أمـن إسرائيل استراتيجية أمريكيـة
قدمت الورقة موضوع هذه القراءة المطولة يوم 8 يوليو 1996 إلي رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو في أعقاب انتخابه لرئاسة الحكومة الإسرائيلية وهزيمة شمعون بيرس بعد مقتل رابين. واكتسبت هذه الورقة أهمية إعلامية بأثر رجعي إبان الإعداد للعدوان علي العراق حين أكدت ضرورة أن تدعم إسرائيل الحرب علي العراق، أولاً: كخيار أمريكي، أي في إطار السياسة الداخلية الأمريكية، وثانياً: كخيار استراتيجي إسرائيلي يكتسب أهمية قائمة بذاتها بالنسبة لإسرائيل، مما جعل الحرب تبدو كأنها حرب بالأصالة عن أمريكا وبالنيابة عن إسرائيل. وقد اكتسبت أهمية بأثر رجعي لأنه حين كتابتها بدت الورقة خارجة عن السياق التاريخي. في ظل سياسة إدارة كلينتون الخارجية.
ولكن رغم ما يبدو ويظهر للوهلة الأولي من محدودية أهمية أو فاعلية الورقة سياسيا، إلا أن الورقة تصلح للقراءة كنموذج لتحول حقيقي جار في اليمين الأمريكي، كما أنها صورت وجسدت تطابقًا بالمفاهيم مع اليمين الإسرائيلي المتطرف، كما عكست تحولاً حقيقياً في اليمين الإسرائيلي ذاته تم تجاهله في حينه مع انتشار الاعتقاد الخاطيء أن انتصار باراك علي نتنياهو في العام 1999 كان انتصاراً لليسار.
علي كل حال نحن لا نري أن للورقة أهمية قائمة بذاتها ولا نوافق علي منح كتابها أهمية شخصية أو قدرات خارقة علي التحكم بسياسة الولايات المتحدة الأمريكية عالمياً. فأبرز كتابها وأحد أهم رموز اليمين الأمريكي في الإدارة ورموز المحافظين الجدد عمومًا منذ مرحلة ريجان، ريتشارد بيرل، اضطر للاستقالة من منصب رئيس مجلس الدفاع، وهي هيئة مدنية نصف رسمية تعين من قبل وزير الدفاع كهيئة استشارية للبنتاجون.
وقد استقال بيرل علي إثر حملة «النيويورك تايمز» عليه لوجود تعارض بين علاقاته مع الشركات المنتجة للسلاح ووجوده في هذا المنصب شبه الرسمي. وهي علاقة من النوع الذي كان ينبغي أن يدفع تشيني، نائب رئيس الولايات المتحدة، نفسه للاستقالة. وجاءت الاستقالة في بداية الحرب مع تعرض خطة البنتاجون إلي مفاجآت جعلت بعض العرب يتحمس أو يعوم علي شبر ماء ليفسر استقالته كنتيجة لـ«فشل» الخطة، وكأن الخطة الأمريكية العسكرية قد فشلت.
تنبع أهمية الورقة من أهمية الأفكار الواردة فيها والتي تعكس أيديولوجية عقائدية متماسكة في السياسة الخارجية ما لبثت أن تحولت عندما سنحت الظروف إلي أساس نظري حقيقي يعكس تطابق الرؤية الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
وكلما ذكرت هذه الوريقة تثور في نفوسنا تصورات حول خطة مؤامراتية قام بها بضعة أفراد لاختطاف السياسة الخارجية الأمريكية، والحقيقة أن التحول في السياسة الأمريكية في مرحلة القطب الواحد أدي إلي تبنيها تدريجياً، ثم إلي تحقق هيمنة هذه المدرسة السياسية في عهد رئيس ضعيف يطرح ألف سؤال حول شرعية انتخابه ناهيك عن مؤهلاته، ويبحث عن معني ورسالة لرئاسته تتجاوز كونه ابن رئيس سابق.
في العام 1992 أعد كل من بول وولفويتز، نائب رئيس وزير الدفاع الأمريكي الحالي، وزميله لويس ليبي، مساعدي ديك تشيني وزير الدفاع في حينه، وثيقة تسمي «دليل تخطيط الدفاع في البنتاجون» Pentagon Defense Planning Guide دعت إلي «إنهاء مهمة» تلك الحرب وإسقاط النظام العراقي. وقد أكدت هذه الوثيقة الأطروحة الأساسية للتغيير في السياسة العالمية الامريكية: الحفاظ بكل ثمن علي وحدانية القوة الأمريكية بحيث لا تتجاوز قوتها دولة أو ائتلافًا من دول. ولم تشتهر هذه الأطروحة في حينه لأن الواقع ذاته تجاوزها وأكدها دون الحاجة إلي أي تآمر. أي أن الاقتصاد الأمريكي تجاوز حجماً ونجاعة كافة الاقتصاديات الأخري وبلغ المصروف العسكري الأمريكي عملياً ما يتجاوز الصرف العسكري للعشرين دولة التي تليها في حجم الإنفاق العسكري مجتمعة دون أن يشكل ذلك عبئاً علي الدخل القومي. كما تجاوز التطور العلمي الأمريكي في مجالات الحاسوب وتقنيات العدسات والاتصالات والصواريخ أية إمكانية لمنافسة من خارج الولايات المتحدة. وتنفق الولايات المتحدة علي الأبحاث وحدها في مجال الأسلحة أكثر من مجمل الإنفاق العسكري لبريطانيا وألمانيا سويا. وهذا وحده كاف لقطع الطريق علي المنافسة النوعية مستقبلا. ويبلغ حجم الاقتصاد الأمريكي ضعف الياباني، كما بالإمكان تدريج اقتصاد كاليفورنيا وحدها خامسا علي الصعيد العالمي قبل فرنسا وبعد بريطانيا.
ولكن جورج بوش عاد إلي تأكيد مبدأ الوحدانية والتفرد في المكان الأول نصاً وحرفاً في خطابه الشهير في قاعدة ويست بوينت في يونيو من العام 2002 ليس فقط تأكيداً لهذا المبدأ وإنما تفصيلاً له في السياسة الخارجية كأساس للحرب الإمبريالية في الخليج، كما ورد بشكل واضح في النص الرسمي التالي: «ستكون قدرتنا العسكرية قوية إلي درجة تمنع خصومنا المحتملين من بناء قوة عسكرية علي أمل تجاوز قوة الولايات المتحدة أو التساوي معها».
لقد وقع علي الورقة موضوع قراءتنا التي تكرر ذكرها في سياق التآمر لشن الحرب علي العراق كل من ريتشارد بيرل القادم من عهد إدارة ريجان، والذي أسمته الصحافة الإنجليزية أمير الظلام نتيجة لآرائه المتطرفة، وجيمس كولبرت (المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي)، تشارلز فايربانكس (جامعة جون هوبكنز) وسوف نري أن لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في هذه الجامعة شأنًا عظيمًا في بلورة اليمين المتطرف في الإدارة الأمريكية دون علاقة مباشرة بالنفوذ الصهيوني الأمريكي القائم بذاته، دوجلاس فيث (شركة فيث أند زيل Faith&Zell ) وهو حالياً مساعد وزير الدفاع سوية مع زميله وولفويتز، روبرت لودينر(رئيس معهد الدراسات السياسية والاستراتيجية الذي أصدر الورقة، ومقره في واشنطن والقدس)، جوناتان توروب (معهد واشنطن لشئون الشرق الأدني) ووجوده تأكيد علي تشابك اللوبي الصهيوني القديم: معهد واشنطن والإيباك واللوبي اليميني الإسرائيلي، مع اللوبي الجديد، دافييد وورمز (معهد الدراسات السياسية والاستراتيجية) وقد انتقل للعمل في البنتاجون في عهد إدارة بوش الابن، وزوجته ميراف وورمز (جامعة جون هوبكنز).
ويضاف مضمون الورقة الذي يشمل دمج الدعوة الصريحة لشن الحرب علي العراق ضمن الاستراتيجية الإسرائيلية إلي أسماء الموقعين عليها وتبوئهم مناصب مرموقة في الإدارة الأمريكية التي شنت الحرب لينتج ظاهرة مثيرة للاهتمام وحب الاستطلاع. ولكن ما يهمنا هو أولاً: مضمون الورقة باعتباره مؤشراً علي نمط صريح ومعلن إلي درجة الوقاحة في التفكير اليميني الجديد. وثانيا غرابة تحويل هذه السياسة إلي نصائح لإسرائيل في كيفية التدخل في السياسة الأمريكية والتأثير عليها أيضًا. وهذه الدعوة الصريحة لرئيس حكومة بلد أجنبي للتدخل في الشؤون الأمريكية الداخلية للتأثير علي عملية صنع القرار فيها لا يميز اليمين التقليدي. ولا يمكن تخيل أن يقوم ممثلو اليمين الأمريكي القديم بخطوة كهذه، فالوطنية الأمريكية تصده عن تقديم نصائح كهذه. الوطنية الأمريكية في حالة هذا اليمين الجديد تشمل إسرائيل، ولا تتعامل معها كدولة أجنبية. ومن هذا المنظور فإن وجود أخطر جاسوس في تاريخ البنتاجون جوناثان بولارد في السجن الأمريكي في هذه المرحلة هوعبارة عن انضباط أمريكي عسكري حتي تجاه إسرائيل.
يفاجأ المرء من صراحة ووضوح النص إلي درجة التآمر الصريح للعبث في شئون الدول الداخلية، بواسطة تشجيع «القبائل العربية» مثلا علي اختراق حدودها للتخريب كما يتم الحديث عن سورية في الورقة. وتجاوز سيادة الدول عند الحاجة هو من أسس السياسة الأمريكية الجديدة. نص كهذا يذكر بأن الأحداث التخريبية التي شهدها العراق من قبل غوغاء المدن والقبائل ليست بعيدة عن عقل هؤلاء التآمري.
النص:
1 ـ يبدأ النص بهجوم سافر وصريح علي حزب العمل الإسرائيلي «الذي يقود الحركة الصهيونية منذ خمسة وسبعين عاماً»، وذلك لأنه أوصل المجتمع الإسرائيلي بسياساته الاقتصادية المعتمدة علي قطاع الدولة إلي حالة أزمة وإفلاس (وهي مغالطة بالطبع) وإلي إنهاك المجتمع الإسرائيلي واعتمد علي محدودية قدرته علي الصمود بدلا من أن ينميها عبر نشر أوهام مثل «الشرق الأوسط الجديد» والتنازل عن أراض، ثم الاستعانة بالولايات المتحدة لتمريرها في المجتمع الإسرائيلي حيث لا تحظي هذه السياسة بشعبية.
لقد سبب حزب العمل علي حد تعبير معدي الورقة تآكلا في قدرة الصمود والاحتمال الوطنية الإسرائيلية، وقد بني سياسته أيضاً علي محدودية قدرة الاحتمال وانعدام ثقة «الأمة» بذاتها (يستخدم كاتبو الورقة وهم أمريكيون مصطلح الأمة بدون إضافات أو نعوت والقصد هو الأمة اليهودية أو الإسرائيلية، لا ندري أيهما المقصود).
هنا يستغرب القارئ من غزارة استخدام المؤلفين لمفاهيم الأمة والقومية وضرورة رفع معنوياتها وثقتها بذاتها كمقدمة لصنع السلام بالشروط الإسرائيلية. والغريب أنهم يرفضون التدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية الإسرائيلية (والمقصود هو استعانة رابين بها ضد شامير مثلاً) ولكنهم لا يرحبون فقط، بل يدعون إلي تدخل إسرائيلي في شؤون الولايات المتحدة الداخلية وفي عملية صنع القرار فيها. هؤلاء قوميون بدون شك، واليمين الجديد يؤكد علي دور القومية عالمياً في السياسة الخارجية، ولكن يبدو لي أن قومية هؤلاء هي قومية يهودية مختلطة بوطنية مشتركة أمريكية وإسرائيلية. والقومية الوحيدة التي يعادونها هي تلك التي تستخدم للتعبئة ضد انتشار النفوذ الأمريكي.
تنص الورقة أنه باستطاعة إسرائيل أن:
ـ تعزز التعاون مع تركيا والأردن لاحتواء ثم وقف ثم قلب ما يواجهها من تهديدات. وهذا يتطلب الانتقال من تطبيق شعار «السلام الدائم» إلي المفهوم التقليدي للاستراتيجية القائم علي توازن القوي.
ـ تغيير طبيعة العلاقة مع الفلسطينيين، بما في ذلك التمسك بحق المطـاردة الساخنـة (وتعني ملاحقة منفذي العمليات الفلسطينيين) إلي داخل مناطق السلطة الفلسطينية و«تغذية بدائل لقبضة ياسر عرفات علي المجتمع الفلسطيني».
ـ تؤسس قاعدة جديدة للعلاقات الأمريكية الإسرائيلية تنطلق من الاعتماد علي الذات والتعاون الاستراتيجي في مجالات الاهتمام المشترك ودعم القيم الغربية. ويصبح هذا ممكناً إذا اتخذت إسرائيل خطوات تقليص المعونة الأمريكية المالية لها، هذه المعونة التي تعيق الإصلاح الاقتصادي. ويلتقي معدو التقرير في هذا المطلب مع عناصر متطرفة في اليمين الإسرائيلي تعتبر الدعم الأمريكي المالي المباشر لإسرائيل عائقًا أمام استقلال الأخيـرة ونمـوها الاقتصــادي السـليم في آن.
وتقوم المقاربة الجديدة التي يقترحها المؤلفون إلي موضوع السلام علي نسف كامل لمبدأ الأرض مقابل السلام، ويقترحون مباديء أخري تقوم علي اعتراف العرب بحاجتهم هم إلي السلام: السلام من أجل السلام والسلام من خلال القوة و مبدأ توازن القوي.
ويقترح المؤلفون النص التالي لتلخيص الموقف الإسرائيلي الرسمي الجديد من السلام:
« لقد قمنا لمدة أربعة أعوام بالسعي إلي سلام قائم علي تصور شرق أوسط جديد. نحن في إسرائيل لا نستطيع أن نلعب دور الأبرياء في عالم غير بريء. نحن نعيش في بيئة جيران خطيرة، مع دول هشة تعيش صراعات مريرة. ويعتمد السلام علي طبيعة وسلوك أعدائنا. وحالة طمس الحدود الأخلاقية بين الجهد المبذول لإقامة دولة يهودية والرغبة في القضاء عليها وذلك بواسطة مبادلة «الأرض مقابل السلام» لا تضمن «السلام الآن». ادعاؤنا علي الأرض التي تطلعنا إليها بأمل طيلة ألفي عام هو ادعاء شرعي ونبيل. وليس بوسعنا أن نصنع السلام من طرف واحد مهما قدمنا من تنازلات. وحده قبول العرب غير المشروط بحقنا هذا، خاصة ببعده الإقليمي، «السلام مقابل السلام»، يشكل أساساً صلباً للمستقبل».
يقترح المؤلفون بشكل واضح خرق ومراجعة أو إلغاء اتفاقيات أوسلو. وتشكل هذه التوصية تعبيرًا عن موقف أمريكي رافض لأوسلو أصلاً. مع الفرق أن كلاً من الإدارة الأمريكية ونتنياهو تكيفا مع اتفاقيات أوسلو علي أمل أن يؤدي إلي تغيير في الموقف الفلسطيني، أما هؤلاء فقد ثابروا في موقفهم الرافض لاتفاقيات أوسلو إلي أن تبنته الإدارة الأمريكية واليمين الإسرائيلي بعد الانتفاضة الثانية. هنا علينا أن نتوقف قليلاً عند الفرق بين هؤلاء وبين اللوبي الإسرائيلي التقليدي الذي عمل قبل أن يسطع نجمهم في سماء العاصمة واشنطن.
لقد قامت AIPAC (The American Israel Public Affairs Committee) بعد العام 1967 مع ازدياد أهمية إسرائيل استراتيجياً في المنطقة. وقد مثلت في نشاطها تصور الحكومة الإسرائيلية القائمة، أياً كانت، ودافع ممثلوها عن مواقف الحكومة الإسرائيلية وجندوا لها الدعم والتأييد في واشنطن، وفي الكونجرس علي وجه التحديد، علي شكل لوبي يعمل علي إقناع النواب بدعم الموقف الإسرائيلي سياسياً بما في ذلك موضوعات خارجية مثل قضايا حق يهود الاتحاد السوفيتي بالهجرة وغيرها، وقضايا التسلح والدعم المالي لإسرائيل.
أما المرحلة الانتقالية من الناحية النظرية، أو من حيث المفاهيم، فشكلها تأسيس معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدني ، وقد تأسس عام 1985. وقد تجاوز في نشاطه الكونجرس إلي العمل المباشر في التأثير علي الإعلام والسلطة التنفيذية.
لعب مارتن أنديك دوراً أساسياً في تمثيل وجهة نظر هذا اللوبي في الإدارة الأمريكية. ومن أهم وثائق هذه المؤسسة الصهيونية تقرير «البناء من أجل السلام: استراتيجية أمريكية من أجل السلام». سBuilding for Peace: An AmericanA Strategy for the Middle Eastس وقد عارض هذا التقرير الذي صدر عام 1988 بعد انفجار الانتفاضة الأولي تدخلاً أمريكياً يفرض إجراءً تفاوضيا علي إسرائيل، أو يفرض تسوية. وقد وجد ستة من مؤلفيه طريقهم عملياً إلي إدارة بوش الأولي حيث ساهموا في تعزيز موقف يرفض التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية ويدعو الإدارة الأمريكية إلي عدم فرض التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية علي إسرائيل. وهذا التجنب الأمريكي هو الذي أنجب صيغة مدريد الفاشلة التي فرضت بموجبها إسرائيل أن يكون الطرف التفاوضي الفلسطيني من خارج منظمة التحرير الفلسطينية.، وعندما وصلت إسرائيل الرســمية إلي قناعة بالحاجة إلي مفاوضات جدية قامت بنفسها بالالتفاف علي هذه الصيغـة في أوسلو متجاوزة عملاً تراكميا لســنوات طـويلة مع اللـوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة.
ولكن تقييم نشاط مارتن أنديك ودنيس روس يظهر أنهما واصلا عملياً محاولة إثبات عدم صلاحية منظمة التحرير الفلسطينية للتفاوض. ومع أن روس كان الموفد عابر الرئاسات والإدارات لشؤون اتفاقيات أوسلو، إلا أنه لم يقتنع بأوسلو في يوم من الأيام مثلما كان موقف «معهد واشنطن» المذكور.
ولا شك أن سياسة الاحتواء المزدوج التي تبناها كلينتون ضد العراق هي الأب الشرعي، أو غير الشرعي، لسياسة محور الشر عند بوش. إلي هنا الاستمرارية والشبه، أما الفرق فيكمن بالضبط في الفرق بين الاحتواء والمواجهة الشاملة أو الحرب الشاملة في عهد بوش.وليس غريبا أن يشـدد النقاد الأمريكيون المخضرمون من قدامي المناضـلين الديموقراطــيين ضد ســياسة الإدارات الأمريكية المتعاقبة العدوانية في مناطق مختلفـة من العالم من أمثال نعوم تشومسكي وجور فيدال علي الاسـتمرارية كأن سـياسة إدارة جورج بوش الابن لا تمثل جديدا علي الإطلاق.
«الحدود الشمالية»:
محور توصيات الورقة في حالة سورية ولبنان المسماة هناك بالحدود الشمالية اعتبار سوريا وإيران وحزب الله أهدافا ملحة في عملية محاربة الإرهاب. ويفترض أن تعاقب سوريا في لبنان، ولكن يجب أن تعاقب إسرائيل سوريا في المستقبل في سوريا ذاتها إذا لم ينفع الأسلوب الأول. «وأخذاً» بعين الاعتبار طبيعة النظام السوري، فإن من الطبيعي والأخلاقي في آنٍ أن تغادر إسرائيل شعار «السلام الشامل» وأن تنتقل إلي «احتواء» سوريا وأن تلفت النظر إلي أسلحة الدمار الشامل وأن ترفض شعار «الأرض مقابل السلام في الجولان».
ثم وفي الإطار ذاته يورد التقرير الفقرة التالية:
«يشدد هذا الجهد علي الإطاحة بصدام حسين، وهو هدف استراتيجي بحد ذاته بالنسبة لإسرائيل، كوسيلة لتغليف ( اقرأ احتواء) طموحات سورية الإقليمية. لقد تحدي الأردن سورية مؤخراً بطرح إعادة بناء المملكة الهاشمية الأردنية في العراق، وقد ولد الاقتراح نزاعاً سورياً أردنياً رد عليه الأسد باختراقات في الأردن تمس باستقرار النظام فيه. لقد أشارت سوريا مؤخراً إلي أنها، ومعها إيران، تفضل صدام حسين ضعيفًا لا يكاد يصمد في صراع البقاء، وذلك لإجهاض محاولات الأردن وإذلالها».
وإمعاناً في محاولة إقناع الحكومة الإسرائيلية بضرورة الإسهام بدور لتجهيز الأجواء لشن حرب علي العراق يثير التقرير قضية «الشيعة في لبنان» وضرورة تحريرهم من التأثير الإيراني، وذلك عبر إعادة ربطهم بالنجف، حيث تربطهم علاقات تقليدية تسبق علاقاتهم مع إيران، وذلك بعد تأمين نجف صديقة بعد الإطاحة بنظام صدام حسين.
حضانات اليمين الجديد في واشنطن:
قبل ثلاثين عاماً قامت في واشنطن «لجنة الخطر الداهم»، وشكلت هذه ظلاً للمؤسسة العسكرية في حينه خارج البنتاجون بحيث تقول ما ليس بوسع العسكريين أن يقولوه ويرغبون بقوله. ولم تترك هذه الهيئة أثراً جدياً في مرحلة الرئيس كارتر ولكن نفوذها ازداد دون شك في مرحلة ريجان. هذا النمط من إقامة ظل خارج المؤسسة السياسية للمؤسسة العسكرية في فترة لا تروق لها السلطة السياسية وقراراتها هو نموذج نسخ في مرحلة كلينتون بإقامة مؤسسات تعبر فيها قوي اليمين في الإدارة العسكرية والسياسية الأمريكية عن مواقفها في متنفس من خارج المؤسسة إلي أن تحين الفرصة لممارسة تأثير مباشر علي البنتاجون كما حصل في فترة بوش الابن.
ونذكر من هذه المؤسسات التي شكلت حضانات لنمو اليمين الجديد علي هامش المؤسسة ثم داخلها:
1 ـ مجلس سياسات الدفاع، Defense Policy Board وتذكر علي قائمة مجلس إدارته أسماء كل من ريتشارد بيرل، جيمس وولسي رئيس مخابرات سابق، فرانك جافني، اليوت كوهين، هنري كيسنجر، جيمس شليزنجر رئيس مخابرات سابق، هيوت جنجريتش رئيس الكونجرس السابق. وتتألف غالبيتهم من موظفين سابقين في المؤسسة العسكرية والسياسية يجمعون بين اليمين التقليدي واليمين الجديد.
2 ـ مدرسة الدراسات الدولية العليا في جامعة جون هوبكنز، SAIS. وقد أسسها بول نتسهPaul Nitze في العام 1944 وقد شغل بول نتسه مناصب رفيعة في كافة الإدارات الأمريكية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ماعدا إدارة كارتر. وحتي استقالته عام 89 شغل منصب وزير خمس مرات. وبول نتسه هو أبو اليمين الجديد الروحي. وجميعهم إما تلامذته المتأثرون بفكره، أو خرجوا من معطفه روحياً. وقد مثّل الرجل الموقف غير القابل بالتوازن العسكري مع الاتحاد السوفيتي والردع القائم علي أساس خوف الخصم من الضربة الثانية المدمرة والذاهب إلي ضرورة خرق التوازن لضمان التفوق العسكري الأمريكي وإمكانية القضاء علي الاتحاد السوفيتي.
