«تسونامي»، هزة أرضية، الانقلاب الكبير، تلك بعض التعابير التي أطلقت لتوصيف التطورات الدرامتيكية المتلاحقة في الحلبة الحزبية الإسرائيلية التي تفجرت مؤخراً بعد انشقاق رئيس الوزراء الإسرائيلي ارئيل شارون عن حزبه الليكود وإعلانه تشكيل حزب «كاديما». وبالفعل فكما بات واضحاً فقد مثل تشكيل «كاديما» نقطة تحول فارقة في الحياة الحزبية الإسرائيلية تنذر بتهاوي أحزاب وتعاظم أخري، لترتسم معالم خارطة حزبية مختلفة تماماً في الدولة العبرية. لكن السؤال الهام الذي يطرح هنا وبقوة: هل يقابل هذه الانقلابات الكبيرة في الحلبة السياسية الإسرائيلية تحول في المنطلقات الأيديولوجية للأحزاب في الدولة العبرية سيما في كل ما يتعلق بالصراع مع الشعب الفلسطيني والأمة العربية، أم أن هذه الانقلابات - علي أهميتها - لا تعدو كونها مجرد إعادة اصطفاف حزبي لتمتين المواقف الأيديولوجية القديمة عبر إعادة إنتاجها في قوالب جديدة وتحت مسميات حزبية براقة تفرضها محددات العرض والطلب في الساحة الحزبية الإسرائيلية؟؟ إن الإجابة عن هذا السؤال الهام تقتضي التعرض للظروف التي دفعت شارون للمبادرة للإقدام علي ما أقدم عليه، والماكينزمات التي اتبعت في إيجاد «كاديما» من العدم، إلي جانب تفصيل تداعيات تشكيل هذا الحزب علي مجمل الخارطة الحزبية في الدولة العبرية، ومحاولة تفسير هذه التداعيات.
شارون وخيار المضطر
لا يختلف اثنان علي أن الذي فتح الساحة الحزبية الإسرائيلية علي مصراعيها أمام جملة التغيرات الدرامتيكية التي لازالت تتري بدون انقطاع كان تحديداً خطة «فك الارتباط» التي صاغها شارون ونفذها والتي تضمنت إخلاء المستوطنات اليهودية في قطاع غزة إلي جانب أربع مستوطنات نائية في شمال الضفة الغربية. ومنذ أن كشف شارون عن خطته هذه لأول مرة في المؤتمر الذي عقده «مركز هرتسليا متعدد الاتجاهات» في مارس من العام 2003، انبري معظم وزراء و نواب حزب الليكود الحاكم الذي كان يرأسه شارون، وأحزاب اليمين المتطرف بشقيه العلماني والديني، سواء تلك التي كانت مشاركة في الحكومة، أو تلك التي كانت خارجها لمعارضة الخطة. لقد رفض معظم نواب ووزراء الليكود، بالإضافة إلي الأغلبية الساحقة من أعضاء اللجنة المركزية للحزب المسوغات التي قدمها شارون لتبرير «فك الارتباط»، واعتبروها خروجاً عن البرنامج السياسي للحزب المعتمد من قبل اللجنة المركزية للحزب، والذي يرفض إخلاء المستوطنات، ليس هذا فحسب، بل إن نواب ووزراء الليكود اجبروا شارون علي إجراء استفتاء عام في أوساط عشرات الآلاف من منتسبي الليكود، تبين من نتائجه أن أغلبية هؤلاء المنتسبين يرفضون إخلاء المستوطنات، وبالذات إذا كانت عملية الإخلاء تأتي ضمن خطة «أحادية الجانب»، كما كانت عليه الحال في «فك الارتباط». لم تشفع لشارون ولمقربيه تأكيداتهم لنواب الحزب وأعضاء لجنته المركزية أن خطة «فك الارتباط» تأتي لتصفية القضية الفلسطينية ولمنح المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية طفرة هائلة، ولتمكين الدولة العبرية من تحقيق مصالحها الاستراتيجية في أي تسوية سياسية مستقبلية، ولتحسين مكانتها الدولية، ونقل الكرة للساحة الفلسطينية في أعقاب أكثر من خمس سنوات علي انتفاضة الأقصي، التي بدت إسرائيل فيها غير قادرة علي إنهاء مظاهرها بالقوة المسلحة. وفي المقابل اتهم معظم نواب ووزراء الليكود، وكذلك أحزاب اليمين الديني والعلماني شارون بأن الذي دفعه لتقديم مثل هذه الخطة هو محاولته التغطية علي قضايا الفساد التي قامت الشرطة بالتحقيق معه ومع نجليه حولها. الذي فاقم من وقع هذه الاتهامات كان تبني العديد من وسائل الإعلام الهامة لها. علي الرغم من كل ما بذله معارضو خطة «فك الارتباط» داخل الليكود والذين أطلق عليهم «المتمردين» من جهود لإفشال إقرار الخطة داخل الحكومة والبرلمان، إلا أن شارون الداهية استطاع بمناوراته الحاذقة أن يقنع أغلبية أعضاء البرلمان بتأييد الخطة، سيما بعد أن تجند لتأييدها من علي مقاعد المعارضة كل من حزب العمل وحركة «ميريتس» اليسارية. الذي أثار حنق شارون من رفض معظم نواب حزبه للخطة، هو إدراكه لحقيقة التأييد الجارف الذي تحظي به في أوساط الجمهور الإسرائيلي، كما دللت علي ذلك نتائج استطلاعات الرأي العام. لكن حتي بعد أن تم تنفيذ الخطة، وبعد أن حرص شارون علي التأكيد في كل مناسبة علي أنه لا ينوي تنفيذ المزيد من عمليات إخلاء المستوطنات من جانب واحد، ومع أنه خرج عن طوره لاسترضاء جناح المتمردين الذي أصبح يقوده رئيس الوزراء ووزير المال السابق بنيامين نتنياهو، إلا أن هؤلاء واصلوا جهودهم لنزع الشرعية عنه كزعيم لليكود وكرئيس وزراء، والطعن في أهليته لإدارة دفة أمور الدولة. وكانت أول خطوة أقدم عليها المتمردون لإزاحة شارون عن قيادة لحزب والدولة مبادرتهم لتقديم اقتراح للجنة المركزية للحزب يقضي بتقديم موعد الانتخابات التمهيدية لاختيار زعيم جديد للحزب ومرشحه لرئاسة الوزراء في الانتخابات القادمة. قبول الاقتراح كان يعني الإطاحة بشارون وإسدال الستار علي مستقبله السياسي، لأن جميع استطلاعات الرأي العام كانت تؤكد أنه في أي انتخابات تمهيدية تجري في أوساط منتسبي الليكود، فأن نتنياهو سيتفوق عليه. ومرة أخري وبدهاء كبير نجح شارون في إحباط محاولة المتمردين تمرير اقتراحهم بتقديم موعد الانتخابات التمهيدية. بعد فشلهم في ذلك، واصل المتمردون بإصرار مخططهم لإسقاط شارون وذلك عن طريق رفضهم التصويت علي مشاريع القوانين التي تقدمها الحكومة برئاسته، مع العلم أنهم ينتمون للحزب الحاكم، وعلي الرغم من أنه يفترض أن يكونوا ملتزمين بتأييد قرارات الحكومة، كما يقتضي انضباط الكتل النيابية. فقد أعلن المتمردون أن في نيتهم التصويت ضد مشروع موازنة الدولة، الأمر الذي وجد شارون نفسه معه في وضع صعب وحرج للغاية، فحسب القانون الأساسي الذي ينظم عمل الحكومة، فإنه في حال رد البرلمان مشروع الموازنة فإن الحكومة تفقد ثقة البرلمان بشكل تلقائي، ويكون لزاماً علي رئيس الدولة تكليف نائب آخر بتشكيل حكومة جديدة. وللخروج من المأزق لجأ شارون لحزب العمل ونجح في ضمه للائتلاف الحاكم. كان شارون يخطط لبقاء ائتلافه في الحكم حتي قبيل موعد الانتخابات التشريعية المقررة في نهاية العام القادم. لكن حدث ما لم يتوقعه أحد من الساسة ولا من الصحافيين والمعلقين وكل الذين يدعون معرفة بالحراك السياسي والاجتماعي في الدولة العبرية.
ففي الانتخابات التمهيدية التي أجريت لاختيار زعيم جديد لحزب العمل، وبعكس كل استطلاعات الرأي العام، حقق عمير بيريتس رئيس اتحاد نقابات العمال ذو الأصول المغربية انتصاراً ساحقاً علي شمعون بيريس الرئيس المؤقت للحزب، وحليف شارون في الحكومة. وكان أول إجراء أقدم عليه بيريتس هو قراره بفك شراكة بين حزب العمل وشارون في الحكومة. وهذا يعني أن حكومة شارون قد فقدت أغلبيتها في البرلمان، ولم يكن هناك بد أمام شارون إلا أن أعلن عن حل البرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة.
«كاديما»: أيديولوجيا أم توافق مصالح
أدرك شارون أنه لم يعد هناك ما يبحث عنه داخل حزب الليكود، وأقنعه طاقم مستشاريه الذي يطلق عليه «طاقم المزرعة» (الطاقم مكون من نجليه بالإضافة إلي عدد من المستشارين، ويجتمعون به في بيته الخاص في مزرعة الجميز في النقب المحتل، جنوب فلسطين في أوقات متقاربة للتشاور حول خطوات شارون المستقبلية)، بأنه حتي لو ظل شارون في الليكود ووقعت مفاجأة واستطاع التغلب علي نتنياهو في الانتخابات التمهيدية التي ستجري لاختيار زعيم جديد لحزب الليكود، فإن شارون سيظل يواجه نفس المشكلة، حيث إن اللجنة المركزية للحزب التي يسيطر عليها غلاة المتطرفين ستعود لانتخاب المتمردين ليتنافسوا علي قائمة الحزب في الانتخابات، وبذلك يضطر شارون للعودة للتعامل مع نفس نواب حزبه من المتمردين، أي أن بقاءه في الليكود يمثل وصفة للجمود والفشل واستمرار القيود علي حريته في العمل. في نفس الوقت كان شارون مقتنعاً إلي أبعد حد، أنه فقط بسبب قيادته لليكود، استطاع هذا الحزب رفع تمثيله في البرلمان من 19 مقعداً في العام 1999 إلي 40 معقداً في العام 2003، وأن الليكود بدونه سيتحول إلي حزب هامشي. وقد تبين أن قناعة شارون هذه تحديداً كانت في مكانها. وبعد تردد اقتنع شارون بما اقترحه عليه «طاقم المزرعة»، وأعلن عن انسحابه من «الليكود» وتأسيس حزب جديد، أطلق عليه في البداية «المسئولية الوطنية»، وبعد ذلك استقر علي «كاديما»، أي «إلي الأمام»، وبالمناسبة هو نفس الاسم الذي كان يطلق علي حزب موسيليني الفاشي في إيطاليا عشية الحرب العالمية الثانية. شارون أوضح في المؤتمر الصحافي الذي أعلن فيه عن تأسيس حزبه الجديد، أنه ترك «الليكود» بعد أن تحول هذا الحزب إلي حزب «يميني متطرف»، وأنه لا يمكن لهذا الحزب أن يقود الدولة. آلية شارون في تسويق حزبه الجديد كانت بسيطة وذلك عبر الإعلان عن برنامج سياسي مقتضب وفضفاض، لإقناع الجمهور الإسرائيلي بأن حزبه الجديد يمثل وسط الحلبة الحزبية الإسرائيلية، وتتقاطع داخله محاور الإجماع الصهيوني حول القضايا الهامة بالنسبة للدولة ومستقبلها. لقد كان هذا المؤتمر الصحافي حاسماً في تسويق الحزب الجديد، فقد ظهر شارون في مظهر رجل الدولة الذي يرفع مصالح الدولة فوق أي أجندة حزبية وشخصية. لقد استفاد شارون من عاملين هامين في إقناع الرأي العام الإسرائيلي بحزبه الجديد: الأول تجربته كرئيس للوزراء منذ العام 2001 وحتي الآن، حيث دلت استطلاعات الرأي العام في الدولة العبرية علي أن أغلبية الجمهور الإسرائيلي تثق بشارون، سيما في إدارة شئون الدولة الأمنية والسياسية، وأن أحداً من بقية الساسة في اليمين واليسار لا يدانيه في ذلك. الثاني: اقنع شارون الجمهور الإسرائيلي بسهولة أن حزبه الجديد بالفعل يمثل وسط الخارطة الحزبية، بعد مسارعة الساسة من الليكود وحزب العمل وأحزاب الوسط القائمة والأحزاب الدينية والأحزاب ذات الخط الاثني للانضمام للحزب الجديد. وعلي الرغم من أنه كما سيتضح لاحقاً، فأن الذي دفع هؤلاء الساسة للانضمام لهذا الحزب هو الحرص علي مستقبلهم السياسي وضمان مقاعد لهم في البرلمان القادم، اكثر من التوافق الأيديولوجي فيما بينهم.
علي الرغم من كل ذلك إلا أن الجمهور الإسرائيلي بات مقتنعاً أن «كاديما» يمثل «الوسط»، ومحور الإجماع، وكان من الأهمية بمكان بالنسبة لشارون أن ينجح في تكريس انطباع لدي الرأي العام الإسرائيلي بأن حزبه يمثل الوسط، لأن أحزاب الوسط كانت دوماً تحتكر تأييد غالبية الإسرائيليين. وبالفعل فإنه سرعان ما تبين أن الساسة الذين بادروا للالتحاق بـ «كاديما» محقون في رهاناتهم، حيث إن استطلاعات الرأي العام تؤكد أن هذا الحزب الذي نشأ من العدم سيحصل علي أكثر من 40 مقعدًا في البرلمان القادم، مع أن هذا الرقم مرشح للتعاظم، في حين أن حزب الليكود سيتهاوي ليحصل علي 12 مقعداً، بعد أن كان يشغل لوحده 40 مقعدًا، أي ثلث مقاعد البرلمان. لكن بعد قليل من التمحيص يتبين أن مسارعة الساسة من اليمين واليسار للانضمام لحزب «كاديما» لم تكن بفعل البرنامج السياسي للحزب الجديد، بل لحرص هؤلاء الساسة بشكل واضح علي مصالحهم الشخصية وضمان مستقبلهم السياسي. فمثلاً، معظم النواب الذين تركوا الليكود وانضموا لشارون كانوا من النواب الذين لم يكن لديهم أي أمل في الفوز بترشيح الليكود لهم في الانتخابات القادمة في مكان مضمون. وبإمكاننا أن نشير إلي وزير الحرب شاؤول موفاز الذي كان حتي قبل أربع وعشرين ساعة من انضمامه لحزب «كاديما» يهاجم شارون ويتهم حزبه الجديد بأنه يهدد مستقبل الدولة العبرية، و أخذ يشكك في قدرات شارون القيادية ويطعن في الدوافع التي تحركه لاتخاذ القرارات المتعلقة بشئون الدولة. لكن موفاز بعد أن أدرك أنه سيخسر التنافس علي زعامة حزب الليكود، وأن عضو لجنة مركزية هامشيا في الحزب مثل موشيه فايغلين سيحصل علي عدد من الأصوات اكثر منه في هذا التنافس، كما دلت استطلاعات الرأي، فقد تملكه الفزع، وسارع إلي ترك الليكود وانضم لـ «كاديما»، مقابل وعد من شارون له بأن يبقيه في منصب وزير الدفاع في الحكومة القادمة في حال كلف بتشكيلها. وكان تساحي هنغبي، أحد ابرز الصقور في الليكود، وهو الذي خلف شارون في رئاسة الحزب بعد أن انشق عنه، أعلن الانضمام لحزب «كاديما» في اليوم الذي أوصت الشرطة بتقديم لائحة اتهام ضده بسبب أعمال فساد أثناء تبوئه منصب وزير البيئة.
وما ينطبق علي موفاز وهنغبي ينطبق علي الزعيم السابق لحزب العمل شمعون بيريس الذي أعلن انضمامه لحزب «كاديما» فقط بعد أن خسر التنافس أمام عمير بيريتس، وبعد أن تلقي وعداً علنياً من شارون بأن يشغل أي منصب يختاره في الحكومة القادمة. بيريس برر انضمامه لحزب شارون بالقول أن هذه الخطوة «تخدم هدفه لتحقيق السلام»، معتبراً أنه فقط يمكن الاعتماد علي شارون في تحقيق تسوية سياسية مع العرب!! وسائل الإعلام في إسرائيل اعتبرت أن انضمام بيريس لحزب شارون يدل مرة أخري علي أن هذا الشخص لا يعرف الخسارة بشرف. وأجمعت معظم وسائل الإعلام في إسرائيل علي أن حزب «كاديما» يفتقد «التوافق الأيديولوجي» الذي حل محله التوافق المصلحي، وكما قالت صحيفة «معاريف» فإن ما يحدث في الحلبة الحزبية الإسرائيلية في أعقاب تشكيل «كاديما» ليس أقل من «عهر سياسي».
وتساءل عكيفا الدار المعلق السياسي لصحيفة الصفوة «هارتس» قائلاً «أي توافق أيديولوجي يتحدثون عنه برب السماء، كيف يمكن لحزب أن يضم بين صفوفه من جهة شخصًا مثل شاؤول موفاز منفذ عمليات الاغتيال ضد الفلسطينيين، والذي لا يري أنجع من السلاح كوسيلة في التخاطب مع الفلسطينيين والعرب، وهنغبي الذي يعتبر تفكيك المستوطنات خيانة، ومن جهة أخري شخصًا مثل شمعون بيريس، الحاصل علي جائزة نوبل للسلام، والذي يعتبر أن رسالته في الحزب الجديد هو العمل علي تحقيق تسوية سياسية مع الفلسطينيين». الحلبة السياسية في إسرائيل اعتبرت ما قام به شارون يهدد «الديموقراطية» الإسرائيلية. فقال عمير بيريتس زعيم حزب العمل الجديد هذا خطر علي الديمقراطية، هذا وضع تغيب فيه اي معايير للسلوك والأخلاق. شارون يستخدم كل الوسائل لشراء كل القوي في السوق السياسية. الانتهازية والبهلوانية تصبحان معياراً عاديا للسلوك وجزء من ثقافتنا. شارون يقودنا نحو شفا الهاوية. يوجد حد لاستخدام القوة السلطوية. فلهذا الرجل لا يوجد إشارة حمراء، علي حد تعبيره. أما ابراهام بوراز من قادة حزب «شينوي» فقد قال أن شراء شارون للساسة يمثل «مسًا شديدًا جدا بالمبادئ الأكثر أساسية في الأخلاق السياسية، إنه لا يمكن تصديق انه بالإمكان شراء شخص كان رئيساً للوزراء (يقصد بيريس)، أو شخص يتنافس علي قيادة الليكود (يقصد موفاز). واعتبر بوراز أن شارون يستغل موجة النجاح السياسي التي يحظي بها» ليرشو سياسيين كي يفروا من أحزابهم مقابل الحصول علي وظائف في الحزب الجديد. اعتقد أن هذه الظاهرة خطيرة علي الديمقراطية الإسرائيلية «.من ناحيته قال وزير الخارجية سيلفان شالوم والمتنافس علي رئاسة الليكود أن الطريقة التي ينضم بها الساسة للحزب الجديد تعكس «تدهور السياسة الإسرائيلية إلي أماكن ما كنت أرغب في أن أصل إليها. الناس ينتقلون من مكان إلي مكان مثلما يغيرون جواربهم. ذات مرة كانت الأيديولوجيا هي التي تحدد للناس الحزب الذي ينتمون إليه، أما اليوم فالمعيار هو ما يحصل عليه الناس من مغريات». أما جدعون ساعر رئيس كتلة الليكود في البرلمان فقد اعتبر أن الساحة السياسية في إسرائيل قد تحولت بالفعل إلي«سوق تجاري لبيع وشراء السياسيين دون أي عنصر قيمي، بشكل يعرض الديمقراطية الإسرائيلية للخطر». من ناحيتها توقعت وزيرة التعليم ليمور لفنات أن ما يحدث يمثل بداية النهاية للنظام الديموقراطي في الدولة.
تآكل الفروق الأيديولوجية
علي الرغم من كل الظروف التي قادت إلي انطلاق حزب «كاديما»، والانتقادات التي وجهت إليه، إلا أن الحزب يكتسب مع الوقت تأييد قطاعات إضافية من الجمهور الإسرائيلي. فحسب استطلاع للرأي العام تبين أن 60% من مصوتي حزب الليكود و40 من مصوتي حزب العمل و 60% من مصوتي حزب «شينوي» الذي يعتبر حالياً ثالث أكبر حزب في الدولة العبرية يؤيدون حزب «كاديما». من هنا فإنه بات واضحاً أن شارون نجح في تحقيق هدفه في إيجاد اصطفاف حزبي جديد بهدف تمتين وتعزيز الدعم للبرنامج السياسي الذي يؤمن به في التعاطي مع القضية الفلسطينية. شارون من خلال تشكيل «كاديما» يريد إعادة إنتاج مواقفه السابقة وليس تغييرها، وهو فقط يريد محاولة إملاء سياسته في ظل وجود حلبة حزبية اكثر انصياعاً له. تحقيق البرنامج السياسي لحزب «كاديما»، الذي أعلن عنه شارون يعني أيضاً تصفية القضية الفلسطينية. فالبرنامج السياسي لهذا الحزب يقوم علي تنفيذ خطة «خارطة الطريق»، لكن أي خارطة؟ أنها ليست الخارطة التي تبنتها الإدارة الأمريكية ودعمتها اللجنة الرباعية ووافقت عليها السلطة الفلسطينية، علي الرغم مما تتضمنه من فرض تنازلات مسبقة علي الجانب الفلسطيني حتي قبل التفاوض علي تطبيق الخطة. أنها «خارطة الطريق» التي أدخل عليها شارون 14 تعديلاً، لتصبح خطة جديدة.
أن الذي يجعل الأمور أكثر تعقيداً أمام الطرف الفلسطيني بعد الانتخابات الإسرائيلية القادمة وتكليف شارون بتشكيل الحكومة، في حال تحققت استطلاعات الرأي العام، هو أن الإدارة الأمريكية قد تبنت فعلاً التعديلات الشارونية علي الخارطة، وذلك بعد أن أودع الرئيس الأمريكي جورج بوش رسالة الضمانات الشهيرة في يد شارون في 14 مايو من العام الماضي. وتنص هذه الضمانات علي تأييد الإدارة الأمريكية لموقف شارون القاضي بضم التجمعات الاستيطانية الكبري في الضفة الغربية لإسرائيل، إلي جانب دعم إسرائيل في موقفها الرافض للانسحاب إلي حدود الرابع من حزيران للعام 67، ورفض حق العودة للاجئين الفلسطينيين كما تنص قرارات مجلس الأمن الدولي. لكن هذا ليس كل شيء يبشر به حزب شارون الجديد، فهذا الحزب يعد بأن تبقي القدس المحتلة «عاصمة إسرائيل الموحدة غير القابلة للتقسيم». إلي جانب احتفاظ الدولة العبرية بمنطقة «غور الأردن»، إلي جانب مصادر المياه العذبة والمناطق الاستراتيجية في الضفة الغربية تحت السيطرة الإسرائيلية. بكلمات أخري، فإن برنامج حزب شارون الجديد يفترض أن يتنازل الفلسطينيون سلفاً عن حوالي 60% من مساحة الضفة الغربية. ومقابل ذلك يقترح الحزب علي الفلسطينيين الإعلان عن «الكانتونات» الفلسطينية في الضفة الغربية كدولة في حدود مؤقتة. واضح تماماً أن مصطلح «مؤقتة» هو مصطلح مضلل، فهذا الحل الذي يقدمه شارون كحل مرحلي طويل الأمد يهدف في الحقيقة إلي منح الدولة العبرية الفرصة لاستكمال فرض الحقائق الاستيطانية والتهويدية في الضفة الغربية والقدس المحتلة في ظل صمت المجتمع الدولي ومع انعدام أو ضعف الممانعة الفلسطينية.شارون من خلال ذلك يخطط للعب علي عامل الوقت، ويتوقع أن يتولد واقع فلسطيني داخلي يسمح له بإملاء مخططاته السياسية الهادفة إلي إقناع ممثلي السلطة الفلسطينية بالموافقة اقتراح الدولة في حدود مؤقتة. ولا يوجد انسب من ايال عراد المستشار الاستراتيجي لارئيل شارون، اقرب مقربيه والشخص الذي كان له بالغ الأثر في دفعه نحو تشكيل «كاديما»، ليعرف بمرامي هذا الحزب علي صعيد التفاوض مع الفلسطينيين. فعراد أعلن أن حزب «كاديما» يعتبر أن أي تسوية سياسية يجب أن تقوم علي «الفصل الديموغرافي» بين الفلسطينيين والمستوطنين في الضفة الغربية. ويضيف عراد أنه لن تكون هناك مشكلة أمام شارون لو أعلن الفلسطينيون عن دولة في ما يتبقي لهم من مناطق، مع العلم أنه لن يتبقي للفلسطينيين سوي المناطق ذات الكثافة السكانية العالية فقط. أذن شارون في الحقيقة يسعي من خلال حزب «كاديما» إلي إعادة إنتاج مواقف الليكود واليمين بشكل عام. فمعروف أن غالبية اليمين بشقيه العلماني والديني باتت تقبل نموذج الانفصال عن الفلسطينيين ديموغرافيا، وذلك بتقبل إقامة كيان سياسي فلسطيني علي أصغر رقعة ممكنة من الأرض، حتي لو سمي دولة. أن جملة المواقف التي عبر عنها شارون وممثلي حزبه الجديد تبرز مفهوم «الوسطية السياسية» التي يدعي شارون أن حزب «كاديما» يمثلها. لا يكتفي شارون بعرض هذه المواقف المتطرفة، بل إنه يشترط علي السلطة الفلسطينية وقبل الخوض في غمار أي تسوية الوفاء بعدة استحقاقات تكفي لإشعال حرب أهلية فلسطينية. فأولاً يدعي شارون أنه وفق خطة «خارطة الطريق» يتوجب علي السلطة تدمير البني التنظيمية لحركات المقاومة الفلسطينية، وتجريدها من السلاح. ثانياً: القيام بإصلاحات سياسية وأمنية ومالية وفق المعايير الإسرائيلية. ثالثاً: محاربة كل ما تعتبره إسرائيل مظاهر للتحريض ضد الاحتلال سواء كانت في وسائل الإعلام ودور العبادة، إلي جانب إعادة صياغة مناهج التعليم الفلسطينية لـ «تنقيتها» من كل ما يمثل دعوة لمواجهة الاحتلال أو يشكل طعناً في شرعية دولته.
وحتي لا يتولد انطباع خاطئ، فإن حزب شارون لا يطرح خطة أكثر تطرفاً من خطة حزب العمل الذي تتوقع استطلاعات الرأي العام له الحصول علي عدد لا يتجاوز الواحد وعشرين مقعداً في البرلمان القادم. وينحصر الخلاف بين اليمين واليسار حول مساحة رقعة الأرض التي بالإمكان الاستغناء عنها في الضفة الغربية لكي يتم الإعلان عن الدولة الفلسطينية فوقها. وتتقاطع مواقف الزعيم الجديد لحزب العمل عمير بيريتس مع شارون في الكثير من محاور التصور لحل الصراع مع الشعب الفلسطيني. فبيريتس يصر أيضاً علي أن القدس ستبقي «عاصمة دولة إسرائيل الأبدية»، وهو يشدد علي تحمسه لمواصلة تنفيذ المشاريع الاستيطانية التي تستهدف استكمال تهويد المدينة، إلي جانب تمسكه بضم التجمعات الاستيطانية في الضفة الغربية لإسرائيل، ناهيك عن رفض حق العودة للاجئين الفلسطينيين. إذن الحراك الداخلي الإسرائيلي أظهر بشكل لا يقبل التأويل تآكل الفروق الأيديولوجية بين القوتين الرئيسيتين في الساحة الحزبية الإسرائيلية كما تتوقع استطلاعات الرأي العام: «كاديما» و «العمل». ويؤكد الصحافي عوزي بنزيمان، كاتب السيرة الذاتية لشارون، أنه من ناحية فعلية لا يوجد خلاف جوهري بين حزب الليكود وحزب شارون الجديد، ليس فقط في المواقف السياسية، بل في البرنامج الاقتصادي الاجتماعي. ويضيف بنزيمان «إذا ما استمرت توجهات التصويت الحالية، فسيكون ذلك دافعا للتساؤل: هل نشأ في الليكود انشقاق أيديولوجي ذو شأن أم أن الحزب، علي أكثر تقدير، غير الاسم والعنوان فقط». ويري البروفيسور جابي شيفر أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية أنه علي الرغم من أن إعادة الاصطفاف الكبيرة في الساحة الحزبية الإسرائيلية، والصعود الكبير المتوقع لحزب شارون، فإن هذا التطور لا يعني تغيير برامج الأحزاب الإسرائيلية وتحديداً الكبيرة.
خارطة حزبية جديدة
أيا كانت الظروف التي قادت لهذه التطورات فإن موازين القوي الحزبية بعد الانتخابات القادمة ستكون مختلفة تماماً عما هي عليه الآن وبشكل كبير. حيث تتواتر استطلاعات الرأي العام التي تؤكد نتائجها أن الانتخابات القادمة ستشهد انهيار حزبين هامين هما حزب الليكود الذي يشغل العدد الأكبر من مقاعد البرلمان الحالي، وحزب الوسط «شينوي» الذي يعتبر ثالث أكبر حزب في إسرائيل. فبالنسبة لحزب الليكود تتوقع استطلاعات الرأي أن يحصل علي 12 مقعدًا فقط، وهناك من يري أن الحزب قد يتفكك نهائياً قبل الانتخابات في حال واصل قادته انسحاباتهم منه وانضمامهم لحزب «كاديما». اللافت للنظر أنه ليس وزراء ونواب حزب الليكود هم فقط من يتسرب لحزب شارون، بل يفعل ذلك القائمون علي المؤسسات التنظيمية في الحزب، فمثلاً معظم رؤساء أفرع الحزب في المدن الإسرائيلية المختلفة انضموا لـ «كاديما»، ناهيك عن رؤساء البلديات والمجالس المحلية المنتمين لليكود، الأمر الذي يرسم علامة استفهام كبيرة حول قدرة الحزب علي البقاء. وبالفعل فإنه في حال تحققت استطلاعات الرأي فإن حزب الليكود الذي ظل يحكم الدولة العبرية منذ العام 1977 مع فترات انقطاع بسيطة، يوشك علي التحول لحزب هامشي.
وهذا بالضبط ما أدي إلي جدل داخلي يقوم علي الجلد الذاتي، حيث يحمل ما تبقي من كوادر الحزب معسكر المتمردين المسئولية عما لحق به من تراجع في أعقاب إصرارهم علي إقصاء شارون والإطاحة به وإجباره في النهاية علي ترك الحزب.
في الليكود يراهنون علي حدوث مفاجآت تؤدي الي وقف الزخم الذي يواصله حزب «كاديما»، وتوقف التدهور في شعبية حزبهم. وبالنسبة لحزب شينوي بزعامة يوسيف لبيد، فإن استطلاعات الرأي العام تتوقع أن ينهار تماماً. وتتواتر استطلاعات الرأي العام التي تؤكد أن تمثيل الحزب سينخفض من 17 مقعداً في البرلمان الحالي إلي 4 مقاعد فقط في البرلمان القادم. علماء الاجتماع السياسي في إسرائيل يفسرون ذلك بالقول أنه بعد الإعلان عن حزب «كاديما»، فإن حزب «شينوي» فقد تأييد الطبقة الوسطي التي تمثل قاعدته الانتخابية، سيما بعد تراجع الجدل حول العلاقة بين الدولة والدولة، حيث إن برنامج الحزب ومنطلقاته الأيديولوجية الأساسية تقوم علي محاربة الأحزاب الدينية الأرثوذكسية والعمل علي حرمانها من الامتيازات التي تمنح لها لقاء مشاركتها في الحكومات المتعاقبة.
حقيقة أن الأحزاب الدينية الأرثوذكسية لم تكن شريكة في الائتلاف الحاكم الذي انفرط عقده، افقد رسالة «شينوي» للجمهور الإٍسرائيلي مضامين هامة.
أما حزب العمل بقيادة زعيمه الجديد عمير بيريتس فإن استطلاعات الرأي العام تتنبأ له أن يحافظ علي تمثيله الحالي في البرلمان علي الرغم من انسحاب شمعون بيريس منه. ومع إنه استطلاعات الرأي العام بعد الإعلان عن فوز بيريتس بزعامة الحزب قد توقعت أن يزيد الحزب من تمثيله في البرلمان القادم، إلا أن الحزب سرعان ما فقد الزخم بعد إعلان شارون عن حزبه الجديد. ففي البداية ومن منطلق التضامن الجمعي، أبدي الكثيرون من ذوي الأصول الشرقية تأييدهم لحزب العمل بعد أن تبوأ قيادته بيريتس ذو الأصول الشرقية. كما نجح بيريتس القادم من قيادة اتحاد نقابات العمال العامة في البداية بإقناع قطاعات واسعة من الطبقات الضعيفة في المجتمع الإسرائيلي ببرنامجه الاقتصادي الاجتماعي، حيث إن الرجل اكتسب مصداقية خاصة كزعيم نقابي في الدفاع عن الفقراء والعمال. لكن استئناف عمليات المقاومة، سيما العملية الاستشهادية الأخيرة في مدينة نتانيا كان لها بالغ الأثر في إعادة الاعتبار للأمن الشخصي كالقضية الأساسية في الجدل الجماهيري، و تراجع الاهتمام بالجدل حول البرامج الاقتصادية الاجتماعية، وهذا ما استفاد منه شارون وحزبه الجديد الذي يركز علي الأمن. وهناك من يتوقع أنه في حال ساد الهدوء الأمني حتي موعد الانتخابات، فإن بيريتس قد ينجح في إعادة القضايا الاقتصادية الاجتماعية مثل الفقر والبطالة وسياسة الرفاه الاجتماعي وغيرها من القضايا إلي صدارة الجدل العام، الأمر الذي يعني أن الحزب يمكن أن يعزز قوته في البرلمان القادم. وبالنسبة لأحزاب اليمين المتطرف فإن استطلاعات الرأي تتوقع أن تحافظ مجتمعة علي قوتها. ولعل أهم هذه الأحزاب سيكون حزب «إسرائيل بيتنا» بقيادة افيغدور ليبرمان الوزير السابق الذي دعا في حينه إلي قصف السد العالي في مصر والقصر الرئاسي في دمشق، وفرض السيادة علي الحرم القدسي الشريف. وتتوقع استطلاعات الرأي أن يحصل هذا الحزب علي 6 مقاعد، علي الرغم من أن الغالبية الساحقة من مؤيدي هذا الحزب هم من المهاجرين الجدد من الدول التي كانت تشكل الاتحاد السوفيتي سابقاً. في حين تتوقع الاستطلاعات أن يحصل حزب «الاتحاد الوطني» المتطرف علي 5 مقاعد.
أما من ناحية الأحزاب الأرثوذكسية الدينية، فإن استطلاعات الرأي العام تتوقع أن يحدث تآكل طفيف علي تمثيل حركة «شاس»، لتحصل علي 10 مقاعد، مع أن جميع مؤيدي هذه الحركة هم من اليهود المتدينين والمحافظين ذوي الأصول الشرقية، في حين تتوقع استطلاعات الرأي العام أن يزيد حزب «يهدوات هتوراة» الذي معظم مؤيديه من اليهود المتدينين ذوي الأصول الغربية يزيد من قوته ليمثل بستة مقاعد في البرلمان الجديد، بعد أن كان يمثل بخمسة فقط، أما حزب المفدال الديني فسيهبط تمثيله من 6 مقاعد إلي 4. وكما تتوقع استطلاعات الرأي فإن مزيداً من التآكل سيحصل علي تمثيل حركة «ميريتس» اليسارية المعارضة،، حيث من المتوقع أن يهبط تمثيلها في البرلمان من 6 إلي أربعة مقاعد فقط، في حين تحافظ الأحزاب العربية علي قوتها، مع العلم أنها ممثلة في البرلمان بثمانية مقاعد تتوزع علي ثلاثة أحزاب.
لكن علي الرغم من كل ما تقدم فإن هناك استدراكًا هامًا جدًا يتوجب الإشارة إليه هنا. فقد دلت التجربة الإسرائيلية أن الأحزاب التي تتشكل نتيجة انشقاقات عن أحزاب أخري، أو تلك التي ترتبط بنجم، سواء كان قائدًا عسكريا أو سياسيا لامعًا، لا تعمر طويلاً. فمثلاً قد انهار حزب «رافي» الذي شكله رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول ديفيد بن غوريون بعد أن انشق عن حزب «مباي»، وتهاوي حزب «داش» الذي شكله رئيس هيئة أركان الجيش الأسبق يغآل يادين، وتلاشي حزب «ياحد» الذي شكله الجنرال عيزر فايتسمان، وواجه نفس المصير حزب «تسوميت» بقيادة الجنرال رفائيل ايتان. فهل يواجه حزب شارون نفس المصير؟ الآراء هنا متباينة، فهناك من يقول أن شارون في الحقيقة لم ينشق عن «الليكود»، بل قام في الحقيقة بنقل «الليكود» إلي حزبه الجديد، وبالتالي فإن ما ينطبق علي النماذج آنفة الذكر لا ينطبق علي «كاديما». لكن في المقابل هناك من يؤكد أن حزب «كاديما» الذي يتكون من أشخاص ذوي مشارب أيديولوجية مختلفة وأحياناً متضاربة، هو في الحقيقة مرتبط بنجم واحد، هو شارون نفسه، وبالتالي فإنه في حال أخلي شارون الذي يبلغ من العمر 78 عاماً الساحة لهذا السبب أو ذلك، فإن عقد هذا الحزب مرشح للانفراط.
التنافس علي «نجوم» القمع
الذي يتابع الحراك الحزبي داخل إسرائيل عشية الانتخابات التشريعية التي ستجري في مارس المقبل، لا بد أن يلفت نظره تنافس الأحزاب الإسرائيلية، بغض النظر عن مشاربها الفكرية، علي استقطاب أكثر جنرالات جيش الاحتلال وقادة مخابرات الدولة العبرية إمعانا في قتل الفلسطينيين وقمعهم. وكلما اشتهر هذا الجنرال أو ذاك لدي الجمهور الإسرائيلي بسجله الطويل في قمع الفلسطينيين، ضاعفت الأحزاب المختلفة من جهودها لمحاولة استقطابه وإقناعه بالانضمام لقائمة مرشحيها للانتخابات. ويعتبر كل حزب أن أحد أهم العوامل التي تغري الناخب الإسرائيلي بالتصويت لقائمته، هو تضمين هذه القائمة جنرالات جيش وقادة مخابرات اشتهروا بشكل خاص في مجال قمع الفلسطينيين والعدوان علي الأمة العربية. ولا يتوقف هذا الحرص علي أحزاب اليمين العلماني واليمين الديني، بل يتعداه لأحزاب الوسط واليسار. ويعتبر حزب شارون الجديد الذي أطلق عليه «للأمام» هو أكثر الأحزاب التي حاولت استقطاب الجنرالات المرتبطين بقمع الشعب الفلسطيني بشكل خاص، بل إن شارون لا يفوت كل مناسبة، إلا ويؤكد أنه قام بضم هؤلاء الجنرالات لحزبه بسبب الانطباع «الجيد» الذي تركوه لدي الجمهور الإسرائيلي بسبب ما قاموا به من جرائم ضد الشعب الفلسطيني والأمة العربية. وقد خرج شارون عن طوره من أجل دفع افي ديختر الرئيس السابق لجهاز المخابرات الداخلية المعروف بـ «الشاباك» للانضمام لحزبه. وغني عن القول أنه لا يوجد في الدولة العبرية شخص ارتبط اسمه بجرائم القمع ضد الشعب الفلسطيني اكثر من ديختر، سيما خلال انتفاضة الأقصي. فديختر لا يفوت فرصة دون التباهي بما يعتبره أهم «إنجازاته» وهو تكريس عمليات الاغتيال لتكون أهم مركب في الجهد الأمني الصهيوني في مواجهة حركات المقاومة. بل أن ديختر يحرص علي تذكير كل من يستمع إليه بدوره في تطوير الوسائل المعتمدة في تنفيذ عمليات الاغتيال، سيما توظيف الطائرات بدون طيار في تنفيذ عمليات الاغتيال. ليس هذا فحسب، بل أن ديختر لا يتردد في الاعتراف بأنه يتلذذ في رؤية الأطفال الفلسطينيين وهم يعانون من القمع الإسرائيلي. وقد «طمأن» شارون جمهوره إلي أن ديختر سيحتل منصباً أمنياً في الحكومة التي سيشكلها بعد الانتخابات. وحسب استطلاعات الرأي ذات الدلالة في عكس توجهات المجتمع الإسرائيلي، فإن ديختر هو الأكثر شعبية في أوساط مؤيدي حزب شارون الجديد. والي جانب ديختر انضم لحزب شارون جدعون عيزرا النائب الأسبق لرئيس «الشاباك»، والذي يطلق عليه في إسرائيل «رئيس محكمة العالم السفلي»، بسبب ارتباطه بعمليات الإعدام الميداني التي قامت بها المخابرات الإسرائيلية ضد نشطاء حركات المقاومة الفلسطينية بعد وقوعهم في الأسر واستسلامهم. وعيزرا هو الذي نادي بقتل ذوي منفذي العمليات الاستشهادية علي اعتبار أن هذا عامل ردع يمكن أن يساهم في وقف العمليات الاستشهادية. وأخيراً انضم للحزب وزير الحرب شاؤول موفاز الذي يؤكد للجمهور الإسرائيلي أنه بإمكانه أن يركن إليه في «تأديب» الفلسطينيين والعرب. والي جانب كل من ديختر عيزرا وموفاز، هناك العديد من الجنرالات الذين سطروا سجلاً طويلاً من الجرائم ضد الشعب الفلسطيني والأمة العربية. وهنا علينا أن نذكر أن جميع استطلاعات الرأي العام في الدولة العبرية تؤكد أن ثقة الجمهور الإسرائيلي بشارون لإدارة دفة الأمور، ترجع بشكل أساسي إلي ارتباط شارون شخصياً بعدد كبير من الجرائم ضد العرب والفلسطينيين. في المقابل يتباهي حزب الليكود الذي انشق عنه شارون بأن عدداً من قادته، هم من الجنرالات ذوي الباع الأطول في ارتكاب الجرائم ضد الشعب الفلسطيني. ولعل ابرز مجرمي الحرب هؤلاء هو الجنرال إيهود ياتوم، الذي كان من قادة جهاز «الشاباك»، ويؤكد ياتوم في كل مقابلة صحافية أنه قام في العام 1981 بتحطيم جمجمتي مقاومين من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعد إلقاء القبـــــض عليهمــا واستسلامهما له. ولا يتوقف ياتوم عن التنظير لطريقته هذه في محاربته المقاومة الفلسطينية، دون أدني اعتبار للقانون الدولي الذي يحرم قتل الأسري بعد استسلامهم.
وما ينطبق علي حزب شارون والليكود ينطبق علي حزب العمل «اليساري» الذي يحاول زعيمه الجديد عمير بيريتس التخلص من صورة «اليساري» التي علقت به، ويشدد في كل مناسبة علي أن التجربة دلت علي أن حكومات اليسار في إسرائيل هي الأكثر قدرة علي محاربة المقاومة الفلسطينية والقضاء عليها. من هنا نجد أن بيريتس يتباهي أن إلي جانبه في قيادة حزب العمل الجنرال داني ياتوم (شقيق ايهود ياتوم)، وهو الرئيس الأسبق لجهاز «الموساد»، الذي في عهده تمت محاولة اغتيال خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في العام 1997، إلي جانب المئات من الجرائم التي قام بها «الموساد»، مع العلم أن داني ياتوم كان يشغل قبل ترؤسه «الموساد» منصب قائد المنطقة الوسطي في جيش الاحتلال. وبحكم موقعه هذا قام ياتوم في العام 1994 بالرد علي مجزرة الحرم الإبراهيمي الشريف التي نفذها المجرم باروخ جولدشتاين وراح ضحيتها 29 فلسطينياً أثناء أدائهم صلاة الفجر في الحرم، بسجن عشرات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين في المدينة في منازلهم لأكثر من أربعين يوماً، في حين ترك سوائب المستوطنين يعيثون الفساد في شوارعها، وكأنه يكافئهم علي المجزرة. لكن أكثر ما يفخر بيريتس بانتسابه لحزب العمل هو الجنرال عامي ايالون، أحد رؤساء جهاز «الشاباك» السابقين، وقائد سابق لسلاح البحرية، الذي اعترف مؤخراً بأنه شخصياً قتل من العرب والفلسطينيين أكثر مما قتلت حركة حماس من اليهود. والي جانب كل من ياتوم وايالون هناك الجنرالان بنيامين بن اليعاز وافرايم سنيه اللذان تعاقبا علي قيادة قوات الاحتلال في الضفة الغربية، وهما يفخران بأنهما كانا صاحبي الدور الأكبر في تدمير بيوت المواطنين الفلسطينيين، ويقران أنهما كانا يتواطآن مع المستوطنين في مصادرة أراضي الفلسطينيين لبناء المستوطنات في أرجاء الضفة الغربية.
إن الجهود التي تبذلها الأحزاب الإسرائيلية في سعيها لاستقطاب جنرالات الجيش وكبار قادة المخابرات الذين اشتهروا دون غيرهم بدورهم في عمليات القمع له ما يبرره بالنسبة لهذه الأحزاب. وهذا التوجه ليس نابعًا فقط من عملية «عسكرة» السياسة الإسرائيلية المتواصلة منذ قيام الدولة العبرية، بل أيضاً بسبب إدراك هذه الأحزاب للتوجهات المتطرفة والعنصرية للجمهور الإسرائيلي تجاه العرب والفلسطينيين. فالناخب الإسرائيلي يثق بمثل هؤلاء الجنرالات لأن لهم باعًا طويلاً في «تجريع العدو العربي كؤوس المنون»، لذلك لم يكن مفاجئاً أن يحرص إيهود باراك عندما تنافس في العام 1999 علي رئاسة الوزراء أمام بنيامين نتنياهو علي تذكير الناخب الإسرائيلي بالفرق بينه وبين نتنياهو. فقد قال باراك حينها «لقد كنت اشعر بالسعادة عندما كان يتطاير بياض عيون الفلسطينيين والعرب الذين كنت أقوم باغتيالهم عبر تسديد رصاصة في الرأس». إن تهافت الأحزاب الصهيونية علي اجتذاب «نجوم ومقاولي» عمليات القمع يكشف الوجه الآخر لهذه الدولة وهذا المجتمع القائم علي العدوان والجرائم.
تشكيل «كاديما» نقطة تحول
فارقة في الحياة الحزبية الإسرائيلية
تنذر بتهاوي أحزاب وتعاظم أخري، لترتسم
معــالم خارطـــة حزبية مختلفــة
تماماً في الدولة العبرية.
جدعون ساعر رئيس كتلة
الليكود في البرلمان فقد اعتبر أن
الساحة السياسية في إسرائيل قد تحولت
بالفعل إلي«سوق تجاري لبيع وشراء السياسيين
دون أي عنصر قيمي، بشــكل يعرض
الديمقراطية الإسرائيلية للخطر».
شارون من خلال تشكيل «كاديما»
يريد إعادة إنتاج مواقفه السابقة وليس تغييرها،
وهـو فقـط يـريد مـحاولة إملاء سـياسته في
ظل وجود حلبة حزبية اكثر انصياعاً له.