«اشتهاء العرب» للكاتب جوزيف مسعد، ذلك المشروع المتميز الذى يغامر فى منطقة مجهولة هو بمثابة تتمة لكتاب «الاستشراق» لادوارد سعيد ولأعمال ميشيل فوكو حول الجنسانية.
فبينما يركز مشروع سعيد على إنتاج المعرفة فى أوروبا عن العرب والمسلمين أثناء القرن التاسع عشر، والروابط المعقدة لهذا المشروع الاستعمارى والمسئولية المباشرة لتركيب ذات «الشرقي»، يسعى «اشتهاء العرب» بشكل آخر إلى سد الفجوة فى الدراسات الأكاديمية التى حللت التصوير الاستشراقى موضحاً تأثير الاستشراق و«النعرة العرقية «حسنة النية» فى خطاب الدفاع عن حقوق الإنسان» (صفحة 418)، على «تشكيل» إدراك العرب أنفسهم لذواتهم ولبعضهم البعض منذ نهضتهم فى القرن التاسع عشر (صفحة 48). وعلى نفس القدر من الأهمية، فإن اشتهاء العرب يجيب على إغفال الدور الذى أداه المشروع الاستعمارى فى التصورات حول الجنسانية والشهوة فى كتاب فوكو المهــم والرئيسى تاريخ الجنسانية.
يعتبر كتاب مسعد «اشتهاء العرب» رحلة فكرية جريئة تؤرخ لكيفية «تطور الكتابة التاريخية العربية الحديثة والمعاصرة بمقدار كبيرعبر التبرؤ ليس فقط من عشـــق الرجال للغلمان فحسب ولكن أيضا من كل الرغبات الجنسية التى يتم تعريفها على أنها جزء من ماضى العرب والتى تشجبها أوروبا الآن وأحيانا أخرى تناصرها» (صفحة 1).
وكما يبين عنوان الكتاب، فإن مشروع مسعد الطموح يفتح طريقين متوازيين. فهو يصف كيف أن الخطاب الثقافى الاستعمارى المهيمن على العرب شكل تصوراتهم حول أنفسهم فى الإنتاج الفكرى المحلى الحديث، وفى نفس الوقت يلفت الانتباه للممارسات والهويات الجنسية فى النصوص العربية المدونة فى القرون الوسطى ويوضح كيف أنها تفكك وتكشف عن مدى كون التصورات العربية الحديثة عن الذات العربى هى نتاج الكولونيالية والامبريالية الثقافية.
لا يقدم مسعد فى مجمل الكتاب حجة لتأييد المحلية القوموية غير الغربية، ولا لتأييد وجهة النظر القائلة بوجود ماض سعيد خال من البؤس والاضطهاد يسبق العنف المعرفى والأخلاقى والسياسى الذى تمت ممارسته على غير الغربيين. بل بالأحرى تتجه نيته إلى الاعتراض على المحلية القوموية الغربية المدعمة بالحماسة الروسوية التى تصر على إرغام الناس على الحرية، أو محلية قوموية غربية تعتبر دمج العالم فى سويتها على أنه التحــــرر والتقــــدم بذاته، وخطوة نحو تعميم ما تعتقد أنه مفهومهــــا «الأسمي» للإنسان (صفحة 42).
وكمثال على هذه الممارسات المهيمنة، يظهر مسعد الانشغال الحديث بشخصية الماجن فى الأدب العربى الكلاسيكي. فبحلول الخمسينيات قام مؤرخو الثقافة العربية كردة فعل على التصويرات الاستشراقية للهويات والممارسات الجنسية العربية بتحويل الماجن إلى شخصية مرضية منحرفة ، ومن ثم تم تحويله مؤخرا إلى «المثلي».
وأصبح المثلى فيما بعد الثمانينيات يشكل «قلقاً رئيسياً شعبياً وسياسياً عند الإسلاميين وعند الفئات والجماعات الغربية التى تنادى بتعميم هوية المثلية الجنسية على المستوى العالمى على حد سواء. وكنتيجة لذلك وعلى نحو متزايد أصبح المثلى يشكل قلقاً بالنسبة للدولة وأدواتها القمعية والإنتاجية» (صفحة 416)
وكى يكشف كيفية حدوث هذه التحولات والتى أدت إلى الوصم الاستشراقى لهويات العرب الجنسية ولشهواتهم المثلية أدرج مسعد لنفسه ثلاث مهمات:
1) تنظيم أرشيف حديث من الكتابات العربية الحديثة عن الجنس والشهوة مؤلف من الأعمال المكتوبة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين التى تقوم بحفريات فى التاريخ والثقافة العربية والإسلامية منذ بزوغ الإسلام.
2) عرض مدى تكيف وتشكل الكم المعرفى الفكرى والأدبى العربى مع الافتراضات والتصورات والخطابات الغربية الموجودة أصلاً عن الجنسانية والشهوة فى ماضى وحاضر العرب.
3) وشرح كيف أن هذا الأرشيف الغربى الذى يتراوح ما بين الافتراضات الاستشراقية والداروينية الاجتماعية وبين الخطاب التنموى وخطابات حقوق الإنسان هو عامل مؤثر رئيسى فى بناء الذاتية العربية الحديثة بالإضافة إلى تصويرات السلوكيات الجنسية العربية فى التاريخ الفكرى والثقافى العربى الحديث.
من خلال رسمه لهذه الخارطة، يؤسس مسعد ببراعة العلاقة الحاسمة بين دور الغرب والاستعمار فى بناء خطاب جديد عن الشهوات والسلوكيات الجنسية عند العرب وكيف تم استدخال هذه الافتراضات تالياً من قِبَل العرب أنفسهم. فهو يحلل كيف أن خطاب الداروينية الاجتماعية والفانتازيا والدراسات الاستشراقية الغربية أصبحت مفتاح تقييم الحضارة العربية والإسلامية على أنها «متخلفة» وتعيش فى «عصر انحطاط»، بالإضافة إلى اعتبارها فضاء ثقافيا للجنس المتهتك فى القرون الوسطى وفى باكورة العصر الحديث. كما يحلل مسعد كيف أن هذه التركيبات الاستعمارية فى القرن التاسع عشر تجاهلت التصويرات الإسلامية والعربية فى القرون الوسطى حول الجنسانية والشهوة وتقريبا مكّنت الخطاب الإمبراطورى الحديث من العالم العربى كما لو أنه موقع «للكبت» الجنسي. ومنذ القرن التاسع عشر شرع المفكرون العرب فى عمليات حفر تاريخى لإيجاد دلائل تتحدى هذه التصويرات الغربية. ولكن بدلا من مساءلة هذه الافتراضات الأساسية والتصويرات العرقية، فإن الكُتاب العرب استدخلوا وتبنوا وأعادوا إنتاج وعجزوا عن الاعتراض على هذه الأفكار المخترعة حديثا فى الداروينية الاجتماعية فيما يتعلق بمفهومى الحضارة والثقافة بالإضافة إلى تبنيهم نظرة العهد الفيكتورى عن «الجنس الفاضح».
وقد تخلل هذا المشروع الدمجى نماذج عدة من الكتابة العربية عن الأدب كما بينت كتابات معلمين ليبراليين ومؤرخين ملتزمين بالتحرر الجنسى منذ القرن التاسع عشر بالإضافة إلى أدبيات الوطنيين والقوميين العرب ومفكرين علمانيين راديكاليين ومتدينين وإسلاميين كما هو الحال أيضاً فى أدبيات المحللين النفسيين العرب ونقاد الأدب والماركسيين والنسويين والنسويات إلى جانب الروائيين والشعراء فى جلّ أعمالهم. كما يحاجج مسعد إن المفكرين العرب يحاولون فى هذه الأدبيات «إثبات لكل العرب... من ناحية، ولكل الأوروبيين من ناحية أخري، أن العرب شأنهم شأن الأوروبيين فى مستواهم الثقافى والحضاري، على الرغم من أن الأوروبيين مصممون على معاملة العرب على أنهم أقل منهم» (صفحة 417).
فى الستة فصول التى يتكون منها الكتاب، يقدم مسعد تحرياً جديداً عن تاريخ تصويرات الشهوة الجنسية فى مجموعة متنوعة من الإنتاجات الأدبية العربية فى التاريخ والأدب والثقافة والإنتاج العلمي، وهو أول مفكر يجمع هذه الأدبيات معاً كى ينظم أرشيفاً عربياً حديثاً. وتتضمن مادته كتباًَ تاريخية وكتب رحلات ومذكرات وكتبا طبية واجتماعية ونفسية إلى جانب كتب عن الدين وروايات وأفلام ومقالات فى مجلات وجرائد وصحف تمثل قرنين من الإنتاج الثقافى العربى من قِبَل رموز فكرية عربية بارزة مثل رفاعة الطهطاوي، جرجى زيدان، قاسم أمين، طه حسين، أحمد أمين، سلامة موسي، سيد قطب، نوال السعداوي، فاطمة مرنيسي، حسين مروّة، صلاح الدين المنجد، والروائيين وكتّاب المسرح الرواد مثل نجيب محفوظ، رئيف خوري، سعد الله ونوس، يوسف إدريس، صنع الله إبراهيم، غادة السمان، محمد شكري، حنان الشيخ، جمال الغيطاني، علاء الأسوانى وغيرهم الكثير.
فيعتبر الهدف من هذا الأرشيف الحديث واجتهاد مسعد وتحليله المتميز لهذه المادة التى كونت بحثه مبتكراً وفاتناً ومؤثراً فى آن واحد، والأبعد من ذلك هو أن أهمية عمل مسعد الأرشيفى تكمن ليس فقط فى تسجيل وإعادة إنتاج السجالات حول الشهوة الجنسية التى تم كبتها (أى السجالات نفسها) ولكن ما هو أهم فى كتابه، وكما يقول هو، يكمن «فى الإشارة نحو مستقبل لم يأت بعد، لا سيما لمقاومة المحاولات من جانب عدد من القوى لتحديد وكتابة هذا المستقبل مسّبقا» (صفحة 418).
ويعد «اشتهاء العرب» بحثاً شديد الجدية ومدروساً ومصقولاً بشكل ملحوظ وهو دراسة مدعمة بوثائق لا تعدّ ولا تحصي. وفى الواقع، يشكل بحث مسعد الجدير فى مجموعه الكلى أسلوب بحث متماسكا وفعالا بدرجة عالية تسمح بتطور متزامن لبحثه بعيد المدي.
وفى قلب هذا المشروع الشامل الذى تمكِّن أساليبه التحليلية من القيام بحفريات فى مجالات وتخصصات متعددة تكمن مسألة الثقافة: اختراعها وإنتاجها وقمعها فى عهود الاستعمار وبعد الاستعمار فى الشرق الأوسط. وشأنه شأن أعمال مسعد الأخري، يتحرى «اشتهاء العرب» الفضاء الخطابى والمؤسساتى التى من خلاله تُختَرَع الثقافة تحت كل من الحكم الاستعماري، من خلال الممارسات الاستعمارية التى حاولت تشييء الاختلافات العرقية والدينية، وكذلك من خلال السياسة الثقافية لدول الاستقلال ما بعد الاستعمارية فى جهودها لتوحيد الأمة والهوية والانتماء القومي. وفى حدود هذا الإطار، يوجه بحث مسعد الجدير نفسه ويتحاور مع عدة تخصصات مثل الدراسات الشرق أوسطية، التاريخ الفكري، الدراسات الثقافية، دراسات ما بعد الاستعمار ودراسات النوع الجنســي. إن المشروع الأرشيفى الضخم فى «اشتهاء العرب» يؤكد قدرة مسعد اللافتة فى تقوية أسلوب البحث عبر تحويله إلى بناءات عابرة للتخصص وأصلية لمقاربة مجالات وتخصصات مختلفة من الدراسات الأكاديمية.
فهذا الكتاب إذن هو مساهمة رئيسية فى الكتابات الأكاديمية فى تخصصات عدة منها دراسات الشرق الأوسط، الدراسات عن الجنسانية والمثلية، وتاريخ العرب الفكرى والدراسات الإستشراقية، كما سيكون له تأثير ملموس على دراسات الأدب العربى الحديث أيضا. ولذلك لم تكن مفاجأة أن حاز «اشتهاء العرب» جائزة ليونيل تريللينج للكتاب عام 2008، وهى جائزة مرموقة تقدمها جامعة كولومبيا. ويشير منح الكتاب هذه الجائزة التى تكرم ذكرى الأكاديمى والمثقف ليونيل تريللينج إلى الإقرار بدور مسعد الموازى كمثقف يخاطب قاعدة واسعة خارج الأكاديمية من جهة وعلى أن إنتاجه الأكاديمى يظهر نفس المستويات المتميزة التى عرفت عن أعمال تريللينج.
يؤســــــس مســـــعـد ببراعــــة
العـــلاقـــــة الحاســمـــة بـــــين دور
الغرب والاستعمار فى بناء خطاب جديد
عـــن الشـــــــــهـوات والســلـوكيـات
الجنســـــية عنــــــد العــــــرب
Desiring Arabs, by Joseph A. Massad, University of Chicago Press, Chicago, 2007, 453 pp., #18.00 (hardback), ISBN 978 0 226 50958 7