمن يختلفون أو يجتهدون حول مشروعية القات من عدمه، ومن المعروف أن الإمام شرف الدين كان قد أفتي عام 950 هجرية بتحريم القات، مما أثار عليه حفيظة الفقهاء والمتصوفين والشعراء الذين انبروا للدفاع عن القات، مما دفعه إلي تحليل ما سبق وحرَّمه، ومنذ ذلك الحين صار القات قضية دينية وسياسية واجتماعية محل خلاف، وصدرت بشأنه عشرات الكتب التي وضعها علماء اليمن، وبينها «تحذير الثقات من استعمال القات» للعلاّمة ابن حجر الهيثمي، و«البحث المسفر عن تحريم كل مسكر ومفتر» للقاضي الشوكاني، و«دحض الشبهات حول القات» للعلاّمة عبدالله العمودي، وكتاب «ترويح الأوقات في المناظرة بين القهوة والقات»، كما صدر مؤخرًا كتاب «القات في الأدب اليمني والفقه الإسلامي»! ورغم أن الله سبحانه يقول في قرآنه الكريم «ولا تلقوا بأيديكم إلي التهلكة»، مما يؤكد أن الشريعة مع جلب المصالح ودرء المفاسد، إلا أنه علي ما يبدو أن مافيا القات تمارس إرهابها حتي علي رجال الدين، وإلا لماذا لم يجمعوا علي فتوي تحرِّم القات رغم الاتفاق علي مضاره الجمّة؟! يقول القاضي محمد قاسم الشامي عضو المحكمة العليا «القول بالتحريم أو مقاطعة القات راجع للدولة، فهي التي تقدرالمصلحة العامة من خلال الدراسةالمستفيضة للمشكلة، والصحيح الذي يجمع عليه جمهور العلماء حول أدلة التحريم الواردة بشأن كل مخدر أو مفتر خاصة في ضوء ما تواتر عن مضار القات الصحية والاجتماعية والاقتصادية، ولأن البلوي عمت، ولأنه إذا أردت أن تُطاع فلا تأمر إذًا بما لا يُستطاع، ومن هنا أوضح أن المطلوب والممكن ليس الوعظ والنصيحة فحسب، وإنما شحذ الهمم وبعث الإرادة والإدراك المعرفي بمخاطر القات، وهو الدور الذي يجب أن تلعبه الأجهزة الثقافية والإعلامية والسياسية، بحيث تتوافر القناعة الطوعية بالإقلاع عن القات. مجالس القات: في مجلة «ريدردايجست» الشهرية التي كانت تصدر منها طبعة عربية بعنوان «المختار» إبان الحرب العالمية الثانيــــة، قرأت مقالاً للأثري المغامر وندل فليبس الذي اكتشف العديد من آثار الحضارة اليمنية في مأرب، وروي كيف ساعد تخزين القات علي التفاهم مع اليمنيين وفهمهم، ويبدو أنني سرت علي خطاه ووصلت إلي ما وصل إليه دون أن أدري، ولا كان في حياتي إدراك سر عشق أهل اليمن للقات. وقد تذهب إلي اليمن للعمل أو السياحة وتمتد إقامتك أيامًا وأعوامًا طوافًا في ربوعه، لكنك لا تستطيع الحصول علي تأشيرة الولوج إلي الشخصية اليمنية، وشهادة معترف بها علي توغلك في دروب العقلية اليمنية والإحاطة بتضاريسها الإنسانية والوجدانية، إن لم يتأت لك خوض تجربة تخزين القات في الجانب الأيسر من الفم، وهي حركة لا إرادية يصعب استبدالها بالجانب الأيمن (دون أن تدري لذلك سببًا) وعليك أن تمضغ أوراق القات ببطء وعناية، ثم عليك بعدها أن تعتصره تباعًا وتستحلب رحيقه رويدًا رويدًا حتي يسترخي بدنك ويصفو مزاجك وتستيقظ مشاعرك وتتحشد حواسك يقظة وتألقًا، وقد تكون محاورًا أو مبدعًا أو مجرد مستمع أو متأملاً وربما هائمًا في ملكوته سبحانه، وربما مناجيًا طيف الحبيب المجهول أم المعلوم و.. لله في خلقه شئون! ولأن مجالس القات تبدأ في ساعة القيلولة إثر الفراغ من طعام الغداء، من هنا وصف مجلس القات بـ«المقيل»، وللنساء أيضًا مقيل يسمي في صنعاء «التفرطه»، و«النشرة» في الحديدة، و«القيلة» في تعز وعدن، لكن يظل المقيل الصنعائي بطقوسه الحضارية الأكثر شهرة وإمتاعًا، ولمَ لا وصنعاء مدينة التاريخ والحضارة وأقدم مدينة في العالم، واسم صنعاء يشي بمعني الصناعة والحرفة.. يقول «معجم البلدان» أن صنعاء كناية عن جودة الصنعة في ذاتها. القات للجميع: يصل القات طازجًا لصنعاء في العاشرة صباحًا إلي حيث بيعه وشرائه في أسواق «قاع اليهود» و«الملح» و«باب سبح»، والطريف أن يتسلل الموظفون من أعمالهم لشراء القات الجيد قبل نفاده، بينما يتركون علي مكاتبهم ما يدل علي دوامهم في العمل مثل شال العمامة أو علبة السجائر أو المسبحة. نبات القات أنواع وأشكال، بينه الفاخر ذو اللون الأصفر قبل اخضراره، وغير المرشوش منه بالمبيدات الحشرية، هو الذي يقبل الأثرياء وعلية القوم علي شرائه مهما غلا ثمنه، ومنه الطويل والقصير العود ويتراوح في شكله وملمسه بين أوراق الملوخية والجرجير وشجرة «الفيكس» التي تنمو علي أسوار الفيلات والقصور في مصر، ومن أسماء وأنواع القات.. الضلاعي والمطري والصبري والهمداني والحرازي والشامي والمغربي والبخاري والوادي والعصري. نحن الآن في أحد البيوت الصنعائية العريقة، والمقيل أجمل وأهم أركانه، وقد فرش بالسجاد أو البسط الملونة، وتناثرت الحشيات الوثيرة حول أضلاعه المستطيلة بارتفاع 30 سنتيمترًا، وقد غطيت كذلك بالسجاد الناعم وفي جنباتها «مساند» للظهر وكذلك «المتكئات» لراحة الذراعين، وعادة ما يتسع المقيل لعشرة أشخاص في المتوسط، وربما المئات كما هو حال المقيل في قصور مشايخ القبائل، ودائمًا ما يتوسط المقيل مداعة أي «نرجيلة» وربما عدة مداعات من النحاس المشغول تمتد منها «الليات» جمع «لي» إلي شفاه المخزنين إن شاءوا تدخين التمباك المشتعل، فيما يحرص صاحب المقيل علي أن يوفر عبوات الماء المعدنية وزجاجات المشروبات الغازية! يحتل المقيل في الغالب أجمل وأعلي مكان في البيت الصنعائي وعندئذ يسمي «المفرج»، كونه يوفر الرؤية البانورامية التي تحيط بالعاصمة وعماراتها الحضارية! لكل مقيل هوية اجتماعية أو ثقافية أو سياسية، كما أن للأحزاب والنقابات والجمعيات مقايل خاصة، وإلي وقت قريب كان لكل وزارة ومؤسسة حكومية مقيل خاص، حتي صدر قرار رئيس الجمهورية بتحريم تعاطي القات علي الموظفين والشرطة والجيش خلال فترات الدوام سواء في دواوين الحكومة أو المعسكرات، وقد شهدت صنعاء أوائل السبعينيات ظاهرة المقايل السرية التي كانت تضم عناصر الحركات الوطنية واليسارية إبان كان المقدم محمد خميسي مديرًا للأمن العام، لكن مع بزوغ فجر الوحدة اليمنية والديمقراطية التعددية السياسية، تلاشت هذه الظاهرة تدريجيًا! يدخل الضيوف إلي المقيل وكل منهم يتأبط حزم القات ملفوفة بالبلاستيك وكانت تُلف في الماضي بأوراق الموز حتي تظل طازجة، يسلم الضيف علي من سبقوه في الحضور باليد أو بإيماءة من رأسه،وأحيانًا يأخذ مكانه في المقيل بهدوء حتي لا يقطع علي الضيوف حديثهم، وعندئذ ينبري أحدهم قائلاً: «حيا الله من جاء»! يبدأ الضيف في تنقية أوراق القات من الشوائب وينتخب الصالح منها للمضغ تباعًا، حتي ينتفخ خده الأيسر، بعدها تبدأ عملية المضغ والاستحلاب، وخلالها يتبادل الحاضرون أعواد القات من باب تنويع المذاق وجلبًا للمودة.. ويستمر الحال هكذا في أحاديث جانبية أو ثنائية إلي حين وصول الجميع إلي ذروة النشوة والحيوية، وعندئذ يدق صاحب المقيل أو كبير المخزنين ويعلن اختيار موضوع الساعة الأنسب للحوار حوله، وأشهد أن الجميع ينالون دومًا حظوظهم من الحوار الديمقراطي الخلاق بالعدل والقسطاس مهما تدني الوضع الطبقي أو الوظيفي! من أشهر المقايل الثقافية حتي سنوات قريبة في صنعاء، تلك التي كان يتصدرها الشاعر اليمني الفحل عبدالله البردوني، ورغم أنه كان ضريرًا يرحمه الله، إلا أنه كان موسوعي الثقافة، محيطًا بأمهات الكتب قديمها وحديثها، وهو كان راوية وفنانًا وناقدًا وساخرًا، وكم أسمع أصدقاءه وحوارييه العجب العجاب من نوادر وحكاوي العصر العباسي وربما ذكرياته عن أئمة بيت حميد الدين الذين حكموا اليمن زهاء 150 عامًا داخل أسوار العزلة، فلا سمع الشعب اليمني عن الحرب العالمية الأولي ولا الثانية! علي أن أرقي مقايل صنعاء الآن، ذلك الذي يتزعمه الدكتور عبدالعزيز المقالح وهو كان مديرًا لجامعة صنعاء والآن مديرًا لمركز الدراسات اليمنية، وهو شاعر عظيم وشخصية لامعة وإنسان ودود، وهذا المقيل بمثابة مدرسة أدبية وندوة سياسية يومية، وأعتقد أنه لا غني عنه لمن يتردد علي اليمن لفهم أوضاعه وشواغله علي كل صعيد، والتعرف علي نجومه الواعدة في الشعر والقصة والغناء والموسيقي. وأحيانًا ما يستضيف المقيل اليمني مطربًا أو منشدًا أو عازفًا، وقد تعجب حين ينهض رجلان ويندمجان برشاقة في حلقة للرقص الشعبي لا تتجاوز مساحتها مترين مربعين، وقد تعجب أكثر عندما تعرف أن الغناء والرقص عنصر أساسي في مباهج مقايل الجنس اللطيف، إلي جانب الدور الذي تلعبه في اختيار الأمهات زوجات لأبنائهن من بين المخزنات، واستعراض آخر موضات الأزياء والروائح العطرية الشعبية والبارفانات الفرنسية وأنواع الحلي الفضية والذهبية والماسية، بل إن الفرصة سانحة أيضًا للبيع والشراء في هذه الكماليات! لكن تظل الشائعات أبدع ما يتردد في المقايل الصنعائية، وعبرها يمارس اليمنيون ذكاءهم الحاد وسخرياتهم من مساخر الحياة، وهي عادة قديمة تحدث عنها المؤرخ الكبير أبوالحسن الهمذاني في مؤلفاته التي يرجع تاريخها قبيل ألف عام حين قال: «ما رأيت كأهل صنعاء يرجفون علي أنفسهم»! أذكر أن إطلاق وترويج الشائعات كان أخطر وقعًا وانعكاسًا علي أمن القوات المصرية في اليمن، عبر عملاء الإمام البدر المخلوع والرجعية العربية والاستعمار البريطاني في عدن، فكانوا ينتشرون في المقايل، ويبثون ألوان الكراهية والتشويه للدور المصري القومي النبيل، فلم يكن بوسع القيادة العسكرية المصرية في اليمن سوي النسج علي منوالهم، وشن الحرب النفسية ضد خصوم الثورة اليمنية عبر ترويج الشائعات