الاعتذار عن الماضي.. أو تقشير البصل
أكتوبر 2006
مغالبة الماضي واستحضاره، واستعادة تفاصيله وذكرياته، وإعادة النظر في شخوصه وأفكاره، والاعتراف بما انطوي عليه من انتصارات وهزائم، وما أقدم عليه المرء من
المحـتــوي
مغالبة الماضي واستحضاره، واستعادة تفاصيله وذكرياته، وإعادة النظر في شخوصه وأفكاره، والاعتراف بما انطوي عليه من انتصارات وهزائم، وما أقدم عليه المرء من نزوات أو جرائم في حق نفسه أو في حق الآخرين.. هي جزء من ثقافة الاعتراف وطلب الغفران التي تدعو إليها الأديان، والتي ترجع في الأساس إلي ثقافة التطهر من الآثام والاعتذار عن الماضي.. حيث تصبح عملية التطهر طقسًا فكريا واجتماعيا ودينيا، أشبه بالنزول إلي مياه النهر في بعض العبادات الهندوسية، التي يغتسل المرء فيها من ذنوبه ليعود كيوم ولدته أمه.. أو مثل شعيرة الحج عند المسلمين.
ولعل الأدباء والكتاب هم أكثر الناس خوضًا لهذه التجربة، التي يمتحن الكاتب فيها وجدانه ويستبطن مشاعره وذكرياته كلما أوغل في التفكير والتأمل، واحتك بالأحداث والمتغيرات التي تحيط به. فهو يستمد من أعماق تجاربه الذاتية ما وعته الذاكرة وما نسيته أو تعمدت نسيانه.. ويظل هذا الصراع بين ذكريات وخبرات يحاول أن يتذكرها ويحاول في آن معًا أن ينساها، بحثًا عن نقطة التوازن الداخلي التي تحقق له الاقتناع بأن ما ارتكبه من فعل كان صحيحًا في وقته ومكانه، إرضاء لما يسميه الفلاسفة بالضمير الأخلاقي، أو ما تعتبره الأديان اعترافًا بالذنب طلبًا لمغفرة الذات العلية.
غير أن هذا التفاعل الداخلي سرعان ما يتحول ويتحور في أعماق الأديب أو المفكر إلي مصدر للإلهام الفني والإبداع الأدبي والفكري، الذي يتخذ شكل «السيرة الذاتية». يستعرض فيها الكاتب مراحل حياته وتقلباته، ونجاحاته وانكساراته، وتكوينه وتحولاته، وشذرات كاملة أو مبتسرة من تجاربه الشخصية، تستمد قيمتها الأدبية والتاريخية من عناصر متعددة.. أهم ما يميزها أن تكون علي درجة عالية من الصدق والتلقائية بغير تصنع أو زيف. وأن تلقي علي شخصية الكاتب أو المبدع في نشأته ومجتمعه والحقبة الزمنية التي عاشها من الأضواء والأجواء ما يسهم في فهمها وإدراك أبعادها، وتقييم أحداثها..
إن كاتب السيرة الذاتية، سواء كان أديبًا أو مفكرًا، سياسيا أو علمًا من أعلام عصره، يظل في الحقيقة صندوقًا مغلقًا علي أسرار وخفايا قد لا تتكشف لمعاصريه أو لمن بعدهم، ما لم يمتلك صاحبها من جسارة الروح وشجاعة العقل التي يفض بها مغاليق هذا الصندوق الذي أودعه أسرار طفولته وشبابه، ومجمل حياته، ودقائق تجاربه العاطفية ومشاعره الحميمة. وهو يعلم تمام العلم أنه يقدم نفسه قربانًا للحقيقة، غير نادم ولا عابئ بسهام النقد والتجريح والتشكيك، التي قد تأخذ منه أكثر مما تعطيه، وتظلمه أكثر مما تنصفه، حيا وميتًا.
وقد كانت هذه علي الأرجح هي الحالة التي مر بها الكاتب والأديب الألماني الشهير، الحائز علي جائزة نوبل في الآداب عام 1999، جونتر جراس، أحد كبار الروائيين المعاصرين الذي سيطر علي المشهد الثقافي الألماني طوال سني ما بعد الحرب، ومازال يعتبر أفضل من عبر في كتبه ورواياته ومقالاته ومسرحياته عن الوجدان الألماني بكل آلامه وجراحه، وآماله وأشواقه في أعقاب سقوط النازية واندحارها وهزيمة ألمانيا في الحرب.
فجأة أعلن جراس في اعتراف مثير أحدث صدمة في ألمانيا وفي العالم أنه انضم إلي قوات الحرس الخاص المعروفة بالـ S.S، أشد القوات النازية شراسة وقسوة في عهد هتلر، عندما كان في السابعة عشرة من عمره. وهي فترة وجد نفسه خلالها يتنفس أفكار المثالية الألمانية التي انحرفت تحت وطأة التأثيرات النازية التي سادت في تلك الحقبة. والتي كانت تعلي من روح النظام والجدية والعسكرية، وتبحث عن العبقرية الفردية التي تؤكد قيم العنصرية ونقاء الجنس، وتقدس معاني القوة والتفوق، وهي حقبة ملتبسة، سادت فيها أفكار ونظريات ملتبسة، انتشرت وذاعت في أوروبا والعالم، وأثارت من الجدل والنقاش أمواجًا من العداء والكراهية والحروب التي مزقت أوروبا، وقسمت شعوبها، وأريقت بسببها دماء لم تخلف وراءها غير التعاسة والشقاء.
عندما أعلن جونتر جراس هذه الحقيقة في شهر أغسطس الماضي، ظن الكثيرون أنها مجرد حيلة دعائية وتدافعت الشكوك من كل حدب وصوب.. «إنه علي أهبة نشر كتاب جديد وهو يحاول لفت الأنظار إليه بهذه الخدعة.. إنه أسلوب رخيص لتسويق كتابه». لم يصدق الكثيرون أن مثل هؤلاء المشاهير يمكن أن تكون لهم أخطاؤهم وسقطاتهم، وأن ماضيهم لا يخلو من العثرات والفضائح والأسرار المخزية.
ولكن الذين افترضوا أن يقدم جراس علي اصطناع هذه الحيلة التي يمكن أن تدمر مستقبله ومكانته، لم يدركوا أن إقدامه عليها لم يكن من أجل ترويج كتابه، بل من أجل إنقاذ سمعته وما أنجزه في حياته من مجد أدبي ومكانة أخلاقية شكلت شخصيته ورسمت صورته في أذهان الناس عبر جهد إبداعي شاق متصل، وضعه في مكان الصدارة العالمية.
فقد فرض المناخ الذي ساد ألمانيا بعد الحرب علي كتابها ومبدعيها شروطًا ومطالب، وضعتهم في قلب «أزمة الضمير» الذي كان علي ألمانيا وشعبها أن يواجهها، وهي عقدة الشعور بالذنب إزاء الكارثة التي حاقت بالعالم من جراء إشعال الحرب العالمية الثانية، وظهور النازية التي دمرت أوروبا وأذلت شعوبها وارتكبت فيها من الفظائع والأهوال ما وضع الشعب الألماني في عداد الشعوب المارقة المحكوم عليها بالعزلة والاستبعاد والإقصاء من الجماعة الدولية. ولم يكن بوسع أديب أو مفكر أو سياسي أو أي شخصية عامة أن يلقي أدني قدر من الاعتراف أو القبول حتي علي المستوي الإنساني، ما لم يعلن براءته من هذه الحقبة النازية وإنكاره لأفكارها ومبادئها، وتنصله من كل ما له علاقة بها. ويمكن القول بأن جيلاً أو أكثر من جيل تواري واختفي من الساحة، أو هاجر إلي أصقاع بعيدة في أمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا هربًا من محنة الذل والهزيمة وإلصاق الجرائم والفظائع التي ارتكبت في ميادين الحرب بألمانيا وشعبها. ومازالت جذور هذه الكراهية المشوبة بالخوف والتربص والحذر تلون علاقة ألمانيا بجيرانها وحلفائها حتي هذه اللحظة.
ويدهش المرء إذ يري أنه بعد أكثر من نصف قرن علي مأساة الحرب العالمية الثانية، تغير خلاله العالم تغيرًا جذريا، قامت إمبراطوريات وسقطت إمبراطوريات، ونشأت دول وتفككت دول، وأقيمت تحالفات واندثرت معسكرات،