3 ـ مشروع لقرن أمريكي جديد: PNAC تأسس عام 1997 ورئيسه وليم كريستول وينشط معه بشكل خاص روبرت كاجان. كريستول هو رئيس تحرير صحيفة Weekly Standard حالياً بعد أن اشتراها كونراد بلاك الذي اشتري جيروزاليم بوست الإسرائيلية أيضاً وحولها إلي صحيفة يمينية. ويملك شركات صحافة في بريطانيا وكندا ويتبني مواقف اليمين الإسرائيلي.
وقد نشر PNAC مشروعًا أو خطة لضرب العراق والإطاحة بنظام صدام حسين بناءً علي ورقة وولفويتز وليبي من العام 1992، «دليل الدفاع الأمريكي»، التي قدمت لتشيني في حينه كوزير دفاع. ويعتقد وولفويتز أن اليمين الجديد قد حقق انتصارا باقتناع الإدارة بشن حرب علي العراق، ولكنه ما زال يشعر علي خلاف مع الإدارة في شأن السعودية، وهو يري أن المملكة العربية السعودية تنشر بالسطر الأخير فكرًا ديماجوجيا معاديا للغرب يتناقض مع ممارساتها.
ومن يتواجد علي مجلس إدارة هذه المؤسسة؟ وولفويتز، اليوت كوهين (رئيس)، رامسفيلد، جافني، دونللي، ابرامز، جب بوش.
4 ـ مركز السياسات الدفاعية CSP: Center For Security Policy ، ومن مستشاريها اليوت ابرامز المدان بالكذب وبالتورط في قضية إيران من مرحلة ريجان.والذي أعيد تعيينه حالياً كرئيس لقسم الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي.
5 ـ المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي،JINSA:Jewish Institute for National Security Affairs. تأسس عام 1976 لتعزيز الدعم العسكري لإسرائيل لكي لا تجد نفسها في وضع كوضعها إبان الحرب عام 1973 مرة أخري. وحتي بداية فترة حكم بوش الابن جلس في مجلسها الاستشاري كل من: تشيني، جون بولتون، وما زالت علي مجلسها أسماء كل من: جيمس وولسي، ريتشارد بيرل، جين كيرباتريك (المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة في عهد رونالد ريجان) اويجين روستوف، ومايكل ليدين (وسيط أوليفر نورت إلي إسرائيل في عملية إيران ـ كونترا).
تجمع المؤسسة بين اليمين القديم من مرحلة ريجان واليمين الجديد. وأهم الناطقين باسمها هو مايكل ليدين صاحب مفهوم الحرب الشاملة ضد الإرهاب. ويمكن تلخيص توجه المؤسسة بأن هنالك تطابقًا تامًا بين الأمنين القوميين الأمريكي والإسرائيلي وأن السبيل لتأمين سلامة وازدهار البلدين يبدأ بتحقيق الهيمنة الكاملة علي الشرق الأوسط بأساليب التآمر والتمويه والحرب المباشرة.
6 ـ مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية . رئيسه برنت سكوكروفت مستشار الأمن القومي السابق. وأعضاء: تشيني، وولسي، كيسنجر،شليزنجر، رمي لي هنت (من شركة Hunt Oil في تكساس).
7 ـ المجلس الاستشاري للاستخبارات الخارجية: وفي مجلسه سكوكروفت، جون دويتش (رئيس المخابرات السابق) وهانت.
8 ـ هنا نورد الحالة اللافتة التي تظهر مدي تشعب أذرع التيار اليميني الجديد بشكل يوضح الصورة ويغلق الدائرة.
غرفة تجارة الولايات المتحدة ـ أذربيجان. وكأن مجلسها مؤلف من قائمة معدي الحرب علي العراق؛ وولفويتز، بيرل، تشيني، ارميتاج (مساعد وزير الخارجية حالياً وأيضاً من أبطال إيران/كونترا سابقًا)، وبريجنسكي، كيسنجر، شلينجر، سكوكروفت، جيمس بيكر.
وقد تحولت أذربيجان عملياً إلي دولة محمية أمريكية، دون إشارة أمريكية أو تلميح إلي مدي ديموقراطية أذربيجان، وغيرها من جمهوريات آسيا الوسطي التي تسعي الولايات المتحدة لتحويلها إلي محميات دون إشارة إلي مدي ديموقراطيتها، كأن كلمة آسيا قد بدلت كلمة أمريكا في عبارة «أمريكا الوسطي». ويبدو أن العراق يجب أن تكون مثل أذربيجان الغنية بالنفط.
لقد أقام الناتو عملياً في العام 99 مجموعة دول الجونان (جورجيا، مولدافيا، أوكرانيا، أوزبكستان ـ أذربيجان)، وهي مجموعة الدول علي بحر قزوين الغني بمصادر الغاز الطبيعي. وفي مركز هذه المجموعة دولة أذربيجان.
ولا شك أنه بالإمكان ضم مجلس سياسات الدفاع برئاسة ريتشارد بيرل إلي هذا اليمين الأمريكي الجديد الذي يعتبر في جلساته العراق كهدف تكتيكي ومصر كهدف استراتيجي والسعودية هي الحلوي. وقد كانت أكثر حركاته إحراجاً وإثارة في الفترة الأخيرة ما تسرب إلي الإعلام من جلسته 10/7/2002 عندما اعتبر لورين مورافيتش في مداخلته أمام المجلس السعودية عدواً للولايات المتحدة مستخدما في وصفها تعبير «نواة الشر» kernel of evil .
وفي تقرير أخير أصدره «مركز النزاهة في سلك العمل العام» حول هذا المجلس الاستشاري شبه الرسمي تبين أنه من بين ثلاثين عضوًا في هذا المجلس الذي يقدم المشورة للبنتاجون تسعة علي الأقل يحتفظون بعلاقات لشركات صناعات عسكرية حققت في الأعوام 2001 و2002، 76 مليار دولار من أرباح التعاقدات. كما تبين أن أربعة أعضاء مسجلون كأعضاء في جماعات ضغط للتأثير علي الكونجرس، أحدهم يمثل اثنتين من أهم شركات صناعة الأسلحة في أمريكا.
لقد حاولت أوساط «مجلس سياسات الدفاع» برئاسة بيرل حال وقوع عمليات الحادي عشر من أيلول استغلالها فوراً من أجل توجيه النقمة ضد العراق ومن أجل إعداد المزاج السياسي والجماهيري لضرب وقلب نظام الحكم في العراق. ولم يكن ذلك مجرد تطبيق للورقة التي نقوم بقراءتها وإنما لتحقيق هيمنة نمط جديد من التفكير السياسي علي البيت الأبيض نفسه. هكذا حددت الإطاحة بنظام صدام حسين كجزء من المعركة ضد الإرهاب. كان هذا موقف رامســفيلد ومن ورائــه البنتاجون بأسره.
لقد أوفد هؤلاء الذين اجتمعوا في «مجلس سياسات الدفاع» بعد عمليات 11 سبتمبر مباشرةً جيمس وولسي إلي لندن للبحث عن أدلة تربط النظام العراقي بالقاعدة. وهو الذي خرج إلي العالم بفرية لقاء براغ بين محمد عطا وأحمد العاني من المخابرات العراقية. هذه الفرية التي كررتها صحف روبرت موردوخ ( 175 صحيفة إضافة إلي شبكة فوكس) وغيرها من الصحف الرخيصة وغير الرخيصة دون علاقة بملكيتها. والتي أحرجت حتي المخابرات التشيكية الودودة.
وهكذا يلخص نعوم تشومسكي العملية بأسرها بالأرقام: بعد 11 سبتمبر مباشرة اعتقد 3% من الأمريكيين فقط أنه توجد علاقة ما للعراق بالعملية. وعشية شن الحرب علي العراق اعتقد 50% من الأمريكيين أن العراق تقف وراء عملية 11 سبتمبر أو لها علاقة بها.
لقد نشرت (PNAC مشروع قرن أمريكي جديد) مذكرة موجهة إلي كلينتون تطالب بشن الحرب علي العراق والإطاحة بنظام صدام حسين يوم 26/1/98 وقد وقع علي المذكرة أربعون شخصية منهم كريستول، تشيني، ليبي، رامسفيلد، وولفويتز، بولتون، بيرل، ابرامز، خليلزاد (مسؤول الشأن الأفغاني في الإدارة الأمريكية بعد 11 سبتمبر، والكلف بلعب دور في الإدارة العراقية إلي جانب جاي جارنر) وارميتاج، اليوت ابرامز (وزير دفاع سابق وله ضلع في قضية إيران/كونترا) كاسبر وانبرجر (وزير أمن سابق له ضلع في إيران/كونترا)، فرانك برلوتشي .
وعندما لم يتعامل كلينتون مع رسالتهم قاموا بالاستعانة بالكونجرس علي أسلوب اللوبي الإسرائيلي المعروف. فتم توجيهها إلي جنجرتش رئيس مجلس الشيوخ وإلي رئيس الأغلبية في ترينت لوت يوم 29/7/98، وكانت نتيجة هذا المسعي صدور قرار «تحرير العراق» عن الكونجرس في نوفمبر 98، كان ذلك قبل أسابيع من بدء كلينتون بقصف العراق لمدة أربعة أيام متواصلة في عملية «ثعلب الصحراء».
نمط التفكير الجديد:
لقد حذر زعماء عرب الولايات المتحدة من أن حربها علي العراق سوف تؤدي إلي حالة من عدم الاستقرار في المنطقة، ظناً منهم أن هذا التحرير سيهز مخططي الحرب علي العراق أو يصدمهم. والحقيقة أن مفاهيم الاستقرار أو عدم الاستقرار قد باتت مفاهيم ثانوية بالنسبة إلي مخططي ومنظري هذه الحرب. ولأن تصورهم للعالم يقوم علي مفاهيم أخري أساسية مثل وحدانية القوة والهيمنة، حق الضربة المانعة، فإن تحذيرًا من نوع «إن الحرب علي العراق تمس بالاستقرار في منطقة الشرق الأوسط» لا تخيفهم إطلاقا.
وتستطيع أن تميز نمط التفكير الأمريكي الجديد بأنه استخلاص لنتائج الحرب الباردة ونهاية الاتحاد السوفيتي وإدراك لمعني قوة ووحدانية قوة الولايات المتحدة، وقد انطلق طريق الوصول إلي هذا الاستنتاج من حرب الخليج الثانية مروراً بالتدخل العسكري في البلقان والحرب علي أفغانستان وصولاً إلي الإطاحة بالنظام الحاكم في العراق بعد احتلال ذلك البلد عسكرياً.
وتشتق من التفوق العسكري المطلق عناصر أخري مهمة تميز عقيدة وحدانية القوة مثل نهاية سياسة الردع التي تميز مرحلة التوازن في القوي. فما ميز حالة التوازن لم يعد كافيا ولا حتي ساري المفعول، والمقصود الردع الذي يمنع الطرف الآخر من القيام بعمل عسكري مباشر ضد الولايات المتحدة أو مصالحها الحيوية جدًا نتيجة لخوفه من رد الفعل المدمر، وقد يفسح الردع المجال للتنفيس عن الصراع عبر نزاعات إقليمية. وأصبح المطلوب مع انهيار التوازن ونشوء حالة القطب الواحد هو المبادرة إلي القيام بعمل أو أعمال في حال وجود خطر، ولو كان الخطر غير أكيد بل قائم بالقوة أي بالإمكانية وحدها. وتمثله قوي غير ودودة لمصالح الولايات المتحدة.
هنـا يتم التمييز بين ضربة وقائية preemptive strike والتي كانت تعتمد إبان الحرب الباردة في حالة وقوع خطر شديد وملموس وتستخدم قبل وقوعه لشل قدرة الخصم علي إيقاعه من ناحية وبين الحرب الوقائيةWar Preventive والتي تكتفي بتشخيص إمكانية خطر يأتي من دولة أخري من أجل شن حرب. يطبق إحلال المبادرة إلي الحرب محل غياب الردع مفهوم الوحدانية بشكل كامل، إذ قد تقوم الولايات المتحدة «بما هو ضروري» بغض النظر عن وجود حلفاء. وتتغير طبيعة التحالفات تبعاً للمهمة وليس العكس كما يقول رامسفيلد، أي أن الولايات المتحدة لم تعد تحدد مهماتها بناء علي التحالفات. وهذا يعني أيضاً تحطيم قواعد اللعبة القديمة والإجماع الدولي وغيرها لغرض شن الحرب أمام إصرار الولايات المتحدة علي اتخاذ خطوة العمل العسكري ولو وحدها. هنا تتحول وحدانية القطب إلي وحدانية الفعل: من unipolarism إلي unilateralism .
وأمام وحدانية قوة الولايات المتحدة وحريتها في الحركة وأمام زوال الحاجة إلي التوازن والردع والالتزام بالمؤسسات الدولية يصبح الالتزام بالاتفاقيات والمعاهدات والقواعد المتفق عليها أمراً نسبياً، وتميل الولايات المتحدة إلي عدم تقييد نفسها بمعاهدات، وتقوم حتي بالتراجع عن معاهدات موقعة. هكذا تراجعت إدارة بوش عن موافقة إدارات سابقة بالتوقيع علي اتفاق كويوتو حول تسخين الغلاف الجوي، وعن اتفاق إقامة المحكمة الجنائية العالمية علي أساس معاهدة منع انتشار الأسلحة البيولوجية، ورفضت ومعها إسرائيل التوقيع علي معاهدة دولية لإقامة المحكمة الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب.
في سياق «الحرب ضد الإرهاب» اكتسبت الحرب معني الشمولية. ولا شك أن وجود قوة عسكرية لدي الولايات المتحدة لغرض التدخل في أي بقعة في العالم وعلي أهبة الاستعداد للانتشار لدي صدور الأمر لا تعكس توجها جديدا بل إمكانيات جديدة أيضا. ولا شك أن النقاش الذي شهدته واشنطن حول حجم القوة العسكرية اللازمة لاحتلال العراق وإحداث التأثير اللازم بأقل خسائر للقوات الغازية وبأقصر وقت ممكن، وهو النقاش الجدي الوحيد الذي دار في إعلام المؤسسة الإعلامية الأمريكية، له علاقة مباشرة بمدي صحة هذه النظرية عمليا. فالموضوع لا يتعلق بالعراق وحده وإنما بنمط عمل الإمبراطورية «المضطرة» لتفعيل قوة تدخل سريع لحسم قضايا وقلب أنظمة.
ويستطيع أي محلل نقدي أن يوقف سير العرض الحماسي حول تحول ثوري وجذري في السياسة الأمريكية ليقول لنا، أن الجديد الوحيد في الأمر هو القدرة التقنية العالية وليس التغير الأيديولوجي، فهي التي تمكن الولايات المتحدة من إخضاع الخصم واحتلال الدولة بسرعة وأقل خسائر ممكنة، لأنه يتم تنفيذ المهمة الأساسية قبل الانتشار البري بواسطة سلاح الطيران وسلاح الصواريخ والقدرة التكنولوجية العالية في مجالات الرصد والتوجيه والاتصالات. وهذا صحيح إلي حد بعيد.
ولا يكفي بالطبع أن نحمل التكنولوجيا المتطورة المسؤولية كلها، بل يضاف أيضا انهيار القطب الثاني الذي كان قادرا علي إمداد الخصم الإقليمي في الصراع بالدعم الكافي لإطالة صموده ولتحقيق انتصارات بمعني ما بسبب قدرته علي تحييد بعض من قوة أمريكا العسكرية أيضا. ولكن ألم يكن للتكنولوجيا المتطورة بفعل التنافس بين الاحتكارات وتوظيف العلم في عملية الإنتاج أثر علي انهيار القطب الثاني كقطب مواز أو رادع؟ هكذا عدنا إلي التطور التكنولوجي.
لقد ذكرنا أن الإدارات الأمريكية السابقة اقتنعت بموقف إسرائيل عدم التفاوض مع منظمة التحرير أكثر مما اقتنعت إسرائيل ذاتها في لحظة تاريخية محددة. ولكن قد يفاجأ المرء أن يسمع أنه كانت قوي أمريكية أساسية تعارض كامب ديفيد الإسرائيلي المصري نفسه. فكيسنجر صاحب نظرية فصل القوات بين إسرائيل ومصر نصح الإسرائيليين بعدم إزالة المستوطنات في سيناء. وفي حينه وبعد مرور زمن علي الاتفاقيات رد شارون الذي تولي أمر هدمها علي هذه الانتقادات أنه دون إزالة المستوطنات ما كان بالإمكان التوصل إلي سلام مع مصر بل إلي حالة لا حرب في أفضل الحالات. فأجابه كيسنجر، والرواية علي ذمة شارون، وماذا لديكم مع مصر الآن؟ أليست حالة لا حرب؟
لقد تطورت فكرة السيطرة العسكرية الأمريكية المباشرة علي الخليج تدريجيا، ولم تحصل مثل كسر في التواصل Clean Break الفكري مثلا بفعل من المحافظين الجدد. فمنذ أن ارتفعت أسعار النفط في الأعوام 74ـ75 بعد الحظر الذي رافق حرب أكتوبر، وموجة الارتفاع الثانية بفعل الثورة الإيرانية، منذ تلك المرحلة يجري تفكير استراتيجي أمريكي حول الموضوع. والموضوع مطروق بكثافة وتزدحم فيه مراكز الأبحاث، وقد لفتت النظر مقالة لروبرت درايفوس يذكر فيها عن السفير الأمريكي السابق لدي السعودية أكينز Akins أنه قرأ مقالاً موقعًا باسم مايلز اجنوستوس نشر في هاربرز ثم في عدة صحف أمريكية تحت عنوان « السيطرة علي النفط العربي» ويدعي كاتب ذلك المقال أنه يستند إلي مصادر عليا في الإدارة الأمريكية تدعو إلي السيطرة الأمريكية المباشرة علي منابع النفط العربي وإدارة إنتاجه من تكساس وأوكلاهوما، وما كان من السفير المتحمس إلا أن هاجم المقال باعتباره دعوة استفزازية لتوتير العلاقة مع دول صديقة في الخليج....ولم ينتظر السفير طويلا ليكتشف أن المصادر العليا هي وزير خارجيته كيسنجر ذاته وأن مهاجمة المقال المذكور كلفته وظيفته كسفير في الخارجية الأمريكية.
لقد أعلن كارتر عن أول قوة للتدخل السريع في الخليج بعد تصريحه الشهير في كانون الثاني عام 1980 والذي حدد فيه الخليج كمنطقة حيوية للمصالح الأمريكية والأمن القومي الأمريكي. هكذا أقيمت قوة التدخل السريع وذلك في عهد أحد الرؤساء السابقين صاحب السمعة الأكثر اعتدالا في تعامله مع العالم الثالث.
وفي عهد ريجان قامت قيادة المنطقة الوسطي التي سمعنا تغطية إعلامية مكثفة من مقرها في قطر إبان الحرب العدوانية علي العراق. وتمتد المنطقة الخاضعة لهذه القيادة من القرن الإفريقي وحتي أفغانستان. وفي هذه المرحلة تم الرهان بشكل جدي علي تسليح تركيا والسعودية إضافة إلي إسرائيل، كما بيعت طائرات اواكس وإف 15 للسعودية الأمر الذي أثار حفيظة ونشاط إيباك في الكونجرس ضد هذه الصفقات. ولكن الولايات المتحدة لم تتمكن من إقناع دول الخليج بضرورة وجود عسكري أمريكي جدي ومباشر، عدا في دول مثل البحرين وعمان، إلي أن سهلت حرب الخليج الثانية عليها المهمة باجتياح العراق للكويت. بعده تمكنت الولايات المتحدة من إقامة قواعد عسكرية ضخمة في الكويت والسعودية وقطر. ومنذ ذلك الحين باعت الولايات المتحدة للسعودية أسلحة ومعدات ومباني بمبلغ 43 مليار دولار وللكويت بمبلغ 16 مليار دولار، هذا عدا قطر والبحرين والإمارات.
حرب الخليج الثالثة ثبتت كما يبدو حاليا الوجود العسكري الأمريكي في الخليج، كما ترجمته في الواقع إلي خطوة عملية هي تغيير نظام، وربما إقامة نظام بديل تحت الحماية الأمريكية في أحد أهم بلدان المنطقة علي الإطلاق.
ورغم النقاش المستمر هل هو النفط أم الهيمنة الإمبريالية أم إسرائيل فلا شك أن هنالك علاقة للنفط بالموضوع حتي لو كان المنطلق الأساسي هو الهيمنة. وإسرائيل وحدها أو النفط وحده لم يكن كافيا لشن حرب. ومع أن الهيمنة هي الدافع إلا أن هنالك شكًا إذا كانت الولايات المتحدة ستتدخل عسكريا ضد احتلال الكويت لأنها إمارة صحراوية مهمة بذاتها دون نفط.
إذا سيطرت الولايات المتحدة بواسطة «نظام صديق» علي مصادر النفط في العراق تكون الولايات المتحدة قد أحكمت السيطرة علي معظم ينابيع النفط في العالم. فاحتياطي النفط العراقي هو الثاني في العالم بعد المملكة العربية السعودية، وتكلفة استخراجه رخيصة بكافة المقاييس، 5،1 دولار للبرميل الواحد. والولايات المتحدة تستهلك سنويا ربع الاستهلاك العالمي للنفط، وهي في الوقت ذاته لا تنتج إلا نصف ما تستهلك، هذا عدا الطاقة الهائلة الكامنة في السيطرة علي هذه المقدرات فيما يتعلق باقتصاديات العالم أجمع. هذه الحقائق دعت الأيكونومست البريطانية المؤيدة للحرب والتي اتخذت هي أيضا موقفا صقريا بعد 11 سبتمبر إلي تقرير ما يلي: «تنطلق مصلحة أمريكا الاستراتيجية في ملاحقة صدام حسين من ضرورة إنقاذ العالم من أسلحة الدمار الشامل القائمة والممكنة، ولكن هنالك اعتبارًا ضخمًا آخر مهما كان ثانويا، إلا أنه لم يحظ بالاهتمام الذي يستحق، والمقصود هو الأثر الهائل الذي سيتركه فتح احتياط هذا البلد الهائل من النفط». وإذا أحكمت الولايات المتحدة قبضتها علي احتياطي النفط العالمي فلن تبقي بالتأكيد استقلالية ولو نسبية لتتمتع بها منظمة أوبك فيما يتعلق بكمية النفط التي تضخ وأسعاره.
لقد صرح الرئيس الأمريكي إن مجرد وجود قوة عظمي واحدة عالمية، امبراطورية، معرضة في عقر دارها لهجمات بطائرات مدنية حوِّلت سلاحا تدميريا، يضاف إليها مجرد سهولة إنتاج الأسلحة الكيماوية، هذه «المجردات» وحدها تبرر أن تقوم هذه الدولة العظمي بضربات وقائية مانعة خارج حدودها. هذه أصول اللعبة الجديدة. والسؤال هو ما الذي يدخل في نطاق الخطر والوقاية منه،وما هو نوع الوقاية المتاح؟ هكذا نطق جورج بوش بالعقيدة الاستراتيجية الجديدة يوم 20 سبتمبر 2002.
هذه الأفكار وحدها تغني عن السؤال عن المشترك بين إسرائيل وأمريكا، لأن فكرة الضربة الوقائية المانعة خارج الحدود لتجنب نشاط معاد داخل الحدود، خاصة في المنطقة العربية، هي فكرة إسرائيلية قلبا وقالبا، جسدا وروحا.
وتستطيع الولايات المتحدة أن تدعي أن مجرد وجود النظام العراقي بحد ذاته هو خطر. كما قد تدعي في المستقبل أن وجود حزب الله هو كذلك، وأن التخلص نهائيا من وجود حركات مثله يتطلب تغييرا جذريا في لبنان، وهذا يتطلب بدوره تغييرا جذريا في سوريا. وقد ادعت الولايات المتحدة أمرا مشابها بالنسبة لياسر عرفات شخصيا، وهي تقوم في هذه الأثناء بمحاولة إجراء التغييرات اللازمة علي مستوي القيادة الفلسطينية للبدء بمفاوضات إسرائيلية فلسطينية بعد تنفيذ المخططات العدوانية لإقامة دولة فلسطينية بالشروط التي تتصورها أمريكا.
في هذه الأثناء، تبتز الولايات المتحدة أنظمة صديقة لها مثل مصر والمملكة العربية السعودية بإثارة موضوع أوضاعها الداخلية المطلوب إصلاحها كجزء من هذه الوقاية المطلوبة للدولة العظمي ضد «خطر الإرهاب». وقد يتبين أن هذا التكتيك الابتزازي هو جزء من استراتيجية شاملة، أو قد تضطر الولايات المتحدة للتعامل معه بجدية إزاء ديناميكية الأحداث.
أفكار أولية عن عجزنا أمام تناقضات الإمبراطورية
يرجع جور فيدال تاريخ السلوك الإمبراطوري للولايات المتحدة إلي حقبة ترومان ويعرض ولادتها بشكل مسرحي كما يليق بكاتب قصة ويستعير المشهد من كتاب Dean Acheson, Present at the Creation: My Years in the State Department (1969) ودين أتشيسون هو وزير خارجية ترومان، والمشهد هو جلسة في غرفة اجتماعات الحكومة في البيت الأبيض بمشاركة كبار المسؤولين في الخارجية والأمن القومي والأغلبية في الكونجرس يوم 27 فبراير 1946 لاتخاذ قرار للتدخل في اليونان ضد إمكانية وصول اليسار إلي السلطة في ذلك البلد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ويعني هذا القرار بداية تحلل إدارة ترومان من إرث روزفلت وبداية التحلل من اتفاقيات يالطا والتصرف كإمبراطورية ذات أجندة سياسية مدعومة بالقوة العسكرية في كل مكان لا يخضع لسيطرة السوفييت المباشرة. إنه عهد ترومان الذي اتخذ فيه القرار بإلقاء نار جهنم علي هيروشيما ونجازاكي لغرض إرهاب الاتحاد السوفيتي سياسيا ( إرهاب سياسي ضد حكومة بغرض التأثير علي قراراتها بواسطة قتل المدنيين) وتحذيره من قدرة أمريكا النووية. وهي أيضا حقبة الانقلاب الدموي المدبر أمريكيا ضد حكومة ديموقراطية في جواتيمالا لأنها تجرأت علي فرض ضريبة حد أدني علي شركة يوناتد فروتس الأمريكية العاملة فيها والتي تجاوزت ميزانيتها ضعف ميزانية جواتيمالا. مفتتحة بذلك سلسلة من الانقلابات المدعومة من جهاز المخابرات الأمريكية لأسباب شبيهة في العديد من دول أمريكا اللاتينية.
وتسلك الولايات المتحدة في المنطقة العربية سلوكا إمبراطوريا يشير إلي التراتبية ويؤكد مصدر الشرعية، ولكنه أيضا يلمح من الآن إلي تناقضات الحالة الإمبراطورية (الإمبريالية) الأمريكية وحدودها.
خذ مثلا السلوك الأمريكي علي الصعيد العالمي الذي يذهب باتجاه تأكيد نسبية الحدود الوطنية للدول فيما يتعلق بحقوق الإنسان كما ادعي بشأن العراق وصربيا، وجرائم الحرب تحديدًا. فمن المفترض أن ينسجم هذا السلوك مع محكمة لاهاي بشأن جرائم الحرب، خاصة أن الولايات المتحدة نفسها قد بادرت إلي هذا النوع من المحاكم ضد قادة الصرب وجرائمهم في الحروب الأهلية البلقانية الأخيرة في نهاية القرن العشرين. ولكن طابع محكمة لاهاي القانوني المجرد الذي يتعامل مع الكونية بجدية، يناقض السلوك الإمبريالي الذي يلتقي مع الكونية في حالة واحدة فقط، وهي حالة تطابقها معه (اقرأ! مع مصالحه الخارجية كما تتمخض عنها أيضا بنيته الداخلية ومناقشاته حول الاختلاف علي فهمها أيضا) .
إن مجرد محاولة الولايات المتحدة «التهرب» من محكمة مجرمي الحرب في لاهاي بعد أن وقعت علي وثيقتها التأسيسية، ثم عادت ورفضت الانضمام إليها كعضو كامل، يعني أن الولايات المتحدة قد تحجم ذاتها وتتصرف مثل دولة صغيرة تحتال علي القانون. كان هذا أيضا حالها عندما طرحت الحرب علي العراق لتنفيذ قرارات الأمم المتحدة بالقوة العسكرية، ثم تهربت من التصويت في مجلس الأمن تجنبا لموقع الأقلية هناك. وقد بلغ صغر الإمبراطورية حدا جعلها يوم الثالث من أغسطس 2002 توقع اتفاقية مع إسرائيل، تتفاهم فيها «الدولتان» علي عدم تسليم أي منهما مواطني البلد الآخر لمحكمة مجرمي الحرب الدولية في لاهاي. هذه الاتفاقية لا تشير فقط إلي وجود دولتين تتهربان من القانون الدولي، مثل مجرمين صغيرين يتفقان علي عدم وشاية أحدهما بالآخر، إنها تشير أيضا إلي أن التوازن بين القيم الكونية ومؤسساتها ومدي تأثيرها علي الرأي العام ثم علي مجموعات من الدول من ناحية، وبين الامبراطورية وسلوكياتها كمصدر للشرعية من ناحية أخري قد يحل علي المدي البعيد محل التوازن بين «المعسكرين». فالتصرف الأمريكي ـ الإسرائيلي يذكر بأيام محاصرة معسكر لمعسكر آخر في الأمم المتحدة، الأمر الذي كان يجعل الولايات المتحدة وإسرائيل يرتبان أوراقهما خارج مؤسسات ما سمي بالشرعية الدولية.
ولا تدعي الولايات المتحدة ضمنا في هذه الاتفاقية أن ما تقوم به قواتها خارج الحدود الأمريكية لا يمكن أن يعتبر جرائم حرب فحسب، بل إن هذا يسري أيضا علي ما تقوم به الدولة اليهودية خارج حدودها المعترف بها دوليا. أي أن الإمبراطورية الكبيرة تفرخ إمبراطورية صغيرة تمضي في طريقها لا تلوي علي شيء. وتخطئ هذه الأخيرة الصغيرة خطأ فادحا ومميتا إذا اعتقدت أنها تستطيع أن تحتل دولا ناسخة الإمبراطورية، فهذا السلوك في النظام العالمي محفوظ للامبراطورية، ولها فحسب.
تبدأ اللاعقلانية الأمريكية في المنطقة العربية في المرحلة الراهنة باستثناء إسرائيل من قواعد الشرعية الإمبراطورية. فبموجب منطق هذه الشرعية ذاته المستثني الوحيد هو أمريكا لأنها هي مصدرها، ولا يوجد مبرر لاستثناء إسرائيل إلا اللاعقلانية الأمريكية في التعامل معها. وقد وصلت اللاعقلانية الأمريكية في التعامل مع إسرائيل مؤخرا حد التحالف مع اليمين الإسرائيلي وإحراج اليسار الإسرائيلي الصهيوني. هنالك أكثر من عنصر لاعقلاني في تحالف اليمين الأمريكي المسيحي المتطرف مع اللوبي الإسرائيلي اليميني في الولايات المتحدة ومع اليمين الإسرائيلي. لقد كنا نقول أن القضية الإسرائيلية هي قضية أمريكية داخلية، فبتنا نضيف أنها قضية أمريكية داخلية متعلقة باللاهوت السياسي الاستيطاني أي بـ«الميتابوليتكس»، ما وراء السياسة.
قد ينسحب بعض كتاب الورقة موضوع قراءتنا من نصائحهم الفجة لنتناياهو حول القضية الفلسطينية، فقد أصبحوا في السلطة. ووجودهم في الإدارة يحتم عليهم مسؤولية وتكبلهم بقيود لا تكبل الأيدي التي كتبت تلك الورقة. ولكن ما كتب هناك هو ما يؤمنون به. والحل الوسط الممكن، السلم الممكن للنزول عن شجرة الغرور العالية هو إقامة دولة فلسطينية ضمن ما يرضي الرأي العام الإسرائيلي من شروط، والقيادة الفلسطينية التي ترضي بهذه الشروط هي الشريك المؤهل لتغيير فكرتهم عن الفلسطينيين.
لقد ثبت أيضا أن تحرك الدول العربية كل علي حدة في الحوار مع الولايات المتحدة يجعلها أكثر تعرضا للضغط مما لتوجيه الضغط، فالمتوجه إلي واشنطن بغرض التأثير عليها يجد بانتظاره إدارة تحمل بيدها ملفاته وتضغط عليه في المكان الذي يؤلمه، «حيث يوجع». قد يكون ما نقوله أضغاث أحلام وكلامًا للتمني ولكن علي العرب أن يحاوروا الولايات المتحدة سوية بالحد الأدني من الاتفاق. ولا يستطيع التيار القومي أن يحل محل التعاون بين الدول العربية بهذا الشأن، هذا من ناحية. ومن ناحية أخري، ولا يستطيع أن يقنعها أن هذه هي مصلحتها إذا لم تكن مقتنعة، فهو أي التيار ليس أدري منها بمصلحتها.
ولو كانت الدول العربية دولا ديموقراطية لسهل تبني الشرعية الدولية علي مستوي الرأي العام باتجاه استخدام هذه «الاستثنائية الإسرائيلية» من أجل تثبيت رفض «الاستثنائية الأمريكية» أيضا والتمسك بالقيم الكونية لمحاربتها، ولسهلت أيضًا ترجمة هذا الرأي العام علي مستوي عملية صنع القرار العربي الرسمي. ولكن في غياب الحالة العربية القادرة علي استغلال هذه التناقضات القائمة فعلا والتي تحجم الولايات المتحدة، لا يدعو الرئيس بوش أمم العالم للتصدي للـ «إرهاب الفلسطيني» فحسب، بل وإلي احتلال بلد عربي دون توفر حجة شكلية إطلاقا، ودون أن يجهد نفسه بالدفاع عن قراره هذا إلا في جلسات الإدارة الأمريكية الداخلية التي لن نعلم ما يدور فيها إلا بعد عشرين عامًا في أفضل الحالات.
والطامة الكبري أن إسرائيل ماضية في إرهابها فيزداد عندنا الشعور بالغبن والمرارة و«الاستثنائية» العربية أو الإسلامية، ويتحول الموقف المطلوب تجاه بلد عربي يواجه خطر الهجوم الشامل إلي تقاعس وعجز من ناحية، وإلي تعصب وسياسة هوية ترفض أن تري طبيعة النظام العراقي إلا ضمن المقولة المخففة: «المنطقة كلها ديكتاتوريات»، فلماذا العراق؟ ولكن كل هذا التعميم أسهل من سماع مسؤولين عرب يتحدثون بالديموقراطية في دول غير ديموقراطية كل ما يميزها أنها متحالفة مع المشروع الأمريكي. علي أي أساس؟ أو ينتقدون الفساد بغرور من موقعهم في دول تملك فيها عائلات حاكمة الدولة وثرواتها فلا تحتاج إلي الفساد لأنها تملك كل شيء أصلا، وينتشر فيها نظام العمولات إلي درجة فرض الشراكة في الأعمال الاقتصادية. فعلي أي أساس يتحدثون عن الفساد؟
سوف يكتشف قباطنة العدوان أن إحدي أكبر جرائم الولايات المتحدة هي التعامل أداتيا مع موضوعة الديموقراطية تعاملا قد يدفع أوساطا واسعة من الشعوب المظلومة والمغلوبة علي أمرها وذات المصلحة بالديموقراطية الاجتماعية والسياسية في أحضان سياسات الهوية المعادية لهذه الأدوات باعتبارها شأنًا إمبرياليا. وإذا لم تتحول قضايا هذه الشعوب والمجتمعات الحياتية ومنها الحقوق السياسية والديموقراطية إلي هم القوي الوطنية القومية، فإن ذلك لن يقلل من شأن هذه القضايا بل سيقلل من أهمية هذه القوي علي المدي البعيد. وسوف يجعل هذه القضايا موضوع صراع بين سياسات الهوية وبين الأمريكان والنخب المتحالفة معهم، وهذا صراع يتضمن حلولا وسطا كثيرة ولا يتخذ بالضرورة شكل مقاومة الاحتلال. التحول في العراق إلي مقاومة الاحتلال ليس بديلا لبرامج قومية ديموقراطية سياسية تطبيقية، أي برامج سياسية تمارس، في كل بلد عربي. لقد ولي العهد الذي ترفع فيه قضية واحدة إلي مرتبة «القضية القومية» وتؤجل بموجب ذلك كافة القضايا في انتظار حلها، وتتحول مهمة القوميين إلي التضامن معها، مهمة القومي هي أولا مهمة وطنية ديموقراطية في بلده، ولن يتقن حتي التضامن القومي مع قضية تعتبر قومية إذا لم يشكل قوة وطنية ديموقراطية في بلده. وكما تحاول الولايات المتحدة أن تقيم نموذجا جذابا كما تعتقد في العراق، علي التيار القومي في كل بلد عربي أن يشكل في بلده نموذجا جذابا ولا يمكن أن يتم ذلك دون مشروع سياسي في الحكم أو في إصلاح الحكم.
ولكي نفهم ردة الفعل علينا اليوم أن نتذكر بذهول أن الشعوب مغلوبة علي أمرها من قبل الديكتاتورية ومن قبل مستوردي الهيمنة الأمريكية بحجة استيراد الديموقراطية إلي درجة أننا لم نحص حتي الآن عدد قتلي وجرحي العدوان الأمريكي علي العراق. نحن ببساطة لا نعرف عدد ضحايا هذا العدوان. هل هم عشرة آلاف؟ هل هم أكثر من ذلك؟ هل يهتم أحد بإحصاء القتلي والجرحي والمعاقين العراقيين من المدنيين والجنود؟ والجنود أيضًا بشر، والقتلي الأمريكيون هم جنود أيضًا، وجهلنا بالرقم ليس صدفة ولا هو من مزايا الديموقراطية التي تحترم حياة ومصير حياة المواطن الفرد.
A Clean Break: A New Strategy for Securing the Realm
(بداية جديدة: استراتيجية جديدة لأمن الدولة)
Richard Pearle (Study Group leader)
Jerusalem, Washingon D.C.:
Institute for Advanced Strategic and Political Studies, July 8. 1996.
أكدت وثيقة "دليل تخطيط الدفاع فى البنتاجون" الأطروحة الأساسية للتغيير فى السياسة العالمية الأمريكية :الحفاظ بكل ثمن على وحدانية القوة الأمريكية بحيث لا تتجاوز قوتها دولة أو ائتلافا من دول
الوطنية الأمريكية في حالة هذا اليمين الجديد تشمل إسرائيل، ولا تتعامل معها كدولة أجنبية. ومن هذا المنظور فإن وجود أخطر جاسوس في تاريخ البنتاجون جوناثان بولارد في السجن الأمريكي في هذه المرحلة هوعبارة عن انضباط أمريكي عسكري حتي تجاه إسرائيل.
تقوم المقاربة الجديدة التي يقترحها المؤلفون إلي موضوع السلام علي نسف كامل لمبدأ الأرض مقابل السلام، ويقترحون أن تقوم علي اعتراف العرب بحاجتهم إلي السلام: السلام من أجل السلام والسلام من خلال القوة