المحبوكة في المقايل! ولأن لتخزين القات أوقاتًا، لذلك ينتهي المشهد الافتتاحي للمقيل الصنعائي حين يبلغ المتعاطون ذروة المضغ والاستحلاب، ليبدأ المشهد الثاني بغياب ضوء الشمس وهوينعكس إلي داخل المقيل ويضفي لمساته الشاعرية علي المقيل وعلي المقيلين عبر زجاج النوافذ التي تجمع بين ألوان الطيف، إيذانًا بحلول «الساعة السليمانية» التي يبلغ فيها الضيف ذروة النشوة والابتهاج والراحة النفسية، وهي أسطورة موروثة تدعي أن سيدنا سليمان كان يتعاطي القات، بعدها تضاء المصابيح وينفض السامر، ليبدأ المخزن في إفراغ فمه من بقايا القات، وفسخ العلاقة مع تأثيره المنبه قبل أن يحل به الكسل والفتور عبر احتساء مشروب مركز من الشاي أو قشر البن و... هكذا يعود متعاطي القات إلي منزله كسولاً بعد زهاء خمس ساعات استهلكها في شرائه وتخزينه، وبدلاً من مداعبة زوجته ومتابعة أحوال أولاده وتحصيلهم الدراسي، إذا به يتجه مباشرة للنوم والتفكير في دورة القات العبثية في الغد! إن المشكلة علي حد إجماع العلماء والأطباء والمثقفين في اليمن ممن لا يتعاطون القات، تحتاج إلي علاج غير تقليدي وحلول خلاقة مبتكرة، خاصة بعدما تأكد فشل القانون والقدوة الحسنة والتهديد بقلع أشجاره أو تسريب دود القطن إلي مزارع القات، البعض يقترح تغيير مواعيد العمل الرسمي في مؤسسات الدولة بحيث تستوعب أوقات تخزين القات، وهناك من يري الحل في خلق بدائل للترفيه عبر زيادة الأندية الرياضية والمسارح ودور السينما والمتنزهات والمكتبات، أو عدم ترقية الموظفين المتعاطين للقات و... في كل الأحوال يظل أهل اليمن ولاشك أدري بشعابه وأقدر علي الوصول بالمشكلة إلي مرافئ العقلانية والأمان، ونحسب أن تبديد الأوهام والأكاذيب السعيدة التي تروج للقات وفوائده وجدواه إنما هي البداية السليمة، ولعل في مقدمتها ما يُشاع عن إصابة كل من يمتنع عن تعاطي القات بمرض نفسي وهمي ما أنزل الله به من سلطان ويدعي «الازم»، إلي حد الاعتقاد أن وضع «الجنبية» أو الحذاء تحت الرأس أثناء النوم، يفضي إلي طرد كوابيس الأحلام المزعجة والشفاء تدريجيًا من مرض الازم!
لم يعدم محسن العيني الوسيلة لمواصلة الحرب علي القات، جلب من مصر شحنة من الصناديق تحتوي علي كم هـائل من دودة القطــــــن التي تفتـــــك بمحصـــولها القـــومي، ثــــم كلف من يســـــربها في الخفـــاء إلي بعــض مزارع القات، لعلها وعساها تلعب دورًا قوميًا في القضاء علي أشجاره الملعونة
علي ما يبدو أن دودة القطن المصري ـ علي حـد ســخريات أهـــل اليمـــن ـ رفضـــت التدخــــل فيمــا لا يعنيهـــــا، ومــن ثم امتنعـــت عن تنغيــص المـزاج اليمني، وربمــا راق لهـــا القـــــــــات واســــــــــــتحلبته هـــنيئًا
يلتهـــــــــم شــــراء القــــــات بين 30 إلــــــي 50% مــــــن ميزانيــــــــة الأســــرة، بينمــــا تتــــراوح نســـبة المتعاطــــين بين الذكـــور 75 إلــــــــــــــي 85%، ومـــــــــا بيــــــــــــــن 35 إلـــــــي 45% بــــــــين الإنــــــاث
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة