الأنفلــونزا الكبـري أخـطـــــر ســلاح دمـار شـامل



القصة الملحمية للوباء الأكثر فتكا في التاريخ قبل أيام، أعلن علماء أمريكيون وصينيون أن سلالة «مخيفة» من الفيروس المسبب لمرض «أنفلونزا الطيور» القاتل للإنسان، تمر حاليا بطفرة ويمكن أن تتفشي بين البشر ما لم يتم السيطرة عليها حيث ظهرت إصابة بين «البط» ويجب التحرك الفعلي لمنع انتقالها إلي الدجاج. وفي اليوم الأول من يوليو «تموز» هذا العام أعلن في فيتنام أن نحو 4500 دجاجة نفقت «خلال الأشهر الثلاثة الماضية» بسبب وباء أنفلونزا الطيور. وهذا المقال يلخص القصة الملحمية التي كتبها جون باري عن هذا الوباء، عندما تفشي ما بين عامي 1918 و 1919 واستحق أن يوصف بأنه الوباء الأكثر فتكًا في التاريخ. (المحرر) [ 1 ] رواية «جون باري» عن وباء الأنفلونزا الذي تفشي ما بين عامي 1918 و 1919. وقتل من البشر أكثر مما قتلتهم بنادق وحراب الحرب العالمية الأولي، رواية رائعة مفعمة بالحياة زاخرة بالمعلومات ويتعين أن تثير اهتمامًا غير عادي في عام ظهور نوع فتاك من «أنفلونزا الطيور» ينتقل إلي البشر ويتفشي في شرق آسيا وقد يكون علي وشك اجتياح العالم علي نطاق واسع كما فعل سلفه «وباء 1918». في ذلك العام، لم يكن أحد يعرف سبب الوباء، الأمر الذي أدي إلي فشل جهود إيجاد الدواء. أما اليوم فإن المشتغلين بالطب، وكذلك هيئات الصحة العامة، في وضع استعداد أفضل كثيرًا عما كان عليه الحال عام 1918. إنهم يعرفون الآن طرق تحصين الإنسان ضد فيروس الأنفلونزا. رغم ذلك، ومع كل الخبرات والمهارات المتراكمة، يظل الشك قائمًا في قدرة المؤسسة العلاجية المعاصرة علي تقديم المصل الضروري، في التوقيت الصحيح، وبالقدر الكافي، لإحباط زحف أمراض وموت مشابه لما حدث قبل 86 عامًا. يروي «باري» قصة الوباء في فصول تبحر عبر أزمنة بعيدة وقريبة، وتفاصيل مثيرة لذكريات بداية تفشي الأنفلونزا في ولايات أمريكية. يتعرض للمحاولات المعملية والجهود الحثيثة، وإن فشلت، لمجموعة من الأطباء الأمريكيين سعت إلي العثور علي الجرثومة المسببة للمرض، بهدف إيجاد المصل المضاد للوباء الذي خمد في نهاية المطاف وانحسر نتيجة عوامل خاصة بالدورة الطبيعية للجرثومة وتطورها، والعلاقة الأزلية ما بين الكائنات الحية والبيئة وارتفاع مستويات المقاومة داخل خلايا الدم عند الإنسان، والتغير المهم المفاجئ للمورثات، والذي يجرد الفيروس من خاصيته المميتة. خمد الوباء لأسباب لم تكن مفهومة زمن تفشيه، ودون أي تدخل طبي يعترض عملية التفاعل الطبيعي بين الفيروس الطفيلي وجسم الإنسان. لكن رواية «باري» تستفيد من الاكتشافات العلمية اللاحقة، وتستند إلي فهمه المتجدد المثير للإعجاب والذي يضفي تفردًا و«هيبة» علي الصور التي يرسمها ل «ديناميكية» العدوي والوباء، ووظيفة الفيروس ومحاولة الأطباء ومسئولي الصحة العامة مواجهة الخراب والتعامل مع الموقف. يرصد «باري» الأخطاء ويبدي تقديره ل «الجهد» ويعيد بناء دورة العدوي وطبيعة الوباء في ضوء مستويات الفهم العلمي الحالية، ويقول إنه احتاج لكي ينجز كتاب «الإنفلونزا الكبري» إلي 7 سنوات، وهي ضعف الفترة التي توقعها لإنجازه، وإن بعض أسباب «التأخير» تعود إلي توسعه في فصول الكتاب عندما قرر دراسة الأوضاع المؤسفة لصناعة الدواء الأمريكية قبل العام 1918 كي يتوصل إلي فهم أفضل للموقف الذي كان علي العلماء والأطباء مواجهته عندما تفشي وباء الإنفلونزا في ذلك العام. ويشير باري إلي سبب آخر يكمن في صعوبة الحصول علي مادة مفيدة عن الوباء ويقول: «كان من السهل تتبع حكايات الموت. لكن اهتمامي الأكبر انصب علي حكايات أولئك الذين حاولوا ممارسة بعض سيطرة علي الأحداث. وكل من فعل ذلك كان في عجلة من أمره، وفي حالة ارتباك شديدة إلي درجة أن أحدًا لم ينتبه إلي ضرورة تدوين الأحداث وحفظها في سجلات». السجلات هي بلا شك أول ما ينهار تحت وطأة تفشي الوباء. وظني إن عاملاً آخر له تأثيره في هذا السياق ويتمثل في وجود أسباب خاصة تدفع الذين نجوا من الوباء إلي قمع ذكريات معاناتهم. وهذا العامل يفسر في اعتقادي ندرة الأرقام في الذاكرتين العامة والخاصة عن وباء إنفلونزا عام 1918، رغم ضخامة الإحصاء الذي سجل حوالي 675 ألف حالة وفاة في الولايات المتحدة، وما بين 20 إلي 50 مليون حالة حول العالم، معظمها في الأسابيع الاثني عشر الأخيرة لعام 1918. إن كل من عاش تلك الأسابيع الأخيرة، وإلي أن دار الوباء دورته، خاض تجربة الخوف من الموت أو من السقوط مريضًا، أو عاني معاناة حادة مع المرض. لقد كنت من هؤلاء الناجين لكنني لا أتذكر شيئًا إذ كان عمري وقتها 13 شهرًا عندما سقطت أمي صريعة المرض في شيكاغو. كانت حاملاً في شقيقتي التي وضعتها في الرابع عشر من ديسمبر 1918، قبل موعد ولادتها بأسابيع. أصبت، ووالدي، بالأنفلونزا، وكان والدي خريجًا جامعيا مفلسًا وجد نفسه، وأمي، وحيدان في مدينة مشلولة وبلا أقرباء أو عون خارجي. لم يسجل والدي معاناتهما في كتاب. ولم أسمعهما يتحدثان فيما بعد عما تبقي لديهما من ذكريات. بدت التجربة الأكثر رعبًا في حياتهما وكأنها تعرضت لمحو ذاتي منظم لكي يبقي ما جري بالفعل، وصراعهما من أجل البقاء، مجهولاً بالنسبة لي. لكنني علمت من كتاب «باري» أن وباء الإنفلونزا كان أقل فتكًا في شيكاغو مع حلول شهر ديسمبر عام 1918، عما كان عليه بداية تفشيه داخل معسكرات الجيش بالساحل الشرقي والمدن القريبة. «أصيب الشرق والجنوب بالوباء مبكرًا وبقوة أعنف من تلك التي أصابت الساحل الغربي.. وفي وسط البلاد كانت المعاناة قليلة». وهذا يفسر لي نجاة والدتي، وكذلك شقيقتي، رغم أن الأشهر الستة الأولي من عمرها كانت محفوفة بالمخاطر. وعندما لجأت أسرتي خلال الصيف إلي مسقط رأس أبي في مزرعته بكندا، أنقذت الشمس المشرقة، ورعاية جدتي، أمي وشقيقتي من أهوال شهر ديسمبر. انزوت الأهوال بعيدًا في زوايا النسيان وبقيت النهايات السعيدة تعاد وتروي دون ذكر لتفاصيل آلام الوحدة والخوف واليأس والمعاناة. لدي كل من عاني وشفي من وباء الأنفلونزا ذكريات مشابهة مقموعة. ويري «باري» أن كتاب الصحافة والدراما في العشرينيات لم يذكروا إلا القليل عن معاناة البشر أيام الوباء. وأذكر أن الشخص الوحيد الذي تحدث معي عنه، في المحيط الذي تربيت فيه، كان صبيا مات والده في معسكر للجيش. وما نقلته إليه أمه لم يكن فيه الكثير عن وباء الأنفلونزا بقدر ما فيه عن الحرب التي اعتبرتها سبب وفاة زوجها. الجديد عند «باري» هو عثوره علي ما يشبه رواية يوميات تسجل حالة الإصابة بالوباء في كتاب بعنوان «فرس شاحب.. فارس شاحب» نشرته «كاترين آن بورتر» عام 1939، وكانت نفسها ضحية المرض. وينقل «باري» عن «بورتر» قولها: «... راحت تغرق وتغرق في ظلمات عميقة. رقدت كحجرة في قاع الحياة مدركة أنها لم تعد تري أو تسمع أو تتكلم. لم تعد تشعر بأعضاء جسدها. انسحبت إلي نقطة بعيدة عن اهتمامات البشر ولم تتبين سوي لحظة احتراق وحشية في بؤرة من كينونتها لعلها شكلت الدافع الوحيد وراء إرادة عنيدة لكي تقاوم الانهيار دون حراك أو مساعدة أو خطة...». هذه المشاعر تبدو زائفة بالنسبة لي فقد أصبت، في الخمسينيات، بالتهاب رئوي (وهو القاتل الفعلي لمعظم ضحايا وباء الأنفلونزا). وربما شعرت وقتها ب «قاع ظلمات وانسحابات» بورتر. لكنني لم أشعر بتلك «الإرادة المشتعلة» للحياة. في المقابل، وبفضل «البنسلين» أصابني الشحوب ورقدت في حالة إغماء وصحوت في اليوم التالي خائر القوي بدرجة لم أعرفها من قبل. آلام الحمي تعقبها حالة إغماء، وبعدها إما أن نشفي أو نموت. وأظن أن هذا هو ما خبره معظم ضحايا وباء الأنفلونزا ما بين عامي 1918 1919. لا يوجد الكثير لكي يقال ويذكر. ولا يقول كتاب «باري» الكثير عن كيف كان الحال عند الإصابة بالأنفلونزا الوبائية في تلك الفترة. لكنه، وبصياغات أدبية غير عادية، وبراعة مثيرة للإعجاب في عرضه لكل جديد في علم الأوبئة، يقوم بعملية تنشيط قوية للذاكرة المعاصرة في وقت قويت فيه التهديدات من أشكال جديدة لفيروس أنفلونزا مميت ظهر ويثير قلق المختصين والعامة علي نطاق واسع. [ 2 ] يعد وباء الأنفلونزا من أخطر الأوبئة التي تهدد البشرية. وتكمن خطورته في أن الفيروس المسبب له يكون في حالة تغير مستمرة خلال انتقاله ما بين الطيور والخنازير والكائنات الحية. وكل موسم جديد من مواسم « الأنفلونزا» يحمل تحديات جديدة للمختصين الذين عليهم أن يحددوا، وعلي وجه الدقة، نوع سلالة الفيروس التي يمكن استخدامها لإعداد المصل المضاد الملائم، وكذلك تحديد نوع الجرعات التي يمكن لملايين الأطفال والمسنين تعاطيها لمنع العدوي. ومواجهة هذه التحديات لا تزيل التهديد الذي يظل قائمًا ويتمثل في أن كل نوع يظهر فجأة من فيروسات الأنفلونزا يكون علي درجة من الاختلاف عن ما قبله، تجعله قادرًا علي مقاومة المصل وكل المضادات الحيوية المتراكمة داخل أنظمة التحصين عند الطيور والخنازير والبشر. وتتميز الفيروسات، كشأن كل الكائنات الحية، بقدرة علي التحول والتغير واستمرار افتراسها بلا رحمة لخلايا أجسادنا. ونحن كبشر لدينا قدرات فريدة تمكننا من مقاومة أشكال هائلة لأنواع أخري من فيروسات الأنفلونزا، إضافة إلي قدرة علي استفزاز مصادر الطاقة الكامنة داخلنا. ونجد في المقابل أن فيروس الأنفلونزا مقيد، بشكل محدود، ويعتمد كما أشرنا علي إمكانية التحول المفاجئ والناجح إلي طفيل يصيب الطيور (المصدر الأساسي لتغذية الفيروس) كما يصيب مختلف الثدييات مثل الخنازير والبشر بالدرجة الأولي. هكذا يقدم «باري» في كتابه، أكثر التفسيرات وضوحًا لكيفية تمكن نوع بعينة من فيروس الأنفلونزا من اختراق الخلايا البشرية والتكاثر داخلها، وخلال ما يقرب من عشر ساعات، إلي آلاف الفيروسات المنبعثة من الخلية الميتة والمستعدة القادرة علي تكرار الدورة المميتة. أوضح باري كيفية تغير الفيروس عبر ما يسمي ب «تحول الجسم المضاد» وبصياغات دقيقة ومحكمة وأسلوب بسيط يسهل فهمه. فالسرعة التي تتكاثر بها فيروسات الأنفلونزا وتنتشر بنجاح داخل أجسادنا هي التي تزيد من وطأة المرض وشدته. ورغم قدرة الأجسام المضادة، داخل الجسد البشري، علي كبح هذا التكاثر، إلا أن نوعًا ثانويا من البكتيريا يغزو الحنجرة والرئة ويتكاثر ويكون القاتل الفعلي لمعظم ضحايا الأنفلونزا. يسوق «باري» في كتابه ملاحظات كثيرة وجيهة حول انعكاسات سلبية لحالة التعبئة الأمريكية النشطة في الحرب العالمية الأولي، علي وباء عام 1918. في مقدمة هذه الملاحظات أن الآلاف من الجنود الصغار كانوا أكثر عرضة للعدوي عندما فرضت التعبئة للحرب تكدسهم بالآلاف داخل معسكرات ضيقة وعشوائية. هذه الحقيقة كانت معروفة لمجموعة صغيرة من الأطباء الذين تتبع «باري» تاريخهم المهني مثل ويليام هنري ويلش، سيمون فيلكستر، ويليام كراوفورد جورجاس، ويليام بارك، أوزوالد أفيري، وبول لويس. بعض هؤلاء، وخاصة جورجاس، ويلش، وفيلكستر، كانوا في وضع سمح لأصواتهم المحذرة بأن تصل إلي القيادات لكن ضرورات الحرب، الحقيقية أو المبالغ فيها، أدت إلي تجاهل جهودهم الرامية إلي عزل ومحاصرة المرض الوبائي في بداية تفشيه. وتفيد إعادة ترتيب الإحصاءات بأن عدد الجنود الذين لاقوا حتفهم بسبب العدوي أكثر من عدد هؤلاء الذين قتلتهم إصابات الجروح. كما أن الأمصال المضادة لأمراض مثل التفوئيد والكوليرا، والتي جاءت ثمرة تطورات علم الجراثيم عام 1917, هي التي ساعدت علي نجاة ملايين البشر داخل الخنادق علي الجبهة الفرنسية، في وقت كان فيه الجنود الروس يموتون بالتيفوس وأوبئة مماثلة، علي الجبهة الشرقية لتلك الحرب البعيدة كان الطبيب جراح كراوفورد جورجاس يعرف ذلك جيدًا عندما عين برتبة جنرال بالجيش الأمريكي بعد أن ذاع صيته لنجاحه في السيطرة علي وباء الحمي الصفراء في هافانا ومنطقة القنال (في كوبا). لقد عمل جورجاس علي إنتاج وتخزين كميات كبيرة من الأمصال والمضادات الحيوية والمحاليل. رغم ذلك، وعندما تفشي وباء الحصبة في ولايتي جورجيا وتكساس ما بين سبتمبر 1917 ومارس 1918, تبين أن استعداداته لم تكن كافية وتسجل الإحصاءات 5 آلاف و741 حالة وفاة بالحصبة في معسكرات الجيش الموبوءة. لكن هذا الرقم سرعان ما تضاءل أمام أرقام ضحايا هجوم الأنفلونزا الذي بدأ في الشهر الذي خمد فيه وباء الحصبة. ففي مارس 1918 بدأ وباء الأنفلونزا يتفشي في معسكر «فنستون» بولاية كنساس. كانت الوفيات قليلة في البداية، ولم يبدأ الاهتمام الواسع المشوب بالخوف إلا في شهر يوليو عندما حصدت موجة ثانية من الوباء المزيد من الأرواح مع ظهور أعراض حادة تشير إلي أنها أنفلونزا غير عادية، وتزامن تفشيها في كل من برست بفرنسا، فري بورت بسيراليون، وبوسطن ماستشوستس. وسرعان ما راح ينتشر في أنحاء العالم تحمله السفن والطرق الحديدية ليصل ذروته في سبتمبر وأكتوبر ثم يبدأ في الانحسار تدريجيا بعد توهجات متواترة. يرجع جديد الأبحاث نشأة وباء أنفلونزا عام 1918, داخل الولايات المتحدة علي الأقل، إلي سلالة خبيثة لفيروس أصاب بعض أهالي ريف كنساس في فبراير من ذلك العام، وأن العدوي انتقلت إلي معسكر «هاكسل» بواسطة ثلاثة رجال طُلبوا لأداء الخدمة العسكرية في ذلك الشهر وقبل بداية موسم الحصاد في كنساس. ونحن نعرف أن نشأة وباء أنفلونزا الطيور الجديد وتفشيه (بداية العام الجاري) كانت في ريف شرق آسيا. ففي الريف يعيش الإنسان عادة علي قرب شديد من الطيور والخنازير. المصدر الأكيد للوباء القديم (1918) لم يتحدد بعد. لكن «باري» ركز انتباهه علي سلسلة أحداث مترابطة ومنتقاة عن مسار الوباء وانتشاره في الولايات المتحدة وبعض أجزاء من العالم. وقد لوحظت أهم إصابات الوباء مع نهاية أغسطس وخلال الأيام الأولي من سبتمبر في معسكر ديفنس بولاية ماستشوسيتس حيث تكدس ما يقرب من 45 ألف رجل في المعسكرات العشوائية وسجلت أيام الذروة ما يقرب من ألف و543 إصابة، وحوالي 200 حالة وفاة كل يوم. كان الأطباء والممرضات الأكثر عرضة للعدوي، وسقط العديد منهم بين مرضي وموتي، وسرعان ما انهار مستشفي المعسكر وأعلن المتحدث الرسمي له، يوم 21 سبتمبر، أنه لن يسمح بدخول المزيد من المرضي مهما كانت حالاتهم. كادت الرعاية الصحية تنعدم تمامًا إلي أن ظهر الدكتور ويليام هنري ويلش علي مسرح الأحداث باعتباره «البطل الأمريكي» الرئيسي الذي أنشأ مختبرًا علميا للدواء، علي الطريقة الألمانية، ووصفه باري في كتابه بأنه «زعيم الحركة التي أوجدت أكبر مؤسسة علمية للدواء، وربما أعظم مؤسسة علمية في العالم كله». وقت ظهور الدكتور ويلش كان أكثر من ستة آلاف جندي قد حشروا داخل المستشفي صمم لاستيعاب ما لا يزيد علي 2500 مريض. و«اختفت المرضات وتزايدت المخاطر مع تزايد الأمراض. أنوف وآذان نازفة، وجوه زرقاء، ورئات محطمة بصور غير معهودة، جنبًا إلي جنب مع جثث الموتي المتراكمة كالحبال والأخشاب». هذه الصور الدامية اقنعت ويلش ورفاقه بأن «هذا لابد أن يكون نوع جديد من العدوي أو الطاعون». لكن ويلش، وبعض العلماء، سرعان ما تخلوا عن هذا الاعتقاد وتوصلوا إلي أن سبب الوباء يكمن في نوع خبيث جديد من الأنفلونزا مركب من «تشكيلة» من الأوبئة الأخري. ويقي السؤال يبحث عن إجابة محددة: ما هو سبب وباء الأنفلونزا؟ أوضحت أبحاث حديثة، في مجالات وباء السل وأوبئة بكتيرية أخري، أن معرفة الوباء تتطلب أخذ مسحات من الأغشية المخاطية للمرضي والموتي، ثم محاولة إنماء البكتيريا العالقة بتلك المسحات في المختبرات علي أمل تحديد هوية الكائن الحي المسئول، أو المسبب للمرض. وتستند هذه النظرية إلي فرضية أن كائنًا شديد الدقة، متناهي الصغر، لا يري إلا تحت المجهر ويدعي «الفيروس المترشح»، ربما يكون مسبب المرض. وكان الدكتور لويس، أهم أبطال رواية «باري» ميالاً إلي هذه النظرية خاصة وقد أثبت من قبل أن فيروسًا مشابهًا يكمن وراء «شلل الأطفال». لكن تسمية المسبب غير المرئي باسم جديد دون تحديده، تعد أمرًا شديد الشبه بأن نرجع سبب مرض ما إلي «بخار عفن منبعث من مستنقعات»! وهذا هو ما فعله أكثر أطباء أوروبا إطلاعًا، فيما قبل الثمانينيات، عندما أثبت الطبيب الألماني روبرت كوتش، نظرية «الجرثوم المنافس» وأعلن أن أنواعًا محددة من البكتيريا الدقيقة التي يمكن رؤيتها تحت المجهر، هي التي تتسبب في وبائي السل والكوليرا. تمكن كوتش من تطوير طرق إنماء هذه البكتيريا في معمله ثم قتلها وإعداد أمصال مضادة. ولا يمكن لهذه الخطوات أن تتم طالما بقيت الفيروسات غير مرئية. لهذا لم يكن أمام أطباء وعلماء عام 1918 إلا تركيز جهودهم الساعية إلي إيجاد علاج لوباء الإنفلونزا، علي ضرورة اكتشاف البكتيريا العضوية المسئولة عن الوباء. وفي ألمانيا، عندما تفشي نوع بسيط من وباء الأنفلونزا، أعلن طبيب محترم يدعي ريتشارد بفييفر أنه اكتشف نوع جديد من هذه البكتيريا قال إنها تنمو داخل حناجر المرضي وتسبب ما أسماه ب «الأنفلونزا البكتيرية». ويبدو أن الدكتور بفييفر ظن أن موقعه كمدير لمعهد برلين للأمراض الوبائية سيجعل «اكتشافه» جديرًا بالتصديق. إذ أن العثور علي تلك البكتيريا الجديدة في حناجر المصابين بالأنفلونزا كان أمرًا شديد الصعوبة. إضافة إلي فشل د. بفييفر في إيجاد الوسائل المعملية الكفيلة بإنماء هذه البكتيريا ومحاولة إعداد أمصال مضادة للمرض. ومن المؤكد علميا أن ما حدث عام 1918 هو أن مجموعة متنوعة من البكتيريا غزت حناجر ورئات الأشخاص الذين تحللت أو دمرت أغشيتهم المخاطية نتيجة إصابتهم بفيروس الأنفلونزا الخبيث. هذا الفيروس الذي أحكم سيطرته وأحدث تلفيات وردود أفعال لأنظمة المناعة داخل جسم الإنسان، وغمر الرئة بخلايا ونفايات فيروسية. هذه هي الأسباب المرجحة وراء معظم الوفيات. أما بكتيريا الدكتور بفييفر فقد ظلت غير واضحة إلي أن تحسنت وسائل الفحص المعملي وتم اكتشافها في مِسحات أغشية مخاطية، الأمر الذي دفع د. بول لويس إلي التخلي عن فكرة وجود فيروس واحد وراء العدوي واللحاق بالفريق الذي يعتقد أن بكتيريا د. بفييفر هي المسبب للمرض. لكن هذا الاعتقاد انتهي بإعداد مصل يستفيد من جثث الموتي لكنه عديم الجدوي في مكافحة الأنفلونزا. عدم فاعلية هذا اللقاح، وكل جهد بذل في إطار نظرية بفييفر، أنعش من جديد نظرية الفيروس الواحد إلي أن جاءت الأربعينيات بالمجهر الإلكتروني القادر علي أن يجعل الفيروس مرئيا وأصبح من الممكن تمييز مختلف الفيروسات ودراسة سلوكها. لقد كان علي الفهم المعاصر لفيروس الأنفلونزا، وقدراتنا الحالية علي إعداد المصل المضاد، أن ينتظر اختراع المجهر الإلكتروني. ويقودنا الحديث إلي جهد مواز بذل ما بين عامي 1918 و 1919 وكان أكثر نجاحًا في إيجاد المصل المضاد للالتهاب الرئوي رغم أن فاعلية هذا المصل كانت مقصورة علي التعامل مع بعض سلالات الجراثيم التي تصيب الرئة، وأدت صعوبة تصنيعه إلي إنتاج كميات ضئيلة منه لم تكن متوفرة إلا قبل النهاية «الطبيعية» للوباء. رغم ذلك، وكما يقول «باري» في كتابه، تبين أن تلك الأبحاث والتجارب التي أجراها د. أوزوالد حول جراثيم الرئة هي التي قادت عام 1943 إلي الاكتشافات الأولية للحمض النووي DNA في التركيب الوراثي. حكايات «باري» عن بكتيريا الدكتور بفييفر وجهوده المعملية لإيجاد علاج للإنفلونزا، حكايات زاخرة بالمعلومات وتنويرية يرويها بإعجاب ويضفي أبعادًا درامية في تناول كل جهد لكل عالم أو طبيب من أبطال روايته. رغم ذلك يعاني كتابه من أوجه نقص تجعل روايته عن وباء الإنفلونزا غير شاملة، ركز باري علي ما حدث داخل الولايات المتحدة لكنه لم يخبرنا عمليا إلا بما حدث في مكانين فقط ب الموقف الكارثي في معسكر ديفنس بولاية ماستشوستس والذي اقترن برواية أطول عن ما حدث في فلاديلفيا. قفز باري فوق مدن أخري مثل نيويورك وبوسطن حيث كان للوباء القدر نفسه من الشلل والفتك. أما إشاراته إلي تفشي الوباء في أجزاء أخري من البلاد فقد جاءت متناثرة وشحيحة. ولم يقل «باري» شيئًا عن أوروبا. وما قاله بالفعل حفل بمغالطات ناجمة عن رغبته في التعظيم من خطر الإنفلونزا. يقول علي سبيل المثال إن الهجوم الألماني في ربيع عام 1918 ربما يكون توقف بسبب تفشي الإنفلونزا وأن «القائد الألماني» لودندورف نفسه «لام الوباء الذي أفقده الميادءة». ثم يتراجع قائلاً إن لودندورف ربما يكون اتخذ من سقوط جنود الحلفاء مرضي بالإنفلونزا ذريعة أو حجة لوقف الهجوم. وفي السياق نفسه يأتي قول «باري» أن هجمة إنفلونزا في عام 1920 «أضعفت عقل وجسد الرئيس ويلسون إلي درجة دفعته إلي إنهاء صراعه مع كليمنصو ولويد جورج حول شروط معاهدة فرساي للسلام». هكذا يحمل باري الإنفلونزا مسئولية قرارات سياسية وحربية من المؤكد أنها تأثرت باعتبارات أخري أكثر إلحاحًا. كذلك عاني كتاب باري من قصور ملحوظ في تصويره لمدي وحجم تفشي الوباء في بقية أنحاء العالم. جملتان فقط هما كل ما كرسه للصين، البلد الأكثر تعدادًا في السكان، تلتهما صفحة من الوصف المبالغ فيه عن الوباء في الهند: «لم يكن هناك إلا الموت في شبه القارة الهندية، القطارات تغادر حاملة الأحياء وتعود كل يوم محملة بالموتي والموت». وفي تصوير آخر مفعم بالدراما يقول «اندفع الفيروس بعنف مخترقًا السنغال، سيراليون، إسبانيا، وسويسرا، مخلفًا الدمار الحاد وفارضًا ضريبة موت زادت في بعض المناطق عن 15% من إجمالي عدد السكان». معلومات مبهمة عشوائية وتكاد تكون بلا معني. يضاف إلي ذلك أن باري يتمسك بمجموعة من المشتغلين بالطب كأبطال لروايته رغم أن تجاربهم المعملية لم تخرج بشيء يذكر لمقاومة الإنفلونزا. ويبدو أن النجاحات اللاحقة في اكتشاف الفيروس جعلت باري لا ينظر إلي جهود أخري، غير فعالة أيضًا، وإن كانت مريحة ومساعدة، بذلها آخرون في مواجهة المرض وللحد من الوباء. لقد قلل من شأن أطباء فعلوا ما يفعله أمثالهم من مهنيين عبر قرون مضت: تقديم علاجات غير مفيدة. لكنهم ومع ذلك أكدوا للناس أن شيئًا ما يحدث وأن أطباء «باري» ليسوا أفضل منهم. يعرب «باري» عن أسفه للسياسة الحكومية والإعلامية التي حاولت التقليل من حقيقة الوباء، أو إنكارها. وينقل بسخرية عن مفوض الصحة العامة قوله: «إن من واجبنا إبعاد الخوف عن الناس، فالقلق يفتك بأعداد أكثر من تلك التي يفتك بها الوباء». وهذه مجرد أكاذيب أو أنصاف حقائق صممت لطمأنة الناس، وقد تكون سمحت للمجتمع الأمريكي بالاستمرار في أداء وظائفه قبل وبعد تفشي الوباء، وحافظت علي «السلوك العادي» في العديد من القري والمدن. ومن المهم ملاحظة أن اقتصاد المجتمع الأمريكي في عام 1918 كان يقوم ويعتمد علي تدفق السلع والخدمات عبر البلاد. وكل إعاقة لحركة التدفق هذه تعد تهديدًا للحياة. فلا توجد مدينة تستطيع أن تحيا دون إمدادات متواصلة من الغذاء والسلع الضرورية الأخري. وقد زاد المجهود الحربي من قابلية هذه الأوضاع للانكسار بأن حشد ملايين الجنود في معسكرات جيش عشوائية. وكان من الضروري الحفاظ علي «روتين» عمل يومي. وربما يكون الإنكار الرسمي لاقتراب الوباء القاتل من هذه المدينة أو تلك قد ساعد في تحقيق الأهداف المرجوة. لكن «باري» يظن أن مثل هذه السياسات الرسمية أوجدت عدم الثقة. وفي المقابل لا تذكر فصول الكتاب شيئًا عن دور رجال الدين والجهد المنوط عادة بالقساوسة ورؤساء الكنائس لطمأنة رعاياهم وقت الأزمات. ومن المؤكد أن هؤلاء جابوا البلاد ما بين عامي 1918 و 1919 لتقديم العون التقليدي عبر إقامة الصلوات والاحتشاد وأداء شعائر وطقوس وخدمات دفن الموتي. هذه الجهود لم تقدم الدواء لكنها طمأنت الخائفين وساهمت في الحفاظ علي تماسك المجتمع الأمريكي، ولو لبعض الوقت. لقد شيد باري نصًا شديد البراعة يبدأ وينتهي بلقطات فوتوغرافية للدكتور بول لويس وهو يتحدي المرض الجديد داخل مستشفي فلاديلفيا عام 1918, ثم وهو يعاني سكرات الموت بالحمي الصفراء عام 1929 في البرازيل. جعل «باري» من الدكتور لويس النموذج والرمز للجهود «غير المجدية» التي حاولت إيجاد علاج للوباء في المختبرات العلمية. وصفه بأنه «أذكي من عرفهم» لكنه، وفي كل مرة يتحدث فيها عنه كان يكرر وصفه بالعبارة نفسها التي بدت وكأنها شعار أو «موتيفة» لشركة لإنتاج الأفلام. وفي السياق نفسه صاغ العناوين الرئيسية لفصول كتابه وكأنها ترديدات «كورس» في فرقة إنشاد: «هذه أنفلونزا.. مجرد أنفلونزا»، «الحرب هناك والوباء هنا» و«لم يكن هناك وقت»، لكن هذه الصور البلاغية أضفت ظلالاً شبه ملحمية علي النص. ولعل هذا هو سبب اختيار «باري» للعنوان الفرعي لكتابه: «القصة الملحمية للوباء الأكثر فتكًا في التاريخ». ولأن هذه العبارات توحي بالملحمية وتكرسها نري «باري» قد أكثر من اللجوء إليها فساوي بذلك في كتابه ما بين الأبطال والمخادعين. وهنا قد تكمن حقيقة الأنفلونزا ذاتها: فوباء عام 1918 قتل من البشر أكثر من الذين قتلهم أي وباء سابق. لكن «حجم الفتك» وفداحته كان بسبب كثافة بشرية مكنت الفيروس من العثور علي من يتغذي بهم. وفي النتائج النهائية فإن هذا الوباء يكاد يكون من الأوبئة العادية إذا ما قورن ب «الموت الأسود» الذي تفشي في أوروبا وآسيا في القرن الرابع عشر، أو الطاعون الذي تلاه. فكلاهما كان له التأثير الأبقي والأقوي علي المجتمعات البشرية، وحصد من الناس حصة أكبر مما حصدها وباء أنفلونزا عام 1918-1919. وطوال فصول كتابه يريدنا «باري» أن نرتجف من الموت والمعاناة وأن نُعجب بأبطاله في المختبرات العلمية ونستهين بشأن هؤلاء الذين حاولوا تهدئة الأمور وطمأنة الناس بالكلمات والعلاجات غير الكافية وقد يؤخذ عليه أنه بدأ في بعض الفصول كمحرر إعلانات يريد أن يملأ شاشات التلفاز بالمبالغات والإثارة. لكن فهمه الموسوعي لعلم الأوبئة المعاصر، وتفسيره البارع لكيفية عمل الفيروس داخل جسم الإنسان، يطغيان علي بعض صياغاته التي جنحت إلي المغالاة. ويبقي النص رسالة واضحة تجعل كتابة الكتاب الأكثر جدارة بالقراءة.. ذلك أن عودة انتشار الموت بفعل الأنفلونزا لاتزال قائمة رغم كل المعرفة العلمية المعاصرة، ورغم كثرة المنظمات العالمية المنوط بها مقاومة الأوبئة.
الرسالة الواضحة هي أن عودة انتشار الموت بفعل الأنفلونزا لاتزال قائمة رغم كل المعرفة العلمية المعاصرة،ورغم كثرة المنظمات العالمية المنوط بها مقاومة الأوبئة
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة