القـرار السياسي الأمــــــريــــكـي في زمـــن قــادم!



أولا:جيوش تبحث عن غطاء! تبدو الإشارات المتكررة ــ في هذه الأحاديث ــ إلي دور متزايد للقوات المسلحة في صنع القرار السياسي الأمريكي أمرا مستغربا ــ لكن سبب الإشارات المتكررة مما يمكن شرحه (وذلك موضوع هذا الحديث) ــ كما أن دواعي الاستغراب مما يمكن فهمه، لأن الولايات المتحدة الأمريكية ــ ليست واحدة من "جمهوريات الموز" التي عرفتها دول أمريكا الوسطي في عصر من العصور ــ أو "نظم قشر الموز" التي تزحلقت عليها أوطان عربيــــة كثيرة ــ (ملكية أو جمهـورية ــ فردية أو عائلية) ــ إلي حيث لا تعـرف ولا تريد! ومع ذلك ــ وبرغم كل شيء ــ فأي مراقب جــــــاد للحــــــياة السياسية الأمريكيـــــة يستطيع أن يلمح (حتي خلال زيارة عابرة) ــ إشارات تومئ إلي أن القوات المسلحة الأمريكية تتجاذبها عوامل تدفعها أكثر وأكثر إلي جدل مع القــــرار السياسي لم يكن مألوفا من قبل! وكما يظهر ــ فإن إدارة الرئيس "چورچ بوش" وهي تشق طريقها لغزو العراق ــ خاضت معركتين في نفس الوقت: * معركة محدودة التكاليف ــ حتي الآن ــ بداعي إسقاط نظام الرئيس "صدام حسين". * ومعركة مجهولة التكاليف ــ مازالت مستمرة ــ بداعي خلافها مع رئاسة القوات المسلحة الأمريكية حول "مشروعية" و"معقولية" المطالب الإمبراطورية الملهوفة التي طرحتها ومكنت لها مجموعة قليلة العدد (بضع مئات) من الرجال والنساء ــ سيطروا علي البيت الأبيض وعلي الإدارة وعلي الحزب الجمهوري، أي علي القرار الأمريكي، ثم قاموا بتوظيفه ــ بمنطق "الاستيلاء" ــ علي طريقة بارونات شركات النفط، والسلاح، والصناعات الإلكترونية والاستهلاكية، واحتكارات الإعلام والإعلان، وبورصة الأوراق المالية وغيرها ــ وتوصلوا لاستدراج السلاح الأمريكي نحو منحدر يتنازل بفكرة "القوة" ــ حتي تصبح "ظاهرة عنف"، ويهبط بإستراتيچيات الحرب لتصبح "ممارسة قتل"، وتلك هي النتيجة المحققة إذا تخلت السلطة عن القانون، وتلاعب أصحاب القرار بالمشروعية، وسخروا قيمة العمل العام ستارا للمصالح، متسببين بذلك في أزمة ضمير تستهلك كرامة الدول، وتهين وعيها، وتقسم المجتمعات علي نفسها، وتبدد الثقة الضرورية في الضــــمــــانات الدســــتورية والأخـــــلاقية التي تمنح السلطة هيبتها وتفرض طاعتها! ذلك أن الجيوش تحارب وتضحي راضية تحت رايات أوطانها حفاظا علي مصالح وأمن شعوبها، لكنه عندما يطلب من الجيوش أن تقاتل ــ ثم تنكشف وتنجلي دوافع الحرب، ويبين أنها جاءت خديعة للمواطنين وكذبا عليهم ــ إذن فهناك مراجعات، وهناك حسابات، وهناك عواقب، وذلك بالضبط ما يجري اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية ــ (وفي بريطانيا). ......................
...................... [وكانت فضيحة ووترجيت التي أطاحت برئاسة "ريتشارد نيكسون" في السبعينيات من القرن الماضي هي الخديعة والكذب علي الشعب الأمريكي ــ ولم تكن مجرد أمر "نيكسون" بوضع أجهزة تنصت في مقر الحزب الديمقراطي لكي يعرف الخطط الانتخابية لخصومه السياسيين ــ مسبقا ويفسدها عليهم! كذلك لم تكن فضيحة "مونيكا لوينسكي" التي كادت تطيح بالرئيس "بيل كلينتون" ــ علاقته بمندوبة شابة في البيت الأبيض مارس معها نوعا من الجنس في مكتبه (والحقيقة أنها هي التي اعتدت عليه ولم يكن هو الذي بدأ) ــ وإنما كانت خطيئة "كلينتون" أنه عندما سُئل خادع وكذب ــ وأمعن في الإنكار طويلا، مسيئا بذلك إلي منصبه، ومستهترا بأصوات الناخبين التي وضعته في مكتبه]. [وبالطبع فإنه يصعب حتي هذه اللحظة تصور أن تؤثر خديعة الشعب الأمريكي والكذب عليه في موضوع العراق بمثل ما أثرت فضيحة ووترجيت وفضيحــــة "مونيكا لوينســـــكي" ــ لأن قضايا الداخل مباشرة وحساسة، في حين أن قضايا الخارج تخالطها اعتبارات كثيرة ــ لكنه الحساب العسير في أقل القليل ــ وقد تنعكس آثاره علي انتخابات الرئاسة نهاية العام القادم ــ (خصوصا إذا تفاعلت مع أزمة الاقتصاد الأمريكي)]. .....................
..................... ومن الطبيعي أن أي مشروع إمبراطوري يطرح نفسه علي الأزمنة الحديثة ــ يتعين عليه أن يتقدم إلي مقصــــده علي مراحـــل ــ واحدة بعد الأخري. ثم إن أي مشروع إمبراطوري عليه أن يعرض نفسه في كل مرحلة بما يتوافق معها، فقد انقضي الزمن الذي كان فيه الغزاة (من الإسكندر الأكبر ــ إلي چنكيز خان) يظهرون بجيوشهم فجأة علي حافة الأفق، حاجبين عين الشمس بجحافلهم، تاركين الأعنة لجيادهم، شاهرين السيوف علي أعدائهم ــ عواصف من النار والدم. وعليه فإن المشروع الإمبراطوري الأمريكي ــ الحديث ــ طرح نفسه علي زمانه خلال مراحل ــ لكل واحدة منها لبوسها: * في مرحلة أولي كان الأسلوب هو "الغواية" (نموذج الحياة الأمريكية وحرية كل فرد في السعي وراء الفرصة و"السعادة"!). * وفي مرحلة ثانية كان الأسلوب هو الاستعداد "لمشاركة" العالم مقاديره (كما حدث في الحرب العالمية الأولي حين جاءت الجيوش الأمريكية من وراء البحار طرفا في معركة الإمبراطوريات العجوزة أو الطامعة). * وفي مرحلة ثالثة كان الطرح الأمريكي استجابة لنداء "المبدأ" (كما حدث في حالة النقاط الأربعة عشرة التي أعلنها الرئيس "وودرو ويلسون" بعد الحرب العالمية الأولي (حقا لكل شعوب الأرض في تقرير مصائرها). * وفي مرحلة رابعة كان الأسلوب هو تحمل العبء الأكبر من ضريبة الحرية (في الحرب العالمية الثانية ضد الفاشية والنازية). * وفي مرحلة خامسة كان الأسلوب بلوغ مرحلة قيادة العالم في المواجهة ضد الشــــــــيوعية، وكانت لأمريكا فيها وسيلتان: المساعدات الاقتصادية من ناحية، وأعمال المخابرات الخفية من ناحية أخري. * وأخيرا حلت المرحلة السادسة، ولم يعد للمشروع الأمريكي أن يتخفي أو يداري، لأن "تفـــــوق القوة" وتفردها أدي إلي اعتبار السلاح أداة للمشروع تسبق غيرهــــا مـــن الأدوات وتتقـــــــــــدمها دون تردد! ومن حسن حظ الإمبراطورية الأمريكية أن قواتها المسلحة كانت جاهزة لمشروعها ــ عندما علا شأنه وحان أوانه في نظر الحالمين به والملهوفين عليه، فقد كانت مؤسسات التفكير الإستراتيچي قائمة ــ وقوة السلاح حاضرة ــ وخطط الحرب جاهزة ــ والتواجد العسكري الأمريكي مبسوط علي قارات الأرض ومحيطاتها وسمائها وفضائها أيضا ــ وأكثر من ذلك فإن الهدف الافتتاحي كان هناك مكشوفا ــ معزولا ــ مهيأ لأن يتحول إلي ميدان لضرب النار، بالتحديد في العراق. لكن العُقدة أن ما كان جاهزا لم يكن كافيا، لأن الجيوش (خلافا لغيرها من أدوات الفرض والإجبار) تحتاج إلي شيء آخر مع السلاح، هو مشروعية الأخلاق والقانون ــ ولو كغطاء مقنع علي نحو ما ــ وإلا سقط الفارق بين الراية الوطنية وألوانها ــ وبين المنديل الأسود الذي يضعه أي قرصان فوق رأسه! وكان ذلك بالضبط ما دفع "كولين باول" وزير الخارجية الأمريكية ــ للذهاب (بشعور ومسئولية محارب قديم) كي يقول للرئيس "چورچ بوش" ــ مع تصاعد أزمة العراق (خريف سنة 2002) ــ إن الولايات المتحدة تقدر بالتأكيد أن تستولي غزوا علي العراق، لكن قواتها المسلحة تحتاج بشدة إلي غطاء أخلاقي وقانوني تمارس تحته عملها هناك، لأن ذلك هو الضمان الأساسي لثقة القوات في مهمتها، إلي جانب إحساسها بتأييد شعبها ومساندته! ويمكن القول إن معظم ما جري في واشنطن ونيويورك ما بين خريف سنة 2002 إلي ربيع سنة 2003 ــ كان حوارا بين السياسة والسلاح في طلب مشروعية الأخلاق والقانون اللازمين للقوات المسلحة الأمريكية حتي يتوفر الاحترام الواجب لدورها في غزو العراق. وبكل الشواهد فإن القوات المسلحة الأمريكيــــــة لم تكــــــن راضيـــــة عن التحضير محليا ودوليا لذرائع ذلك الغزو، وكان إلحاحها شديدا علي إضافة أخلاقية وقانونية تكون غطاءً لكل الأجواء. وفي المقابل فإن السياسة المؤثرة في الإدارة ــ (كما عبر عنها نائب الرئيس "ريتشارد تشيني"، ووزير الدفاع "دونالد رامسفيلد"، ورئيس مجلس سياسات الدفاع "ريتشارد بيرل") ــ واصلت الإصرار (بصلف!) علي حتمية التقدم ("بجسارة"!) إلي العمل المطلوب دون النظر إلي "الشكليات" ــ باعتبار أن النتائج في حد ذاتها تعطي القتال ذرائعه، كما أن النصر يمحو من ذاكرة الشعب الأمريكي أي اعتبار غيره، وبالتالي يضيع مع النسيان قصور الحجج إذا عراها الالتباس ــ قبل نشوب القتال! وكان ملخص رأي هؤلاء المؤثرين في الإدارة أنه حين تصحو أمريكا والعالم ذات صباح ليكتشفوا أن نظام "صدام حسين" اختفي، وأن العلم الأمريكي يرفرف فوق أعلي الذري في "بغداد" ــ فإن صفحة ما سبق ــ سوف تُطوي، لتظهر بدلها صفحة جديدة ملؤها صور مضيئة: ــ أمريكا ــ مأخوذة باستعراض نصر وزهو (إمبراطورية تسيطر علي المستقبل وتحكمه). ــ والعالم ــ مشغول بأمر واقع له سطوته (إزاء قطب واحد يملك سلطة القرار الدولي). ــ والدول التي ترددت وتقاعست ــ معزولة، مكسورة الخاطر (ليس أمامها غـــير أن تعود ذليلة إلي الملكوت الأمريكي). ولم تكن الأمور بهذه البساطة ــ وكان صعبا أن تكون. ثانيــــــا:حقوق السلاح علي السياسة! عندما تكلف القوات المسلحة في بلد متحضر بمهمة يصعب تحقيقها بغير العمل العسكري ــ فإن السلاح يتوقع أن يحصل علي تأكيدات وتوجيهات هي بكل المعايير حقه علي السياسة: 1 ــ هدف واضح يلزم بلوغه لتحقيق مصلحة حقيقية أو أمن وطني مؤكد. 2 ــ مشـــــــــروعية تكفل التوافق (علي نحو يمكن التراضي عليه) بين المصلحة والأمن من ناحية ــ وبين الأخلاق والقانون من ناحية أخري، لأن ذلك حق القوات وسلام عقلها وروحها عندما يطلب منها أن تواجه الموت (وكان الچنرال "تومي فرانكس" قائد غزو "العراق" هو الذي قال: "لا يمانع أحد من جنودي أن يذهب إلي قبره في كفن من الصدق، لكنه يستشعر الجحيم إذا ذهب في كفن من الكذب!"). 3 ــ ضمــــــان أوســـــــع تأييد شـــــعبي للعمل العــسكري، بحيث يرضي المواطــــــنون بالتكاليف طــــواعية، ويرضـــــون بالصبر علي مصاعب الظروف وتقلباتها! 4 ــ توفير حجم الإمكانيات المادية اللازمة لأداء المهمة بأكبر قدر من الاقتدار والكفاءة. 5 ــ تحضير المسرح السياسي إقليميا ودوليا لقرار الحرب وتبعاته. 6 ــ البحث عن حلفاء في المصلحة والأمن لتحقيق أفضلية أن تكون الحرب عملا مشتركا مع آخرين حتي لا يوحي ظاهرها بأنها عمل تعسفي من طرف واحد. 7 ــ بيان النقطة التي يكون بلوغها ــ إشارة متفقا عليها بأن العمل العسكري أوفي بعهده وأكمل مهمته. وطوال صيف سنة 2002 ــ وبينما الرئيس "چورچ بوش" يجتمع بقادة القوات المسلحة ــ وبينما خطط الحرب علي العراق يجري وضعها وتمويلها ــ وبينما الكونجرس بمجلسيه يسأل ويستفسر ــ وبينما الرأي العام علي طول البلاد وعرضها تتنازعه الآراء ــ لم تكن القوات المسلحة الأمريكية قد تلقت أيا من التأكيدات والتوجيهات التي يتحتم علي السياسة أن تقدمها للسلاح. وكان البند الأول أي "تحديد الهدف الواضح الذي يلزم بلوغه للصالح والأمن الوطني" ــ عقدة العقد جميعها. والواقع أن الرئيس "چورچ بوش" وأقطاب إدارته طرحوا عددا من الأهداف مختلطة ببعضها إلي درجة غيبت عنها اليقين: كان أول ما جري طرحه "أن إسقاط النظام في العراق جزء أساسي من الحرب ضد الإرهاب" ــ علي أساس معلومات ذكرت أن أحد "المتهمين" بالضلوع في أحداث 11 سبتمبر (2001) علي نيويورك وواشنطن، وهو "محمد عطا" كان علي صلة بالمخابرات العراقية ــ التقي مسئولا في السفارة العراقية بالعاصمة التشيكية "براج" في مارس سنة 2001 ــ ولم يقم دليل علي صحة أي تفصيل في هذه "المعلومات" (وتكشف فيما بعد أن المخابرات الإسرائيلية هي التي روجت لها بقصد ربط العراق بحوادث 11 سبتمبر). وجاء الطرح الثاني بأن النظام في العراق لابد من عقابه علي تهديد جيرانه ــ والدليل غزو الكويت (1990)، ولكن هذا الطرح كان مردودا، لأن ذلك ذنب عوقب عليه العراق فعلا (بحملة عاصفة الصحراء)، ومن الصعب أن يعاقب متهم مرتين علي نفس الذنب: مرة في أوانه (1991)، ومرة ثانية بعد انقضاء اثني عشر عاما (أي سنة 2003). وتلاه الطرح الثالث بأن النظام في العراق لم يقم بغزو الكويت فقط (حيث وقع عقابه فعلا)، لكنه قبل الكويت غزا إيران، ولم يقم أحد بحسابه، وكان هناك من قاموا بتذكير وزير الدفاع (مهندس عموم خطط الغزو) بأن هذه الحجة قد يكون لها رد فعل عكسي، لأن غزو إيران تم بتحريض ومساعدات أمريكية ــ ومن أصدقاء لأمريكا ــ أشرف عليها وأدار مجهودها في ذلك الوقت "دونالد رامسفيلد" شخصيا، بوصفه وزير الدفاع (أيضا) في إدارة "رونالد ريجان" (معظم الثمانينيات من القرن الماضي) ــ وعليه فإن إعادة فتح ملف إيران طردا ملغوما ينفجر في وجه من يفتحه. وجري دفع طرح رابع بأن النظام في العراق طغي واستبد بشعبه ولذلك وجب إسقاطه "باسم الشعب العراقي ولصالحه"، وكان المنطق الطبيعي أن مثل هذا الادعاء يعطي الولايات المتحدة حقا وسلطة ليس لهما سند في القانون الدولي، ثم إن إعلان مثل هذا الهدف يثير هواجس نظم صديقة للولايات المتحدة يأخذها الشك إلي أن استهداف النظام في العراق بداية لها ما بعدها ــ واصــــلة إلي نظـــــم موالية بعد نظــم مارقة! وكان الطرح الأخير أن امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل ومعها وسائل صاروخية تنقلها إلي بعيد ــ هو الخطر الداهم علي الإقليم وجواره، إلي جانب أن مثل هذه الأسلحة قد تنتقل من العراق إلي جماعات إرهابية متعاونة مع نظامه. وفي مرحلة الحيرة بين العِلل والذرائع، وبالتوازي مع ذريعة امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل ــ حاول وزير الدفاع "دونالد رامسفيلد" أن يجرب طرح المشروع الإمبراطوري ظاهرا وصريحا ــ لعله يغري! وطبقا لشهادة الچنرال "دافيد ماكيرنان" (قائد القوات البرية الأمريكية فيما بعد في العراق) ــ فقد حدث في اجتماع بين "دونالد رامسفيلد" وبين هيئة أركان الحرب المشتركة، وبحضور قائد المنطقة المركزية الچنرال "تومي فرانكس" وعدد من معاونيه ــ أن وزير الدفاع أشار إلي خريطة تملأ جدارا كاملا لقاعة الاجتماعات السرية، عارضا ما مؤداه: "إن نظرة علي الخريطة تؤكد أن الولايات المتحدة محيطة من كل ناحية بالعراق، فهي تملك قواعد علي تواصل دائرة كاملة تبدأ من الخليج ــ إلي باكستان ــ إلي أفغانستان ــ إلي أوزبكستان ــ إلي قيرجستان ــ إلي تركيا ــ إلي إسرائيل ــ إلي الأردن ــ إلي مصر ــ إلي السعودية، وبجانب ذلك فإنها تملك محطات وتسهيلات مفتوحة لها دون قيود في مياه الخليج والبحر الأبيض والبحــــر الأحمــــر، ومعني ذلك أن العـــــراق بالضبــــط نقطــــة في مركز دائرة واســـــعة، وهــــذه فرصة تاريخية: أولا ــ للسيطرة علي مركز الدائرة (في "بغداد") ليكون النقطة الثابتة في الدائرة الأوسع المحيطة به. ثانيا ــ لتصفية ما تبقي من مواقع المقاومة أي إيران وسوريا ــ دون حاجة لاستعمال السلاح ــ لأن وجود قوات أمريكية في العراق يعني حصار إيران من ناحيتين: ناحية أفغانستان التي تحتلها بالفعل قوات أمريكية، وناحية العراق إذا وقع احتلاله بقوات أمريكية ــ كما أن سوريا في وضع أصعب، لأنها بعد احتلال "العراق"، "مفتوحة" من الشرق بوجود أمريكي في الجوار المتصل بها إلي درجة الالتحام، ومُحاصرة من الشمال بتركيا والوجود الأمريكي القائم فعلا علي أرضها، وبمناطق الأكراد شمال العراق والولايات المتحدة هناك معهم ــ إلي جانب إسرائيل من الجنوب ــ إلي جانب أن النظام في الأردن ليس صديقا مغرما بالنظام في دمشق ــ إلي جانب أن هناك عناصر في لبنان لا يرضيها تحكم سوريا في القرار اللبناني. "وإذن فهذه وبضربة واحدة خريطة جــــــديدة "مثالية" تمامــــا للشـــــرق الأوسط، تقوم الولايات المتحدة بــ"تشكيلها" و"رسمها" وأيضا "تنظيفها" من جيوب كارهة لأمريكا مازالت تجادل وتعاند". وطبقا لشهادة الچنرال "ماكيرنان" فإن الخريطة كانت ملء الحائط، وقد شرح "رامسفيلد" تصوراته بالإشارة إليها، وكان شرحه منطقا إستراتيچيا محكما تصعب مناقضته، وخصوصا أن محيط الدائرة الواسعة مطبق علي كل مواقع إنتاج البترول "العربي والإيراني وبحر قزوين"، وذلك أكثر من نصف موارد العالم من الطاقة، وعليه فإن الجائزة الإستراتيچية والاقتصادية تستحيل مقاومتها". ومع ذلك فإن محاولة إغراء هيئة أركان الحرب المشتركة الأمريكية بحلم إمبراطوري صريح لم تؤد غرضها، لأنه "حلم يستحيل إعلانه صراحة علي الملأ"، لا في مجلس الأمن ولا في أوروبا ولا في العالم العربي ــ ولا حتي للشعب الأمريكي نفسه، فليس معقولا أن تعلن الولايات المتحدة للجميع أن هدفها إمبراطوري فج ومستهتر، لا يعنيه أن يداري نيته للسيطرة علي قلب العالم وعلي موارده الاقتصادية ــ بل إن مثل هذا الإعلان كفيل في حد ذاته بخلق مقاومة شديدة خصوصا في مجلس الأمن، وعندها فإن الولايات المتحدة تكون قد حرمت نفسها من أي غطاء أخلاقي وقانوني لابد منه. وزاد أن بعض حضور الاجتماع من هيئة أركان الحرب المشتركة ــ كان تقديرهم أن الهدف الإمبراطوري الأمريكي يزحف بهدوء ويحقق طلبه بحركته الذاتية، ولا يحتاج إلي صدمة استعمال السلاح بالجيوش ــ لأن النظام العراقي يختنق بالحصار الاقتصادي والسياسي ــ والدولي ــ والعربي ــ يوما بعد يوم دون حاجة إلي إزعـــــاج المنطقــة والعالم بدوي الصواريخ والقنابل ــ لأنها بالكاد سنة أو سنتين وتسقط "بغداد" في هدوء! لكن ذلك لم يكن مقنعا لوزير الدفاع الذي كرر قوله "إن الناس يصنعون التطورات ولا يضعون أيديهم علي خدودهم في انتظار حدوثها!". وفي نهاية طواف طويل حول الأسباب والذرائع والحجج والأسانيد ــ تبدي خطر امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل ــ طرحا يحوز القبول ويستوفي المطلوب، شريطة أن تقوم عليه أدلة تقنع الكونجرس والرأي العام الأمريكي، وكذلك حلفاء وأصدقاء الولايات المتحدة في أوروبا (بالذات باريس وبرلين وموسكو). وكان المهم أن تكون الأدلة مختومة بقرار من مجلس الأمن يفوض أمريكا باستعمال القوة العسكرية لتغيير النظام في العراق، وتدمير ما يملكه من أسلحة الدمار الشامل (نووية وكيماوية وبيولوچية)، بما في ذلك نظم الصواريخ القادرة علي حمل هذه الأسلحة إلي مداها حتي لا يعيش العالم تحت رحمة "ديكتاتور صغير" "منحته موارد العراق قــــوة تدمـيــر أكبر من تفكيره" (وذلك تعبـــير "ريتشـــــارد تشـــــيني" نـــائب الرئيس). وقبل بداية موسم سياسي نشيط معبأ بالاحتمالات (أوائل أكتوبر 2002) كانت الروافد المتعددة في واشنطن تصب ما عندها في مجري واحد (أو كذلك بدا للمراقبين): ــ استقر القرار نهائيا علي اعتماد ذريعة "امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل" يستعملها بنفسه عند لحظة يأس أو تنتقل منه إلي منظمات إرهابية برغبة في الكيد والانتقام ــ فهي نقطة التوافق القادرة علي جمع كل الأطراف الدولية والمحلية، كما أنها الأقوي أخلاقيا وقانونيا ــ في شدة التأثير. ــ وتمكن "كولين باول" من إقناع الرئيس "چورچ بوش" (في لقاء خاص بينهما) ــ أن يعطيه الفرصة ليحصل من مجلس الأمن ــ وبالإجماع ــ علي قرار يقضي بضرورة نزع أسلحة الدمار الشامل من العراق، والبداية عودة المفتشين إليه أولا، والتدخل العسكري إذا وقع اعتراض مهمتهم من جانب نظام "صدام حسين"، (وكذلك صدر القرار 1441). ــ ثم إن أوروبا تبدو مستعدة لمقابلة إدارة "چورچ بوش" علي منتصف الطريق، لأنها لا تريد صداما علنيا معها يقسم وحدة الأطلسي (وربما أنها لا تريد لأمريكا أن تنفرد وحدها بغنيمة العراق). وبقيت النقطة المحورية في ذلك كله أن يتم العثور علي دليل يثبت وجود أسلحة دمار شامل في العراق، ويكشف مخابئها ويعرضها أمام الدنيا ــ وعندها تقوم القيامة. كانت البؤرة الحرجة في أروقة القوة الأمريكية أن رئاسة الأركان المشتركة لديها وسائل جمع المعلومات المستقلة لتعرف دون انتظار غيرها، وأجهزة التحليل لتقدر ولا تسلم فكرها لغيرها ــ ومع ذلك فإن وزير الدفاع في تلك الفترة (أكتوبر 2002) أصدر أمرين في نَفَسْ واحد: ــ أمر إلي جهاز مخابرات الأمن القومي N.S.A وهو تابع لوزارة الدفاع ومكلف بمتابعة الاتصالات والرسائل والإشارات (في كل ما يخص الحكومات والجيوش في العالم، والمؤسسات الدولية وأولها الأمم المتحدة) ــ بأن يرسل تقاريره في الشأن العراقي إلي مكتبه (مكتب رامسفيلد) ولا يوزع منها شيئا إلا وفق "توجيهات" يصدرها إليه. ــ والأمر الثاني تشكيل جهاز مخابرات خاص ملحق بمكتبه مباشرة ــ يكون جزءا من سكرتاريته يقدم له مباشرة كل ما عنده (إضافة إلي عشرات أجهزة المخابرات الأمريكية غيره). وبدت تلك حسب تعبير منسوب إلي "ريتشارد أرميتاج" (مساعد وزير الخارجية) تصرفات "تفعلها" "أجهزة الحـــكم في العالم الثالث، وليس مؤسسات الإدارة في الولايات المتحدة الأمريكية". وطبقا لتقارير متداولة في ذلك الوقت (أكتوبر 2002) في رئاسة أركان الحرب المشتركة (نُشر بعضها فيما بعد) ــ فقد كان اهتمام العسكريين موزعا علي شواغل تداخلت وتشابكت، ذلك أن رئاسة الأركان ظل لديها شك في شأن ما يحتَمَل أن يكون لدي العراق مما ينطبق عليه وصف أسلحة الدمار الشامل، فقد كان معروفا علي نحو مؤكد (سواء بتحقيقات وكالة الطاقة النووية الدولية ــ أو معلومات أجهزة المخابرات الأمريكية نفسها) ــ أن العراق لا يملك إمكانية نووية، ثم إنه ليس هناك دليل مقنع علي أن العراق لديه (الآن) أسلحة كيماوية أو بيولوچية لها قيمة، فما كان لديه جري تدميره سواء بقرار من النظام العراقي نفسه أو بجهد من بعثة التفتيش الأولي (التي قادها "ريتشارد بتلر") ــ ثم إن أي شيء يحتمل أن النظام في العراق قصد إلي إخفائه، فقد صلاحيته ــ بالتأكيد ــ (بعد انقضاء أجل مفعوله وهو من سنتين إلي ثلاثة)، مع غيبة دليل علي أن العراق استطاع الحصول علي المصانع اللازمة لإعادة تصنيع "المواد" أو "التجهيز" لاستعمالها. وبرغم ذلك فإن وزير الدفاع "دونالد رامسفيلد" راح يؤكد لرئاسة الأركان المشتركة ــ أن جهاز المخابرات الجديد الذي أنشئ في وزارته لديه معلومات أكيدة تشير إلي النقيض تماما. وهنا فإن رئاسة الأركان راحت تتابع فريق "هانز بليكس" عندما توجه إلي "بغداد" بحثا عن الحقيقة القاطعة والدامـغة، وكان موقفها "أن هذه المهمة هي القول الفصل في أخلاقية ومشروعية أي عمل أمريكي"، والاحتمالات هنا ثلاثة: ــ إذا لم يتعاون العراق "بإخلاص وشفافية" مع فريق المفتشين، فلن تكون هناك مشكلة، لأن عدم التعاون في حد ذاته يصبح غطاءً للحرب (مع ثقة الولايات المتحدة لحظتها في رئيس فرق التفتيش الدكتور "هانز بليكس"). ــ وإذا تعاون العراق وظهر لديه ما حاول ــ أو يحاول ــ إخفاءه، فإن الذرائع الأخلاقية اللازمة لشن الحرب تستوفي نفسها بنفسها. ــ وإذا ظهرت براءة العراق فإن الحرب لا تعود ضرورية ولا مبررة، بسبب نقص مشروعيتها القانونية والأخلاقية (مع استمرار تساقط النظام وانتظار نهايته طبيعيا). ثالثــــــا:الشكوك تتكاثف علي كل المواقع! في هذه الأجواء بدا مستغربا من الجميع ــ وفيهم رئاسة أركان الحرب المشتركة الأمريكية ــ صدور إعلان الرئيس "بوش" يوم 10 نوفمبر (2002) ــ (أي بعد يومين اثنين من صدور قرار مجلس الأمن 1441) ــ بأن "الولايات المتحدة لن تنتظر حتي يوافق مجلس الأمن علي تفويضها بالعمل العسكري ضد العراق "لأن الخطر الذي تمثله أسلحته داهم، ومهمة التفتيش لا ينبغي لها أن تتسبب في تعطيل إجراء تراه الولايات المتحدة واقيا من هجوم مفاجئ لأنها تعلمت الدرس من بيرل هاربور ولا تزال تذكره" ــ (وكان التصريح استباقا للحوادث لا لزوم له، كما أنه كان استثارة غير ضرورية لأغلبية واضحة في مجلس الأمن تتشكك من الأصل في النوايا الأمريكية ــ إلي جانب أن المقارنة بين ما استطاعت اليابان أن تفاجئ به أمريكا في بيرل هاربور سنة 1941 ــ لا تجوز مع أي شيء يستطيعه العراق الآن ــ أو كان يستطيعه من قبل). ولم تكن رئاسة الأركان حريصة علي العراق والنظام فيه، وإنما كان شاغلها أن تجاهل مجلس الأمن علي هذا النحو يحرم الولايات المتحدة من فرصة إقامة "تحالف واسع"، والنتيجة أن قواتها سوف تخوض الحرب وحدها (ومعها بريطانيا وحدها، وهو ما يصعب وصفه بتحالف دولي). وكانت أهمية خوض الحرب بتحالف دولي واسع من وجهة نظر هيئة الأركان المشتركة عائدة إلي اعتبارين: ــ اعتبار عملي: وهو أن رئاسة الأركان لاتزال مُصِرَّة علي أن حجم القوات المرصودة للعملية غير كافٍ ــ لكنه إذا قام حلف دولي واسع، فإن وجود وحدات أوروبية (مثلما وقع سنة 1991) يضيف إلي جيوش الغزو مددا يسد الفجوة بين اللازم من وجهة نظرها، وبين المطلوب من وجهة نظر وزير الدفاع. ــ واعتبار معنوي: إن العراق هو علي وجه اليقين (وبنسبة 95% علي الأقل) ــ لم تعد لديه أسلحة دمار شامل، ومعني ذلك أن الغزو سوف يؤكد للجميع أن تغيير النظام هو الهدف الحقيقي للسلاح، وذلك يثبت أمام الدنيا أنها حرب علي غير أساس شرعي (غير مشروعة)، وأما إذا تواجدت في الميدان قوات أخري غير القوات الأمريكية (والبريطانية) ــ ثم اكتشف الرأي العام الأمريكي والعالمي أن الهدف كان تغيير النظام ــ فإن شَراكَة جمع من الدول تكون ــ في حد ذاتها ــ إعلانا جماعيا بأن فكر هذه الدول تلاقي علي اعتبار النظام العراقي تهديدا عاما للسِّلْم رآه كثيرون، وتوافقوا لدفع خطره بعمل مشترك بينهم، وهذه الإرادة الدولية الواسعة لها مشروعية كافية ومقنعة. وفي الوقت الذي بدأ فيه مفتشو الأمم المتحدة يتوجهون إلي بغداد (27 نوفمبر 2002) ــ لأول مرة بعد غياب أربع سنوات ــ رفعت الولايات المتحدة وتيرة استفزازها إلي سقف جديد أعلي! كان "هانز بليكس" (طبقا لأقواله) قد رجا السكرتير العام للأمم المتحدة ــ أن يبذل نفوذه لدي الإدارة حتي توقف الغارات علي مناطق الحظر الجوي في العراق أثناء عمل فِرَق التفتيش هناك، وحجته "الحرص علي سلامة المفتشين بالدرجة الأولي، إذا كان مطلوبا منهم أن يدخلوا فجأة دون إخطار، إلي أي موقع علي طول العراق وعرضه، في أي وقت من الليل والنهار" ــ ومع أن "كوفي عنان" وعده، فإن "بليكس" رأي أن يتوجه بنفسه إلي واشنطن، بعد أن تلقي دعوة لمقابلة مستشارة الأمن القومي للرئيس السيدة "كونداليزا رايس" ــ وفي البيت الأبيض وجد "بليكس" أن الأجواء "محمومة ونافدة الصبر"، وحاول التهدئة بكل جهده ولم ينجح، بل إنهم أبلغوه بأن كثافة الغارات سوف تزيد، وتلك خدمة لمهام التفتيش تساعد في الضغط علي النظام في "بغداد". وأما فيما يتعلق بسلامة المفتشين، فقد تلقي "بليكس" تأكيدا بأنه سوف يكون هناك تنسيق من "مستوي خاص" بين فريقه وبين "القيادة المتقدمة في الكويت"، بحيث يمكن المحافظة علي سلامة المفتشين في أي مكان يتوجهون إليه، وفي أي وقت! وانتهز "بليكس" الفرصة (حسب روايته) فطلب من مستشارة الأمن القومي ــ مساعدة الولايات المتحدة لفريقه "بما تستطيع تزويدهم به من معلومات"، (وكرر الطلب مع "كولين باول" (وزير الخارجية) )، وطبقا لبليكس فإنه تلقي وعدا أكيدا بأن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تضع تحت تصرفه معلومات كافية تقود الفريق الدولي إلي مخابئ أسلحة الدمار الشامل. وقالت "كونداليزا رايس" لبليكس صراحة: "لك أن تثق أن لديهم أسلحة دمار شامل، وأنهم تمكنوا من تحويل ما لديهم من مواد كيماوية وبيولوچية إلي أسلحة جاهزة (Weaponized)، بل إننا نعرف ونملك الدليل علي أن لديهم برنامجا لتطوير سلاح نووي"، ثم قامت مستشارة الأمن القومي بتسليم كبير المفتشين تقريرا سريا وضعته إدارة مخابرات وزارة الدفاع D.I.A، عنوانه "المنشآت الهامة لمواقع الأسلحة العراقية!" ــ وفي نهاية لقائها مع "هانز بليكس" طرحت "كونداليزا رايس" أهمية أن يقوم فريقه (علي نحو عاجل) بحصر العلماء العراقيين واستجوابهم خارج العراق، مع استعداد الولايات المتحدة لقبولهم ــ وعائلاتهم ــ في الولايات المتحدة، ومنحهم الجنسية الأمريكية، إذا هم "اعترفوا" بما لديهم من أسرار، وكان "بليكس" مستعدا للتجاوب وإن رأي الاقتراح "مستفزا" للنظام العراقي في اللحظة الراهنة، وفضل أن يرجئ طرحه علنا إلي مرحلة لاحقة حتي لا تتعقد الأمور مبكرا جدا!". وحدث (يوم 12 ديسمبر 2002) ــ أن النظام العراقي رغم محدودية الفترة المتاحة له، وانصياعا لطلب أمريكي أضيف إلي قرار مجلس الأمن 1441 ــ سارع بتقديم تقرير تفصيلي عن كل ما كان لديه من أسلحة الدمار الشامل، وكان التقرير من أحد عشر ألف صفحة بينها مئات من صور الوثائق والمستندات وفيها قوائم وحسابات فواتير الشركات الدولية التي باعت للعراق ما حصل عليه من المواد والمعدات. وحمل الوفد العراقي الدائم لدي مجلس الأمن ثلاث نسخ من التقرير الضخم إلي مبني الأمم المتحدة، وجري تسليمها إلي رئيس مجلس الأمن لذلك الشهر، لكنه لم تكد تنقضي دقائق حتي جري اقتحام مكتب رئيس مجلس الأمن بواسطة مجموعة من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، يصحبها ضابط اتصال من وزارة الخارجية الأمريكية، وطلبهم ــ بإصرار ــ أن تُسَلَّم إليهم النسخ الثلاث التي قدمها الوفد العراقي من "تقرير الأسلحة الذي ورد "الآن" من بغداد"، وحاول رئيس مجلس الأمن أن يناقش، لكنه أبلغ بأن الموضوع لا يحتمل حلا وسطا، وأن عليه تسليم النسخ الثلاث، وحاول رئيس المجلس أن يتصل بالأمين العام للأمم المتحدة (وليس معروفا إذا كان تمكن من ذلك أو أنه تعذر عليه الوصول إلي "كوفي عنان") ــ وفي كل الأحوال فقد خرجت مجموعة "الإغارة" علي مجلس الأمن من مبني الأمم المتحدة، ومعها النسخ الثلاث من تقرير "بغداد". وكانت تلك صدمة لكل الوفود (خصوصا وفود فرنسا وألمانيا وروسيا والصين)، وحين اتصل سفراء هذه الدول بمكتب المندوب الأمريكي الدائم السفير "نجروبونتي"، كان رده: "أن "ما وقع" كان إجراءً مؤقتا وضروريا للمراجعة، وما هي إلا ساعات قليلة حتي تصل إليهم نسخ من التقرير ــ كافية لكل أعضاء مجلس الأمن، وهم خمسة عشر، لأن العراقيين لم يقدموا غير ثلاث". (ولم تكن هناك جدوي من الرد بأن طبع نسخ كافية من التقرير يمكن أن يتم بواسطة جهاز الأمانة العامة، وهو المختص ــ لأن الجميع أدركوا أن هناك سببا خفيا وراء هذه التصرفات "المستفزة" لمجلس الأمن نفسه!). علي أن الوفود تلقت صباح اليوم التالي "نسخا من التقرير ملعوبا فيها" ــ فقد خضعت لرقابة حذفت أجزاء كبيرة منها، وكان التفسير الذي قدمه الوفد الأمريكي أن "النظام العراقي في إحساسه "بالحقد والغِل" إزاء ما فرضه عليه مجلس الأمن، قصد إلي تضمين "تقريره" تفاصيل دقيقة عن الوسائل التي جري بها تصنيع أسلحته الكيماوية والبيولوچية (وكذلك عن محاولاته النووية في مرحلة سابقة) ــ وكان النظام العراقي (طبقا للتفسير الأمريكي) ــ خبيثا في مقاصده بكثرة ما أورده من التفاصيل، فقد أراد في الظاهر أن يثبت صدق استجابته، لكنه في الباطن يضمر نية أخري ــ هي العمل علي توزيع ونشر تكنولوچيا تصنيع "أسلحة الدمار الشامل"، بحيث تستفيد منها "دول مارقة غيره" أو "جماعات إرهابية"، تجد الأسرار كلها مكشوفة أمامها وتحت تصرفها، وذلك كان ينبغي الحيلولة دونه (بأي ثمن)! ولكن الملحقين العسكريين لهذه الوفود في واشنطن ما لبثوا أن أخطروا سفراء بلادهم لدي مجلس الأمن بأن ذلك لم يكن القصد الحقيقي من "التلاعب بالتقرير" العراقي، وإنما كان القصد إخفاء دور الشركات الأمريكية (وأهمها خمسة وعشرون شركة عملاقة) ــ هي التي باعت للعراق ما ساعده علي بناء إمكانياته العسكرية، وضمنها "أسلحة الدمار الشامل" (أيام حربه علي إيران)، والغريب أن عددا من مجالس إدارات هذه الشركات ضم رجالا من صُنَّاع السياسات الراهنة (أمثال "ريتشارد تشيني"، و"دونالد رامسفيلد"، و"چيمس بيكر"، و"ريتشارد بيرل" وعشرات من أعضاء مجلس سياسات الدفاع وغيرهم!). وكان هدف الرقابة الأمريكية علي التقرير طمس هذه الحقيقة وإلا أضعفت موقف "الإدارة" في مجلس الأمن، إذ يسهل علي وفود الدول ــ حينئذ ــ أن تقف في وجه الوفد الأمريكي، وتذكره بأن ما لدي النظام العراقي جاءه بالدرجة الأولي من شركات أمريكية، وهذه الشركات هي التي قامت علي توريد المواد والمعدات وعلي تركيبها وتجهيزها، وبالتالي فإن واشنطن لابد أن تعرف كل الحقائق والتفاصيل بما في ذلك: مواقع السلاح العراقي ومخابئه، وتستطيع أن تدل عليها فريق المفتشين دون عناء وبغير انتظار. وبالفعل فإن أجواء الشك في مجلس الأمن تكاثفت. ومن منظور رئاسة هيئة الأركان المشتركة للقوات الأمريكية فإن ذلك من أوله إلي آخره ــ لم يكن تمهيدا كفؤا يساعد علي إقامة تحالف دولي واسع يخوض الحرب علي العراق. وزادت الهواجس عندما تلقت رئاسة الأركان المشتركة توجيها بتوقيع الرئيس "بوش" (يوم 21 ديسمبر) "يطلب فيه تمركز خمسين ألف جندي أمريكي في منطقة الخليج الفارسي". وتلا ذلك (يوم 2 يناير 2003) قرار من وزير الدفاع "دونالد رامسفيلد" بالبدء في تحريك مجموعات من هذه القوات (35 ألف جندي) فعلا إلي مناطق الحشد في الكويت (وفي الوقت نفسه أعلنت الحكومة البريطانية رسميا "استدعاء 1500 جندي من الاحتياط إلي الخدمة، وتحريك مجموعة عمل عسكرية تقودها حاملة الطائرات "أرك رويال"، تصحبها المجموعة التابعة لها والمكونة من سبع عشرة قطعة بحرية ــ وأن تتوجه القوة ــ برية وبحرية ــ إلي منطقة الخليج حاملة ثلاثة آلاف من جنود البحرية". وفي اليوم ذاته وقف "هانز بليكس" ومعه "محمد البرادعي" (رئيس هيئة الطاقة النووية) ــ يقدمان تقريرهما إلي مجلس الأمن، وكان ختام ما قاله كبير المفتشين: "لقد مضــت علينا الآن في العراق عـــدة أســـابيع، وقد مسـحنا مناطق شاسعة في ذلك البلد، لكننا حتي هذه اللحظة لم نعثر علي سلاح الجريمة "Smoking Gun"، وتقديرنا أن فرق التفتيش تحتاج إلي وقت إضافي لإنجاز مهمتها"، ثم قام الدكتور "البرادعي" بعد "بليكس" يقول: "إننا نحتاج إلي ستة شهور حتي نتأكد من الحقائق في شأن المهمة التي كلفنا بها بعين الأمر". وفي تلك اللحظة دخل علي الخط في واشنطن طرف آخر لا يستهان بنفوذه، لأنه من عناصر أجهزة المخابرات (وكالة المخابرات المركزية ــ ووكالة الأمن القومي) ــ وراحت هذه العناصر تهمس في لجان الكونجرس، وفي بعض مؤسسات الإعلام بما مؤداه "أن وزير الدفاع يتلاعب في المعلومات التي تقدمها له الأجهزة المعنية، وهدفه إيجاد مبررات الحرب علي العراق". ومرة أخري فإن هذه العناصر من أجهزة المخابرات لم تكن معنية بأمر العراق أو شعبه، وإنما كانت خشيتها علي سمعتها المهنية، وهي تري التشويه يتعمد تزييف تقاريرها بما يسيء إليها إذا انكشفت الحقائق، وهو ما كانت هذه العناصر تراه قادما دون أدني شك بسبب "هشاشة" التفكير والتدبير، (ولعل هذه العناصر كانت مهمومة كذلك بما تراه من تجاهل دورها في القرار الأمريكي الجاري، وتحسبه خطرا علي مستقبل منطقة حساسة كانت من قبل حكرا علي أجهزة العمل السري، ثم استولي عليها وزير الدفاع وضمها إلي اختصاصه!)". ووصل الأمر إلي حد أن واحدا من رؤساء أجهزة المخابرات قال للصحفي البارز "نيكولاس كريستوف" الذي نقل عنه (في نيويورك تيمس) "أن وزير الدفاع تحول إلي غوريلا متوحشة تخيف المؤسسات المؤهلة لجمع المعلومات وتدقيقها سياسيا وعسكريا، وأن تفاقم نفوذ مكتب الوزير (رامسفيلد) زاد عن اللازم ــ حتي أصبح خطرا علي عملية صنع القرار الأمريكي بأسرها". ومن الظاهر أن عددا من أجهزة المخابرات ضاق صدرها بالسيادة التي وضعها وزير الدفاع علي مجال المعلومات ــ كبساط مفروش من الحائط للحائط! ــ وذلك (في تقديرها) وضع خطير. والمُلاحظ أن عددا من عناصر هذه الأجهزة راحت تلوم "چورچ تنيت" (مدير وكالة المخابرات المركزية)، وتصفه بأنه "رجل باع روحه للإدارة حتي يحتفظ بمنصبه"، مع أنه كان يملك فرصة استعادة نفوذه كاملا بعد صدمة 11 سبتمبر (2001)، التي كشفت غفلة وكالته. ثم يشير هؤلاء اللائمون إلي توصيات قدمتها لجنة خاصة رأسها "برنت سكوكروفت" (مستشار الأمن القومي في إدارة "چورچ بوش" الأب)، وهذه اللجنة كُلِّفَت بالبحث في ضرورات التنسيق بين هيئات المخابرات المختلفة، وجاءت توصياتها مشددة علي أهمية "تركيز وتسييل" تدفق المعلومات عن طريق وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وكان ذلك منطقيا، وكذلك كان في صالح "چورچ تنيت" شخصيا، لكن الرجل لم يبذل أي جهد في إقناع أحد باعتماد توصيات لجنة "سكوكروفت"، وبدلا من ذلك فإنه "ألقي نفسه عاريا في أحضان "دونالد رامسفيلد""! وكان شاهد ارتماء "تنيت" في أحضان "رامسفيلد" ملابسات تحقيق له حساسية خاصة قام به السفير "چوزيف ويلسون" بطلب من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وكانت وراء التحقيق قصة مثيرة، فقد حدث مبكرا (سنة 2001) أن معلومات وردت من مصادر متعددة (بريطانية ــ إيطالية ــ عربية ــ إسرائيلية!!) عن مســـــعي يقــــــوم به العــــراق في جمهورية النيجر الأفريقية لشراء صفقة (ثلاثمائة طن) من اليورانيوم 235، وهو "الكعكة الصفراء" "Yellow Cake" التي تُصنع منها الأسلحة النووية، وزاد أن بعضهم أبرز صورة خطاب رسمي من أحد وزراء حكومة النيجر يتحدث عن صفقة اليورانيوم بغير لَبْس، واهتمت الإدارة الأمريكية بالمعلومات، واختار "چورچ تنيت" واحدا من أكثر خبرائه اتصالا بالشئون الأفريقية (وسبق له العمل سفيرا في عدد من بلدانها)، وأمره أن يذهب بنفسه إلي "النيجر" (2002) ويعود بالخبر اليقين. كان الرجل المكلف بالمهمة هو "چوزيف ويلسون" الذي شغل إلي وقت قريب منصب السفير الأمريكي في الجابون، وبالفعل فإن "ويلسون" ذهب إلي النيجر وراح يتقصي ويبحث وخرج بعد شهرين بأن القصة كلها ملفقة، وأن الخطاب المُشار إليه بتوقيع أحد الوزراء مزور، بل إن ذلك الوزير المنسوب إليه توقيع الخطاب الرسمي لم يكن يشغل أي منصب في التاريخ الذي ورد أعلي الخطاب! ....................
.................... [وفي الغالب فإن الخطاب كان من صُنْع عصابات "من الهواة" احترفوا تزييف الوثائق بطرق بدائية في بعض الأحيان، وهم يجدون زبائن مستعدين لدفع الثمن، وبعضهم يجهل ــ وبعضهم يعلم! ــ أن ما يشتريه "مطبوخ"!]. ....................
.................... وقد كشف السفير "ويلسون" هذا الخطاب من أول أسبوع قضاه في "نيامي" (عاصمة النيجر)، ولكنه مع ذلك مضي يستوثق ويستوفي، وأكثر من ذلك فإنه عندما كتب إلي رئيس المخابرات المركزية عن نتائج مهمته، أضاف: "إنه بحث "المسألة" مع سفيرة الولايات المتحدة الحالية في "نيامي"، وأنها قالت له (بنص ما نقل عنها) "إننا سمعنا كلاما كثيرا عن مساعٍ بذلها العراق للحصول علي يورانيوم 235، وقد تابع خبراء السفارة هذا الموضوع، وهم يتابعونه بتكليف دائم لأن اليورانيوم في النيجر ليس مسألة هينة، لكنهم جميعا لم يعثروا علي أي دليل، بل إن ما عثروا عليه ينفي نفيا قاطعا محاولة العراق من الأصل شراء يورانيوم من هنا". وقالت السفيرة ــ أيضا ــ وفق ما نقل عنها المبعوث الخاص للمخابرات المركزية، "إن هذه السفارة كتبت إلي واشنطن عشرات المرات عن هذا الموضوع، لكنه يبدو أنهم في واشنطن لا يصدقون إلا ما يريدون تصديقه ــ وهذا أمر غريب!". وبرغم ذلك فإن حكاية "يورانيوم النيجر" ظلت حجة مستعملة في واشنطن إلي درجة أن الرئيس "بوش" خصص لها فقرة خاصة ومستقلة في خطابه عن حالة الاتحاد الذي ألقاه أمام الكونجرس في أواخر شهر يناير 2003، وفي اليوم التالي لإلقاء هذا الخطاب أصيب السفير "چوزيف ويلسون" بنوع من "الصدمة" (وفق تعبيره)، واتصل بچورچ تنيت مدير المخابرات المركزية يلفت نظره إلي "أنه لا يليق أن تظهر في خطاب حالة الاتحاد وعلي لسان الرئيس وأمام الكونجرس وعلي مسمع من الشعب الأمريكي والعالم ــ معلومات أثبت خبراء الولايات المتحدة نفسها أنها غير صحيحة". وكان رد "تنيت" عليه "بأن لا يشغل نفسه لأن الإدارة تعرف ما تفعل!". ولم يكن صحيحا أن الإدارة تعرف ما تفعل، وإذا كانت تعرفه فإنها أخطأت في تقديراتها، فقد حدث في هذه الفترة أن وكالة الطاقة النووية الدولية سمعت عن حكاية "يورانيوم النيجر"، وظنت الوكالة أن "الحكاية" تدخل في اختصاصها، وقد يكون وراءها تلميح مقصود إلي تقصير وقعت فيه وهي المسئولة عن "الانتشار النووي"، وهكذا استطاعت الحصول علي صورة من خطاب وزير "النيجر" الذي يشير إلي "الكعكة الصفراء" المرعبة ومحاولة "العراق" شراءها، ولم يمض أسبوع واحد حتي كان الدكتور "محمد البرادعي" يكتب إلي السكرتير العام للأمم المتحدة يبلغه "أن ذلك الخطاب علي وجه التأكيد مزور"، ثم يرص قائمة الأسباب في بيان التزوير. ومع ذلك فإن الإدارة الأمريكية ("دونالد رامسفيلد" ــ مؤيدا بنائب الرئيس "ديك تشيني") صممت علي أن الخطاب مازال يمكن اعتباره دليلا دامغا يبرر غزو العراق، لأن الحكومة البريطانية أبلغتها أن لديها ما يعززه! والأغرب من ذلك أن مكتب "ريتشارد تشيني" تلقي من مكتب مدير المخابرات المركزية الأمريكية "چورچ تنيت" نسخة من نتائج مهمة "ويلسون"، وهي قاطعة علي أن الموضوع من أوله إلي آخره ملفَّق، ومع ذلك فإن "تشيني" أصر علي اعتماد الخطاب، بل وأصر أكثر علي أن تقبل المخابرات المركزية بعدم مناقضة استعماله علنا، خصوصا "عندما يستعمله الرئيس في أي من أحاديثه العامة". ومارس "تشيني" في ذلك ضغطا علي وكالة المخابرات المركزية إلي درجة أنه قام بزيارة مقرها في "لانجلي" (ضاحية واشنطن) لبحث الموضوع مع مديرها ــ ثلاث مرات في ظرف عشرة أيام. وفيما بعد وحين انكشف الموضوع بكافة تفاصيله، واضطرت الإدارة الأمريكية إلي الاعتراف بالخطأ ــ فإن الرئيس "بوش" لم يجد مهربا غير أن يعلن "أن رئيس المخابرات المركزية اطلع علي نص خطابه عن حالة الاتحاد وفيه الفقرة الخاصة بالكعكة الصفراء ــ وأقره". ورضي "چورچ تنيت" أن يقوم بدور كبش الفداء بعدما أخطره "تشيني" أن أركان الإدارة ارتأوا ــ حفاظا علي مصداقية الرئيس ــ "أن يضعوا المسئولية عليه ("تنيت")، وقَبِلَ الرجل علي نفسه وعلي وكالته أن يصبح كبش فداء للبيت الأبيض، ناسيا أن القضية أكبر من ذلك لأنها قضية ثقة ومصداقية (ووقع تجديد مدة خدمته رغم أنه من بقايا تعيينات إدارة "كلينتون"). ......................
...................... وكانت رئاسة أركان الحرب المشتركة تتابع ذلك، وقد تحولت هواجسها إلي مخاوف لها دواعيها! ......................
...................... [وفيما بعد وحينما صدرت عن البيت الأبيض اعتذارات تعددت مستوياتها عن استعمال معلومات "غير مؤكدة" في خطاب الرئيس عن حالة الاتحاد، فإن ذلك لم يكن مطمئنا، لأن من يعتذر مرة ــ يستطيع أن يعتذر مرة ثانية، لكنه حين يقْتَل جندي أو ضابط، فإن حياته لن تعود مرة أخري بكلمة أو كلمات!]. رابعــــــا:قطار وقضبان ومحطة! بعد أن ألقي الرئيس "چورچ بوش" خطابه عن حالة الاتحاد (29 يناير 2003) ــ لم يبق لأحد في رئاسة أركان الحرب المشتركة سببا يدعوه للشك في أن الحرب علي "العراق" قادمة دون تأخير، فقد كان الخطاب في صُلبه ــ درجة من الأمر الإنذاري إلي القوات المسلحة الأمريكية بأنه الضوء البرتقـــــالي، وأنه ســـــوف يتغير إلي الأحمر في أي لحظة ــ أمرا فوريا ببدء التنفيذ! وكان ملفتا ــ أن الرئيس في خطابه قرر أن المعلومات المتاحة لدي الأجهزة المختصة في الولايات المتحدة تبين أن أسلحة الدمار الشامل العراقية علي اختلاف أنواعها "جاهزة للتشغيل في ظرف 45 دقيقة بأمر يصدر من "صدام حسين"، الذي هو "أخطر رجل في العالم" لأنه يهدد الجميع، وبالتالي فإن مثول الخطر علي هذا النحو يعطي الآخرين حق المبادرة دفاعا عن النفس بالردع قبل أن يداهمهم عدوهم!". ومع أن الرئيس (فيما يظهر) حاول توقي اعتراض من يعرفون الحقيقة، ونسب المعلومات إلي الحكومة البريطانية ــ فإن تلك لم تكن رغبة في التزام الصدق وإنما في التشويش عليه. وترافق مع ذلك شعور من التبرم والشكوي من أن هناك تلاعبا في معلومات المخابرات، بمعني أن "معلومات المخابرات" عندما يجري تداولها بين أجهزة صنع القرار، أو إعلانها رسميا ــ كليا أو جزئيا ــ يتحتم أن تكون صادقة، بصرف النظر عن طريقة استغلالها السياسي أو العسكري، لكن الذي يحدث الآن هو أن التقارير نفسها يجري التلاعب بها وتغيير طبيعتها، وهو الأمر الذي لا يجوز السماح به. وكان جوهر المشكلة أن رئاسة الأركان المشتركة حتي هذه الساعة لم تكن مقتنعة بالهدف المطلوب منها تحقيقه، وحدث في ذلك الوقت أن وزير الدفاع "رامسفيلد" قال في برنامج إخباري ظهر فيه علي شاشة وكالة الأخبار الأهلية "N.B.C" إن قطار الحرب بدأ رحلته علي القضبان فعلا ولم يعد ممكنا إيقافه"، وسأله الصحفي الذي يحاوره وهو "تيم راذرز" "ولكن هل نحن واثقون أن ذلك القطار الذي يمشي علي القضبان هو بالضبط ذلك القطار الذي يصل بنا إلي المحطة التي نريد الوصول إليها؟". ــ ورد "رامسفيلد" باقتضاب: "أظن ذلك!". والشاهد أن رئاسة الأركان المشتركة (وكذلك قيادة المنطقة المركزية المكلفة بالعمليات المقبلة في العراق) ــ ساورها قلق شديد تعددت أسبابه: بينها مظاهر الفوضي السائدة في مجلس الأمن، والتي تبدي من خلالها أن حــــلف الأطلنطي نفســــــه لم يعد توافقا سياسيا بين أطرافه، وإنما أصبح فجأة خلافا علنيا أمام العالم صورة وصوتا. وكان افتراق الطرق في مجلس الأمن أن غالبية أعضائه رأت إفساح مدة ــ أو مدد إضافية ــ لفريق التفتيش يؤدي مهمته في العراق ــ لكن الولايات المتحدة قطعت بالرفض، وفي حين أن غالبية من المجلس أبدت اقتناعها بضرورة أن لا تتحرك القوة المسلحة قبل قرار من المجلس يعطيها إشارة الحرب ــ إلا أن الرئيس "بوش" بنفسه "بادر وأعلن أن الولايات المتحدة لن تنتظر ولن تقيد نفسها بقرار جديد من المجلس يبيح لها حرية العمل العسكري". وكان أن حكومة المستشار "جيرهارد شرودر" أعلنت رسميا "أنه حتي إذا صدر من مجلس الأمن قرار يبيح للولايات المتحدة حرية استخدام السلاح، فإن "ألمانيا" لن تشارك في أي عمل عسكري في العراق". وبينها ــ أسباب القلق ــ أن المظاهرات الشعبية التي جرت في واشنطن ونيويورك وعواصــم غربية عديدة ــ اشـــتدت إلي درجـــة دعت الچـنرال "ريتشارد مايرز" إلي القول في اجتماع رسمي في "البنتاجون" "إن رسم الحرف "V" يتراءي له في الظلام عندما يغمض عينيـــــــــه، و"V" هو الحــــــــــرف الأول من "فيتنام"! وبينها أن كل ما يدور في مجالس الحرب لا يدل بوضوح علي وجود خطوط إستراتيچية عُليا، وإنما يدل علي "أحوال طوارئ تتحول إلي خطط حرب لها بداية ولا يظهر لها سياق يؤدي خطوة بعد خطوة إلي نتائج واضحة تمثل مطلبا متكاملا للقوة الأمريكية!". وبينها أن اجتماعات مجلس سياسات الدفاع راحت تسمع أقوالا مرسلة يصعب اعتبارها إستراتيچية عُليا، ومن ذلك ما ذكره "فرانك كارلوتشي" وهو من أبرز أعضاء المجلس ومن المقربين بشدة إلي وزير الدفاع "رامسفيلد" "أن الذين يسألون عما إذا كانت لدينا إستراتيچية عُليا يصح لهم أن يعرفوا أن لدينا إستراتيچية عُليا، وأن هذه الحرب القادمة خطوة علي طريقها". ثم يستطرد "كارلوتشي" (وفقا لتقرير صدر فيما بعد عن مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك) "لدينا إستراتيچية عُليا غاية في البساطة، نحن نريد في المنطقة نظما موالية لنا، لا تقاوم إرادتنا، ثم إننا نريد ثروات هذه المنطقة بغير منازع، ونريد ضمانا نهائيا لأمن إسرائيل لأنها الصديق الوحيد الذي يمكننا الاعتماد عليه في هذه المنطقة!". ثم يستطرد "كارلوتشي" قائلا: "لابد من تغيير النظام في العراق بالسلاح، وبعده في "إيران"، و"سوريا" ــ وبعدهما في "السعودية" و"مصر"، وفي الغالب فإن ذلك ممكن بغير استعمال السلاح، والواقع أن هــذه كلها نظما محسوبة علينا وهي تحملنا أعباء مكلفة بغير فائدة!". ولم يكن في ذلك كله ما يمكن وصفه بأنه إستراتيچية عُليا لا لأمريكا ولا لعالم يهتم ويتابع مفزوعا بما يري! وأخيرا وصلت رئاسة الأركان المشتركة ــ راضية أو غير راضية ــ إلي أن: * الحرب قادمة بلا محالة في العراق. * وهي حرب سوف تخوضها الولايات المتحدة وحدها. * ثم إن القوات المرصودة للعمليات غير كافية (وهذا موضوع يعنيها أكثر من غيرهـــا، وليســـت فيـــــه تلك السيادة المطلقة للقرار السياسي بحكم الدستور!). وفي تلك اللحظات المضطربة راج في "واشنطن" ــ علي غير انتظار اقتراح بدا نغمة شاذة وسط دقات طبول الحرب العالية (ولعل مقصده الحقيقي كان الرغبة في طمأنة القيادات العسكرية) ــ وقد ورد ذكر الاقتراح لأول مرة (يوم 19 يناير 2003) ــ علي لسان "دونالد رامسفيلد" ــ حين قال بالنص: "إن الولايات المتحدة علي استعداد لأن تمنح الرئيس "صدام حسين" حصانة من أي مساءلة سياسية أو قانونية، إذا قرر الخروج مع أسرته ومن يريد من أعوانه وأسرهم إلي خارج "العراق"، وفي هذه الحالة فإن الولايات المتحدة علي استعداد لأن توفر لهم ملجأً كريمًا، وحياة سخية، وراحة موفورة!". وأضاف "رامسفيلد" "إننا من أجل تجنب مآسي الحـــرب، رأيـــنا أن نتقـدم بهذا الاقتراح ونأمل أن يقبله "صدام"، ويجنب بلاده والعالم خطر عمليات عسكرية لسنا متحمسين لها إلا بمقدار ضـــــرورتها للدفـــــاع عن أنفســـنا وعن العالم الحر". وبدا الاقتراح مثيرا للدهشة وسط إلحاح الإدارة الأمريكية علي امتلاك العراق أسلحة دمار شامل (فيها أسلحة نووية) ــ واستعداد النظام الحاكم في "بغداد" لاستعمالها في ظرف خمس وأربعين دقيقة ــ وبأمر من رئيس يوصف بأنه أخطر رجل في العالم، وأفدح تهديد يواجه أمريكا نفسها وكذلك أوروبا (فضلا عن المنطقة التي يعيش فيها). .....................
..................... [والمتوافر من المعلومات كما هو محقق منها (حتي هذه اللحظة) ــ أن ذلك الاقتراح لم يكن مجرد بالون اختبار، وإنما كان إشارة علي الأفق وراءها شيء ــ وكان هناك بالفعل شيء يجري في العاصمة التركية في وقت ما من أواخر شهر يناير 2003. كانت "أنقرة" في مرات كثيرة ــ وعلي نحو يكاد أن يكون منظما ــ ملتقي اتصالات سرية بين أجهزة الإدارة الأمريكية وبين أجهزة النظام في "بغداد"، عندما يكون لدي أحد من الطرفين ــ برغم كل شيء ــ رسالة يرغب في تمريرها بطريقة "موثوقة" إلي الطرف الآخر. وفي الواقع فإن هذه الاتصالات لم تنقطع قط، وإن تغير مكانها مرات: ــ كانت بداية هذا النوع من الاتصالات في القاهرة (لكنْ الطرفان كلاهما اتفق رأيهما علي أن القاهرة لا تكتم السر ــ ولذا يستحسن تجنبها ــ وقد كان!). ــ وفي مرحلة ثانية جري هذا النوع من الاتصالات في "لندن" ــ لكن "لندن" كانت مزدحمة بفصائل المعارضة العراقية، (والطرفان لا يريدان عيونا وأرصادا ــ وبالفعل تحولوا). ــ وأخيرا وقع اختيار الطرفين علي العاصمة التركية، وبدت أحوال "تركيا" أكفأ في حفظ السر من القاهرة، وأنجح في توفير فرص الخفاء من "لندن". وفي شهر يناير وصلت "رسالة" من واشنطن باقتراح لقاء في "أنقرة" أواخر يناير (2003). وكانت الرسالة في الواقع نص ذلك الخطاب الذي ألقاه الرئيس "بوش" عن حالة الاتحاد، وفيه التصميم علي غزو العراق، وكان الجديد الذي زاد، تعليق علي نص الخطاب يلفت نظر القيادة العراقية "إلي أنها لا تملك حقا في الشك أو فرصة له ــ لأن ذلك بالفعل هو "عزم الرئيس"، والولايات المتحدة تملك "الوسائل القادرة عليه". وتلي ذلك عرض اقتراح "خروج الرئيس صدام حسين" وعائلته وأعوانه إلي ملجأ آمن تتوافر لهم فيه كل ضمانات القانون ووسائل الحياة كريمة وموفورة. وكان المندوب الأمريكي في هذا الاجتماع مسئولا بارزا في وكالة المخابرات المركزية، وقد صحبه هذه المرة "رجل ثان" من الأمن القومي للبيت الأبيض، ومن الواضح أن الأتراك كانوا يعرفونه جيدا، وقد أوصوا بحسن الاستماع إليه والاهتمام بما يقول جديا ــ إلي أبعد مدي (ولم يكن الأتراك بعيدين، ففي لقاءات من هذا النوع يكون مرغوبا فيه باستمرار أن تكون "أجهزة" البلد المضيف علي علم ــ وربما علي مقربة ــ ولو من باب تجنب أن تتعقد الأمور بحرص أجهزة المضيف علي معرفة ما يقوله ضيوفها داخل بيتها). وفي ذلك الاجتماع ختم المندوب الأمريكي عرضه للافتتاح (وكان قاطعا) بما معناه "أنه يتفهم حاجة "الطرف الآخر" إلي مهلة يعود فيها إلي "بغداد" ويعود برد "عاقل ومعقول" . وعندما عاد المندوب العراقي فإن الرد الذي حمله معه كان فيه ما يستوقف النظر، فقد ورد فيه "أنه مع الاحتفاظ بكافة الحقوق القانونية والشرعية ــ معززة بالأمر الواقع في "بغداد" الآن" ــ فإن لدي "الطرف العراقي" سؤال مؤداه: "هل هم مستعدون للتعامل مع "قصي صدام حسين" ــ إذا تنازل له والده عن الرئاسة؟، وهل تعترف "واشنطن" به في هذه الحالة وتتعامل معه علي أساس جديد في علاقات البلدين". "وطبقا لمصدر تركي (لا مجال للشك في حسن اطلاعه) ــ فإن المندوب الأمريكي أبدي "استعداده لنقل الاقتراح "إليهم" في واشنطن، وإن لم يكن واثقا من جوابهم"، وفيما بعد وفي مناقشة بين الأمريكيين والأتراك ــ جري بحث بالعمق في مدلول الرسالة التي نقلها المندوب العراقي من "بغداد"، وهل تعني ضمنا ــ بل وصراحة ــ أن مبدأ خروج "صدام حسين" من السلطة (ولو لصالح ابنه قصي) مقبول الآن من جانبه، بعد أن رأي الخطر المحدق ولم يعد لديه شك في أنها النهاية؟!". ....................
.................... [ولابد من إشارة هنا إلي أن هذه الاتصالات تسرب شيء عنها إلي دوائر "الحزب" و"الحكم" في بغداد، وفيما يظهر فقد كان لها أثرها علي عدد من ساسة النظام الكبار، وكان بين هؤلاء من أحسوا بضغط الأزمة وقدروا عواقبها الوخيمة. ولعل بينهم من رأي النهاية تقترب ــ كما أن بعضهم راح يعاني من أزمات ضمائر حائرة وولاءات متضاربة بين النظام والوطن ــ وبين العام والخاص (العائلي أيضا)]. ......................
...................... [وفيما بعد وحين كانت التقارير ترد ساعات سقوط "بغداد" ــ عن صفقات وخيانات وعمليات حرب ــ فقد كان باديا أن ذلك كله يحتاج إلي "غربال"، وأن المحنة أشد تعقيدا من الصفقات والخيانات، والشاهد أن بعض الذين تناولتهم شائعات الصفقات والخيانات موجودون الآن في سجون الاحتلال الأمريكي تحت ظروف بالغة القسوة والإهانة ــ ومع ذلك فإنه من الصعب ــ واقعيا ــ استبعاد وقوع اتصالات بين بعض المسئولين في الحكم والجيش (والحرس الجمهوري) ــ مع عناصر خارج العراق، خصوصا بصلات قرب (عائلية وعشائرية) مع ساسة وضباط عراقيين في المنفي]. ......................
...................... والمهم ــ في السياق الأصلي ــ أنه لم تكد تمضي أيام حتي تحركت الحكومة التركية ورئيسها في ذلك الوقت "عبد الله جول" تعرض علي دول الجوار العراقي: الأردن والسعودية وسوريا وإيران ــ ومعها مصر باعتبارها مقر جامعة الدول العربية ــ اقتراحا بعقد مؤتمر في "إستانبول" لبحث أمر يتصل بأمن المنطقة وينقذها من شر مستطير. وكان جدول الأعمال التركي المعروض هو نفسه اقتراح "رامسفيلد"، أي "ترتيب خروج "صدام حسين" من العراق ومعه عائلته وكبار معاونيه وعائلاتهم ومعهم حصانة قانونية وسياسية وإمكانيات مادية تكفل لهم رغد العيش والأمن مدي الحياة". ولم يقدر للمسعي التركي أن يبلغ غايته لأن عددا من الدول العربية ــ بينها مصر ــ تصورت "أنه إذا كان الأمر كذلك، فالأولي أن تتم إجراءاته عربيا، لأن عروبته قد تمنحه فرصة قبول أكبر من جانب الرئيس العراقي، والشعب العراقي أيضا. وكان ذلك أساس العرض الذي تقدمت به دولة الإمارات العربية المتحدة أثناء مؤتمر علي مستوي القمة في شرم الشيخ (أول مارس 2003). ......................
...................... [وكان العرب طوال تصاعد أزمة غزو العراق بدون سياسة لها شكل ــ أو لها مضمون، وربما أن شهادة "مارتن إنديك" (رئيس قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأمريكية، وسفير الولايات المتحدة بعد ذلك في إسرائيل) ــ تكشف "حال" السياسة العربية، فقد قال "مارتن إنديك" وكتب أنه أثناء ضربات الصواريخ التي جري توجيهها علي العراق بمقتضي حملة "ثعلب الصحراء" بإذن من الرئيس "كلينتون" (سنة 1998) ــ أنه حضر اجتماعا لبحث ضربات الصواريخ علي العراق: وهل تستمر أكثر أو تتوقف الآن ــ وفجأة قال "كلينتون": "إنني حائر في شأن هؤلاء العرب!". إذا ضربنا العراق ــ غضب الرأي العام العربي، وصاح في وجوهنا لماذا تضربون شعب العراق؟! وإذا أوقفنا الضرب ــ غضب الحكام العرب، وهمسوا في آذاننا لماذا ــ إنكم بذلك تقوون مركز "صدام"! ولعل الأمور لم تكن مختلفة سنة 2003، عما كانت عليه قبل خمس سنوات (1998 ــ أيام "كلينتون") ــ وربما أن اقتراح خروج "صدام حسين" ومن معه من "بغداد" جاء إنقاذا للحد الأدني من وجود ــ مجرد وجود ــ سياسة عربية، فإذا خرج "صدام حسين" من العراق ــ فالنتيجة مرضية للساسة العرب وغير العرب، وإذا لم يخرج فهو المسئول ــ والساسة العرب بُرَّاء من دمه!]. .....................
..................... ويستحق النظر أن اقتراح الإمارات الذي قدم إلي مؤتمر القمة العربية جرت صياغته في "أنقرة"، وشارك في الصياغة "خليل زالماي"، وهو مندوب وزارة الدفاع الأمريكية لدي المعارضة العراقية (وقبلها لدي الحكومة الأفغانية ــ قبل وبعد سقوط نظام طالبان) ــ والغريب أن هذا الاقتراح وصل لوفد الإمارات إلي القمة العربية، وهذا الوفد علي وشك الصعود إلي الطائرة متجها إلي "شرم الشيخ". وأثناء الاجتماع الصباحي للقمة جري توزيع نسخة من ذلك الاقتراح، لكن التباسا نشأ لأن أحدا لم يطلب إدراجه رسميا علي جدول الأعمال، وبالتالي تعقدت الإجراءات، وعندما وصلت نسخة من الاقتراح إلي الوفد العراقي (وكان يتزعمه السيد "عزة إبراهيم") ــ توجه أحد أعضائه إلي حيث يقف مسئول من الإمارات يبلغه إنذارا "بأنه سوف يجري تقطيعكم إربا إربا" إذا "تجاسرتم" علي طلب إدراج هذا الاقتراح علي جدول الأعمال، وبُهِتَ الرجل وكان قصاري ما استطاع أن يرد به "أنه لم يطَّلِع علي هذا الاقتراح إلا الآن ــ وفي هذه الجلسة!". والشاهد أنه كان يمكن لاقتراح دولة الإمارات العربية المتحدة أن يلقي فرصة معقولة لو أنه استكمل نفسه بضمان تعلن فيه الولايات المتحدة الأمريكية أن قواتها لن تدخل العراق مقابل إعلان "صدام حسين" قبوله بالعرض الأمريكي (التركي ــ العربي) ــ "لأنه يريد تجنيب شعب العراق مصائب حرب مدمرة تودي بما بقي من اقتصاده ومرافقه" ــ لكن الذي حدث أن "رامسفيلد" نفسه صَرَّح أثناء انعقاد القمة العربية بأن خروج "صدام حسين" ومن معه لا يعني العدول عن دخول الجيوش الأمريكية إلي العراق واحتلال أراضيه، ولم يبق لاقتراح من هذا النوع "معني"، لأن مؤداه عمليا: خروج "صدام حسين" ومن معه من العراق، ودخول القوات الأمريكية إليه "بسلام"، ووضعه بالكامل تحت السيطرة دون طلقة واحدة، وذلك بموافقة عربية علي مستوي القمة! .....................
..................... [ومن المفارقات أنه في تلك الظروف تبدي كرم الأغنياء العرب في التلويح بالمبالغ التي يمكن أن يدفعوها لصدام حسين ومن معه إذا خرجوا، لكن أحدا لم يحاول أن يناقش مستقبل العراق ــ وما إذا كان العرب مستعدين لتطوير اقتراح الخروج وتكليف الجامعة العربية بالتعاون مع الأمم المتحدة في مساعدة الشعب العراقي، دون حاجة إلي احتلال أمريكي لواحد من الأوطان العربية المؤسسة للنظام العربي (بصرف النظر عن نوعية الحكم المسيطر عليه في لحظة عابرة من لحظات تاريخ طويل)، مع ملاحظة أن الأوطان المؤسسة للنظام العربي ثلاثة بالتحديد: هي مصر وسوريا والعراق، ومعني احتلال أمريكا للعراق أن المثلث المؤسس للنظام العربي فَقَدَ أحد أضلاعه الرئيسية وانفك تماسكه، (مع اعتبار أن الأوطان أهم من النظم الحاكمة، فالأوطان (علي نحو ما) أشبه ما تكون بحاملات الطائرات العملاقة، وأما النظم فمجرد "حمولات" يتصادف وجودها علي السطح لحظة عابرة، وليس مهما أن تُصاب إحدي الطائرات بالعطب، وإنما الكارثة أن تغرق الحاملة!)]. .....................
..................... [وعلي أي حال فإن النظام في العراق أعرض عن اقتراح الخروج (ولعله لم يكن جادا في سماعه من الأصل أو أنه غَير رأيه بعد تطورات الظروف) ــ ذلك أنه حين توجه "ييفچيني بريماكوف" رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي الأسبق إلي "بغداد" ــ سرا لمقابلة "صدام حسين" وإعادة طرح الاقتراح عليه بتكليف من الرئيس "فلاديمير بوتين" ــ فإن "صدام حسين" (وفق رواية "بريماكوف" نفسه) لم يقض معه غير ربع ساعة، قال له في بدايتها أنه "استقبله كصديق قديم" ــ ثم لم يكد "بريماكوف" يبدأ حتي قاطعه "صدام حسين" ــ إذ هَمَّ واقفا قائلا له: "إنني سمعت منك اقتراحا مماثلا سنة 1991 ورفضته، ومنذ ذلك الوقت حتي الآن مرت اثنتا عشرة سنة وأنا مازلت هنا والآن تعود لي باقتراح مماثل!". وقبل أن يخرج "بريماكوف" سأله "صدام حسين" "هل لديكم تأكيد بأن الأمريكان لن يحتلوا العراق إذا أنا استمعت إلي كلامك؟" ــ ولم يتوقف "صدام حسين" لكي يسمع الرد!]. ....................
.................... وفي سياق التطورات فإن هذه المحاولات بدت أمام رئاسة الأركان المشتركة جهودا "مقبولة" تبذلها الإدارة حتي تستجيب لهواجس العسكريين وتُحَسِّبَهُم من استخدام القوات المسلحة الأمريكية في عمليات "سياسة" ليست وراءها ضرورات إستراتيچية عُليا. وكان الملاحظ أن الإدارة مضت خطوات أبعد علي طريق طمأنة قواتها المسلحة: ــ منها أنه عندما عاد "هانز بليكس" إلي مجلس الأمن (يوم 28 يناير) يطلب منح فريقه مدة إضافية لاستكمال عمليات التفتيش قائلا "إنه يلقي استجابة في الإجراءات من جانب العراق، وسوف يطلب استجابة أكثر في الموضوع" ــ فإن الإدارة اشترطت لموافقتها علي مهلة ثلاثة أسابيع إضافية ــ أن تعلن الحكومة العراقية فتح أجوائها بالكامل أمام طائرات الاستطلاع من طراز "يو 2" لتمسح وتصور وتتابع كل حركة علي الأرض، وانصاع النظام العراقي، وكذلك فإنه في اللحظات الحاسمة كان العراق أرضا مفتوحة بالكامل ــ طول الوقت ــ للكاميرات الأمريكية تجوب سماءه دون قيود. وكانت الصور تذهب إلي رئاسة الأركان تؤكد ــ بالزيادة ــ أن أرض المعركة مُباحة، وأن الدخول العسكري للجيوش الأمريكية لا يواجه احتمالا غير محسوب! ــ وعندما توقفت هيئة التفتيش الدولي أمام ما يملكه العراق من صواريخ صمود (2)، واعتبرت أن مداها يتعدي الحد المسموح به بمقتضي اتفاق وقف إطلاق النار (سنة 1991) ــ فإن النظام في العراق اضطر ــ بعد جدل لم يطل ــ إلي البدء في تدمير نظام الصواريخ الوحيد الباقي لديه، وتدخلت الولايات المتحدة الأمريكية لمنع تصوير عملية التدمير (حتي لا ينشأ انطباع لدي الرأي العام الدولي بأن النظام في العراق يستجيب ويتعاون ويتخلص بنفسه مما بقي لديه، حتي لو لم يكن مخالفا للمتفق عليه والمسموح به). ومع ذلك فإن فريق تصوير أمريكيا (تابع لهيئة المفتشين) تولي المهمة، وفي اليوم التالي كانت الصور تتساقط من منشورات أمريكية موجهة إلي الضباط العراقيين، ضمن حملة حرب أعصاب موجهة إليهم تنبههم إلي أنه يجري تجريدهم من "أهم أسلحتهم" قبل بدء القتال. ويظهر أن "رامسفيلد" كان مغرما باستعمال الصور، ففي أحد اجتماعاته مع هيئة الأركان (وطبقا لرواية الچنرال "تشيمسكي" قائد القوات البرية) ــ أخرج من ملف أمامه صورا لاجتماع عسكري عقده الرئيس "صدام حسين" مع قادة القوات المسلحة العراقية وقادة الحرس الجمهوري (خلال شهر فبراير 2003)، وسأل ــ وهو يشير إلي جلوس نجلي "صدام" (عُدي وقصي) حول المائدة مع القادة العسكريين ــ وسأل "رامسفيلد": "أريدكم أن تفكروا لحظة فيما يمكن أن يشعر به أي ضابط عراقي يشارك في مثل هذا الاجتماع أو يري صورته علي تليفزيون "بغداد" أو جرائدها! ــ هل يمكن له في أعماقه أن يواصل اعتقاده بأنه يدافع عن وطن أو أنه سوف يفتح عينيه ويكتشف أنه حامٍ لعائلة؟ ــ أضاف "رامسفيلد" "إننا سألنا بعض من نعرف من الضباط العراقيين اللاجئين هنا وفي بريطانيا ــ عن رأيهم في تأثير مثل هذه الصورة علي معنويات الضباط؟ ــ وكان رأيهم بغير استثناء أنه "تأثير مدمر"، يفقد القوات إرادة الحرب واستعداد التضحية بالنفس!". وكان قطار الحرب يجري علي القضبان بأقصي سرعة! خامســـا:منحني علي الطريق التركي! علي غير انتظار، وفي الوقت الذي بدأ فيه قطار الحرب يتحرك علي قضبانه، وتزداد معدلات سرعته يوما بعد يوم ــ ظهر منحني علي الطريق في الشمال ــ التركي. كان المقدر وفق الخطة أن الفرقة الرابعة الميكانيكية سوف تدخل إلي شمال العراق من "تركيا" ــ وكان باديا أن "تركيا" لا تمانع، بل علي العكس تحبذ، خصوصا إذا كان هناك مقابل ــ وكان المتصور أن المقابل مساعدات مادية: مالية وعسكرية يسهل الاتفاق عليها مهما اشتدت المساومات ــ لكنه مع تقدم المفاوضات بدأت الريب تداخل بعض الأطراف في أن المقابل المادي الذي يطلبه الأتراك ليس مالا وليس سلاحا، وإنما شيئا آخر مضمرا في النوايا أكثر مما هو مُعْلَن علي الموائد، وكانت جماعات الأكراد العراقيين هي التي بادرت وألحَّت، ورأيها أن الأتراك يسعون إلي أهداف إقليمية وإستراتيچية، ويرون الفرصة سانحة لتحقيقها: 1 ــ يريد الأتراك تصفية بقايا حزب العمال الكردي (التركي) التي لجأت إلي المناطق الكردية العراقية، علي اعتبار أن حركتهم المنادية بنوع من الاستقلال الذاتي لأكراد تركيا ــ وهم ما بين 11 إلي 18 مليون كردي (أي أكبر مجموعة من الأكراد بين جميع بلدان المنطقة) ــ تهديد خطير لوحدة الوطن التركي نفسه تتعهد به المؤسسة العسكرية (وهي الأقرب في علاقتها مع الأمريكيين)، باعتبارها المسئولة ــ بنص في الدستور ــ عن وحدة وعلمانية "الأمة التركية" و"الوطن التركي"! 2 ــ وفي سبيل تحقيق هذا العهد فإن السلطة التركية لديها العزم علي تصفية الدويلات الكردية التي قامت بالأمر الواقع في شمال العراق بعد حرب سنة 1991، واحدة برئاسة السيد "مسعود البرزاني"، والثانية برئاسة السيد "جلال الطالباني"، ومن وجهة نظر تركية فإن هذه الدويلات "نماذج سيئة" أمام أكراد تركيا وخصوصـــا أن أكـراد العــــراق يعتبرون أكراد تركيا "عمقا إنسانيا وتاريخيا" لهم بمقدار ما يعتبر أكراد تركيا الشيء نفسه بالنسبة لأكراد العراق، وفي رأي قادة الجيش التركي أن الحرب الآن "فرصة سانحة" لوضع الأمور في نصابها علي الجانب الآخر من الحدود التركية. 3 ــ وفي النهاية فإن الأتراك يحلمون بمنطقة "الموصل"، وفي خيالهم أنها جزء من "تركيا" فُصل عنها (بمعاهدة "مونترو" سنة 1923)، وكان الفصل تعسفيا فرضه الإنجليز عندما استقروا في العراق وأنشـــــأوا فيه مملكــــة هاشمية مواليـــة لهم، ومعني ذلك أنه إذا دخل الجيش التركي إلي شـــمال العــــراق، فإنه لـــن يخرج سواء بالدعاوي التاريخيـة القديمة (الباقية من إرث الخلافة العثمانية) ــ أو بعلة حماية الأقليات التركمانية هناك، وهي مرتبطة بالدم مع الوطن التركي. وعندما بدا أن المفاوضات مع تركيا تتلكأ دونما سبب مقنع، قصد "كولين باول" (وزير الخارجية الأمريكية) إلي "أنقرة" يظن أن مسئولية التأخير تقع علي حكــــــــــومة "طــــيب رجـــــب أردغــــان" (ذات التوجه الإسلامي) ــ لكنه فوجئ هناك بأن التأخير الحقيقي ــ موقف چنرالات "أنقرة" (مجلس الأمن الوطني)، وكان اعتماد الولايات المتحدة دائما عليهم. واكتشف "باول" أيضا أن التأخير لا يرجع إلي خلاف حقيقي حول دواعي غزو العراق أو المساعدات المطلوبة من الأتراك ــ وإنما يرجع لشيء أو أشياء أخري ــ نوايا وأحــلام تراود سادة البوسفور! وفي هذه اللحظة المحفوفة بالشكوك حول النوايا، ألقي زعماء الأكراد العراقيين ورقتهم الأخيرة والحاسمة، ومؤداها ببساطة: "أنه إذا دخل الجيش التركي إلي شمال العراق شريكا في المعركة ضد نظام "صدام حسين" ــ فإن مقاتلي الأكراد من الجماعتين (البرزاني والطالباني) سوف يتصدون بالسلاح للجيش التركي، باعتباره الخطر الداهم ــ وليس الجيش العراقي. فالجيش العراقي بالنسبة لهم "خطر الأمس الذي انتهي" ــ وأما الجيش التركي فهو "خطر اليوم الذي يوشك أن يطلع صبحه"، وبالتالي فإن علي الولايات المتحدة أن تختار. وكان الاختيار المتاح للإدارة الأمريكية: * مع الأكراد (وهم ملء شمال العراق فعلا حتي ضواحي "كركوك"). * أو مع الأتراك واحتمال تصدي الأكراد لهم، وبالتالي فهي معركة إضافية في الشــــمال العـــــراقي بحرب داخل الحرب (وضد الهدف الأمريكي في كل الأحوال). وفي ذلك الوقت كانت الفرقة الرابعة الميكانيكية الأمريكية قد وصلت بالفعل إلي قرب الموانئ التركية المطلة علي شواطئ البحر الأبيض ــ تنتظر إذنا بالنزول إلي البر، والانتقال عبر الأراضي التركية إلي شمال العراق، ودخول "الموصل". ومع حقيقة أن شمال العراق "جاهز" كرديا لاستقبال قوات أمريكية محمولة جوا إلي أرض مؤمنة وصديقة، ومع الشك في النوايا التركية المضمرة ــ فإن الخيار مع صعوبته ــ فرض نفسه علي السياسة الأمريكية. وكذلك وجدت هيئة أركان الحرب المشتركة نفسها في اللحظة الأخيرة أمام توجيه إستراتيچي يغير خطة الغزو علي نحو لم يكن منتظرا، بل إنه يثقل عليها بخلل إستراتيچي أساسي! وهـــنا وقع ما يســــميه عدد من الخبراء الأمريكيين (بينهم "أنتوني كوردسمان" نصف تمرد عسكري في أمريكا "Mini Mutiny"). وكان التمرد محصورا، لكنه وفقا لكل الشهادات ــ كان مثيرا. ووفقا لشهادة نائب رئيس الأركان المشتركة الچنرال "كين"، فقد تبودلت بين الأطراف عبارات حادة. قال "رامسفيلد" (موجها كلامه دون تحديد لشخص بالذات): "أنتم مازلتم مصرين علي أن تحاربوا المعركة التي "تعرفونها" من قبل، وأنا أريدكم أن تحاربوا المعركة المستجدة الآن ــ علي الأرض! وقال الچنرال "ماير" رئيس الأركان: "إن هناك إجابة مطلوبة عن سؤال: هل نخترع علما جديدا للحرب في مناخ معركة ــ أو نحارب بالعلم المستقر مُضافا إليه ما استفدناه من التجربة؟". ويضيف رئيس الأركان: هذا سؤال لابد من رد واضح عليه. كانت الخطة العسكرية الأمريكية لغزو العراق تعتمد علي ما أسماه خبراء "البنتاجون" "الصخرة والثعبان". * "الصخرة": ضربة تنقض من الشمال، فرقتان من الجيش الأمريكي ومعهما فرقتان من الجيش التركي، إلي جانب مجموعات (ما بين 15 إلي 20 ألفا من قوات "البشمرجة" الأكراد، وهذه الصخرة تتدحرج من مرتفعات "كركوك"، ثم تطبق علي "بغداد". * "والثعبان": عملية تزحف من الجنوب، وبدايتها أن تبدأ قوة المهام الخاصة البريطانية (ثلاثة ألوية) بالتقدم في اتجاه البصرة علي شكل قوس، يطوق الفرقة العراقية المدرعة (الواحدة والخمسين)، ويزيحها إلي الشرق ــ محصورة بين الحدود الإيرانية ومدينة البصرة. وفي الوقت نفسه تقوم المجموعة الأمريكية رقم 70 (لواءين)، واللواء الخامس المدرع ــ بالزحف علي شكل قوس أيضا يعزل قوات "منطقة غرب الفرات" العسكرية العراقية، ونتيجة ذلك ينفتح في ظهر القوسين طريق سالك إلي وسط العراق وقلبه. ولحظتها يتحرك "الثعبان" نفسه وهو ثلاث فرق تتقدمها فرقة المشاة الأمريكية الثالثة ــ وهذه القوة تنطلق من الجنوب (الكويت)، وتمضي مسرعة مباشرة إلي "بغداد"، وهي في زحفها الخاطف نحو العاصمة العراقية تتجنب المدن الرئيسية في جنوب العراق، وتتلوي في طريقها (كالثعبان)، علي أن تعود فيما بعد إلي تطهير أية مقاومة تبقي في مدن مثل "البصرة" و"النجف" و"كربلاء" و"الرمادي" و"الحِلة" وغيرها. والتقدير أن انقضاض "الصخرة" علي "بغداد" من الشمال ــ ووصول رأس الثعبان من الجنوب إلي نفس الهدف ــ يشل تفكير القيادة العراقية التي تُفاجأ بوصول قوات الغزو إلي مشارف وضواحي العاصمة. * وكان أهم تفصيل في المفاجأة التكتيكية للعمليات العسكرية ــ "أنه لن تكون هناك حملة جوية طويلة تمهد لقوات الغزو (وهو ما كانت تتوقعه القيادة العراقية علي أساس تجربتها السابقة في حرب تحرير الكويت، حين تواصل الضرب الجوي أكثر من أربعين يوما، وكذلك علي أساس ما رأته هذه القيادة (العراقية) فعلا في حرب أفغانستان التي استمر التمهيد الجوي قبل نزول القوات البرية علي الأرض مدة مماثلة". أي أن المفاجأة ضربة صدمة ورعب، وبالتوافق معها اقتحام للأرض العراقية في اندفاعة لا تتوقف ــ حتي وإن تلوت علي طريق الجنوب ــ حتي العاصمة العراقية، وكذلك تنقض "الصخرة" ــ ويزحف "الثعبان". وفي هذه اللحظة المتأخرة ــ النصف الثاني من فبراير ــ وجدت هيئة الأركان المشتركة نفسها أمام تغيير جوهري في بنيان الخطة: ــ "الصخرة" لن تنقض من الشمال علي الأقل بالقوة التي كانت مقدرة ــ وأول الأسباب أن "تركيا" ليست هناك! ــ ومعني ذلك أن "الثعبان" سوف يكون وحده يتلوي في جنوب العراق مكشوفا من أجنابه لمدن كان التقدير تجاوزها ــ لكنها الآن يمكن أن تتحول إلي "أشواك" حادة تجرح ــ علي الأقل ــ جسم الثعبان وهو بالطبيعة أملس وناعم! وكان أول ما خطر لهيئة الأركان المشتركة أن ذلك "المنحني علي الطريق التركي" يفرض تأجيل "ساعة الصفر" حتي تصل الفرقة الميكانيكية الرابعة من البحر الأبيض عبر قناة السويس إلي الخليج العربي، وتتخذ مواقعها الهجومية هناك مع بقية القوات ــ أي تغذية "ثعبان الجنوب" لكي يؤدي مهمته باعتبارها "المجهود الرئيسي في الحرب"، مع غيبة "صخرة الشمال" النازلة علي "بغداد". ورفض وزير الدفاع "دونالد رامسفيلد" طلب التأجيل، ووقعت في مكتبه مواجهات حادة ــ انضم إليها من "الدوحة" الچنرال "تومي فرانكس"، الذي ظهر ميله هو الآخر للتأجيل في انتظار وصول الفرقة الرابعة علي الأقل ــ أي أن القيادة المركزية علي أرض المعركة تضامنت مع هيئة أركان الحرب المشتركة في واشنطن ــ لكن "رامسفيلد" صمم علي رأيه عارضا: * أن التأجيل لا مبرر له لأنه لا توجد مقاومة حقيقية يخشي خطرها من جانب الجيش العراقي أو الحرس الجمهوري (فكلاهما ــ في رأيه ــ فقد إرادة القتال!). * أن المدن التي يجري تجنبها يمكن تدبير أمرها بالضرب الجوي المكثف عليها. * أن أي تأخير ــ الآن ــ يؤدي إلي وهن يصيب معنويات "عناصر" متصلة بالمعارضة العراقية صبرت طويلا وعملت في السر ــ إلي جانب عناصر أخري "غامرت واتصلت في اللحظة الأخيرة"، والخشية أنها ساعات ويكشف النظام أمرها، وبالتالي يصب عليها نار غضبه وانتقامه! * أن أي تأخير سوف يفتح فجوات علي جبهة مجلس الأمن والرأي العام العالمي، إلي جانب أن حالة التعبئة النفسية والسياسية قاربت ذروتها، بصرف النظر عن كل أصوات الاحتجاج، فإذا طال انتظار العمليات عن هذا الحد ــ تعرضت الولايات المتحدة "لتطاول علي إرادتها" مارسه كثيرون ولا داعي لتشجيعهم أكثر علي التزيد فيه! ــ أن بقاء موعد الخطة كما هو (بدون تأجيل) يضيف إلي "المفاجأة التكتيكية"، ذلك أن القيادة العراقية وهي تتابع ما يجري علي "المنحني التركي" سوف تتصور ــ وتتصرف ــ علي أساس أن العمليات مؤجلة علي الأقل إلي حين وصول الفرقة الرابعة إلي الكويت، فإذا خابت توقعات العراقيين ــ عانوا من خلل نفسي مُضاعَف! وعندما لاحظ "رامسفيلد" أن "القادة" لم يقتنعوا بمنطقه، ثار غضبه (وفق رواية أحد المشاركين) ــ وقال للچنرالات ما مؤداه: "إنني أحاول منذ عُدت إلي البنتاجون أن أطرح عليكم "قضية الحرب في زمن المعلومات" ــ لكنكم لا تفهمون غير القديم الذي تعودتم عليه. إن فكرة "الثعبان" لم تدخل عقولكم، وأنتم تريدون الانتظار حتي يتضخم "الثعبان" ويتحول إلي "تمساح" له أنياب ضخمة ــ لكنه بطيء الحركة إلي درجة تسمح لفريسته أن تهرب من فكه!". واضطر البيت الأبيض إلي الدخول مباشرة لفض الاشتباك بين وزير الدفاع وهيئة أركان الحرب المشتركة، وكان وسيط الرئيس إلي ساحة "التمرد المحدود" ــ "ريتشارد تشيني"، فهو إلي جانب كونه نائبا للرئيس ــ رجل يعرف المؤسسة العسكرية الأمريكية عن قرب من زمن توليه منصب وزير الدفاع أثناء حرب تحرير الكويت. .....................
..................... [وليس في مقدور أحد أن يزعم معرفته بالمقترحات التي عرضت لتخفيف حدة التوتر، ولا بالأجواء التي سادت الاجتماعات والمناقشات، بل إن المحاولات جرت لنفي "وقوع التمرد من الأصل"، وإيحاء إلي من تحدثوا عنه بأنهم بالغوا في تقدير حجمه، علي أنه كان ظاهرا أن "تشيني" ساعد في طمأنة رؤساء الأركان بزيادة في استخدام قوة النيران بأكثر مما كان مقترحا بمقتضي مشروع الخطة الأصلي (وكانت تلك إضافة ترتبت عليها نتائج فيما بعد)]. .....................
..................... ففي الخطة الأصلية كانت الضربة الأولي "صدمة ورعبا" ليوم واحد، وبعدها تكون العمليات الجوية متوازية مع التحركات لا تزيد عليها، حتي يكون ضررها محصورا علي الجيش العراقي والحرس الجمهوري من ناحية، وكذلك علي بنية العراق الأساسية من ناحية أخري. وكانت التقديرات المُصاحِبَة للخطة تري أن وحدات من الجيش والحرس يمكن تحويل ولائهما بمنطق إنقاذ العراق من دمار لا لزوم له. وكانت التقديرات كذلك أن مرافق العراق لا يصح تدميرها، لأن القوات الأمريكية والإدارة في العراق ــ بعد النصر ــ تحتاج إلي استعمالها ــ وليس معقولا أن تدمرها اليوم ثم تكتشف أنها تحتاجها غدا"! والآن كان "تشيني" لا يمــــانع في زيــــادة عيار التدمير، مع تصاعد العمليات، حتي يحصـــر خطر المقـــاومة العراقية في أضــيق نطاق ممكن (ولم يجر حساب ذلـــــك ــ ســــــــــــياســــيا ــ بدقــــــــة)! سـادســـا:ثم ماذا بعد الآن؟ خلال النصف الأول من شهر مارس 2001 ــ زاد تخوف "المجموعة الإمبراطورية الأمريكية" من أن هناك تحولا في الرأي العام العالمي تزيد به معارضة غزو العراق. فقد أظهر استطلاع للرأي العام ــ (أجري يوم 29 فبراير وأذيعت نتائجه كاملة يوم 1 مارس، وقامت عليه جريدة "الواشنطن بوست" بالاشتراك مع قناة أ. بي. سي A.B.C وهي أكبر شركات التليفزيون الأمريكية) ــ "أن 56% من الرأي العام الأمريكي تحبذ إعطاء فرصة مفتوحة لمفتشي الأمم المتحدة في "العراق"، يكملون مهمتهم ــ في حين أن 39% فقط يؤيدون الرئيس "بوش" في توجيه ضربة للعراق دون انتظار". وفي الوقت نفسه كانت استطلاعات الرأي العام في "بريطانيا" تكشف أن 52% ممن أعطوا أصواتهم في استفتاء جري علي عينة حجمها خمسة آلاف بريطاني من الرجال والنساء (أجرتها مؤسسة "هاريس")، يعارضون غزو العراق مهما كانت الظروف. وحتي في "أستراليا" كشفت الاستفتاءات أن 64% من الرأي العام تشترط لدخول الحرب ــ موافقة الأمم المتحدة بقرار لا اعتراض عليه في مجلس الأمن. وأصبحت المجموعة الإمبراطورية في واشنطن أكثر عصبية، بينما قطار الحرب يتحرك علي القضبان ــ بطيئا وينتظر زيادة السرعة، وليس استعمال الكوابح ــ إلي حد التوقف! ووقع مشهد له دلالته في مكتب الرئيس "بوش" في البيت الأبيض، فقد كان الموعد المقرر لبدء خطة غزو العراق آخر ضوء من يوم 20 مارس (2003)، ومع ذلك فإن الرئيس "بوش" وَقَّع أمرا رئاسيا بقتل "صدام حسين" بضربة عاجلة، ولو أدي الأمر إلي استباق ساعة الصفر، وذلك علي أساس معلومات قيل له: إن مصدرها الآن في موقعه يتابع عن قرب تحركات "صدام حسين" داخل "بغداد". وقال الرئيس "بوش" وهو يوَقِّع الأمر الرئاسي بالقتل المسبق: "إن صاروخا واحدا "يقتل" هذا الرجل الآن، كفيل بأن يوفر حربا بأكملها! وعاد يؤكد لنفسه: "أليس صحيحا أن طمأنة جيش كامل تساوي قتل رجل واحد؟!". وكانت الملاحظة موحية. ولم تمض ساعات حتي كان "تنيت" يتصل علي عجل بالبيت الأبيض، فهم يعرفون الآن بالضبط أين يوجد "صدام حسين". وأعطي "چورچ بوش" موافقته، وكذلك بدأت ضربة الحرب الافتتاحية قبل موعدها المقرر بأربع وعشرين ساعة، والأمـــل أن يقتل "صـــــدام حســــــين"، بحكمة أن "قتل رجل واحد يطمئن جيشا كاملا"! والحقيقة أن هيئة أركان حرب القوات المسلحة الأمريكية لم تكن لديها شكوك من أي نوع في نتيجة عمل عسكري ضد العراق، فقد كانت الدفاعات العراقية أمامها واهية، وقلب العراق مفتوح، والطريق إلي "بغداد" مهما كان أو يكون سالكا، وأية مقاومة "لحركة الثعبان" محدودة، حتي لو تأخر مجيء الفرقة الرابعة القادمة بحرا من تركيا ــ ولم يكن الچنرال "ريتشارد مايرز" متواضعا حين قال لرامسفيلد: "أنا أعرف أن ما نحن مُقبِلون عليه معركة بين طائرة من طراز ف 15، وطائرة من "الورق" (Kite) التي يلهو بها الأطفال، لكن ذلك ليس من شأنه أن ينسينا أننا سوف ننزل من أعالي الجو إلي تراب الأرض، (وفي الغالب فإن قيادة الأركان المشتركة لم تكن تريد خسائر في أرواح جنودها يمكن توفيرها، علما بأن هناك جماعات غير نظامية (فدائيو صدام) تملك فرصة التعرض لأجناب طابور مندفع إلي أمام لا يلتفت يمينا أو يسارا!). والواقع أن الخشية الحقيقية للقيادة المشتركة كانت أوضاع ما بعد الغزو، لأن الصور والمعلومات والمتابعة تكشف ظاهر ما يجري فوق الأرض، لكنها لا تعرف ما فيه الكفاية عن دخائل النظام وأجنحته ورجاله ــ ثم حقيقة المشاعر في عقول وقلوب أهله، وفي كل الأحوال فإن رئاسة القوات المشتركة تقبلت حقيقة أن قطار الحرب مشي علي القضبان، لكن هذه القيادة كانت تريد الوصول إلي "بغداد" ثم تنقل مسئولية ما بعد ذلك إلي غيرها، وفكرها أنه مادام ذلك ما طلبوه منها، فهي توفره لهم لكنها تترك البقية علي عهدتهم!، والمنطق أن قواتها "أداة حرب"، وليست "أداة حفظ نظام" ــ ووسيلة غزو وليست مهمة حفظ أمن. وفي رغبتها الجارفة للحسم العسكري سريعا، فإن قيادة القوات استعملت رخصة كثافة النار بأكثر مما كان مقدرا في الخطة الأصلية، وهكذا فإن ضربة الصدمة والرعب علي "بغداد" تكررت ــ وزادت، وفي بعض الليالي كان الضرب الجوي مروعا فوق "بغداد" وحولها، وطبقا لتقرير هيئة عمليات القيادة المشتركة، فقد قامت الطائرات الأمريكية فوق ميادين الضرب بـ 41404 طلعة جوية، وأطلقت 19948 قذيفة مُوَجَّهة، إلي جانب 9251 قذيفة غير مُوَجَّهة، تغطي بالنار دوائر واسعة دون هدف بالذات، وكان ذلك مخيفا ــ وفي المحصلة فإن هذه الكثافة في النيران لم تهدأ لتترك الفرصة لمن يريد أن يراجع أو يفكر أو يتصل سواء: من قادة الجيش والحرس الجمهوري، وبالتالي فإن غضب النار المنهمر من السماء لم يترك لأحد من الزعماء والقادة المحليين ــ (كالمرجعــــيات الدينــية والقبائل والعشائر) ــ مجالا لأمل، فهذه النار غضب عدو ويصعب اعتبارها تحية صديق. .....................
..................... [ومن الواضح الآن أن السياسة العراقية في "بغداد" لم تكن تعرف ما فيه الكفاية عن معنويات قواتها (الجيش والحرس الجمهوري) ــ ولا عن المراجعات التي تزحم الآن مشاعرها وأعصابها وإرادتها، خصوصا وقد تفجرت الحقائق وبانت نتائجها المحتومة ــ وفي الغالب فإن القيادة العسكرية العراقية آثرت أن تتظاهر بتنفيذ ما لديها من أوامر (ولعلها آثرت أن تعفيها التطورات المتسارعة من حرج العِصيان المكشوف في تلك الظروف)، وعلي الناحية الأخري فإن السياسة في "بغداد" بدت وكأنها لا تريد أن تطل علي الحقائق وجها لوجه، والغالب أنه كان نوعا من "القدرية" تأمل في معجزة لن تجيء. ووسط دخان أوهام معزولة عن الواقع ــ فوجئ الجميع بأن القوات الأمريكية في مطار "بغداد" فعلا، وتبددت الأوهام]. ...................
................... ثم لمعت شرارة في أجواء "بغداد" (وغيرها من المدن الكبري) ــ ذلك أن قوات الغزو العسكري المتقدمة، فشلت فشلا ذريعا في إدارة لحظة اللقاء الحرجة بين جيش غريب غازٍ وأصحاب وطن ينتظرونه بحذر علي الأقل! وفي العادة فإن لحظة لقاء الغرباء، وبينهم قوي وضعيف، وغالب ومغلوب ــ لحظة شديدة الحساسية، وإذا فلت عيارها فإن الانطباعات والتشوهات التي تُوَلَّد منها تعيش طويلا مهما تنوعت عقاقير علاجها. ولعل القيادة المركزية أحست بأن اللحظة أفلتت، وكذلك كان قول الچنرال "فرانكس": "إن قواتي كانت تشكيلات محاربة، واجبها البحث عن العدو وقتله، وليس الابتسام في وجهه وأخذه بالأحضان". وكان الچنرال "فرانكس" محقا، وكانت المسئولية واقعة بالكامل علي نقص الأداء السياسي للخطة حين انتهاء القتال. ومع ذلك فإن "المجموعة الإمبراطورية في واشنطن" ــ ظهر لديها الميل إلي تغطية قصورها في التخطيط السياسي لما بعد الحرب ــ بتوجيه المسئولية إلي غيرها من الذين لم يستطيعوا التفريق بين مهام القتال ــ ومسئوليات الاحتلال. ولم تمض أيام علي الاحتلال حتي كانت قوات الغزو في موقف يسمح لها برؤية الحقائق كاملة، مكشوفة علي الأرض، وأول الحقائق أن جميع الذرائع القانونية والأخلاقية التي دفعت بها "إلي هنا" غير صحيحة، بل إن القائلين بها كانوا أول من يعرف أنها كذلك (غير صحيحة): ــ ليست هناك أسلحة دمار شامل (نووية أو كيماوية أو بيولوچية). ــ ليست للنظام الذي سقط في العراق إمكانية من أي نوع لتهديد الولايات المتحدة (أو أوروبا أو جيرانه) في ظرف 45 دقيقة!. ــ ليست للنظام العراقي صلة بتنظيم القاعدة (وبالتالي بما جري يوم 11 سبتمبر 2001). ــ وأسوأ من ذلك فإن الشعب العراقي لا يبدو سعيدا بهذه القوات التي جاءت لكي تحرره. وعلي نحو ما فإن القوات المسلحة ورئاسة أركان الحرب المشتركة ــ بدت ضيقة الصدر في تعاملاتها مع كل الأطراف. ــ تشعر من ناحية أن السياسة في "واشنطن" لم توفر لها الغطاء (الأخلاقي والقانوني) الذي يحفظ لها "قيمة وكرامة العلم الوطني". ــ وتشعر أن المجموعة الإمبراطورية تأخرت في إيجاد بديل يأخذ عن عاتق القوات عبء القيام "بدور بوليس محلي" في العراق، ثم إن هذه المجموعة تخبطت في خياراتها من عسكري سابق مثل الچنرال "چاي جاردنر" ــ إلي موظف دبلوماسي مثل "بول بريمر" ــ إلي عرض "المهمة" علي سياسي عجوز مخضرم مثل "چيمس بيكر". ــ وتشعر أن الرأي العام في الولايات المتحدة ــ وفي العالم ــ لم تعد فيه حماسة للمهمة التي قامت بها والتي تزداد تكاليفها ــ ولا تقل بعد أول يوم ــ وذلك يضايق ولعله يجرح! ــ وتشعر أخيرا ــ وهذا هو الأمر المزعج ــ أن الشعب العراقي ليس راضيا وليس حامدا، بل إنه ساخط وناقم علي الكل بغير استثناء. وفي هذه الأجواء اتخذت قرارات عصيبة ومتسرعة: * جري حل الجيش العراقي ووزارة الداخلية، والخارجية، والإعلام، مع ظن بأنه من الأفضل إعادة الخلق من جديد. * ولم تكن مصفحات القوات الأمريكية تملك ــ ولا كان ذلك واجبا ــ كفاءة مراعاة التضاريس التاريخية والدينية والاجتماعية والنفسية للشعب العراقي، وكذلك وقعت أخطاء مهولة. والغريب أن الإمبراطورية الأمريكية عند ذروة علوها ــ تصرفت بثقافة تجربتها الأولي مع الهنود الحُمر بعد أن تمكنت من قتل "عُدي" و"قصي" نجلي الرئيس العراقي السابق، وتصرفت كما كان يفعل قواد جماعات المهاجرين الزاحفين إلي قلب القارة الأمريكية في القرن الثامن عشر ــ أي أن قوات الإمبراطورية الأمريكية أوائل القرن الحادي والعشرين أرادت أن تثبت للهنود الحُمر علي الناحية الأخري من النهر أن الزعيم الكبير قتل، وها هي جثته علي ظهر حصانه تعود إليهم ليروا بأنفسهم ويتحققوا! وتكرر المشهد بعد قرون، لأن الموروث الثقافي لديه فرصة الكمون حتي تستدعيه المستجدات، فإذا هو يعيد نفسه علي المثال الذي تشكل به ابتداءً. وعلي نحو ما فقد تبدي حرص شديد في "واشنطن" علي احتواء كل الشكوك، وعلي كتمان توترات وتقلصات عاشتها العاصمة الأمريكية بين السياسيين والعسكريين. وظهرت أسئلة لعلها تعثر علي إجابات في المستقبل: ــ لماذا ترك قائد القوات البرية الچنرال "تشيمسكي" منصبه ولم يجدد مدة خدمته كما عُرض عليه؟ ــ ولماذا اعتذر قائد القيادة المركزية الچنرال "تومي فرانكس" عن قبول منصب وزير الجيش الذي عرضه عليه "دونالد رامسفيلد" وزير الدفاع (الذي يعاونه ثلاثة من الوزراء: للجيش والبحرية والطيران)؟ ــ ولماذا صمم "فرانكس" علي الاعتزال دون أن ينتظر لكي يسبح وسط أضواء النصر بعد غزو العراق؟ ــ ولماذا عهد بالقيادات الميدانية الكبري إلي چنرالات ينحدرون من أقليات عرقية هاجرت عائلاتهم أخيرا إلي الولايات المتحدة: مثل الچنرال "ريكاردو سانشيز" الذي عُين قائدا لقوات الاحتلال في العراق (وهو من أسرة مهاجرة من أمريكا اللاتينية) ــ والچنرال "چون أبو زيد" (وهو من أسرة مهاجرة من لبنان) الذي عُين قائدا للقيادة المركزية الأمريكية ــ بينما المعروف أن عِماد قيادة القوات المشتركة باستمرار يقوم بها العناصر التقليدية ذات الأصول الأوروبية (الواضحة). ولماذا؟ ــ ولماذا؟ ــ ولماذا؟! ومن الواضح في واشنطن أن المستقبل يلزمه ــ من وجهة نظر هيئة الأركان المشتركة ــ كلام كثير وكلام جديد! وكذلك تواجه الإمبراطورية الأمريكية ــ أواخر سنة 2003 ــ لحظة شديدة الحساسية والأهمية، وذلك منطق الأشياء طالما أن القوات المسلحة أصبحت وسيلة المشروع الإمبراطوري وعليها مسئوليته!
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة