العصيان المدني وسيلة للتغيير



احتلت إنجلترا مصر لتأمين طريقها للهند سنة 1882 وكان جلاؤهم عنها سنة 1947 مع احتفاظهم بقناة السويس حتي سنة 1954 . الشعب المصري شعب متجانس، اللغة عربية، الديانة الإسلام مع وجود أقلية قبطية قديمة. كانت مصر قبل الاحتلال دولة مستقلة ومتكاملة بها وزراء وبرلمان منتخب، دولة تكامل بناؤها علي مدي ثلاثة أرباع قرن. وحتي خلال الاحتلال استمر وجود نوع من الاستقلالية والديمقراطية. أما الهند فدخلها الإنجليز للتجارة والسيطرة ابتداءً من حوالي سنة 1650 وكانت محتلة تمامًا عسكريا سنة 1757 وكان جلاؤهم سنة 1947 . الهند بلد شاسع متباين في المناخ والأصل العرقي والطائفي، بها 17 لغة رسمية معترف بها في الدستور، الديانة الرئيسية الهندوسية، بها أقليات بوذية، وإسلامية، ومسيحية، وجينية (ديانة هندية قديمة تعود للقرن الخامس قبل الميلاد)، وبارسية (ديانة إيرانية قديمة اختفت من إيران). كان من باب أولي أن تنجح الديمقراطية في مصر ولكنها ما زالت متعثرة. أما في الهند فبتركيبتها المعقدة قد راهن الكثيرون بعد استقلالها علي عدم نجاح الديمقراطية بها وأنها ستتحول لدويلات متحاربة، غير أن هذا لم يحدث، ومازالت الديمقراطية في الهند متماسكة. إن تعثر مسار الديمقراطية في مصر مطروقٌ من قبل، وتناوله الكثيرون داخل وخارج مصر ولن أتعرض له في هذا المقال. إنني أعتقد ان دراسة الديمقراطية الهندية سوف تساعدنا في تفهم أكثر لمشاكل الديمقراطية في مصر وفي الدول العربية وكذلك في طرق حلها. لماذا وُفِّقَت الديمقراطية في الهند رغم المشاكل العديدة التي قابلتها وما زالت تقابلها؟ إن الديمقراطية الهندية مازالت متماسكة بعد أكثر من نصف قرن، إنها أكبر ديمقراطية في العالم وأكثرها تعقيداً. في هذا المقال سوف نستعرض تاريخ الديمقراطية في الهند وماذا حققت من نجاح والصعوبات التي تواجهها. سوف أتعرض باختصار شديد لتاريخ حياة غاندي وحركة غاندي للعصيان المدني والتي أدت إلي استقلال الهند وديمقراطيتها. سوف أتوقف قليلا أمام حركة تمثيل الأقليات في الهند وأمام مشكلة كشمير وما تمثله من تحدي للديمقراطية. إن حركة غاندي المسالمة أعطت الإنسانية الطريق لمحاربة الظلم أينما كان. لقد ساهمت حركة غاندي للعصيان المدني في مقاومة ظلم الحكومات لشعوبها، في مقاومة الشركات متعددة الجنسيات، في حركات التحرير، في الانتفاضة الفلسطينية الأولي، في حركات الديمقراطية، وفي مقاومة اضطهاد الأقليات. إن الهند صاحبة مدرسة من الممكن أن نتعلم منها الكثير وبدون استخدام العنف. [ 1 ] كانت عائلة غاندي من الطبقة المتوسطة. ولد غاندي عام 1865 وكان أصغر إخوته الأربعة، كانت شخصية غاندي شخصية معقدة من الصعب تحليلها نفسيا كما سنري. تأثر غاندي في الصغر بوالديه، يبدو أن أهم ما تعلمه من والده هو الصدق، عندما كان صغيراً سرق بعض النقود لشراء سجائر، شعر بالذنب، فاعترف لوالده الذي احتضنه ولم يعاقبه وشجعه علي عدم الكذب. عندما كتب غاندي سيرته الذاتية اعتبر تلك التجربة تجربة مع الصدق. اهتم غاندي كثيراً بأن يكون صادقاً وسمي كتاب سيرته الذاتية «تجربة مع الصدق». أما عن والدته فقد زرعت فيه الإيمان وكانت بالنسبة له قديسة كثيرة الصيام وقد ظهر تأثره بها كثيراً عندما كبر وبدأ كفاحه ضد الظلم، وفي صياماته الطويلة. كان غاندي في طفولته منطوياً وخجولاً، واستمر كذلك حتي منتصف العشرينيات من عمرة حين غيرتهُ الظروف. كان تلميذاً متوسط الذكاء، أحبهُ مُدرِّسُوه، حصل علي ما يعادل الثانوية عندنا بمجموع قدره 39%، وكان أقل مجموع للنجاح هو 33%. تزوج غاندي في سن الثالثة عشرة طبقا للتقاليد الهندية، كان غيوراً جداً علي زوجته، واعتقد أنه يمتلكها. عندما كان عمره في السادسة عشرة وكان والده يحتضر، ترك والده وهو يحتضر ليمارس الحب مع زوجته. أثناء ذلك توفي الوالد، فشعر غاندي بالندم الشديد لعدم وجوده معه في لحظاته الأخيرة. اعتقد غاندي أنهُ أهمل واجباته تجاه والده واستمر ذلك الشعور بالذنب معه لمدة طويلة وقد مثلت تلك التجربة مشكلة نفسية بالنسبة للجنس في حياة غاندي كما سنري. يعتقد البعض أن تلك الظروف جعلته مرهف الحس وأنهُ اعتبر نفسهُ فيما بعد ابنًا للمجتمع بأكمله. في سن الثامنة عشرة قررت العائلة وبعض الأصدقاء أن أفضل الخيارات لغاندي أن يذهب لإنجلترا ليدرس القانون. كانت دراسة القانون في ذلك الوقت بسيطة، وتستلزم دراسة القانون الروماني والقانون العام فقط ثم عبور امتحان في هاتين المادتين فقط ليحق للناجحين بعد ذلك ممارسة القانون. كان اجتياز هذا الامتحان سهلاً، وكانت نسبة النجاح حوالي 80%. كان غاندي سعيداً بذلك المشروع وسافر لإنجلترا سنة 1888 ومكث بها حوالي ثلاث سنوات ونجح في اجتياز الامتحان. في إنجلترا حاول غاندي أن يكون جنتلمان إنجليزيا، تعلم الرقص وخرج مع بعض البنات الإنجليزيات، تعلم الفرنسية وزار فرنسا. تعرض لبعض أساليب الحياة الغربية، وإن ظل حتي غادر إنجلترا شاباً ساذجاً غير مثقف وقليل الثقة بالنفس، ولم يكن هناك ما ينبئ بأنهُ سيكون ذا شأن. عاد غاندي للهند عام 1891، وبدأ يحاول ممارسة القانون، افتتح مكتباً للمحاماة بعد حوالي ستة أشهر حضر لهُ أول عميل في قضية بسيطة. كان غاندي شديد الخجل، في المحكمة أمام القاضي لم يستطع غاندي أن يفتح فمه بكلمة واحدة، تنحي عن القضية. وصف غاندي تلك الفترة في سيرته الذاتية «بأنه لا يوجد نهاية لحالتي اليأس والخوف اللتين تعتريانني». حاول أن يكون مدرسًا للغة الإنجليزية ولكنه لم يوفَّق.عمل لفترة بسيطة ككاتب للعرائض والشكاوي. شاءت الظروف أن تُعرَض عليه المساعدة في قضية طرفها هنود في جنوب إفريقيا. كان المفروض أن يعود غاندي للهند بعد الانتهاء من تلك القضية والتي ستستغرق شهورًا قليلة، إلاَّ إن ذلك لم يحدث، مكث غاندي في الهند واحداً وعشرين عاماً غيرت حياته تماما وأهَّلتهُ للدور الهائل الذي قام به في الهند. ركب البحر سنة 1983 لجنوب إفريقيا، ثم أخذ القطار لبروتوريا. حصل علي تذكرة قطار بالدرجة الأولي ولم يكن للهنود أو غير البيض أن يسافروا بالدرجة الأولي. طلب منه مفتش القطار أن يذهب للدرجة الثالثة ولكن غاندي رفض. في المحطة التالية وفي منتصف الليل قذفوه خارج القطار. أمضي ليلته في محطة القطار وحيداً يفكر في هذه المشكلة التي لم تكن في الحسبان. هل يعود للهند؟ هل يتقبل العنصرية المفروضة علي الهنود؟ كيف نحصل علي العدل؟ أليست الهند وجنوب أفريقيا عضوين في الإمبراطورية البريطانية؟ قرر بعد ليلة طويلة أنهُ ليس هناك خيار سوي البقاء من أجل ما قدِمَ لهُ وفي نفس الوقت مقاومة هذه العنصرية الفظة. اكتشف غاندي أن المشكلة العنصرية في جنوب إفريقيا ليست مقصورة علي ركوب القطارات. لم يكن من حق الهنود أو الآسيويين عموماً أن يملكوا الأرض، أو يصوِّتوا في الانتخابات، أو يمشوا حتي علي أرصفة المُشاة، أو أن يسيروا بالليل بدون ترخيص. مثَّلَ كل ذلك صدمةً لغاندي، ولكن ما أدهشهُ حقًا هو كيف يتقبل الناس مثل ذلك الظلم والإجحاف بآدمية الإنسان؟ كان غاندي يعتقد أن تغيير القانون سوف يغير الناس، ولم يكن ذلك واقعيا. القانون يحدد الحقوق والواجبات، ولكن لا يغير ما في القلب. إذا كان القلب مغلقاً لا يتكلم العقل. كيف نحارب الظلم إذا كان الحوار لا يجدي والعنف غير مستطاع أو مُجدٍ؟ في جنوب إفريقيا اكتشف غاندي العصيان المدني - وإن كان العصيان المدني قديمًا قِدَم الإنسانية - إلا إن غاندي اكتشف أن للعصيان المدني بعداً سياسياً قوياً لو اجتمع رأي الناس عليه. بدأ غاندي يفكر ويقرأ عن إمكانية العصيان المدني. لم تكتمل رؤية غاندي لتلك الفلسفة إلاَّ بعد سنين عديدة، وبعد أن التحم تمامًا بالشعب الهندي. [ 2 ] في عام 1915 وعندما كان عمر غاندي 45 عاماً قرَّر العودة للهند بعد أن طلب منه بعض المفكرين الهنود ذلك وأقنعوه بأن المشكلة الكبري في الهند وليست في جنوب أفريقيا وأن له دوراً مهماً هناك، وقد كان بعض هنود الهند يساعدونه ماديا ومعنويا. وقد كان نشاط غاندي معروفاً في الهند. استُقبِلَ غاندي استقبالاً طيباً وتعرَّفَ علي القيادات الهندية، ولكنهُ اعترف أنَّهُ لا يعرف الكثير عن الهند. قرر غاندي بمساعدة البعض أن يسافِرَ إلي مناطق الهند المختلفة ليتعرف عليها وعلي مشاكل أهلِها. في الهند كان مقرهُ ومجموعة من العاملين معه في أشرم بالقرب من جبال الهيمالايا. كان غاندي يعيش عيشة الفقراء وكان يسافر بقطارات الدرجة الثالثة حتي عندما أصبح رجل الهند الأول وكان يفاوض الإنجليز. كان له نظام خاص في حياته، حيث يستيقظ مبكراً ويقرأ ويكتب كثيراً. بعد أن تجول في الهند قرابة عامين بدأ يكتب للصحافة عن مشاكل الهند كما يراها وخصوصًا عن الفقراء ومشاكلهم. بدأت كتاباته تجتذب كثيراً من القراء. كانت أول مشكلة تدخَّلَ فيها غاندي تخص الفلاحين في منطقة البيهار عام 1917، طلب فلاحو البيهار من غاندي أن يسلط بعض الأضواء علي مشاكلهم. وكان فلاحو تلك المنطقة يزرعون نبات (النيلة) الذي تستخرج منة صبغة زرقاء، وقد ازدادت مساحة الأراضي المزروعة خلال الحرب الأولي. بعد الحرب قلَّ الطَّلَب وتدهور حال الفلاحين. بعد أن تعَّرفَ غاندي علي المشكلة قال: «إن أهم شيء أن يتحرر الفلاحون من الخوف». كان لاهتمام غاندي بتلك المشكلة أن اجتمع حوله الكثيرون. الأمر الذي لم يرضِ السلطات، ولكن غاندي لم يبالِ وكان علي استعداد للذهاب للسجن، وعندما قال معاونوه: نحن علي استعداد للذهاب معك، قال غاندي: «إذن لقد كسبنا القضية». هكذا أفادتهُ خبرتهُ من دخول السجن في جنوب أفريقيا ومن إلمامه بدور الصحافة. درس غاندي وعديد من مساعديه المتطوعين، وبطريقة علمية، أحوال ما يقرب من 10000 فلاح. اتضح من تلك الدراسة أن كِبار المُلاَّك - وكثيرٌ منهم كانوا إنجليز- قد أساءوا استغلال سلطتهم علي الفلاحين. بعد نشر تلك الدراسة قرر حاكم الولاية تشكيل لجنة لتقصي الحقائق واختير غاندي لعضويتها. أوصت اللجنة - ووافقتها الولاية - علي أن يعيد مُلاَّك الأرض 25 % مما حَصَّلُوه من الفلاحين، هذا بالإضافة إلي إصدار بعض القوانين لتحسين أحوال الفلاحين وتقنين علاقة المالك بالمستأجر. ومن ناحية أخري قرَّرت الحكومة عدم تحصيل ضرائب من المزارعين المعدمين. كان غاندي يري أن الفقر أبشع صور الإرهاب. اعتبر غاندي أن ما حدث كان نصراً أخلاقياً في المقام الأول. أكسبت تلك القضية غاندي شعبيةً كبيرة. سنة 1918 انتقل غاندي ليسكن مع مساعديه في أشرم بجوار أحمد أباد حيث كانت تعيش عائلته. هناك لجأ إليه عُمَّال نسيج مضربون يطالبون بزيادة 50% من أجورهم. أيدَ غاندي مطالبهم وسأل أصحاب المصانع أن يلجئوا للوساطة والتحكيم لإنهاء الإضراب. وفي نفس الوقت نصح العمال بالاستمرار في الإضراب والتضامن، وكان يجتمع بهم يومياً لتقوية عزيمتهم. استمر الإضراب دون تقدُّم، شعر غاندي أن عزيمة العمال بدأت تضعف، فقرر أن يصوم انقطاعياً - عدا تناوله الماء - تضامنًا مع العمال، وإلي أن يتفاهم العمال مع أصحاب المصانع. كان ذلك بمثابة ضغط علي أصحاب المصانع وفي نفس الوقت أخبر أصحاب المصانع، وكان يعرف بعضهم أنه ليس من مصلحتهم أن يهينوا العمال ويصروا علي تجاهل مطالبهم. في اليوم الرابع من صيام غاندي اتفق الطرفان علي زيادة أجور العمال بنسبة 35%. بذلك انتهي صيام غاندي، كان ذلك أول صيام يقوم به غاندي للصالح العام أو لمساندة الضعفاء والمحتاجين. استخدم غاندي أسلوب الصيام كثيراً فيما بعد اعتمادًا علي رصيده الهائل مع الشعب الهندي، وأحيانًا كاد أن يموت من جرَّاء تلك الصيامات الطويلة ولكنها كانت مُجدية. اكسبت قضية الفلاحين والعمال غاندي شعبية هائلة، أحسَّ غاندي بالضعفاء والفقراء وأحسوا هم به،عاش كواحد منهم، تأكد الفقراء أن غاندي واحد منهم وأنه المدافع عن حقوقهم ولم يكن له مطالب أو مطامع شخصية فوثقوا تماما فيما يقول. [ 3 ] كان أكبر حزب سياسي في الهند هو حزب الكونجرس (يسمي بالعربية حزب المؤتمر الهندي)، كوَّنهُ بعضُ الإنجليز والطبقة العليا من الهنود سنة 1885 . رأس الحزب إنجليزيون حتي سنة 1907 ولم تكن هناك انتخابات. كان عام 1919 عام حافل في تاريخ الهند وحزب المؤتمر. حدثت بعض الاضطرابات في الهند استغلتها الحكومة وقرَّرَت علي أساسها أن تستعمل قانوناً للطوارئ، واعتقد أغلب الهنود أنَّهُ لم يكن هناك داعٍ لذلك. اقترح غاندي علي أعضاء الحزب أن يكون أول يوم ينفذ فيه هذا القانون هو يوم للصلاة والصيام، أي يوم للإضراب. كان هناك توافق تام بين المسلمين والهندوس، وكان يوم الإضراب يوماً مشهوداً توقفت فيه المصالح الإدارية وأجهزة الدولة توقفاً يكاد يكون تاماً، وأصبَحَت الحكومة عاجزة عن العمل. بذلك الإضراب اتضحت قوة العصيان المدني للجميع. اعتُقِلَ غاندي فثارت الجماهير، وبدأت جولة من العنف اضطرت معه الحكومة للإفراج عنه. في 13 أبريل من نفس العام في مدينة أمريستار Amritsar حدثت بعض الاضطرابات، تقرر علي أساسها منع الاجتماعات العامة، ولم يكن ذلك معروفاً لعامة الشعب. كان هناك اجتماع سلمي لبعض الهنود، قرر بريجادير جنرال داير Dyer أن يطلق النار علي الموجودين بدون أي تمييز وكان بينهم نساء وأطفال. استخدم عسكر هذا الضابط - وكانوا من الهنود - 1650 طلقة قتلت 397 شخصًا وأصابت 1137 آخرين. أصدر ذلك الضابط قوانين أخري القصد منها تأديب وإذلال الهنود.. منها أن يسيروا علي أربعٍ كالحيوانات عند عبور شارع قُتِلَت فيه مُبَشِّرَة إنجليزية، رغم أن بعض الهنود حاولوا مساعدتها. أيدَت حكومة الولاية تلك القرارات، وبدأت بعض أعمال الانتقام، ولكنَّ غاندي ساهم في تهدئة الأمور، وقال: «نحن لا نريد أن نمثل للإنجليز ما مثَّلَهُ الجنرال داير لنا، إن مبدأ العين بالعين سوف يجعل الجميع عمياناً، إن الإنجليز أصدقاؤنا، وهم أيضًا محتاجون إلي تحرير أنفسهم». كان غاندي دائما يتساءل ويسأل الهنود «هل نريد أن نغير الأوضاع أم نريد أن نعاقب؟ إني أري أن نترك العقاب للخالق». بعد تلك المذبحة فقد غاندي الكثير من ولائه للإمبراطورية، وبدأت الهند بعد ذلك تطالب بالاستقلال بدلاً من الحكم الذاتي. في ديسمبر من هذا العام كان هناك اجتماع عام لحزب المؤتمر في مدينة أمريستار Amritsarوربما كان ذلك أهم مؤتمر في تاريخ الحزب لما أدَّي إليه من قرارات محورية كان أهمها - وتحت تأثير غاندي - عدم التعاون مع الحكومة البريطانية للهند، الأمر الذي بدأت معه مسيرة الهند للاستقلال التام. ولم تكن باقي القرارات أقل أهمية، ومنها: أوَّلاً: دخول العديد من متوسطي الدخل الحزب بعدما كاد أن يكون مقصورًا علي الأغنياء. ثانياً: خرج من الحزب بعض (الحرس القديم) من هندوس ومسلمين لعدم رضاهم عن أسلوب غاندي في مقاومة الإنجليز أو لأنهم كانوا يمثلون النخبة، ولهم مصالحهم، بينما كان غاندي يمثل الفقراء ومصالحهم ؛ يهمنا هنا خروج (محمد علي جناح) وقد كان رئيس حزب عصبة الإسلام Muslim League وهو الذي أدخل العديد من المسلمين في الكونجرس، وكان أحيانًا المتحدث باسمه. كان محمد علي هنديا قوميا ولكنه غير توجهه فيما بعد وأصبح رائد الانفصال من الهند، كما سنري لاحقاً ولكنه ظل علمانيا. ثالثا: من الممكن اعتبار أنَّه منذ ذلك التاريخ وحتي اغتياله عام 1948 أصبح غاندي رجل الهند الأول، رابعًا: بدأت الديمقراطية الهندية تتقدم وبخطي ثابتة، فكان عدد الأصوات المؤيدة لعدم التعاون مع الإنجليز 1336 صوتاً لصالح غاندي، و884 صوتاً ضده، وكان رئيس المؤتمر من المعارضين. بعد ذلك التاريخ لم يحصل غاندي علي أغلبية الأصوات دائمًا وإنما التزم الجميع بديموقراطية القرار. خامسًا: إصرار غاندي علي حرية الرأي والصحافة، ذلك المبدأ الذي لم يتنازل عنه طوال حياته، وقد قال: «إن الديمقراطية هي مياه الحياة، والمياه لا تنضب». وقد استمر احترام الهند للديمقراطية وحتي الآن ماعدا فترة استمرت 19 شهراً خلال حكومة إنديرا غاندي الأولي، وسنعود إلي ذلك لاحقاً. سادساً وأخيرًا: في تلك الفترة خلع العديد من الهنود الملابس الغربية وارتدوا الملابس الهندية، ولم يكن ذلك تقليداً لغاندي، بل كان تغييراً له مضمون رمزي وثقافي. كانت الهند مزرعة لإنجلترا تستورد منها المواد الخام وتُصدِّر لها تلك المواد مُصنَّعَة. كان القطن مثالاً واضحاً للاستغلال. بدأ غاندي يشجِّع الهنود علي الغزل والنسج اليدوي لعمل ما يحتاجونه من ملابس، كان هدفه تنشيط بعض الصناعات اليدوية البسيطة في الريف الهندي الفقير. كان تعداد الهند في ذلك الوقت 300 مليون نسمة، وبها 700000 قرية أغلبها فقير. كان غاندي يقوم بالغزل اليدوي يوميا ولمدة ساعة حتي وهو في السجن، وكان يشترط علي مساعديه أن يقوموا بالمثل. ذهب غاندي خطوة أخري وطلب من الهنود أن يقوموا بحرق الملابس الإنجليزية الصنع وأن يلبسوا مما هو مُصنَّع محليا. كان لكل ذلك تأثير ضار علي الاقتصاد الإنجليزي، ولكن الأهم أن الهنود بدأوا فعلاً حركة استقلالهم. قال غاندي لمواطنيه: «إن اعتمادنا علي منسوجات إنجلترا يدل علي اعتمادنا ثقافيا علي إنجلترا، نحن مشتركون في عبودية أنفسنا بطريق غير مباشر، بحرق الملابس الإنجليزية نحن نطهر أنفسنا». في اجتماع الحزب سنة 1921 كان بالهند ما يقرب من 20000 معتقل سياسي من ضمنهم أغلب زعماء الكونجرس. كان غاندي يحث مواطنيه دائمًا علي عدم استعمال العنف، وأن يتحملوا الضرب والسجن وقال لهم: «إن القوة الحقيقية لا تأتي من استعمال العنف، بل تأتي من الإرادة التي لا تقهر». في اجتماع سنة 1929 طالبت الهند عن طريق حزب المؤتمر بالاستقلال في مؤتمر رأسه جواهر لال نهرو. قرر هذا المؤتمر اعتبار يوم 26 يناير يوم استقلال الهند. أي أن الهند أعلنت استقلالها قبل أن تناله فعلاً بثمانية عشر عاماً. ظلت الهند تحتفل بهذا اليوم للآن وإن كان اسمه (يوم الجمهورية). بدأ غاندي يحمس ويحرك الجماهير ويتحدي القوانين مُتَّبِعًا دائمًا سياسة عدم التعاون وعدم العنف. كان المستعمر يحتفظ لنفسه باحتكار صناعة الملح الرابحة والتي لا تكلف شيئاً، ولكنها تمثل 3% من دخل الهند. قرر غاندي أن يتحدي - ومعه الشعب الهندي - احتكار صناعة المِلح. في 12 مارس سنة 1930 بدأ غاندي ما أسماه (مسيرة الحق ضد القوة). بدأت المسيرة بأربعين شخصاً سيراً علي الأقدام لمدة 24 يوماً. كان يسير 10 أميال كل يوم. بدأ عدد المشتركين في المسيرة يزداد، وبدأت المسيرة تجذب انتباه الصحافة العالمية. عندما وصلت المسيرة إلي بحر العرب قُدِّر عدد المشتركين فيها بعشرات الآلاف من الرجال والنساء. بخَّرَ غاندي ماء البحر للحصول علي الملح وتبعه الآلاف، وبينما كان الملح بين يديه والصحافة حوله تتابعه قال: «بهذا الملح أقاوم الاحتلال البريطاني، اشتركوا معي في مقاومة القوة ضد العدل». كان غاندي يدرك تمامًا أهمية الصحافة، ولهذا استمرت المسيرة 24 يوماً قبل إنتاج الملح ليبني القوة الدافعة للمسيرة وليسمح للصحافة أن تتابع ما يحدث. اعتقل الإنجليز الآلاف، ومنهم زعماء الكونجرس ونهرو وزوجته وحتي والدته، وأخيراً في 4 مايو اعتقلوا غاندي أيضاً. حلت شاعرة الهند العظيمة Sarojini Nadia محل نهرو في رئاسة الحزب. كان للمرأةِ دور هام في مسيرة الديمقراطية الهندية، وقد رأست امرأة حزب المؤتمر مرتين قبل الاستقلال ومرتين بعد الاستقلال. استعمل الإنجليز العنف مع صانعي الملح ولم يبدِ الهنود أي عنفٍ مقابل عنف الإنجليز، ودخل السجن عشرات الآلاف. بعد تلك المسيرة أصبح واضحاً أن استقلال الهند آتٍ لا محالة، ولكن متي؟ قال ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني: «إننا سوف نبقي في الهند لمدة طويلة، وإن لن تستمر إلي ما لا نهاية. إنني لم أصبح رئيس وزراء الإمبراطورية لكي أبدأ تفكيكها، إن هذا الفقير الهندي نصف العاري لن يهز الإمبراطورية، ولكن الشعوب إن أرادت فهي لا تقهر». رفع الهنود شعارات «تركوا الهند» والهند حرة أو الموت. سُجِنَ أغلب القيادات الهندية مرة أخري بما فيهم غاندي، ولكن هذه المَرَّة خرج من السجن لمقابلة الحاكم العام ومنها إلي لندن لمفاوضات مع الحكومة الإنجليزية. أعلنت إنجلترا عام 1943 عدم قدرتها علي حكم الهند وقررت الخروج من الهند بعد انتهاء الحرب وبعد الوصول إلي حل لمشكلة الأقليات. استغرق ذلك 4 سنوات، انتهت بانقسام الهند لدولتين وباغتيال غاندي [ 4 ] الأقليات الهندية التي مثلت عقبة كانت أقليتا المسلمين وغير الملموسين untouchable أو كما تسمي المنبوذين وهي طائفة وإن كانت هندوسية إلا إنها بحكم أعمال الخدمات التي تقوم بها اعتبرت طائفة غير طاهرة، ولم يكن يسمَح لها حتي بدخول المعابد. هناك طوائف أخري عديدة، ولكنها لم تمثِّل مشاكل جادة. كانت مشكلة المنبوذين مشكلة متأصلة في الثقافة الهندية، وكان غاندي معارضاً لطريقة معاملتهم. في جنوب أفريقيا وتحت تأثير غاندي كان هناك أعضاء من تلك الطائفة تعيش في الأشرم دون أي تمييز. أما في الهند فالمشكلة أكثر تعقيداً، فأوَّلاً يمثل عدد المنبوذين حوالي ربع تعداد السكان، وثانيا: إن تغيير ثقافة شعب فيما يتعلق بالعنصرية أو الطائفية أمر أصعب من مجرد سن قوانين لتغيير التعامل معهما. كان الإنجليز يرغبون أن يؤصِّلُوا التفرقة بأن يكون للمنبوذين عدد معين في أي تمثيل برلماني، ولكن الهنود وتحت تأثير من غاندي رفضوا ذلك. في عام 1934 بعد أن تعقَّد الوصول إلي حل طلب غاندي من القيادات الهندية أن تجد حلاً مُرضياً وأنه سوف يبدأ صيامًا ولن ينهيه إلا بالوصول لحل أو بموته. ووُجِد الحل حين قرر أن يخصص للمنبوذين 171 مقعداً في الانتخابات الأولية يختار المنبوذون أربعة مرشحين لكل مقعد، علي أن يختار منهم فيما بعد مرشح واحد يشترك في انتخابه كل هنود المنطقة الانتخابية، يزول العمل بذلك القانون بعد عشر سنين، يكون بعدها التمييز ضد المنبوذين قد زال. أما عن الأقلية الإسلامية فالمشكلة مختلفة، بل تكاد تكون العكس، كان المسلمون الهنود قبل دخول الإنجليز للهند يشكِّلون الإدارة العليا في بعض المناطق والتي كان يمثلها حكام المغول المسلمين الذين احتلوا جزءاً كبيراً من الهند منذ سنة 1526 وحتي سنة 1719 . كان بعض هؤلاء الحكام سيئاً فرض الإسلام بحد السيف وهدم بعض المعابد وترك آثاراً سيئةً بين الهنود مثل مؤيد الدين أبو المظفر محمد رنجزب المغير (1707-1658) ولكن بعض هؤلاء الحكام المغول ارتفع إلي مستوي رفيع ما زالت آثاره موجودة في الفن والعمارة، والتراث الفكري للتسامح الديني وتركوا آثاراً طيبة. كان السلطان جلال الدين أبو الفتح محمد أكبر (1605- 1556) من أحسن حكام المغول، وقد احترم تقاليد الهند والتعددية الدينية والعلمانية. ويربط مؤلف كتاب The Argumentative Indian (الحاصل علي جائزة نوبل في الاقتصاد عن 1998 عام) بين التشابه في تعاليم السلطان جلال الدين أبو الفتح محمد أكبر وبين تعاليم أشوكا أعظم ملوك الهند في القرن الثالث قبل الميلاد. في غياب الموضوعية، للأسف اعتبر بعض الهنود أن كل الفترة التي حكمها حكام مسلمون كانت مجحفة بالهند، وأرادوا محوها من التاريخ، واستغل بعض المتطرفين الهندوس مساوئ بعض الحكام المسلمين لتصفية الحسابات أو للتخلص من المسلمين الهنود وكان ذلك أحد أسباب انفصال باكستان. عندما جاء الإنجليز للهند بدأوا يحِلُّون الهندوس والأقليات محل المسلمين في المناصب المهمة عملاً بسياسة (فرِّق تَسُدْ). أضرَّ ذلك بالمُسلِمين ماديا ومعنوياً. في عام 1839 كانت هناك حركة إسلامية رئيسها محمد خان، وكان هدفها تحسين علاقة المسلمين بالإنجليز، وقد شجعها الإنجليز. ثم أُنشِئت عُصبَة الإسلام سنة 1906 League Moslem والتي لعبت دوراً مهما في الحركة الوطنية الهندية. كان محمد علي جناح هو الذي أدخل العديد من المسلمين في حزب الكونجرس، وكان في البداية من المتحدثين باسم الكونجرس عندما كانت الجبهة الداخلية متماسكة. خرج محمد علي جناح من الكونجرس عندما زادت شعبية غاندي التي لم ترُق له كما سبق وأشرنا. ترك محمد علي جناح السياسة ومارس القانون في إنجلترا بضع سنين إلي أن أصبح من الواضح أن الإنجليز سيخرجون من الهند. في عام 1937-1936 أجريت انتخابات تشريعية تحت رئاسة الإنجليز لم يفز فيها ممثلو عصبة الإسلام بكثير من المقاعد حيث اكتسحها أعضاء الكونجرس، وكان من بينهم مسلمون. توقع محمد علي جناح أنهُ بعد الانتخابات ستتكون حكومة ائتلافية بين الكونجرس وعصبة الإسلام في المناطق التي بها أكثرية مسلمة. لم يحدث ذلك. وكان من رأي محمد علي جناح أن اشتراك المسلمين في تلك المناطق لا يتناسب وعددهم. حاول محمد علي جناح أن يتفاهم مع غاندي، ولكن غاندي في ذلك الوقت إمَّا لم يقدِّر حجم المُشكِلَة أو لم يستطع أن يفعل حيالها شيئًا أو اعتمد علي وجود بعض المسلمين البارزين في الكونجرس. لم يكن نهرو علي وفاق مع محمد علي جناح وكان يريد أن يحل تجمُّع عصبة الإسلام نفسه، وقال: «إن هناك طرفين فقط للصراع مع الإنجليز وهما الكونجرس والإنجليز». كان محمد علي جناح شخصية قوية وكان تجاهله أمراً لهُ عواقبه. كان محمد علي جناح علمانياً ولكنهُ كان يخشي سيطرة الهندوس علي المسلمين. هذا طبعا بالإضافة إلي الصراع علي السُّلطة. تأزَّمت العلاقات مع الإنجليز بعد أن طلبوا أن تُشَكَّل حكومة انتقالية تشترك فيها كل الطوائف بالتساوي ولم يكُن ذلك مقبولاً من الهندوس الذين يمثلون حوالي 80% من السكان. كان رئيس الكونجرس في ذلك الوقت مولانا آزاد أبو الكلام وهو مسلم. رفض محمد علي جناح أن يمثل المسلمين بغير أعضاء من عصبة الإسلام وفشلت محاولات الحكومة المؤقتة. استمر الصراع، وقرر الإنجليز اعتبار أن الكونجرس حزب غير قانوني واعتقل العديد من رئاساته بينما ترك أعضاء عصبة الإسلام أحراراً. استغل محمد علي جناح هذا الوضع وبدأ يحذر المسلمين من سيطرة الهندوس وجمع شمل الكثير من المسلمين وخصوصًا في مناطق كثرتهم. في سبتمبر 1945 قرر الإنجليز إجراء انتخابات تشريعية لنقل السلطة للهند. أصبح واضحاً أن الانفصال آتٍ لا محالة ولكن كيف؟ شُكَّلت الحكومة المؤقتة برئاسة نهرو واشترك فيها أعضاء من عُصبة الإسلام. بدأت الاضطرابات الطائفية. في يومٍ واحد في كلكتا قُتِل حوالي 5000 شخص وأُصيب حوالي 20000 آخرون. انتقلت الاضطرابات إلي مناطق أخري، لم تستطع أجهزة الدولة السيطرة علي المناطق المضطربة. شَعَر غاندي بالفشل. إن كل ما حاول عمله ينهار الآن أمام عينيه. ربما كان هذا صحيحاً، ولكن غاندي بدأ فترة كفاح أخري، لولاها لتغير وجه الهند ولأصبحت تختلف كثيراً عمَّا نراه الآن. سافر غاندي إلي كَلكتَّا وقرَّرَ الصِّيام حتي الموت أو حتي يتعلَّم الهِندُوس والمسلمون أن يعيشوا معًا بسلام. هدأت الأحوال. انتقل إليNaokhali حيث توجد أقلية هندوسية وأكثرية مسلمة، حاول بعض الشباب حمايته، إلا إنهُ رفض وقال لهم: لا توجد قوة تحمي الجبناء، المشكلة ليست أنكُم أقلية، بل أن شعوركم باليأس قد سيطر عليكُم وأصبحتم تعتمدون علي الآخرين. زار غاندي ما يقرُب من 50 قرية بالإضافة إلي بعض المدن الكبيرة مثل كَلكتَّا ودلهي والتي ألمَّ بها العنف. كانت تلك الفترة من أحلك فترات حياة غاندي، لم يكن يخطر بباله احتمال انقسام الهند، وقد عارض ذلك حتي اغتيل عام 1948 . أعلن الحاكم البريطاني مسبقًا أن يوم 15 أغسطس عام 1947 سيكون يوم استقلال الهند. قسمت البنجال والبنجاب لفصل الهندوس والسيخ والمسلمين الأقليات إلي حيث توجد تجمعات كبيرة منهم. كان غاندي علي وعي بخوف المسلمين من أغلبية هندوسية، فاقترح علي محمد علي جناح أن يرأس الحكومة المؤقتة فإذا رغب بعد ذلك في الانفصال فليكن. لم تلقَ تلك المحاولة القبول. بدأت عجلة الانفصال تدور ولم يستطع أحد أن يوقفها حتي لو أرادت القيادات ذلك. أصبح المستقبل كئيباً، انتقل في تلك الفترة حوالي 15 مليون شخص من الأقليات الإسلامية والهندوسية وبدون أي استعداد لذلك. زادت حركات العنف ومات بالقتل أو من الجوع والعطش علي الأقل نصف مليون إنسان وإن كان العدد في بعض التقديرات حوالي اثنين مليون. انتقل غاندي إلي حيث توجد أعمال العنف، صام كثيراً وأصبح وزنه أقل من 45 كيلوجرامًا، وتدهورت صحته كثيرًا وكاد أن يموت - كان في السبعينيات من عمره - ولكن بفضل تلك الصيامات تحسنت الأحوال كثيرًا. كان غاندي يجتمع بالهندوس والمسلمين في اجتماعات للصلاة يوميا وكان يقرأ من الكتب المقدسة الهندية ومن القرآن. بدأت احتفالات الاستقلال، وكان غاندي في غاية الحزن ولم يحضر اياً من تلك الاحتفالات وقال: « لماذا هذا الفرح؟ إنني أري فقط أنهاراً من الدم». ولكن الحقيقة التي أجمع عليها أغلب الكُتَّاب أنَّهُ لولا محاولات غاندي في تلك الفترة لتدهورت الأحوال كثيراً. قرر غاندي أن يقضي بقية أيام حياته في باكستان، ولكن الأيام لم تمهله ذلك حيث اغتيل يوم الجمعة 30 يناير سنة 1948 وكان قاتله من تنظيم هندوسي متطرف اعتقد أن غاندي أعطي الكثير للمسلمين. أعلن نهرو للشعب الهندي اغتيال غاندي، قال: «لقد ذهب النور من حياتنا وانتشر الظلام في كل مكان». كان ذلك نعيا عاطفياً، والحقيقة إن غاندي وتعاليمه لا يزالان أحياء. قال نهرو في كتابه «إن غاندي أحس بالجماهير وعاش مثلما تعيش وتفاعل معها وفقا لحاجتها. لقد عاش فقيرًا ومات فقيرًا ولم يكن له أي منصب رسمي ولكنه ترك للإنسانية في كل مكان مثالاً لحل بعض المشاكل الهامَّة، وبدون استخدام العنف». وقال آينشتين: «إن الأجيال القادمة سوف تشك أن غاندي مشي بقدميه علي أرضنا هذه». إن الحركة القومية الهندوسية التي أودت بحياة غاندي تسمي هندوتفا Hindutva وهي حركة مازالت موجودة بالهند وأصبحت جزءا مهما من النسيج الديمقراطي الهندي. هذه الحركة تُقدِّم وجهة نظر ضيقة للحضارة الهندية ؛ فهي تري العودة بالهند إلي ما قبل غزو المغول الإسلامي. تعتمد تلك الحركة علي التفسير غير المناسب والضيق لكتاب الهند المقدس Vidas والذي كتبه الهنود في القرن الثاني قبل الميلاد، وإن كانت جذوره تعود إلي 1500 سنة قبل الميلاد. تتناسي حركة الهندوتفا سيئات الماضي أو وجود أقليات غير هندوسية والتقدم الذي حصل في العالم في القرون الماضية. هي حركة تشابه الحركات السلفية الإسلامية مع فارق أساسي وهو وجودها في إطار ديمقراطي حقيقي في الهند. إن اليمين الديني موجود الآن في كل دول العالم تقريبًا والخيار إمَّا أن يكون جزءاً من النظام السياسي كما في الهند وبلاد أخري أو أن يكون خارج النظام السياسي كما هو عندنا، وأعتقد أن هذا له خطر أكبر. تأسيس الحركة الهندوسية السياسية يعود إلي Veer Savarakar والذي وضع أسسها في كتاب طبع سنة 1923 . وتعد تلك الحركة أحد الأسباب التي أدَّت إلي انفصال الباكستان حيث خشيت الأقلية الإسلامية من سيطرة الهندوس وقد استغل محمد علي جناح ذلك الشعور ونمَّاه. لم تكن الهندوتفا حركة قوية بل إن أغلب المسلمين المقيمين بالهند اعتبروا أنفسهم هنودَ ولم يتركوها لباكستان إبَّان الاضطرابات والانفصال. عدد المسلمين بالهند الآن حوالي 140 مليونًا، في باكستان 162 مليونًا، وفي بنجلادِش 144 مليونًا. أهم حزب سياسي يمثل الهندوتفا هو حزب Bharata Janata Party أو BJP وهو حزب يتكون من سبع جمعيات أو مؤسسات دينية أغلبها لا يؤيد أعمال العنف ولكن من بعضها خرج مَن اغتال غاندي، ومنها أيضًا خرج من سَبَّبَ اضطرابات للأقليات، وخصوصًا الإسلامية والسيخية. في انتخابات عام 1984 حصل ذلك الحزب علي مقعدين فقط من 534 مقعداً في البرلمان الهندي. في عام 1989 حصل علي 85 مقعداً، عندما رفض حزب المؤتمر أن يؤلف حكومة ائتلافية اشترك حزب BJP في وزارة ائتلافية مع أحزاب الأقلية. الحقيقة أن الوزارة تكونت من حوالي تسعة أحزاب ؛ الأمر الذي حكم عليها بالفشل حتي من قَبل أن تبدأ عملها، ولم تستمر تلك الحكومة إلا 11 شهرًا. بدأ حزب BJP يؤلف وزارات غير مستقرة مع أحزاب الأقليات منذ عام 1996 وحتي عام 1999 حين اكتسب شعبية أكبر وحاز علي 34% من مقاعد البرلمان منفردًا، بينما حصل حزب المؤتمر علي 25% فقط. كوَّن حزب BJP وزارة ائتلافية مستقرة حتي عام 2004 . بدأ الاقتصاد يتحسن وكان معدل النمو السنوي 8% وإن كان حال الفقراء لم يتحسن كثيراً. ومن ناحية أخري كانت هناك بعض المشاكل الطائفية وخصوصًا الموجهة ضد المسلمين. في انتخابات 2004 عاد حزب المؤتمر للحكم في ائتلاف وزاري آخر، وإن كان قد حصل علي 27% فقط من مقاعد البرلمان، بينما حصل BJP علي 25%. استمر الائتلاف الوزاري برئاسة الكونجرس حتي الآن والنمو السنوي للاقتصاد الهندي هذا العام 8.4%، وهي ثاني دولة يتقدم اقتصادها بهذه السرعة بعد الصين. حزب المؤتمر- وهو حزب غاندي ونهرو - فقد الوصاية التي كان يتمتع بها في الماضي حين كان يفوز بأغلبية المقاعد في البرلمان. الحزب الحالي والذي يؤلف الحكومة بتحالف اليسار والتقدميين ترأسه سونيا غاندي زوجة راجيف غاندي، وهي إيطالية الأصل، رئيس الوزراء مونماهان سنج من طائفة السيخ والتي تمثل 2% فقط من تعداد الهند. هذا الحزب ذو النزعة اليسارية وغير الطائفية له مكانة مهمة في الهند ولدية اختيارات أوسع في تكوين حكومات ائتلافية مع أحزاب أخري غير دينية. أما حزب BJP فهو حزب هندوسي ذو نزعة دينية اكتسب الكثير من ثقة الهنود في العشرين عامًا الماضية، كوَّنَ حكومات ائتلافية مع أحزاب غير دينية وأحيانًا غير مستقرة، بعضها يساري النزعة ؛ الأمر الذي اضطر معه الحزب أن يخفف حدته الطائفية. إن وجود التعددية الحزبية في الهند يحد من سيطرة أي حزب ديني وحتي حين ألفت BJP الحكومة لم تحاول أن تتلاعب بالدستور. من أسباب عدم رضاء البعض عن ذلك الحزب هو سببان: الأول وجود بعض العناصر المتطرفة والتي سببت بعض الاضطرابات للأقلية المسلمة في عام 1993 والسبب الثاني هو برنامج الحزب النووي. علي أثر التجارب الذرية في الصين قررت حكومة إنديرا غاندي عمل قنبلة ذرية وفجرت إحداها عام 1974 ولكنها احتفظت بذلك كسِرّ ورأت أنَّ تصاعُد السباق النووي ليس في مصلحتها. عندما وصل حزب BJP للحكم توسَّعَ في البرنامج النووي، وفجَّرت الهند خمس قنابل ذرية مما دعي باكستان لتفجير ست قنابل ذرية. لم يرضَ الكثير من الهنود عن سياسة التصعيد ؛ الأمر الذي قد يكون قد أثَّرَ في انتخابات عام 2004 لغير صالح BJP. إن ديمقراطية الهند معقدة للغاية، فيكفي أن نعرف أن بها 28 ولاية تختلف كثيراً في ظروفها وتوجهاتها السياسية ولها حكوماتها التي تتمتع باستقلالية في شئون كثيرة. إذا أخذنا في الاعتبار مشاكل الهند الطائفية والدينية والاقتصادية نجد أن ديمقراطية الهند معجزة بكل المقاييس، ولكنها معجزة استمرت لأكثر من نصف قرن وأعتقد أنها ستستمر. هناك ملاحظتان عن غاندي وكُلٍّ من فلسطين ومصر لا أعتقد أنهما يرتبطان بموضوع المقال كثيراً أو بشكل مباشر، ولكن قد يهم القارئ العربي معرفتهما. فعن فلسطين كان غاندي متعاطفاً مع معاناة اليهود في أوروبا ولكنه كان ضد ما يحدث في فلسطين. في عام 1938 أدان حزب المؤتمر استعمار اليهود لفلسطين بمساعدة الأوروبيين. ورأي غاندي أن ما كان يحدث في فلسطين أمرٌ غير أخلاقي يجب مقاومته. كان غاندي يميز بين ارتباط اليهود الديني بفلسطين وبين الرغبة في تملكها. لجأ غاندي إلي التفسير المجازي لمقولة أرض الميعاد حيث قال: «لقد أخطا اليهود بتصورهم أن فلسطين (الأرضية) هي المقصودة، إن فلسطين رمز، ومكانها داخل الإنسان اليهودي وليس خارجه». لقد اعتبر غاندي أن خلق إسرائيل هو عمل إرهابي بعينه يجب مقاومته وكان غاندي يفضل أن يلجأ الفلسطينيون إلي الطُرُق السلمية للمقاومة بدلاً من مقابلة العنف بالعنف. إن مبدأ العين بالعين يجعل الجميع عمياناً. في أواخر أيام غاندي وعندما تكوَّنَت إسرائيل قال: «لقد أصبحت قضية من الصعب حلها، لو كنت يهوديا لقلت لليهود إن الإرهاب الذي تستعملونه سوف يضر قضيتكم». لقد اتهم بعض المتطرفين اليهود غاندي (رسول السلام) بأنه يعادي السامية!! أمَّا عن مصر فقد كان غاندي معجباً بالوفاق والترابط بين المسلمين والمسيحيين خلال ثورة 1919 وما بعدها. إلا أن الحقيقة أن المشاكل الطائفية في الهند أكثر تعقيدًا من مشاكلنا في مصر. إنني أعتقد أن بعض الصعوبات بين مسلمي مصر وأقباطها والتي تهب علينا بين حينٍ وآخر ما هي إلا قشور، ولظروف طارئة، فالشعب المصري بتاريخه الطويل به من الرواسب الحضارية ما يجعله متماسكاً تمامًا رغم ما يقول أو يقوم به بعض المتطرفين. المراجع (1)Gandhi's Autobiography Public Affairs Press, Washington, D.C. 1948. (2)Ghandy A Memoir, William L. Shierer, Simon and Schustler, 1969. (3) Rediscovering Ghandi, Yogesh Ghandi, Arrow books Ltd, 1997. (4)Nehru, an Autobiography, Sixteenth Impression, Oxford University Press, 2003 (5) Nehru, A Political Biography Michael Edwards, Praeger Publisher, New New York and Washington, 1972. (6)India after Independence 1947-2000, B. Chandra, M. Mukherjee, A. Mukherjee, Pengiun Books, 2000.ِِِ (7)The Argumentative Indian, Amartya Sen, Penguin Books, 2005.
اكسبت قضية الفلاحين والعمال غاندي شعبية هائلة، أحسَّ غاندي بالضعفاء والفقراء وأحسوا هم به،عاش كواحد منهم، تأكد الفقراء أن غاندي واحد منهم وأنه المدافع عن حقوقهم ولم يكن له مطالب أو مطامع شخصية
كان يوم الإضراب يوماً مشهوداً توقفت فيه المصالح الإدارية وأجهزة الدولة توقفاً يكاد يكون تاماً، وأصبَحَت الحكومة عاجزة عن العمل. بذلك الإضراب اتضحت قوة العصيان المدني للجميع.
قرر غاندي أن يقضي بقية أيام حياته في باكستان، ولكن الأيام لم تمهله ذلك حيث اغتيل يوم الجمعة 30 يناير سنة 1948
هي حركة تشابه الحركات السلفية الإسلامية مع فارق أساسي وهو وجودها في إطار ديمقراطي حقيقي في الهند. إن اليمين الديني موجود الآن في كل دول العالم تقريبًا والخيار إمَّا أن يكون جزءاً من النظام السياسي كما في الهند
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة