ما جـري وما يجري وما العمل؟



لم ينجح شارون، ولم تنجح إسرائيل فى عدوانها، بإحداث تغيير جدى فى الأوضاع السياسية والأسئلة السياسية المطروحة والمتعلقة بالاحتلال الإسرائيلى للأراضى العربية منذ العام 1967. ومع ذلك يسود شعور عام بنشوء مرحلة جديدة تعيشها المنطقة، والقضية الفلسطينية بشكل خاص. نقول هذا رغم أن الهدف السياسى من عدوان شارون كما نفهمه هو تغيير أجندة المفاوضات السياسية بحيث لا تشمل قضايا لا حل لها بنظره، مثل القدس واللاجئين والاستيطان. والهدف أن تتمحور هذه المفاوضات السياسية حول أجندة الكيان الفلسطينى، مساحته، صلاحياته، علاقاته مع العرب ومع إسرائيل والتزاماته الأمنية بالطبع. فى هذا السياق طرح شارون موقفه "المؤيد" لقيام دولة فلسطينية. وقد صوت حزب الليكود يوم 12مايو 2002 ضد موقفه هذا لأسباب متعلقة بالصراع على النفوذ داخل هذا الحزب، وضيق بذلك هامش مناورته الدولى. وقد وجد شارون أصلا صعوبة فى ترجمة عدوانه إلى إنجازات سياسية ولا حتى باللغة الأمريكية، ناهيك عن الأوروبية. ولكن هذا الموقف الليكودى الذى خلط التعنت الأيديولوجى بالمزايدة الحزبية الداخلية كشف أيضًا عن الهوة الكبيرة الفاصلة بين الاعتبارات العربية والإسرائيلية فى المبادرة والتحرك السياسى. هكذا اتضح أنه عندما كان العرب يعدون لمبادرة سلام عربية عشية قمة بيروت ترضى الولايات المتحدة كانت إسرائيل تعد للعدوان على الشعب الفلسطينى، مجتمعًا وسلطة. وعندما اجتمع قادة المثلث العربى المهم فى شرم الشيخ لإصدار بيان يؤكد الرغبة فى السلام ونبذ العنف، أصدرت لجنة الليكود المركزية قرارًا يعارض الدولة الفلسطينية حتى بالتفسير الشارونى. باشرت الحكومة الإسرائيلية بعد اسبوعين من العدوان بترتيب إنجازاته السياسية التى يتوجب أن تقدمها للمجتمع الإسرائيلى الذى دخل فى حالة "ترانس" أو "اكستازا" من نشوة لا بد لحكومة إسرائيل أن تقولبها وأن تحولها شعورياً الى نشوة انتصار. ومن هنا أهمية اعتقال مروان البرغوثى الرمزية والقضاء بكل ثمن على جيوب المقاومة فى جنين ونابلس، ومن هنا إصرار شارون على اعتقال من تدعى إسرائيل أنهم على علاقة باغتيال زئيفى. يجب أن يبرر شارون بداية الحرب ونهايتها بـ"إنجازات" عينية يعرضها على المجتمع الإسرائيلى، وربما أيضا على الولايات المتحدة. فحتى شارون لا يستطيع الاكتفاء بالحالة الشعورية الهستيرية لتبرير ما قام به. عليه أن يبرر ويفسر ويشرح. وإذا كانت المهمة المعلنة للحرب هى "القضاء على البنية التحتية للإرهاب" فعليه أن يظهر ولو بالديماجوجية كيف تم ذلك. ويحاول شارون أن يعرض "الإنجازات" بلغة مفهومة أمريكياً من تراث العدوان الأمريكى على الشعب الأفغانى بشكل يبرر العدوان الإسرائيلي: ضرب البنى التحتية (يقابله ضرب معسكرات التدريب فى أفغانستان)،اعتقال الآلاف (يقابل معتقل جوانتنامو)، اغتيال وإعدام الأسرى والمعتقلين المناضلين (يقابله بن لادن مطلوب حياً أو ميتًا). قد تجد إسرائيل مقابلا أمريكيا لقصف المدنيين ولكنها لن تجد مقابلا للنزعة التخريبية لجنودها ولسرقة الممتلكات ولمنع العلاج عن الجرحى. والأهم من ذلك كله أن إسرائيل لن تستطيع أن تختزل الموضوع الفلسطينى إلي"مسألة إرهاب"، ولا حتى فى الولايات المتحدة ذاتها. وذلك لوجود حالة اسمها الاحتلال والاستيطان. قد لا يفهم الرأى العام الأمريكى ما يفهمه الرأى العام الأوروبى عن حالة الاحتلال الكولونيالى، وقد يعتبر الاستيطان كلمة ذات دلالات إيجابية تذوقها المواطن الأمريكى من الذاكرة الجماعية حول تاريخه وتاريخ بلده الاستيطانى كما نقلت إليه عبر برامج التدريس والأفلام والأغانى. ولكن المواطن الأمريكى يفهم كلمة التمييز العنصرى والأبارتهايد، كما يفهم مطالب ديموقراطية من نوع حق تقرير المصير والانتخابات الحرة، وهكذا. وكلها مطالب يناضل الفلسطينى من أجلها. سيكون من الصعب بل المستحيل إلغاء الحق الفلسطينى أو تهميشه كقضية إرهاب حتى فى الولايات المتحدة ذاتها. ويصح هذا، كما يصح غيره من آفاق العمل السياسى، إذا ما طور الفلسطينيون ـ كحركة سياسية ومجتمعية وكحركة تحرر، وبشكل لا يحتمل التأجيل ـ الاستراتيجية اللازمة للتعامل مع الوضع الجديد الذى نشأ بعد العدوان الإسرائيلى الأخير والشامل، خاصة بعد أن دفع شارون بسياسات القوة إلى حدودها القصوى، وكشف بذلك عن حدود سياسة القوة. من هنا ننطلق إلى مستقبل النضال الفلسطينى بالبناء على ما حصل، ولكى لا نبدأ من الصفر. فى خضم النقاش حول جرائم الحرب التى ارتكبتها إسرائيل فى جنين ونابلس وأثناء اجتماع عرفات مع باول يوم الأحد 14ـ4، أقرت الحكومة الإسرائيلية اقتراح شارون وجيشه إقامة مناطق عازلة كثيفة التواجد العسكرى بمظاهر فصل مادية حادة على الأرض حول المدن الفلسطينية القريبة من الخط الأخضر: طولكرم وجنين والقدس. وإضافة لحملة الاعتقالات الواسعة الهادفة إلى ضبط النضال الفلسطينى والتحكم به يشكل قرار الحكومة الإسرائيلية يوم 14 أبريل الماضى بالفصل الديموجرافى الأمنى فى مناطق جنين وطولكرم والقدس نقطة فصل وتحول بين ما قبل العدوان وما بعده. لأنه يشكل بداية علنية لنظام الأبارتهايد المزمع إقامته فى فلسطين. لقد أعلن شارون فى جلسة الحكومة أن الخطوط التى سيرابط على طولها الجيش الإسرائيلى ليست حدوداً سياسية. الأمر الذى يؤكد أن القرار الحكومى الإسرائيلى ليس بداية لانسحاب من طرف واحد وإنما هو إقامة لنظام أبارتهايد من الفصل العنصرى الديموجرافى كحقيقة واقعة وبدون صفة دستورية أو رسمية. فما دام شارون لا يجد شركاء فلسطينيين للتفاوض حول " مرحلة انتقالية طويلة المدي" فإنه سيفرض هذه المرحلة من طرف واحد. وأى تعديل على هذا الفرض الإسرائيلى سوف يتطلب توجها فلسطينيا للتفاوض عليه، الأمر الذى سيتكفل تدريجياً وبفعل متطلبات الحياة اليومية بفرض أجندة مفاوضات جديدة لا تدور حول القدس أو اللاجئين أو المستوطنات أو الحدود بل حول شروط وظروف التعايش فى ظل الظرف الانتقالى المفروض. وإذا ما رغب الفلسطينيون بتطوير المفاوضات سياسيا مع إسرائيل، فسوف تدور المفاوضات حول الكيان السياسى الفلسطينى وحدوده وطبيعة علاقاته مع إسرائيل. فقط فى هذه الحالة تنسحب إسرائيل إلى حدود سياسية متفق عليها، ولو كمرحلة انتقالية، ولا علاقة لهذه الحدود بقضايا الحل الدائم وأوسلو. لقد كان قرار مجلس الأمن بضرورة انسحاب القوات الإسرائيلية من المدن التى اجتاحتها قرارًا ناقصًا وعاجزًا فإسرائيل سوف تخرج منها بغض النظر عن هذا القرار وعن "الضغط الأمريكي"، لأنها لا تريد ولا ترغب بإدارة حياة السكان. والأهم من ذلك أنها تريد الحفاظ على وضع يمكنها من العودة لتنفيذ تفتيش أو اغتيالات متى شاءت وأينما شاءت وضمن معايير جديدة من التجاهل و"التمسحة" تجاه هذه الممارسات الإسرائيلية. ولكن جرائمها يجب ألا تمر بغير عقاب، ويكمن التحدى السياسى فى تحويل "انسحابها" نحو الحصار والجريمة المنظمة إلى بداية المعركة ضد نظام الأبارتهايد. فتجلى "الانتصار" الإسرائيلى على قرى الفلسطينيين ومدنهم ومخيماتهم، يكون برأى شارون ورئيس أركانه بفرض شروط إسرائيلية من طرف واحد على الأرض دون مفاوضات، أهم هذه الشروط المادية التى تفرض على الأرض هى هذه العوازل الأمنية بعرض مئات الأمتار وحتى خمسة كيلو مترات، والتى تحول التجمعات الفلسطينية إلى معازل خلف أسلاك شائكة وحواجز وأسوار. فى ظل هذا الأبارتهايد تتحول المناطق (أ) التى كانت تحت مسؤولية السلطة الفلسطينية الأمنية إلى مناطق (ب) بمسؤولية أمنية إسرائيلية تدخلها إسرائيل متى شاءت و"عند الحاجة"، إلا إذا "تعاون" الفلسطينيون أمنيا مع إسرائيل. وتشكل إقامة نظام الأبار تهايد من الفصل العنصرى المحكم إضافة إلى هذا النظام أو التشكيل الأمنى الجديد الترجمة العملية، هدف هذه المهمة العسكرية العدوانية الحقيقى. لقد نشأ وضع جديد بعد العدوان الإسرائيلى الأخير، وليس الآن الوقت لمناقشة خلفيات هذه الحالة الجديدة والاستراتيجيات الفلسطينية، أو انعدامها، فى المرحلة السابقة وما يهمنا الآن هو تشخيص طبيعة المرحلة القادمة رغم وعبر هذا الدمار المخيف. لا الحالة انتصار فلسطينى، معنوى أو مادى، ولا الحالة قريبة من الترانسفير، الذى يحوله بعض الندابين إلى موضوع طبيعى للنقاش. ولا يجب أن يطرح مثل هذا الموضوع كأنه إمكانية وسيناريو من ضمن إمكانيات عديدة، بل كأنه آخر الدنيا، وليس فقط للفلسطينيين. سمات الوضع الجديد: 1ـ حالة الفصل العنصرى المقبلة، ويتطلب التعامل معها استراتيجيات نضالية موحدة ذات طابع وطنى ديموقراطى يميز حركة تحرر وطنى تناضل من أجل العدالة والمساواة ضد العنصرية والاستيطان الكولونيالى والقمع والعنف الاحتلالى المستخدم. هذه استراتيجية تتضمن المقاومة لجعل حالة الاحتلال ذات ثمن للاحتلال ولكن بشكل يمكن المجتمع الواقع تحت الاحتلال من احتمال هذه المقاومة على المدى البعيد. 2ـ تحول أمريكا من حليف إسرائيل فى الصراع إلى طرف فيه. وهذا يعنى أنه من غير الممكن الاعتماد على هامش استقلال فى الموقف الأمريكى تلعب فيه دور وسيط منحاز لصالح إسرائيل. وتحول أمريكا إلى طرف لا يعنى أن الخيارات يجب أن تتراوح بين مواجهة شاملة معها من ناحية او توسلها من ناحية أخرى، وإنما يجب أن يعنى هذا عدم توقع إنجازات من الاستراتيجية الدبلوماسية الأمريكية القائمة. يجب مواجهة الموقف الأمريكى سياسيا خارج وداخل الولايات المتحدة فى المجتمع الأمريكى أيضا. وهذا لم يتم حتى الآن فقد انتقلت منظمة التحرير الفلسطينية من النضال من أجل اعتراف أمريكى إلى توسل الهامش الدبلوماسى الأمريكى المستقل عن التحالف مع إسرائيل فى المفاوضات. 3ـ تكشف عجز الحالة العربية الرسمية بشكل فاضح. فكل ما صدر رسميا عن الدول العربية أثناء هذه الحرب ورغم كل الجعجعة هو اجتماع لوزراء الخارجية العرب يوم 6 أبريل أقر التوجه لمجلس الأمن بغرض طلب فرض عقوبات على إسرائيل بموجب الفقرة 7 من ميثاق الأمم المتحدة التى تلزم بتنفيذ قرارات مجلس الأمن، ثم ما لبثوا أن تراجعوا عن قرارهم. هذا كل شيء. عن هذا تمخضت الحالة السياسية العربية. المسؤول العربى متعاطف مع الفلسطينيين وحاقد عليهم فى الوقت ذاته لأنهم يكشفون له عن عجزه. ويضطرونه إلى إحراج ذاته وإحراج الولايات المتحدة لو أراد أن يرخى لتعاطفه العنان، ولو أراد أن يتفاعل مع مزاج شعبه السياسى. قد يدفع هذا الشعور إلى التآمر مع الولايات المتحدة إذا كان من غير الممكن أو المرغوب مواجهتها. 4ـ وضوح قوة الحالة الشعبية العربية وتعاطفها مع القضية الفلسطينية ولو بدون قيادات سياسية مبلورة، ويتضح أيضا أن هذا العامل الشعبى العربى يشكل ضاغطا أساسيا على حكومات المنطقة وعلى اعتبارات الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن القضية الفلسطينية الحية فعلا فى ضمير الأمة تكاد تتحول بالنسبة للحالة الشعبية العربية إلى سياسة هوية وإلى تأكيد على الهوية العربية، وترجمة المعاناة والتناقضات إلى اللغة الفلسطينية المشروعة الموجهة ضد الآخر، الإسرائيلى، بدلا من النظام الحاكم. 5ـ ضغط أمريكى على الدول العربية الحليفة لتلعب دورًا أكبر فى "ترشيد" القيادات السياسية الفلسطينية المختلفة. ورغم تورط الولايات المتحدة فى العدوان الإسرائيلى وتواطئها معه، إلا أن إسرائيل لم تظهر تفهما لحاجات الولايات المتحدة الأمريكية بعده وأثناءه. ولم تعر إسرائيل نداءات بوش أى اهتمام، كما لم تستعجل أية مهمة تفهما لحرج الولايات المتحدة مقابل حلفائها من الأنظمة العربية. ولم تكتف إسرائيل بذلك بل أوفدت رؤوس الكونجرس من ديموقراطيين وجمهوريين للتأثير على رئيس الولايات المتحدة ليس فقط لصالح العدوان الإسرائيلى، بل أيضا لمساعدة إسرائيل أن تحصد نتائجه السياسية. ولم يكتف شارون بصمت كولن باول فى المؤتمر الصحفى فى القدس أثناء زيارته المكوكية للمنطقة بعد العدوان، وامتناعه عن التعبير حتى عن الموقف الأمريكى العلنى من الانسحاب الإسرائيلى من المدن الفلسطينية، بل تجاوز ذلك إلى طرح تصوره للأبارتهايد كرؤية سياسية يتمخض عنها العدوان. لم يجد باول فكرة سياسية إسرائيلية واحدة ذات قيمة يتقدم بها للفلسطينيين أو للعرب. ودون ذلك لا يستطيع باول، ولا حتى بمساعدة بعض العرب، إقناع الفلسطينيين بمناقشة موضوعات وهمية مثل وقف إطلاق النار (بين من ومن؟)، أو إعطاء تأكيدات حول "مكافحة الإرهاب" فى المستقبل. لم تتبن السلطة الفلسطينية أثناء العدوان وحتى اليوم المقاومة كخيار استراتيجى، ولكنها مع ذلك لا تستطيع أن تفاوض بتعابير مثل "وقف إطلاق النار"، أو ضرورة "مكافحة الإرهاب". ويبدو أن إسرائيل والولايات المتحدة كانتا "تطبخان" معادلة ما، تمكن الإسرائيليين من الادعاء أن فى حوزتهم، بعد أن "أنجز" العدوان ما "أنجز"، جوابا سياسيا على المبادرة العربية للسلام من قمة بيروت، عندما قام نتنياهو بإحباط هذه المحاولة. لقد استنتجت الإدارة الأمريكية الحالية من فشل الإدارة السابقة فى كامب ديفيد أن السبب يعود جزئيا إلى عدم منح الدول العربية دورًا كافيا فيه وفى الإعداد له، وأن القيادة الفلسطينية لا تستطيع وحدها، دون سند عربى واسع،التوصل إلى تسوية على قضايا كبرى مثل القدس واللاجئين. وتحاول إسرائيل استغلال هذا الاستنتاج الأمريكى لاقتراح مؤتمر إقليمى للسلام. ويعتبر المزاج السياسى العربى عموما النموذج العربى ـ الدولى المشترك للتفاوض أفضل من المسارات المنفردة وتناقضاتها، ولذلك يبدو اقتراح شارون وكأنه تبنٍّ لاستنتاجات الإدارة الأمريكية الحالية بما يتوافق مع المزاج السياسى العربى. ولكن اقتراح شارون ليس اقتراحا لمفاوضات سلام بل لحوار عربى إسرائيلى بعد العدوان، أى بعد أن يتذوق العرب نتائج العدوان وسياسة القوة الإسرائيلية. ويشترط شارون استثناء عرفات، الأمر الذى يعنى تقبل العرب أهداف العدوان الإسرائيلى الأخير كحقائق ناجزة. كما لا يقبل شارون مبادرة السلام العربية أساسا للمؤتمر الإقليمى الذى يقترح، وهو بالتالى مؤتمر غير ملزم للحوار وليس للتوصل إلى تطبيق شروط تسوية متفق عليها. والأنكى والأمر أن المؤتمر الدولى لا يدعو سوريا ولبنان للمشاركة، وذلك لتتحول هذه إلى مطالب. فإذا استهجن البعض عدم دعوتهما تصبح الدعوة إنجازا. لقد أحسنت سوريا ولبنان صنعا بعدم الرد إطلاقا على موضوع المؤتمر، دلالة على عدم أخذ هذه الفكرة بجدية، وحتى دون انتقاد تغييبهما لئلا يفسر ذلك كمطلب. كما أن الرد العربى فى قمة شرم الشيخ على اقتراح المؤتمر الإقليمى بالتمسك بمبادرة بيروت يعنى عدم قدرة إسرائيل على فرض الهزيمة على العرب. لقد ولد هذا الاقتراح بتشويهات حادة وتحاول الولايات المتحدة إحياءه بالتنفس الاصطناعى. ولكن قرار مؤتمر الليكود ضد دولة فلسطينية يعرقل هذه المحاولة. فى ظل المعطيات الحالية يبدو أن الاقتراح المادى والملموس الوحيد الذى يواجهه الشعب الفلسطينى هو اقتراح الأبارتهايد، ويجب أن تقابله سياسات مقاومة ملموسة ذات استراتيجية موحدة. يتطلب واقع الأبارتهايد فى حالة فرضه برنامجًا سياسياً واستراتيجية مقاومة موحدة مشتقة منه. هذه الاستراتيجية وحدها قادرة أن تستثمر حتى التضحيات الأخيرة التى تمت فى غيابها، فهى قادرة أن تبدأ بشن الحملة على إسرائيل كدولة أبارتهايد كولونيالى تعج بمجرمى الحرب الذين يجب محاسبتهم. ليست الأولوية الآن للمعركة الدبلوماسية بل لمعركة شعبية تشن عالميا وفى العالم العربى بلغة ديموقراطية مفهومة ضد مجرمى الحرب الإسرائيليين. هذه المعركة كفيلة بنشر المزاج السياسى اللازم لاستقبال المعركة السياسية والدبلوماسية القادمة ضد نظام الأبارتهايد. مع شارون بلغت سياسة القوة الإسرائيلية حدودها، والعمل السياسى الفلسطينى والمقاومة الفلسطينية بعدها إذا كانت محكومة باستراتيجية هى ربح صاف للفلسطينيين وخسارة لإسرائيل. علام نتناقش؟ منذ فك الحصار عن مكتب الرئيس الفلسطينى يدور فى المجتمع الفلسطينى نقاش حى يتوقع من شعب حى، وقد انتشرت حالة النقاش انتشار النار فى الهشيم فلم تترك حارة ولا منتدى ولا صحيفة إلا وتملكتها. هنالك حمى من النقاش والنقد والنقد الذاتى تذكر بما بعد أيلول 1970 وما بعد لبنان 1982 وما بعد أوسلو. فهل نحن أمام "ما بعد" أخرى لا يأتى بعدها جديد؟ وهل تستطيع القوى القائمة أن تأتى بجديد. ولأن النقاش يدور فى حلقات متوازية أشبه بثقافات فرعية subcultures وجماعات منفصلة اجتماعيا وسياسيا. فلا يبدو أن هنالك حوارا اجتماعيا شاملا تستفيد منه قيادة موحدة لحركة تحرر وطنى، بل وتبادر له فى المنعطفات التاريخية الحادة. ولا أدرى إذا كان النقاش الدائر فى رفح ذا علاقة بالنقاش الدائر فى رام الله، وإذا كان النقاش الدائر داخل حركة "فتح" مرتبطًا بشكل من الأشكال بالحوارات الدائرة فى الفصائل الأخرى أو فى الشتات. وقد لمست جانباً مهمّاً من النقاشات الدائرة والأسئلة المتطايرة من وإلى كافة الاتجاهات من خلال الاحتكاك مع القوى الفاعلة والناس فى الداخل وفى الشتات والعالم العربى وطبعا فى المناطق المحتلة عام 67 وفى لقاءات مفتوحة مع جماهير واسعة عقدت مؤخراً معى فى الناصرة والقدس المحتلة ثم فى دولة الإمارات العربية المتحدة وفى شيكاغو وفيلدلفيا لمست نفس نوع الأسئلة الذى يقلق الجمهور العربى. وهو وإن طرح بصياغات متشابهة من قبل قيادات أيضًا فى الصحافة وغيرها إلا أنه يخفى دوافع ونوايا مختلفة. لقد فرض المد الجماهيرى الفلسطينى صياغة كافة الأسئلة بلغة متشابهة ألا وهى لغة ضرورة "الإصلاح". ولكن لغة الإصلاح تخفى نوايا ودوافع سياسية مختلفة. فمن دعاة الإصلاح من يعتقد أنه كان على القيادة الفلسطينية قبول ما طرح فى كامب ديفيد وتجنب الانتفاضة، ومن دعاة الإصلاح أيضًا من يرى أن الطريق لتحقيق الأهداف الوطنية بعد إملاءات كامب ديفيد تمر عبر المقاومة، ولكنه يسأل أية مقاومة وكيف؟ لم يعد بالإمكان إذاً الاكتفاء بكلمات وصياغات مثل ضرورة الإصلاح. لقد طرحت هذه الصياغات والتعابير بعد أيلول 1970 وبعد اجتياح 1982 وبعد حرب الخليج الثانية وبعد أوسلو وأثناء عمل السلطة الفلسطينية فى السنوات الثمانى الأخيرة، وكان الإصلاح ينتهى عادة بتصليح وضع دعاة الإصلاح على مستوى البعد أو القرب من عملية صنع القرار. ولا شك أن الحاجة ملحة لترتيب مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية، وأن الحاجة ماسة أيضا لترتيب عملية اتخاذ القرار بشكل أكثر ديموقراطية، وأن تتضح فيه أهمية الوزير مقابل غير الوزير وأهمية مؤسسة مثل اللجنة التنفيذية ل م.ت.ف. وغيرها فى عملية صنع القرار والاتصالات الدولية والمحلية، وقيمة ووزن حركة "فتح" كتنظيم سياسى فى السلطة، ثم أهمية غيرها من الحركات السياسية ووزنها فى عملية صنع القرار أو أخذ معارضتها بعين الاعتبار ضمن إجماع وطنى على ثوابت لا تطالها هذه المعارضة.. هذه الأسئلة مصيرية ولكن يجب أن تطرح فى السياق السياسى القائم حالياً وإلا فقدت معناها بالنسبة للجمهور الواسع. فالشعب الفلسطينى يسأل حالياً أسئلة سياسية متعلقة بمصير المواجهة مع الاحتلال، والحل السياسى للأزمة، ويتساءل عن البرنامج السياسى لدى قادته. لا شك أنه فى مراحل اليأس والإحباط تنتشر نظرية المؤامرة ويتبعها التخوين، ولكن دور المثقف المسيس فى قيادة النقاش حالياً يشمل تجنيب الجمهور نظرية المؤامرة والخيانة، كما يشمل قيادة الحوار باتجاه طرح القضايا المحورية والمصيرية. تبدأ الاستفادة السياسية من ترتيب محاور النقاش بصياغة السؤال التالي: 1) هل الحركة الوطنية الفلسطينية هى حركة تحرر وطنى أم دولة قيد التكوين؟ يجب ان يحسم هذا السؤال من أجل إقرار نمط العمل والسلوك السياسى. لقد بقى هذا السؤال معلقاً منذ بداية الثمانينيات، ولكنه اكتسب أهمية خاصة مع قيام سلطة فلسطينية مرتبطة باتفاقيات من ضمنها اتفاقيات أمنية. تشتق من حسم هذا السؤال على هذا النحو أوذاك توجهات مختلفة تماماً فى التعامل مع مفاهيم ووقائع مثل:"سلطة ومعارضة"، "وحدة وطنية"، "تنسيق أمني". حسم السؤال باتجاه حركة التحرر الوطنى المناضلة من أجل الاستقلال عبر خيار مقاومة الاحتلال يطرح مسألة استراتيجية المقاومة. ولكن دون حسم هذا السؤال لا توجد استراتيجية مقاومة، بل توجد "عملية سياسية" من ناحية و"عمليات مقاومة" من ناحية أخرى لا تربطهما إلا علاقة التعارض أو الإزعاج المتبادل أو التواطؤ غير المتجانس فى بعض الحالات. أما إذا حسم السؤال باتجاه الدولة قيد التكوين فهذا يعنى الاعتقاد أن العملية السياسية التدريجية الجارية والمنطلقة من كيان سياسى فلسطينى قائم ومعترف به على الساحة الدولية "يحترم تعهداته واتفاقياته" ستؤدى إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة على خطوط قريبـة مما طرح فى كامب ديفيد، أو ما بين كامب ديفيد والمبادرة السعودية. ويفترض أن تكون واقعية هذا المنطلق بدون مقاومة بحد ذاتها موضع نقاش. لقد برز بعد العدوان أكثر من مؤشر على رغبة الولايات المتحدة أن تلعب دورا بهذا الاتجاه بشرط أن يحول عرفات إلى شخصية رمزية تحركها محاور ومراكز قوى مقربة أمريكيا. ولكن لا ضمان أن تنجح الولايات المتحدة بفرض حل كهذا على إسرائيل، ولا ضمان لنجاح خطتها فلسطينيا. ولكن الجولات المكوكية ستبدأ ومن الضرورى بلورة موقف فلسطينى منسق عربيا تجاه هذه المحاولات. بطرحنا هذا السؤال نحن لا نقصد أن على الحركة الوطنية الفلسطينية أن تختار بين السياسة والمقاومة، كما أننا لا نقصد الاختيار بين المقاومة والتفاوض، بل على العكس من ذلك نحن نرمى إلى الجمع بين السياسة والمقاومة، وبين المقاومة والتفاوض إذا لزم الأمر، ضمن استراتيجية واحدة، فهل هى استراتيجية تحرر وطنى تتضمن عناصر السياسة والمقاومة والبناء الذاتى أم هى استراتيجية دولة تتعامل مع ذاتها ومع الدول الأخرى كأنها دولة فى صراع حدود مع دولة أخرى. ومن غير المعقول القبول لا دولياً ولا فلسطينياً بحالة من الفصل بين السياسة والمقاومة، ثم الاحتفاظ بحالة من "التواطؤ" ذى الحبل القصير المصداقية بين العنصرين. والمقصود هو استنكار العمليات واستخدامها فى الوقت ذاته سياسيا كإثبات فشل سياسة إسرائيل الأمنية. فى هذه الحالة تخسر السياسة العالمين، عالم المقاومة وعالم الصالونات الدبلوماسية. كما أنه من غير الممكن القبول فلسطينيا بحالة الصراع على الوراثة كأن الدولة قد تكونت، أو انتشار الفساد البيروقراطى فى هذه المرحلة من التحرر الوطنى ترافقه كليشيهات التحرر الوطنى والمبالغة باستخدام الرموز حول الدولة والكيان كتعويض عن النقص فى الواقع. كما أن المجتمع الفلسطينى لم يعد يقبل بالتنافس بين الفصائل على تبنى "عملية"، خاصة أن جدواها السياسية غير ثابتة لأنها لا توضع ضمن تصور شامل للنضال الفلسطينى يشمل العلاقة الجدلية بين الوسيلة والهدف. وقد أعربنا عدة مرات عن رأينا أن الحسم يجب أن يتجه باتجاه استراتيجية حركة التحرر الوطنى ضد حالة كولونيالية استعمارية أصبحت أكثر وضوحاً للعالم بعد العدوان الأخير. فقد أزال هذا العدوان آخر الأوهام حول وجود كيان فلسطينى سياسى ولو بنصف سيادة فى علاقة تكافؤ من أى نوع مع إسرائيل، ولكن مسألة حركة التحرر الوطنى تطرح السؤال الثاني: 2) ما هى استراتيجية حركة التحرر الوطنى الفلسطينى فى المرحلة الراهنة؟ يجب أن تجمع حركة التحرر الوطنى بين العمل السياسى والمقاومة المشروعة ضد الاحتلال بحيث يحكم الهدف السياسى وطبيعة الأدوات المتوافرة والأهمية المتفاوتة لساحات العمل المختلفة وغيرها من العوامل نوعى النشاط. يهدف العمل السياسى إلى تعبئة الرأى العام الفلسطينى والعربى إلى التأثير على الرأى العام الأمريكى والأوروبى والإسرائيلى ويجب أن يتلاءم عمله مع استراتيجية المقاومة. ولا تتألف المقاومة من مجموعة "عمليات" تقيم كل واحدة بشكل منفرد، بل هى استمرارية، عملية، صيرورة تحكمها الغاية، والغاية هى تحقيق الهدف السياسى. والتقدم نحوه هو الحكم الوحيد فى اختيار هذه الأداة أو تلك. 3) ولكن هل يمكن تحقيق ذلك دون وجود قيادة سياسية موحدة؟ لا يمكن انتقاء الأدوات النضالية بشكل موضوعى ومحاكمة جدواها ونجاعتها بمدى تقريبها لمجمل الحركة الوطنية من الهدف، كما يستحيل الانسحاب التكتيكى والمناورة وغيرهما إذا كان هنالك تنافس ومزايدة على مستوى قيادة حركة التحرر الوطنى. أى إذا لم تتوافر قيادة مركزية قادرة على صنع القرار وفرضه، إن كان هجوميا أو تراجعًا. ولا يمكن أن يتم ذلك على المستوى الفلسطينى بعد كل هذه التجربة الطويلة إلا بالحوار والقيادة الموحدة، كل أسلوب آخر يؤدى إلى مجابهات ومواجهات أهلية. "يلف" النقاش الشعبى حالياً و"يدور" حول هذه القضايا ولكنه لا يلامسها ولا يجابهها. ويبدو لى أن القوى المساهمة فى النقاش على مستوى القيادة ترغب بالابتعاد عن هذه القضايا إلى نقاشات على مستوى صراعات النفوذ تحت شعارات الإصلاح. ولا بأس بصراعات النفوذ لو كانت تمثل وجهات نظر متباينة. والسياسة فى هذه الحالة من بين أمور أخرى عديدة هى أيضا صراع على النفوذ. ولكننا نرى السياسة مستمرة بقوة القصور الذاتى. ولا يبدو الفرق واضحاً بين الحصار وفك الحصار. وأن القيادة الفلسطينية فى حالة إدارة أزمات. والمبادرة ما زالت إما بيد شاب فجر نفسه فى عملية استشهادية، أو بيد شارون، أو حكومة الولايات المتحدة. ولا يمكن أن تكون القيادة الفلسطينية فاعلة بالأساليب القديمة وما دامت تتجنب الأسئلة الثلاثة أعلاه. بعد العدوان من بين نتائج العدوان الإسرائيلى على الشعب الفلسطينى، مجتمعاً ومؤسسات، يمكن اعتبار التغييرات فى الوضع الداخلى الفلسطينى هى الأكثر حساسية وخطورة. فقد تكون الهزة الداخلية الفلسطينية تطوراً محموداً، وقد تتطور إلى كارثة حقيقية. فإذا فتحت هذه الطريق إلى الأسئلة الصحيحة المؤدية إلى القناعة بضرورة إقامة قيادة وطنية موحدة ذات برنامج سياسى مرحلى موحد واستراتيجية مقاومة موحدة، فقد تتحول جدلياً إلى بركة حقيقية من ناحية تنظيم وضع مؤسسات الشعب الفلسطينى. أما إذا لم يتم تلخيص التجربة كما حصل فى حالة الأردن 1970 ولبنان 1982 عبر طرح الأسئلة الضرورية المؤدية إلى القناعات الصحيحة، فسوف يؤدى الزلزال إلى المس بهيبة السلطة بشكل مجرد فحسب دون أن يقود إلى طرح الأسئلة الصحيحة، وسوف تفتح الطريق نحو الفوضى السياسية والاجتماعية والتسيب والانحلال. وهذا ما تبثه "النقاشات"، أو الحرب الكلامية، بين قيادات فى السلطة والأجهزة الأمنية للشارع الفلسطينى، منذ أن رفع الحصار عن مبنى المقاطعة فى رام الله. ويتساءل الجمهور الفلسطيني: علام يدور النقاش؟ وهل آن الأوان لصراعات النفوذ أو لاقتسام الكعكة، وأين الكعكة أصلاً؟ لم يحن الوقت بعد لصراعات النفوذ، ففى ظروف ضعف السلطة لا تعنى الصراعات داخلها إلا حالة انحلال. ويساور الشك أوساطًا واسعة من الشعب الفلسطينى أن الصراع يدور حول "الوراثة" فى حياة الرجل، لأن حسم هذه المسألة يحسم أيضاً أى مجموعات النفوذ يتحكم بالقرار السياسى فى حياته، كما يدور الصراع حول تحويل ياسر عرفات إلى رمز (رمز فعلى يعنى رئيسًا رمزيا وليس لقب الرمز) كما كتب مارتين إنديك، السفير الأمريكى السابق فى إسرائيل(يديعوت أحرونوت،12ـ5ـ2002). هذه دون شك مشكلة، وخاصة أن هذا الشك يغذى يوميا بازدياد المؤشرات على صراع سياسى يرافقه صراع على النفوذ تتابعه الولايات المتحدة بدقة. ولكن المشكلة الأساسية والأكثر خطورة هو نشوء حالة انحلال يزيدها حدة الحصار الذى يقطع أوصال الشعب الفلسطينى ويضعف مؤسساته بالفعل الاحتلالى السياسى والاقتصادى. ولا بد أن تؤدى حالة الانحلال والتسيب وضعف المؤسسات التى تعكس شرعية وطنية شاملة إلى نشوء مليشيات مسلحة فى حالة انتشار الأسلحة، خاصة مع توفر كم كاف من السجال السياسى الوطنى والقومى والإسلامى والحمولى لتبرير قيام أصغر مليشيا فى أصغر حى. ولن تلبث هذه أن تبرر ذاتها بضرورات الحماية والمصلحة الفردية لدى أعضائها، وبعدم الثقة بالقيادات الفصائلية أو القيادات المركزية. ومن هنا لا تقود الطريق بالضرورة إلى الصومال وأسياد الحرب الصوماليين. فالمجتمع الفلسطينى أقوى بنية، وكل هذا يتم فى ظل الاحتلال وبوجود حركة وطنية ومؤسسات ذات تاريخ وتراث وتقاليد. ولكن حالة الفوضى الاجتماعية ممكنة بأشكال فلسطينية وليس بالضرورة صومالية. وهى تقلل من قدرة المجتمع الفلسطينى على الصمود، والنضال ضد الاحتلال. ما زال الاحتلال قائماً على شكل حالة أبارتهايد تحيط بالمدن الفلسطينية، وقد كرست إسرائيل معياراً جديداً باجتياح مدن الضفة الغربية ومخيماتها فتقتل من شاءت ومتى شاءت. ويعانى الشعب الفلسطينى فى ظل حالة الحصار من سلسلة معقدة ومتشابكة لا تعد حلقاتها ولا تفك ولا تحصى من الإجراءات والعقوبات، بدءًا بالحاجز ومنع الماء عن قرى بيت فوريك وبيت دجن مثلا (هل سمع أحد بذلك؟)وشل حركة الاقتصاد إلى الاغتيالات المستمرة دون ضجة إعلامية. وتحاول إسرائيل فى ظل حالة الحصار والعقوبات الفردية والجماعية هذه أن تسجل إنجازات سياسية إما عبر حالة فوضى سياسية فلسطينية تؤكد حالة غياب الشريك التفاوضى، وإما عبر إيجاد شريك سياسى فلسطينى فى المفاوضات يوافق على تغيير أجندة المفاوضات مقابل دولة فلسطينية بمفهوم شارون أو بوش، أو بالمفهوم الوسط بينهما. لقد قررت الحكومة الإسرائيلية وسلطة البث إبان الحرب على الشعب الفلسطينى ألا يمنح المسؤولون الفلسطينيون منصة فى الإعلام الرسمى الإسرائيلى، الراديو والتليفزيون. ولكن فجأة ودون سابق إنذار فتحت الميكروفونات أمام قيادات فلسطينية أساسية. وقام هؤلاء بقوة الاستمرار وكأنهم على منصة فلسطينية بالاحتراب الكلامى على المنصة الإسرائيلية كأنهم يتكلمون على منصة الصديق لا الخصم. ولم يتساءل هؤلاء: لماذا تغير فجأة الموقف الإسرائيلى؟ لماذا فتحت فجأة هذه المنصة أمامهم؟ ليس الإنسان بحاجة إلى عقل سياسى حاد بشكل خاص لكى يرى المصلحة الإسرائيلية بصب الزيت على نار هذا الصراع العديم العلاقة مع مصالح الشعب الفلسطينى. وهو بالتأكيد ليس نقاش إصلاح ديموقراطى من أى نوع. والإصلاح السياسى الديموقراطى الفلسطينى لا يمر عبر الإذاعة الإسرائيلية الرسمية. تثبت ظاهرة التسيب والانحلال الآخذة بالانتشار أن طريق الإصلاح لا يمكن أن يمر إلا عبر الشرعية الوطنية ومؤسساتها، وأن هذه غير ممكنة حالياً بعد العدوان الإسرائيلى دون حوار وطنى شامل بين السلطة والمعارضة وداخل السلطة يقود إلى قيادة وطنية موحدة ذات برنامج سياسى موحد، على الأقل لمرحلة وجودها(مثل أى قيادة سياسية)، وذات استراتيجية موحدة تجمع بين السياسة والمقاومة. ولن تقوم قيادة وطنية موحدة إذا لم تقتنع القوى السياسية الفلسطينية باعتبار المصلحة الوطنية العليا فوق المصالح الفئوية الضيقة، وأن التعددية والنقاش والحوار يتم فى إطار هذه المصلحة الوطنية العليا المتفق عليها والمشتقة من الأهداف الوطنية النضالية المتفق عليها. كما لن تقوم قيادة وطنية موحدة بالأدوات القائمة وحدها، أى بأجهزة السلطة. وأمر الساعة هو إجراء حوار وطنى شامل يؤدى إلى قيام لجان شعبية فى القرى والمدن والمخيمات الفلسطينية تصلح قاعدة وطنية شعبية لهذه القيادة الموحدة. ونحن لا نقلل من أهمية التناقض الذى من الممكن أن ينشأ بين القيادة الموحدة وهيئات السلطة المركزية، وبين اللجان الشعبية وأجهزة السلطة الوطنية المحلية. لا توجد سلطة تقبل بازدواجية السلطة. ولهذا أيضا طالبنا أن يحسم المزاج السياسى الفلسطينى مسألة حركة تحرر وطنى أم دولة. عندها تستطيع مؤسسات السلطة القائمة أن تتعايش وتتعاون محليا مع اللجان الشعبية ذات الطابع السياسى، كما تستطيع مؤسسات مثل المجلس التشريعى، وهى تحتاج بنفسها إلى تفعيل وتنشيط، أن تتعاون مع قيادة وطنية موحدة، وليناقش المجلس مثل هذا الموضوع، وليشارك أيضًا بإقرار طبيعة هذه القيادة. وعندما توافق السلطة على هذا التوجه سيكون بالإمكان أيضًا تشخيص الإشكالات الممكنة ووسائل التغلب عليها خاصة بين السياسى، المتمثل بالقيادة الموحدة، والتنفيذى، أى أجهزة السلطة. أما إذا لم يتم التوصل إلى صيغة من هذا النوع فلا بد من إجراء انتخابات سياسية، وأن تخاض معركة لتحويل هذه الانتخابات إلى نوع من التعبير عن حق تقرير المصير، يتوجب على العالم أن يحترم نتائجه السياسية. وليس لدينا أدنى شك أن هذه النتائج سوف تحرج إسرائيل. ولا مانع أن تؤدى الانتخابات إلى ائتلاف شامل هو تعبير أكثر ديموقراطية عن القيادة الوطنية الموحدة. ولكن هذا التوجه يشترط أن تشارك فى الانتخابات قوى مستقلة حتى لو كانت جديدة، وألا تقاطع المعارضة الانتخابات، وأن تمنح الشرعية لمنظمات تعتبر أمريكيا وإسرائيليا منظمات إرهابية للمشاركة فيها. وهذه معركة أخرى تستحق أن تخاض، لأنها تنسجم مع القضية الوطنية والهدف السياسى. هذه المعارك هى تعبيرات ديموقراطية عن حق تقرير المصير، وتصب فى النضال ضد الاحتلال. انطباعات: لماذا تصمت العلوم الاجتماعية عن أسباب ودوافع السلوك السياسى الفلسطينى عندما لا تنجح الاستراتيجيات بضبطه؟ من المفروض أن العلوم الاجتماعية قد وجدت لتقدم محاولات على الأقل بالتفسير العلمى لمثل هذه الظواهر. فلماذا تنتشر الغيبية الاستشراقية فى تفسير السلوك النضالى الفلسطينى وتصمت العلوم الاجتماعية التى لا يخلو الاستشراق منها عن تفسير ظاهرة تزايد عدد الشباب الفلسطينى المستعد لدفع حياته ثمنا لتدفيع الطرف الآخر، المحتل، ثمنا؟ ليس بالإمكان تبرير هذه الظاهرة، وقد تحولت إلى ظاهرة للأسف الشديد، وليس بالإمكان الدفاع عنها أخلاقيا إلا عبر التضحية بقيمة الحياة باعتبار أن هنالك قيمًا أسمى منها مع الثمن الأخلاقى والاجتماعى المترتب على ذلك. وإذا كان من الصعب تبرير الظاهرة، فإن العلوم الاجتماعية لا ترضى بأقل من محاولة التفسير. ولا يمكن أن تكتفى بتراوح "التفسير" السائد بين طلب الجنة انطلاقا من "عقلية" يحدد طبيعتها "عقل" استشراقى وبين اعتبارها حالة يأس. فاليأس قد يؤدى فى حالات نادرة إلى الانتحار، ولكن لا اليأس ولا القنوط يؤدى إلى عملية استشهادية موجهة فى خدمة قضية. وطلب الجنة لا يتناقض مع بناء الحياة الدنيوية واستمرارها، بل ويبنى عليها، وإذا طرأ تناقض فهو لا يصلح لتفسير السلوك السياسى والاجتماعى بل يحتاج بذاته إلى تفسير. عندما سيحلل علماء الاجتماع الذين يطمحون إلى ما هو أعمق من التقرير الصحفى أو عندما يرغبون بتجاوز تعبئة الاستمارات الإحصائية لينتهوا إلى تحليل أقل من صحفى بشأن المعاناة الفلسطينية وإسقاطاتها على السلوك السياسى للفلسطينيين، إذا كانت توضح شيئا بنظرهم، أود أن يجدوا أمامهم الخلفية الانطباعية التالية، التى لا تطمح إطلاقا أن تقدم شرحا، والتى من المفترض أن يلمسها أى باحث ميدانى مدرب الحواس وغير متبلد الإحساس قبل أن يعد نماذجه النظرية وأدواته التفسيرية. إن قياس القمع الإسرائيلى بعدد الضحايا الفلسطينيين وعدد البيوت المهدمة وقصف المدنيين وعدد المعتقلين بمحاكمة وغير محاكمة وحده لا يكفى. هذا احتلال استعمارى، والاحتلال الاستعمارى يكرس ذاته باستخدام القمع والقوة. ويزداد استخدام القوة كلما ازدادت وتيرة مقاومة الاحتلال. ولكن فى عصر لم تبق فيه احتلالات كولونيالية يفترض أن تزداد حساسية الرأى العام العالمى لجرائم الاحتلال. ولكن ذلك لا يحصل فى حالة الفلسطينيين بالشكل الذى يولد ضغطا دوليا كافياـ ويتم رسميا فقط بعد التأكيد على توازن بين المحتل والواقع تحت الاحتلال فى دوامة وحلقة عنف مفرغة. هذه المساواة بين المحتل والواقع تحت الاحتلال تؤدى إلى شعور فلسطينى مضاعف بالظلم. ثم إن المحتلين لا يكذبون عادة بشأن عنفهم الكولونيالى وضرورته. ولكن إسرائيل الرسمية تتحدث وكأنها هى الواقعة تحت الاحتلال. وهى تحتاج إلى كم هائل من الأكاذيب لكى تعطى المبرر لهذه المساواة بين المجرم الأصلى وعنفه وبين الضحية وعنف الضحية ـ أى المقاومة. لذلك يضطر الفلسطينيون أن يستمعوا إلى ضابط إسرائيلى يقول فى مؤتمر صحفى إن " إرهابيين فلسطينيين يختطفون كهنة فى كنيسة المهد"، وهو يقول ذلك دون أن يرمش له جفن. أى أن الكذب ليس مذمة بنظره أو بنظر رؤسائه ومرؤوسيه. كيف يشعر إنسان مضروب فى المحكمة عندما يلف المعتدى "ابن العيلة" رأسه ويدعى أن المضروب ابن العائلة الفقيرة قد اعتدى عليه وأن هذا " الاعتداء" نابع من عقلية المضروب وعقليته الإجرامية بعد استعراض تاريخه وسلوكه وألفاظه مراهنا على الفرق بينهما بالسمعة والشكل والمكانة الاجتماعية وبالقدرة على عرض ادعاءاته بلغة المحاكم ممثلا بمحامين يعاقرون مع القضاة نفس أوقات الفراغ. تخيلوا حالة الغضب والمرارة والعجز التى يشعر بها الضحية وكيف لا يخطر بباله كيف يجن ويبدأ بالتكسير فى القاعة عندما يشعر أن بعض المحلفين بدأوا يصدقون الكذبة، ثم ما يلبث أن ينكسر أمامهم ويبدأ بالتوسل، وما إن يفقد أعصابه حتى يبدأ المجرم المحترف الهادئ الأعصاب بهز رأسه بإيماءات العارف الحكيم: ألم أقل لكم؟ فتزداد الضحية عصبية لتلعن المجرم والمحلفين أيضًا. اضرب هذه الصورة حسابيا بألف كذبة فى اليوم يسمعها ليس من تعرض للضرب بل من فقد وطنا ثم أخا أو أبا، أو من فقد بيته، أو من لا يستطيع الوصول إلى المستشفى، أو من لا يستطيع أن يوصل زوجته التى يحب إلى غرفة الولادة، فيفقد رجولته على الحاجز مع عجزه عن إنقاذ طفله الوليد، أو من أصابه حصار بول من المعتقلين الذين لم يسمح لهم بالتبول فأبوا أن يتبولوا فى ثيابهم. تخيل أيها الباحث كيف يحس أولئك عندما يسمعون الكذب الإسرائيلى؟ الظاهرة الميدانية الانطباعية المهمة الأولى أمام الباحث إذا هي: تأثير كذب المجرم على أعصاب الضحية. شقت طريق الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين بالدبابة والبولدوزر، بالقتل والتدمير، بالمجزرة والمصادرة.... ولكن الاحتلال الإسرائيلى يختلف عن بقية الاحتلالات بأنه يحتل الأعصاب أيضًا. إنه عصابى استحواذى الطابع حتى ليخطر ببال الإنسان المتوسط أنهم يريدون الدخول تحت جلده. لا شيء يبرر منع سيارات الإسعاف من الوصول إلى الجرحى غير الرغبة بتعذيب الناس بشكل سادى. صحيح أن المجتمع الإسرائيلى هو الوحيد بين المجتمعات الكولونيالية الذى يردد فى اللحظة بشكل موحد أية فرية يطلقها الناطق بلسان جيشه من نوع أن الفلسطينيين يستخدمون سيارات الإسعاف لنقل الأسلحة أو لتهريب المطلوبين. وتوهم هذه الفرية سامعها أن الفلسطينيين لا يستخدمون سيارات الإسعاف لنقل الجرحى إلا فيما ندر. لا يمكن تفسير إنزال امرأة مريضة من سيارة إسعاف على حدود القدس والبدء بتفتيش السيارة ببطء بحيث يفطن كل جندى على حدة لجانب نسوا تفتيشه، وبإهانة لم يتلقها الزوج بعد، والزوجة ممددة إلى جانب الحاجز على نقالة المرضى. ووجوه الجنود عابسة كأنهم ينفذون مهمة عسكرية مصيرية، ولكنهم يتبادلون تعابير تعقبها ابتسامات عندما يتبادلون النظرات بخبث. يتلهون. لا يقوم جيش بفرض منع التجول أسابيع متواصلة لا يستطيع خلالها الناس العمل أو التزود أو مجرد التنقل أو سد أتفه الحاجات أو أكثرها إلحاحًا، حتي" ينهى تساهل كافة مهامه". لا يقوم جيش نظامى باعتقال جميع الناس فى كافة المناطق فى بيوتهم إلى أن "يفرغ من مهامه" إلا إذا تملكته الرغبة بتلقين الناس درسًا، أو لأن الغضب والعصبية استحوذا عليه لأنه لا يستطيع قصف هذه المدن بالطائرات ومحوها من ناحية ولا يريد التضحية بأى من مشاته من ناحية أخرى، لذلك فهو يقوم بإذلال الفلسطينيين ليس كخطوات وقائية (محسوبة) فحسب بل كخطوات انتقامية (استحواذية ولا عقلانية)... سيريهم من هم وماذا يساوون، سينتقم الجندى لأمه الغاضبة على الفلسطينيين لأنه لا يمكن محوهم عن الأرض من الجو، وهى بالتالى مضطرة للقلق على ابنها الذى لم يسعده الحظ أن يقبل فى سلاح الطيران والمتواجد فى طولكرم بنفسه شخصيا. فجلالته لم يفلح أن ينتدب عنه طائرة أو صاروخ طوماهوك يمحو وسط المدينة. وجندى آخر يحاول إذلال الفلسطينيين ليجمع مادة للحديث مع رفاقه فى البار أو المقهى عند "خروج" أول سبت بعد الخدمة: كيف يتصرف هؤلاء الفلسطينيون إذا "نهرتهم"، أو إذا طلبت منهم خلع السراويل والمشى بدونها من الحاجز، و"كيف تصرف رب البيت عندما أمرنا زوجته أن تعد لنا الطعام بعد أن قمنا بتفتيش البيت". ماذا يفعل الفلسطينى الذى رآهم يسرقون المتاجر وينهبون المكاتب إذا قرأ ترجمة خبر عن صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن مجموعة من الجنود الإسرائيليين تناولت طعام العشاء على طاولة عائلة فلسطينية بعد اقتحام بيتها ثم أبى أفرادها إلا أن يجمعوا بضع مئات من الشيكلات لتعويض العائلة، كأن الفلسطينيين "يجرسنون" للأسياد حتى وهم تحت الاحتلال، وكأن الإسرائيليين "ضباط وجنتلمن" عند المقدرة؟ وفى الاحتلال الإسرائيلى لا يمكن الحفاظ على الانفصام المفيد فى الشخصية الكولونيالية،ضابط وجنتلمن، والذى يمكن من العفو عند المقدرة، عندما يتميز الاحتلال عن البيت. فى الاحتلال الإسرائيلى لا يتميز البيت عن الاحتلال لا بآلاف بالأميال الجغرافية ولا بالبعد التاريخى. البيت هو الاحتلال، والفارق هل هو احتلال 1948 أم 1967(هكذا يعيرنا بعض النواب الليكوديين فى الكنيست: إذا أردتم استرجاع نابلس فلماذا لا تطالبون باسترجاع يافا، وما الفرق إلا 19 سنة؟) والمسافة التاريخية والجغرافية بينهما لا تقيم انفصاما بالشخصية. ولذلك يتقمص الجندى بسهولة ويسر شخصية المحتل، ويحتاج إلى جهد نفسى وأخلاقى أكبر لكى يقاوم تقمصها.الظاهرة الانطباعية الثانية التى يجب أن تلفت نظر الباحث هى ذلك الاستحواذ اللاعقلانى العصابى القادم من التطابق بين السياسة الأمنية والانتقام والعقاب فى تعامل الجندى الإسرائيلى المتوسط مع الفلسطينيين أبناء المكان. يتضمن كل احتلال افتراضا عنصريا مهينا للواقع تحت الاحتلال يتمحور أساسًا حول تفوق المحتل عليه. ومن دون هذا الافتراض الأيديولوجى يصعب تبرير موقع السيطرة والتحكم. ولكن الاحتلال الإسرائيلى لا يكتفى بهذا التبرير المضمر أو السافر، بل يتجاوز ذلك إلى احتكار دور الضحية، باعتبار اليهودية ضحية العنصرية الأوروبية الاستعمارية وغير الاستعمارية بامتياز، ثم يتجاوز دور الضحية إلى التنظير الأيديولوجى للضحية الحقيقية فى سياق الاحتلال. "من الصعب أن يكون الإنسان فلسطينيا" يقول شارون. إنه يطمح إلى تفهم معاناة الفلسطينيين بعد التسبب بها ورفع منسوبها للضغط عليهم. أما جولدا مائير فقد أعلنت: "لن نسامح الفلسطينيين لأنهم يجبرون أولادنا على قتلهم". يزعج الواقع تحت الاحتلال نفسية المحتل، ومعاناته النفسية "لاضطراره" أن يقمع تنافس معاناته فى أفضل الحالات، هذا إذا لم تتفوق عليها. علينا أن نتخيل وضعا تجمعت فيه جمهرة من الناس حول جريح ينزف بعد أن طعنه سارق، وأخذت بالصراخ طلبا لأخصائى نفسانى لمعاينة المعتدى السارق بدلا من سيارة إسعاف للمعتدى عليه. لا ينبع الاهتمام الدولى بالقضية الفلسطينية من الاهتمام المباشر بها بل من الاهتمام المحلى فى كل دولة على حدة، ومن الاهتمام الدولى بالمسألة اليهودية المتشابكة مع قضايا الهوية القومية والذاكرة التاريخية فى سياق لا علاقة له بفلسطين ولا بقضية فلسطين، وتشكل فيه المعاناة الفلسطينية عاملا ثانويا وغير مباشر فى تعديل وإعادة إنتاج وتعريف هذه الهويات. أعاق هذا التعامل الدولى مع القضية الفلسطينية حلها لأنه منع صياغتها كمسألة كولونيالية، وزادها تعقيدا. ولكن عوامل الإعاقة هى ذاتها عوامل تقييد درجة القمع، بهذا المعنى لا يقتل الفلسطينى بنفس سهولة قتل الإندونيسى أو السودانى. لقد قتل المئات أثناء مواجهات بين متمردين وحكومة أوغندا وقتل عشرات المواطنين الإندونيسيين فى مواجهات بل غارات طائفية. فى نفس الأسبوع الذى جذب فيه النقاش على عدد شهداء مخيم جنين اهتمام وسائل الاتصال العالمية، وهل وقعت فيه مجزرة مقصودة ضد المدنيين أم جرائم حرب، وقعت مجازر أخرى فى مناطق أخرى لم تلفت نظر الرأى العام. إن ما يعقد حل المسألة الفلسطينية هو ذاته ما يقيد أيدى إسرائيل عن ارتكاب جرائم أكثر فظاعة بسهولة أكبر لم تمنع إنسانية إسرائيل جيشها من محو مخيم جنين أو البلدة القديمة فى نابلس عن الأرض، بل منعتها نفس العوامل التى تجنبها التعامل الدولى معها كحالة استعمارية. ليست إسرائيل كلية القدرة. ولكن إسرائيل تمن على الشعب الفلسطينى بأنها لم ترتكب جرائم أكبر، وكأن على الشعب الفلسطينى أن يشكر القدر الذى ورطه مع إسرائيل وليس مع دولة أخرى، لا تسأل هى عن الرأى العام، وهو بدوره لا يسائلها. ولو أجرينا حسابا فظيعا، بحكم تعريف الحساب عندما يتعلق بحياة البشر، لوجدنا أنه كلما اقترب الفلسطينى فى الفضاء الفيزيائى من إسرائيل كلما ازدادت قيمة حياته ومعاناته. فالفلسطينى فى لبنان يقتل فى غارة إسرائيلية بسهولة أكبر من ابن الضفة الغربية، الذى قد يسهل موته مقارنة بالفلسطينى المواطن فى إسرائيل الذى يبرر مقتله المطالبة بلجان تحقيق رسمية. وكأن قيمة حياة الإنسان الفلسطينى تتناسب عكسيا مع مدى بعده عن إسرائيل. شعور فظيع أن تشتق قيمة حياة الضحية من مدى قربها من القاتل. يضاعف هذا الاشتقاق الشعور بالغبن وعدم الإنصاف، كما يزيد من الشعور بحالة انسداد الأفق لدى الواقع تحت الاحتلال إذا كانت البوابة إلى اعتراف العالم بمعاناته هى ذاتها التى تفتح على الفاعل المحتل المستعمر لتمر الضحية إلى العلم عبرمنطقه ومشاعره وتبريراته. لذلك تحل المعاناة النفسية والعصبية محل ذلك الجزء من المعاناة الجسدية الذى تنبع منه أهمية الفاعل لا قيمة الضحية. وهذه ثالثة الظواهر التى تميز حالة المعاناة الفلسطينية. لم يحصل فى تاريخ الاستعمار أن دعى هذا الكم من نخب المحتلين والواقعين تحت الاحتلال إلى الحوار فى العواصم الأوروبية. كما لم يحصل أن اشتقت أهمية الواقع تحت الاحتلال من قدرته على خلق موازاة حوارية مع المحتل. ولم يسبق أن اخترع هذا العدد من الكتاب والمثقفين لغرض أن يجلسوا بمقابل مثقفى المحتلين فى جلسات حوار واعتراف متبادل. ولم يسبق أن شوهت ثقافة الشعب الواقع تحت الاحتلال إلى هذه الدرجة، بحيث أصبح امتحان المثقف لا إبداعه بل ابتداعه،أى اختراعه كمثقف لغرض الحوار، قبوله لحالة التكافؤ الوهمية مع مضطهد شعبه التى تجعل منه مثقفا مشوها. تقابل هذه السابقة ردة الفعل الرافضة بشكل مطلق التى تحول صاحبها أيضا إلى حالة خاوية فقيرة المضمون لأنها معتمدة كليا على الرفض كردة فعل للآخر. ولم يسبق أن أنجبت "اللياقة السياسية" politically correct هذه الكمية من الأوهام حول المساواة والتكافؤ على المستوى الرمزى بين غير المتساوين وغير المتكافئين مما يضيف من عوائق المساواة على المستوى الفعلى. يغرق الفلسطينى بالرمزية ليس فقط كتعويض عن فقر الواقع وإنما لأن حالة التوازى والتكافؤ الكاذبة والخادعة تحتاج إلى قدر كبير من الرموز بغرض المنافسة، من المقارنة الكاذبة بعدد المثقفين والإنتاج الثقافى إلى التنافس بين دولتين بالاعتراف الدبلوماسى على المستوى العالمى. يدخل الفلسطينى فى حالة منافسة خادعة ومخادعة ومعروفة النتائج بدلا من حالة الصراع الواضح مع المحتل، حيث المطلوب ليس أن تتفوق بل أن تتحرر من الاحتلال. ويغرق المثقفون الذين يخلطون بين الاعتراف بمواهبهم وبنديتهم وبين الاعتراف بحقوق شعبهم فى هذه الرمزية المريحة لأنصار السلام لدى الشعب المحتل، فهم يعترفون رمزيا بندية هؤلاء كبديل رمزى عن إحقاق الحقوق للشعب الفلسطينى والنضال من أجل ذلك. ومن هنا العشق الخاص لصناعة الهوية وقضاياها فيما وراء الدفاع عنها وتطويرها، هذه الهوية التى ينوب فيها أبطال هذه السياسة عن شعبهم بحكم تمثيلهم لهويته. لم يسبق فى تاريخ المستعمرات أن طلب من الواقع تحت الاحتلال أن يضمن أمن المحتل. ولكن صناعة التكافؤ والتوازى الكاذبة لا تتطلب هذا فقط بل تتطلب ضمان أمن المحتل نفسيا أيضًا. ولم يسبق أن طلب من الواقع تحت الاحتلال أن يعترف لا بالمحتل القائم فحسب بل بمعاناته وبذاكرته التاريخية وبحقه الموازى. تتعامل الحالة الإعلامية العربية مع المعاناة الفلسطينية بالمقاييس العربية. ويسمع الفلسطينى أخبار شعبه ومدينته وحارته من الإعلام الفضائى العربى. لقد باتت حتى أخبار الحى تمر عبر مصفاة الفضائيات، وبات الفلسطينى يتعامل ليس فقط مع معاناته بل مع صورتها فى وسائل الإعلام العربية. ولا تتعامل وسائل الإعلام العربية مع معاناة الفلسطينيين بالمقاييس العربية فحسب، بل ويتناسب فيها حجم المعاناة مع قدرتها على التعبير عن ذاتها فضائيا. ويصطنع السياسيون فى بعض الحالات معاناة فضائية ليكتسب موقفهم شرعية. فالشرعية الفضائية لا تشتق من صحة أو صدق الموقف بل من الاعتراف بمعاناة صاحبه. وإذا لم يكن اعتقال يختلق اعتقال أو ضرب أو ملاحقة ليصبح السياسى ضحية. وتشاهد ضحايا الضرب والاعتقال الفعليين بحسرة تحول المعاناة إلى أداة بيد الأقرب إلى الإعلام لاكتساب الشرعية، فيضاف الإحباط إلى المعاناة الجسدية، كما تنشأ حالة الارتباك واختلاط الكذب بالحقيقة، والأنكى من هذا كله تحول الكذب إلى تعبير عن الحقيقة. وإذا لم ينجح السياسى الإعلامى بالتحول إلى ضحية، أو ببث صورة الضحية عن ذاته وهو الأمر الأهم، فإنه يتحول إلى ممثل للضحايا وناطق باسمهم. وإذا لم يكن قادرًا على جعل الموقف السياسى يعبر عن المعاناة بالنضال التحررى بهدف وضع حد لها، يصبح تضخيم المعاناة تثبيتا أكيدا للشرعية والمكانة فى أوساط مستهلكة للإعلام. ويؤدى تضخيم المعاناة إلى المس بالمصداقية خارجيا، كما يؤدى إلى تآكل القدرة على الصمود داخليا. ترتبط القدرة على الصمود إلى حد بعيد بصدق التعبيرات عن المعاناة. فإذا شعر الإنسان الذى يواجه القمع فى حياته اليومية أن هنالك من يستفيد من معاناته من خلال التعبيرالكاذب عنها، أو من خلال تقمصها، بل وسرقتها، فإن قدرته على الصمود تمس إلى حد بعيد. فى كل حركة وطنية تعيش طفيليات على جراح الناس المفتوحة وقيحها. ولكن الاهتمام العربى والدولى بالقضية الفلسطينية جعل بالإمكان الارتقاء بالتطفل إلى مرتبة الصناعة وتحويل الـ "قضية الفلسطينية" إلى هدف أو غاية أو إلى واقع معاش ينبغى الحفاظ عليه. من هنا تم الانتقال بالحركة الوطنية من حب فلسطين وحب الحرية لشعبها إلى حب القضية الفلسطينية، ومن الحياة الحقيقية المعاشة إلى الولع بالرموز المعبرة عن "القضية". لقد نشأت حول "القضية" دراما إعلامية تمثيلية تسمح بكم هائل من التمثيل والكذب الصريح بغرض اكتساب الشرعية من استخدام لغة القضية، بما فيها التظاهر والاحتجاج المحسوبان وغيرهما مما لا يدفع صاحبهما ثمنا ويكسبه شرعية. يقتضى حب فلسطين كشعب محتل وكبلد محتل التضحية فى معركة التحرير ضد الاحتلال، ولكن التضحية فى هذه الحالة ليست هدفا قائما بذاته، بل يحاول المناضلون تجنب التضحية خاصة إذا كانت بحياة الآخرين. ولكن التعبير عن حب القضية الفلسطينية، بدلا من الفلسطينيين، يتم بالمعاناة أو تقمصها رمزيا وتحصيل اعتراف بذلك ضمن الحيز العام. ولكن هذه المصلحة باستمرار القضية الفلسطينية كحالة خطابية صوتية تقتضى التضحية بحياة الآخرين، ومن ثم المبالغة بحجمها ترضية للضمير وتعويضا صراخيا عن عدم المشاركة بالتضحية، ومحاولة لتحقيق أعظم استفادة، بدل أعظم فائدة، ممكنة من هذه التضحيات. تصلح صنمية القضية غطاء لمن لديه مصلحة باستمرارها، كما يمطها ويمغط كلاشيهاتها الجاهزة ذلك الذى استنتج ضرورة تصفيتها لتغطية صفقات تبرر بجمل "القضية" الجاهزة غير المركبة من كلمات ولا معانى بل من استعارات وصور. "الصمود والمقاومة البطوليان" يصلحان لتبرير "المضى فى نفس الطريق" دون تلخيص العلاقة بين الوسيلة والهدف، أى بين الوسيلة ونجاعتها، أى بنفى صفة ومعنى الأداة النضالية عن الوسيلة. كما يصلح "الصمود والنضال البطوليان" لتبرير العودة لقبول ما لم يقبل والتأكيد بالتالى على أن الانتفاضة خطأ تأسس على خطيئة الرفض، ذلك لأن هذا الصمود لم ينفع بتحريك العالم العربى، كما يدعى التصفويون زورا، ولأنه لم يعدل ميزان القوى المختل لصالح إسرائيل...تخلط صنمية القضية حابل الدوجمائية والجمود العقائدى الفارغين بنابل البراجماتية المتبجحة ولكن الفارغة من أية إنجازات هى الأخرى. هذه الصنمية تمكن من إطلاق الهتاف العجيب الغريب "عالقدس رايحين شهداء بالملايين" !! كيف بالملايين؟ ولماذا بالملايين؟ ومن سيبقى بموجب روح هذا الهتاف ليحتفل بتحرير القدس؟ وهل تحرير القدس هو الهدف أم تحرير الشعب لتكون القدس عاصمة؟ كان الشعب الفلسطينى سيناقش هذه الأسئلة لو أخذ الهتاف بجدية. ولكنه يعرف انه لا علاقة بين هذا الهتاف وتلك الممارسة. تماما كما يدرك العرب خواء خطيئة الزعماء العرب الذين يريدون التضحية بـ "مليون" مواطن فى الحرب مع إسرائيل. فهم من ناحية يدركون عدم جدية وغياب نية المسرفين بحياة ملايين المواطنين فى خوض الحرب. ولكن هذه التصريحات من ناحية أخرى تذكرهم بالاستهتار بحياة المواطنين، وحياة المواطنين اليومية ضحية دائمة لممارسات هؤلاء. تؤدى صنمية القضية إلى تناسب عكسى بين ضخامة الشعارات وضآلة الممارسات. تشكل لغة "القضية" والمعتاشين عليها كصناعة من رفضيين وتصفويين مصدر ارتباك شديد للحالة السياسية والشعورية الفلسطينية يعبر عنها بالانتقال السريع من الحماس الجارف والرافض لأى اعتبارات يمليها الواقع، والتهريج الذى لا يدع الحقائق تربكه، والذى يصدق كل إشاعة عن البطولة، إلى اليأس والقنوط القاتلين، ثم إلى التشكيك بكل شيء، هذا التشكيك المصاغ دائما وأبدا بلغة المؤامرة، والذى يصدق أية إشاعة عن "الخيانة" هذه المرة. هذه هى الظاهرة الرابعة التى تنتصب بعناد لا يترك مجالا للباحث للتهرب. تتعلق هذه الظاهرة بالإرادة السياسية، والإرادة السياسية هى العامل الأكثر أهمية فى مرحلة التحرر الوطنى خاصة بالنسبة لمن يعمل ضمن اختلال فى موازين القوى فى غير صالحه كمعطى، كما هو الحال فى النضال ضد الاستعمار. لقد نشأت ازدواجية تمنع الجمع بين المبدئية والعقلانية: فإما مبدئية غيبية ودوجمائية تنص بجمل جاهزة وإما عقلانية متلمظة تبحث عن طريقة لطرح تذوق الهزيمة بشكل عقلانى. تمنع عصبية وارتباك الحالة الفلسطينية التقييم العقلانى النقدى للمراحل. ويمنع غياب التشخيص والتقييم النقديين إمكانية وضع استراتيجية نضالية. وما يحتاجه الشعب الفلسطينى، ما يحتاجه الفلسطينيون الآن هو تلخيص نقدى لا يمر مر الكرام على مجريات الأحداث ويصلح أساسًا لمناقشة استراتيجية سياسية تشمل برأينا استراتيجية مقاومة ضد الاحتلال. لم تتم مثل هذه المناقشة للتجارب السابقة فى لبنان والأردن والكويت لأن الحالة الفلسطينية تحللت إلى حالات متناقشة كل فى داخله، فجهاز منظمة التحرير هو جسم قائم بذاته لا علاقة لاعتباراته بنقاش الشارع. ولديه مجموعة مصالح واعتبارات إقليمية ودولية لا تؤثر فيها نقاشات الشارع الفلسطينى المنقسم أصلا إلى شوارع يمكن اللجوء إلى أحدها تجنبا للاعتراف بالفشل فى الآخر بل لكى يكون بالإمكان اعتبار الفشل نصرا يحتفى به. وبهذا المعنى فإنها قيادة لا تهزم ولا تقهر بمعنى أنها لا تعترف بالفشل، أى فشل. وربما يكمن الفرق بين أزمة أبريل ومايو من العام 2002 وبين سابقاتها فى غياب شارع سياسى فلسطينى يصلح لاستقبال القيادة الفلسطينية بعد الضفة والقطاع. وقد يحتم ذلك ضرورة الاستماع إلى ما يقال. كلمة أخيرة إذا كانت المقاومة أمرا مذموما، فلماذا تغنى الجميع بالمقاومة التى صمدت أياما طوالاً فى مخيم جنين بناء على قرار المقاومين؟ وإذا كانت المقاومة أمرا محمودا فلماذا لم يدع المتغنون بها إليها؟ ناهيك عن ممارستها عندما يتطلب الأمر ذلك.
انتقلت منظمة التحرير الفلسطينية مـن النضـال من أجـل اعتراف أمريكي إلى توسـل الهامــش الدبلوماســى الأمريكــي المســتقل عـــن التحــالف مـع إســـرائيل فى المفــاوضــات
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة