ترددت فى الآونة الأخيرة، فى كافة وسائل الإعلام العربي، سواء المرئى أو المسموع أو المقروء، الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني، ولقد رأى البعض أنها ضرورة نظراً لربط الغرب بين الإرهاب وجمود الخطاب الدينى الإسلامي. لكن مع تزايد الهجوم المحموم على شخص النبى محمد (ص) وعلى صحابته (رض)، ومع تزايد حملات التشكيك فى السنة النبوية، يتبين أن الهدف من وراء الدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى أبعد مما يذهب معظمنا.
ويبدو لي، بحكم التخصص فى الشريعة اليهودية والفقه اليهودي، أن الهدف من وراء هذه الدعوة هو : أن نفعل بالكتاب والسنة ما فعله بنو إسرائيل بموسى عليه السلام وبشريعته، وهنا يتبادر السؤال: ماذا فعل بنو إسرائيل بشريعة موسى عليه السلام وبصاحبها؟
لقد دفن بنو إسرائيل موسى عليه السلام ودفنوا شريعته معه. فقد نظروا للتوراة وما فيها على أنها شريعة تناسب مجتمعا قبليا رعويا، ولا تصلح ولا تتناسب مع الحياة المدنية والمستجدات التى طرأت على حياتهم بعد استقرارهم فى أرض كنعان، (وهذا ما يروج الآن بالنسبة للشريعة الإسلامية والسنة النبوية). لكنهم لم يشعروا بالحاجة الماسة إلى تجديد الخطاب الدينى إلا عندما قام الملك نبوخذ نصر ملك بابل فى القرن الخامس (ق.م) بتهجير بنى إسرائيل إلى بابل، وهو ما يعرف فى التاريخ اليهودى بالسبى البابلي، فقد حدثت لهم هناك صدمة حضارية، إذ وجدوا أنفسهم فجأة فى مجتمع بلغ قمة التحضر سياسياً واقتصاديا واجتماعيا ودينياً، هذا من ناحية. ومن ناحية أخري، شعروا أن هذا التهجير عقاب من الرب لهم، لذلك راح علماء الدين يجددون شريعة موسى (ع) واتخذوا من تشريعات بلاد الرافدين نموذجاً وقدوة. وبدأت أولى لبنات الدين الجديد الذى أطلقوا عليه اسم الدين اليهودى (دت يهوديت) على أرض بابل، ووضعت تشريعات هذا الدين فى كتاب يسمى «المشنا»، ومن معانى هذا الاسم: الإعادة أو التكرار أو التثنية!
ويبدو أن فى اختيار هذا الاسم دلالة على أن دينهم الجديد الذى وضعوه هو تثنية لشريعة موسى (ع)، أى أنه بديل لها، وهناك بعض الأدلة على ذلك.
فقد ميز علماء الدين اليهودى فى كتابهم هذا بين شريعتين أو دينين: (دت موشيه) أى دين موسى (ع)، و (دت يهوديت) الديانة اليهودية، وفى حين حصروا «دين موسي» فى أحكام الطهارة والنجاسة وإخراج العشور والوفاء بالنذور، جعلوا الديانة اليهودية تشمل جميع أوجه الحياة والمعاملات وآداب السلوك.(1)
لم يكتف علماء الدين اليهودي، الذين وضعوا المشنا بهذا، بل لقد قسموا أنساب اليهود، وجعلوا نسب الكهنة يأتى على رأس تلك الأنساب العشرة التى وضعوها، ثم يليه نسب لاوي، أى أنهم جعلوا أنفسهم وهم من ينتسبون لهارون (ع) أعلى ممن ينتسب لموسى (ع)،(2) أى جعلوا أنفسهم وكتابهم فى الصدارة، ثم يليهم موسى وشريعته.
وعندما تأثر علماء اليهود بفكرة الخلاص عند البابليين والفرس، تصوروه خلاصاً مادياً وليس روحياً، كما فى الزرادشتية، وجعلوا المخلص مسيحاً أى ممسوحاً بالزيت المقدس، (إذ كانت عادة مسح الملوك والكهنة بالزيت المقدس شائعة بين شعوب الشرق الأدنى القديم)، ولم يتخيلوه من سبط لاوي، أى لم ينسبوه لموسى عليه السلام، ولكن تصوروه ملكاً من نسل داود وسليمان أى من سبط يهوذا، وتم تأويل بعض فقرات العهد القديم وتفسيرها على أنها تشير إلى المسيح المخلص منها (التكوين: 49/10)، (إشعياء: 11/1-9).
فعل علماء اليهودية الشيء نفسه عند تحديد مكان العبادة، فلم يتأسوا بموسى (ع) إذ كان الوحى يتنزل عليه فى «خيمة الاجتماع»، بل أرادوا أن تكون لهم دور عبادة مثل معابد بلاد الرافدين ومصر.(3) لذلك تأسوا بسليمان وبالمعبد الذى بناه للرب، على الرغم من أن بيت الرب الذى بناه سليمان كان نصف مساحة القصر الذى بناه لنفسه (الملوك الأول: 6/1 ، 7/1). ورغم أن سليمان قد بنى بزعمهم دوراً لعبادة الآلهة الوثنية التى كانت تعبدها زوجاته أيضاً، فبنى بيتاً لـ«كموش» وثن الموآبيين، ولـ«مولك» وثن بنى عمون، وكانت نساؤه الغريبات توقد وتذبح لآلهتهن (الملوك الأول: 11/7- 8).
ما هو النموذج الذى اقتدوا به عند وضع الشريعة اليهودية؟
لقد ذكرت فيما سبق، أن علماء اليهود اضطروا إلى التجديد أثناء فترة التهجير فى بابل فى القرن الخامس (ق.م)، للرد على أسئلة اليهود واستفساراتهم عن المستجدات التى طرأت على حياتهم واستفساراتهم عن المعتقدات الغريبة التى يؤمن بها سكان بلاد الرافدين، وأسوق مثلاً الملائكة.(4) فلم تتحدث كتب التوراة عن طبيعة الملائكة أو هيئتهم أو وظيفتهم، بينما صوّر سكان بلاد الرافدين على جدران معابدهم وقصورهم كائنات خرافية تحرس الشجرة المقدسة التى هى مزيج من نخلة ونبات مخروطي، وجعلوها تحف بالشجرة من اليمين ومن الشمال، وجعلوا لها رأس إنسان أو نسر، وجعلوها ذوات أجنحة ضخمة، فبدأ اليهود فى بابل يستفسرون عن الملائكة الوارد ذكرها بالعهد القديم، هل كانت على هذه الهيئة التى عليها الكائنات التى تحرس معابد بابل؟ وما طبيعتهم هل خلقت من نور أم من نار أم من طين؟ ومتى خلقت؟ أى فى أى يوم من أيام الخلق الستة خلقت الملائكة؟ وما وظيفتهم؟ وما علاقتهم ببعضهم البعض؟ وما علاقتهم بالبشر؟ وما علاقتهم بالرب أو بعرش الرب؟ ومن هم الملائكة المقربون؟ وهل للملائكة أسماء ولماذا؟ ومن هو الملك الذى زار إبراهيم (ع) وبشره بإسحق، ومن هو الملك الذى قبض روح موسى عليه السلام؟ وغيرها من الأسئلة التى كان على علماء الدين أن يجيبوا عنها، واضطروا فى إجاباتهم للاستعانة بما هو موجود ومصور فى بلاد الرافدين، لكى يستكملوا المعلومات الكثيرة التى سكت النص عنها أو لم يجدوا إجابة مقنعة لها فى نص التوراة.
وذكر التلمود وكتب التفاسير اليهودية (المدراشيم) أن علماء اليهود أخذوا أسماء الملائكة من البابليين، أما المعبد من حيث تصميمه وبنائه وطقوس الخدمة والطهارة والحج فلقد استكملوها من الكهنوت المصرى القديم وشغلت حيزاً كبيراً من كتابهم الدينى الذى وضعوه، أى كتاب «المشنا» الذى بدأت إرهاصاته فى القرن الخامس (ق.م) فى بابل، وتبلور فى ستة أجزاء بالقرن الثالث الميلادى فى فلسطين. فالمشنا عمل جماعى لم يقم به فرد، ولكنه جهد علماء كثر على مدى عدة قرون، ولم ينته الأمر عند هذا الحد، بل وجد علماء اليهود الذين جاءوا بعد ذلك، بين القرنين الرابع والسابع الميلاديين، أن هذا الكتاب صعب وغير مفهوم، فلقد ماتت لغته العبرية إضافة لكونه يعتمد الإيجاز لدرجة الغموض، فراحوا يشرحون هذا الكتاب بلغتهم التى يتحدثونها وهى الآرامية، وجاء الشرح بمثابة تسجيل حى لحلقات الدرس والنقاش التى قامت على أساس الكتاب بمدارس بابل الدينية ومدارس فلسطين. لذلك ظهر تلمودان: أحدهما بابلى نسبة لمدارس بابل وهو الأكبر حجماً والذى استمر العمل فيه فترة أطول، والثانى أورشليمى نسبة لمدارس فلسطين وهو أقل حجماً، وانتهى العمل فيه بعد فترة قصيرة من البداية. لذلك عندما يذكر اسم «تلمود» فقط، يقصد به التلمود البابلي.
لم تتوقف مسيرة تجديد الخطاب الدينى عند وضع كتاب «المشنا» ثم شرحه بعد ذلك، ففى نهاية القرن الثامن الميلادي، تعرضت اليهودية لاختبار صعب، فقد تلقت ضربة فى مقتل، وجاءت الضربة من الداخل، وكانت بمثابة الدافع الحقيقى لتجديد الخطاب الدينى مرة ثانية.
فى القرن الثامن الميلادي، كان الإسلام انتشر من المحيط الهندى إلى المحيط الأطلسي، وبدأ تدوين التراث الإسلامي، وخشى علماء المسلمين على القرآن الكريم من اللحن بعد دخول الكثير من أهل الأمصار المفتوحة فى الإسلام، وبدأ الاهتمام بضبط القرآن وعجمه، كما تميز القرن الثامن الميلادى بنشاط علم الكلام عند المسلمين الذى ظهر دفاعاً عن الإسلام ضد هجوم الفلاسفة. وسط هذه الظروف، انشق عنان بن داود وهو من علماء اليهودية، نتيجة خلافات بينه وبين العلماء على الزعامة الدينية فى بابل، أى على منصب «رأس الجالوت» وكان أحق المرشحين له، ورغم ذلك تخطوه وعينوا أخاه الأصغر، فانشق عليهم واتخذ لنفسه مذهباً عرف باسم المذهب «القرائي» وأعلن أنه يؤمن بأسفار موسى الخمسة وأسفار الأنبياء الذين جاءوا بعده فقط، ويرفض كتابى المشنا والتلمود، ويبدو من موقف عنان هذا تأثره بالمعتزلة وموقفهم من الحديث النبوى الشريف، فأهم ما كان يميز المعتزلة فيما يتصل بأصول الدين، عدم الأخذ بالروايات، والتحرج من اعتبارها مصدراً أساسياً للتشريع الإسلامي، وكانت حجتهم فى ذلك أن كتاب الله، القرآن، يستغنى بنفسه عن التكملة بشيء آخر فقد جاء فيه «ما فرطنا فى الكتاب من شيء».(5) ووقفوا من المرويات الشفوية الإسلامية موقف الحذر الشديد. ويبدو أن عنان بن داود قد أخذ وجهة نظر المعتزلة، وكان الأمر سهلاً أمام عنان فمرويات التلمود لا ترتفع أبداً بسند متصل إلى موسى أو الأنبياء (ع) من بعده، وتتناقض تناقضا صارخاً فيما بينها، وفيما بينها وبين التوراة.
ما زاد خطورة الحركة القرائية بالنسبة لليهودية هو تبحر عنان بن داود زعيم القرائية فى التلمود وكثرة رجوعه لنصوصه بقصد تفنيده وهدمه، وأنه اتخذ من الشريعة الإسلامية نموذجاً فى كل الأمور التى سكت عنها نص التوراة، الأمر الذى جعل اليهودية القرائية تبدو، وكأنها فرقة إسلامية أكثر منها فرقة يهودية. فقد اهتم القراءون (القرائيم) بأسفار موسى عليه السلام ووضعوها فى منزلة القرآن، وراحوا يحاكون علماء المسلمين فى رؤيتهم للقرآن (وحياً)، وبدأت محاولات ضبط ونقط العهد القديم ووضع علامات النبر والتنغيم التى تبلورت فى طبرية بفلسطين فى القرن العاشر الميلادى على يد عائلة بن آشر، وهم من القرائين.
ظهور الحاجة إلى تجديد الخطاب الدينى مرة أخري
وسط هذه الظروف العصيبة، واحتدام الصراع بين القرائين وعلماء اليهودية الذين أصبحوا يعرفون بـ«الربانيين»، ومع تكفير رئيس كل طائفة للأخرى وتحريم التعامل معها، ومع تقرب القرائين من الحكام المسلمين، ومع نظرة المسلمين للربانيين، بتأثير الطائفة القرائية، على أنهم قد حرفوا شريعة موسى (ع)، بل لقد نظروا إليهم على أنهم خارجون على شريعة موسي، كان لزاما على الربانيين الدفاع عن أنفسهم والإتيان بدليل على أن شريعتهم، أى المشنا والتلمود، ترتقى إلى موسى فبدأوا الدفاع عن شريعتهم بوضع سلسلة لرواة الشريعة، ووصلوها بموسى واستهلوها: «تلقى موسى التوراة من سيناء وسلمها ليشوع، ويشوع للشيوخ، والشيوخ للأنبياء، والأنبياء سلموها لرجال المجمع الدينى الكبير»، ونسبوا إلى كل راو منهم من الصفات والأقوال المأثورة والأمثال بحيث يبدو وكأنه راو ثقة، وأطلقوا على هذه السلسلة اسم «الآباء» (آفوت) وأدرجوها ضمن أبواب التلمود، رغم أنها لا تنتمى للتلمود من حيث مادتها أو تأريخها، فلقد وضعت تلك المادة بعد ظهور عنان بن داود أى فى القرن التاسع الميلادي، على الأرجح.
وتختلف فى مضمونها عن نسيج التلمود. فمتن التلمود وهو المشنا عبارة عن تشريعات وأحكام أما فصول الآباء تلك فهى عبارة عن حكم وأقوال مأثورة بعضها فلسفي، كما تتضمن ثناء على الشريعة، والإعلاء من قدر دارسيها.
لم تنجح هذه السلسلة فى تحقيق الهدف المرجو منها، فقد جاءت ضعيفة ومقطوعة، فهناك فترات زمنية شاسعة تفصل بين الرواة تصل إلى عدة قرون، وهناك متهودون من بين الرواة الذين يشكلون حلقات السلسلة، بل قام هؤلاء المتهودون بدور بارز فى صياغة أحكام المشنا وبلورتها وتبويبها. فالربى ميئير الذى ينسب إليه هو والربى عقيفا، أول محاولة لتبويب وترتيب المشنا كان متهوداً، وكان عقيفا من أب متهود. ونقل «هليل وشماي»، أشهر فقيهين فى المشنا على الإطلاق، أحكامهما عن «شمعيا وأبطليون»، وهما متهودان يشكلان حلقة من سلسلة الرواية.
يبدو أنه لولا ظهور موسى بن ميمون، والدور الذى اضطلع به، لما قامت لليهودية الربانية (الحاخامية) قائمة بعد ذلك. فقد ترتب على الصراع والانقسامات فى صفوف اليهودية أن انهارت المدارس الدينية فى بابل، وبدأ العلماء والدارسون يهجرونها وينزحون إلى بلدان العالم الإسلامى المختلفة، وخاصة الأندلس، حيث ولد موسى بن ميمون (1135- 1204م) فى قرطبة، وقدم لليهودية الربانية فى القرن الثالث عشر الميلادى أقصى ما يستطيع بشر أن يقدمه لدين من الأديان.
جدد موسى بن ميمون الخطاب الدينى للمرة الثانية، وقام بمفرده بما قامت به أجيال عديدة من المشرعين على مدى سبعة عشر قرناً، بين القرنين الخامس (ق.م) إلى الثانى عشر، واستحق بذلك عن جدارة مقولة: «من موسى (ع) إلى موسى (بن ميمون) لم يأت مثل موسي!»
فرغم شهرة موسى بن ميمون بوصفه فيلسوفاً، فإن ما قام به على المستوى الدينى أهم وأخطر مما قدمه فى مجال الفلسفة. فقد أدرك الخطر المحدق باليهودية الربانية، وأن عليه أن يجدد الخطاب اليهودي، مستخدماً الأساس العقلى نفسه الذى اعتمد عليه القراءون فى مذهبهم، ومقتفياً أثر الفقه الإسلامي، كما فعل عنان بن داود، ومجدداً التشريعات والأحكام التى جاءت فى التراث اليهودى الذى يؤمن به الربانيون، أى المشنا والتلمود وكتب الأحكام والفتاوى التى وضعها علماؤهم حتى عصر بن ميمون.
من الأدلة المؤيدة لوجهة النظر هذه أن موسى بن ميمون وضع كتابه التشريعى فى أربعة عشر مجلداً من القطع الكبير، وأطلق عليه «مشنة تورا» أى تثنيه الشريعة، وعلل موسى بن ميمون فى المقدمة تسمية الكتاب بقوله: «لكى يقرأ الفرد توراة موسى أولاً ثم يقرأ بعد ذلك هذا الكتاب فيعرف منه الشريعة الشفوية كلها ولا يحتاج إلى كتاب آخر بعد ذلك». وتضيف مؤلفة هذه الدراسة لقول موسى ابن ميمون، أن الاسم يعنى تكرار الشريعة أو إعادة الشريعة، أى التجديد الثانى للشريعة، ولا يعنى ما ذكره ابن ميمون فى مقدمته.
كان موسى بن ميمون يضع المذهب القرائى نصب عينيه وهو يصنف كتابه، فقد ألف عنان بن داود مصنفات عديدة منها كتاب الفرائض «سيفر همتصفوت»، وهو كتاب فقه وتشريع، وضمنه جميع الأحكام المفروضة على اليهود القرائين فى المأكل والملبس والطقوس الدينية، وكيفية تحديد أوائل الشهور، والطهارة من النجاسة.
ذكر موسى بن ميمون فى مقدمة كتابه سبب تأليف الكتاب فقال: «تتابعت المصائب وضغطت بشدة فى هذا العصر على الجميع، وضاع علم علمائنا، واختفت نباهة نابغينا، لذلك فإن تلك التشريعات والتفاسير التى ألفها العلماء السابقون، أصبحت صعبة فى أيامنا ولا يفهم أحد مضمونها كما ينبغى إلا قلة قليلة، وغنى عن الذكر أن هذا هو حال التلمود نفسه البابلى والأورشليمى وسفرا وسفرى والتوسفتا(6).. ومن أجل ذلك شمرت عن ساعدى أنا موسى بن ميمون الأندلسي، واستعنت بالرب تبارك، وفهمت كل تلك الأسفار، ورأيت أن أضع كل ما تجمع لى من تلك المؤلفات فى موضوع الحلال والحرام والنجس والطاهر وسائر أحكام الشريعة...»
حاول ابن ميمون فى مقدمة كتابه أن يرفع شأن التراث الدينى الشفهى الذى يؤمن به الربانيون ويرفضه القراءون، وأن ينسبه لموسى (ع) مستنداً فى ذلك إلى تأويل ما جاء بسفر الخروج (24/12) على لسان الرب موجهاً حديثه إلى موسى »... فأعطيك لوحى الحجارة والشريعة والوصية التى كتبتها لتعليمهم» ثم أورد موسى بن ميمون فى مقدمته بعد ذلك سلسلة رواة الشريعة الشفهية، وضمّنها أسماء شيوخ بنى إسرائيل وقضاتهم ثم الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى (ع) ورتبهم تنازلياً وصولاً إلى علماء المشنا ثم شُرّاح التلمود وأنهاها بالربانى آشى الذى نسب إليه ابن ميمون تأليف التلمود البابلي.(7) ثم عاد وكرر سلسلة الرواة فى أربعين جيلاً ورتبها ترتيباً تصاعدياً من الربانى آشى إلى موسى عليه السلام.
تعمد موسى بن ميمون فى مؤلفه أن يذكر الأحكام ولا يذكر اسم المشرع الذى وضع التشريع ولا مكان التشريع فى كتب التراث اليهودي، وعندما سئل عن سبب ذلك قال فى رده على أحد الخطابات: «حتى لا نمكن الكفار منا، وحتى لا يقولوا إنكم تعتمدون فى رواية تشريعاتكم على أفراد».
بيد أنى أرى أنه إضافة للسبب الذى ذكره ابن ميمون تلميحاً، أى رغبته فى أن يجنب كتابه الطعون التى وجهت إلى سلسلة الرواية اليهودية، ووسمتها بالضعف وأنها مقطوعة، وغير مرفوعة بسند إلى موسى (ع)، وأن رواتها غير ثقات، لذلك اكتفى ابن ميمون بذكر السلسلة فى مقدمة كتابه فقط، لكى يسمح لنفسه أن ينهل من كتب الفقه الإسلامى وأن يجدد كل تشريع أو يكمل ما به من نقص أو يطوره لكى يلائم ذلك العصر، دون إشارة لأصل هذا التشريع وما أضافه من الفقه الإسلامي.
اتبع موسى بن ميمون فى تبويب كتابه وتسلسل عرض الأحكام كتب الفقه الإسلامى عموماً، وكتاب «المحلي» لابن حزم(8) على وجه الخصوص، وخالف تبويب المشنا والتلمود. وعلى حين بدأ ابن حزم كتابه بمقدمة حدد فيها الهدف من تأليف الكتاب وجاء منهجه متفقاً مع هدفه ومع مذهبه الفقهى وهو المذهب الظاهري، بدأ موسى بن ميمون كتابه بمقدمة أيضاً ضمنها هدفه من تأليف الكتاب، ولكن لم يتفق منهجه مع هدفه، ولا مع المذهب الذى يؤمن به وهو المذهب الرباني.
ففى حين استدل ابن حزم على فقهه والأحكام التى يأتى بها بآية أو حديث ويسوقه بسنده إلى النبى (ص)، لم يأت ابن ميمون برواة الشريعة الشفوية فى كتابه على الإطلاق، واكتفى بأن أورد بالمقدمة سلسلة الرواة، وحاول أن يجعلها متصلة بموسى (ع)، وتجنب ذكر هؤلاء الرواة فى متن الكتاب، ولم ينسب كل تشريع لقائله، بل سمح ابن ميمون لنفسه أن ينقل من كتب الفقه الإسلامى وأن يضيف لتشريعات المشنا والتلمود أو يقوم بتعديلها، أو يأتى بتشريعات تتناقض معها، ولكى يسوغ ذلك، لجأ لتأويل نص التوراة، وتحميله معانى لا يحتملها.
وفى حين يبدأ ابن حزم الجزء الأول من «المحلي» بموضوع التوحيد، ثم يثنيه بأصول مذهبه الفقهي، يبدأ ابن ميمون الجزء الأول من كتابه بموضوع التوحيد أيضاً ويثنيه بالدفاع عن المرويات الشفهية التى يعتمد عليها المذهب الرباني، وهو يتابع فى ذلك ابن حزم ويخالف المشنا والتلمود اللذين لم يناقشا موضوع التوحيد، وبالتالى لم يفردا له بابا أو فصلاً.
وبينما تناول ابن حزم فى الجزء الأول من كتابه بعد التوحيد وبعد الأصول، كتاب الطهارة، على اعتبار أن الطهارة تسبق الصلاة، وأن الوضوء للصلاة فرض لا تجزئ الصلاة إلا به لمن وجد الماء، يتناول ابن ميمون فى الجزء الثانى من كتابه الصلاة والطقوس التى يقوم بها اليهودى قبل الدخول إلى الصلاة، وهو يتابع ابن حزم فى هذا الترتيب أيضاً، ويخالف ترتيب المشنا والتلمود برغم أن الصلاة ليست فريضة توراتية، ولم يأمر بها موسى بزعمهم، وقد وضعها علماء اليهودية أثناء التهجير البابلي، وكان موسى (ع) يتقرب إلى الرب بالقرابين، لذلك ربط علماء اليهودية، عند تجديد الخطاب الدينى فى بابل، بين ميقات القرابين وميقات الصلاة وجعلوا الصلاة بمثابة بديل عن القرابين التى كان يقدمها موسي. لذلك لم يجد موسى بن ميمون، عند تجديد الخطاب الدينى للمرة الثانية، لم يجد حرجاً فى أن ينقل الكثير من أحكام الصلاة عن كتب الفقه الإسلامي، وعن المحلى لابن حزم على وجه الخصوص، فقد سبقه عنان ابن داود ونقل أحكام الصلاة فى كتابه عن الإسلام أيضاً.
وفيما يلى بعض أمثلة نسوقها من تشريعات الصلاة عند ابن ميمون دليلاً على تجديد الخطاب الدينى اليهودى للمرة الثانية على يد موسى بن ميمون، ودليلاً على اعتماده الفقه الإسلامى بصفة عامة وكتاب «المحلي» لابن حزم بوجه خاص. وسنسوق كل مثال وموقعيه فى كتابى ابن ميمون وابن حزم.
1 قسم ابن ميمون الصلاة قسمين فرض ونفل، على الرغم من أن الصلاة من وضع العلماء (الفصل الأول، التشريع: 5، 6)، وهو نفس تقسيم ابن حزم، فالصلاة: فرض وتطوع ( المسألة 274).
2 أجاز ابن ميمون للمصلى أن يقصر صلاته فى السفر والخوف (الفصل الثاني، التشريع: 2) نقلاً عن المسألة (264) عند ابن حزم.
3 قال ابن ميمون بضرورة غسل اليدين قبل الصلاة، وهو تشريع من وضع العلماء أيضاً ولم يأت فى التوراة، وأجاز لمن لم يجد ماء أن يتيمم، ويمسح يديه بحجر أو تراب، أو بجذع شجرة ثم يصلى (الفصل الرابع، تشريع: 2)، متأثراً بالتيمم عند ابن حزم (مسألة 224).
4 نقل ابن ميمون (المسألة 299) عند ابن حزم: لا يحل لأحد أن يصلى إلا واقفا إلا لعذر، كما نقل (المسألة 300): لا يحل لأحد أن يصلى الفرض راكباً ولا ماشياً إلا فى حال الخوف، وجاءت المسألتان بكتاب ابن ميمون (الفصل الخامس، تشريع: 1 ، 2).
5 كما نقل ابن ميمون المسألة ( 304) عند ابن حزم: من كان راكباً على محمل أو فيل أو كان فى عرفة أو فى أعلى شجرة أو غير ذلك، فقدر على الصلاة قائماً فله أن يصلى الفرض حيث هو قائماً، وقد جاءت فى كتاب ابن ميمون (الفصل الخامس، تشريع: 8).
سأكتفى بهذه الاستشهادات من أحكام الصلاة «هلخوت تفلا» عند ابن ميمون لأعرض أمثلة على تجديد الخطاب الدينى فى باب آخر من أبواب التشريع: باب أحكام النكاح. فعند تجديد الخطاب الدينى لأول مرة وكان ذلك بأرض بابل، وضع علماء اليهودية أحكاماً للنكاح، وجاءت موزعة بثلاثة أبواب من كتاب المشنا: باب «كتوبوت» أى باب عقود الزواج، وباب «قيدوشين» أى باب عقد عقدة النكاح، وباب «يفاموت» أى باب الخلافة على الأرامل، فى حين أن كل ما جاء فى التوراة عن النكاح وطرقه ومحارمه لا تزيد على 15 تشريعاً.
ناقش العلماء فى باب عقود الزواج مضمون العقد الذى يكتبه الزوج لزوجته عند العقد عليها أو عند الدخول بها، والأساس فى العقد هو مبلغ «الكتوبا» المناظر لمؤخر الصداق فى الإسلام، ويتعهد الزوج أن يدفعه لزوجته عند الطلاق أو يدفعه ورثته عند وفاته، كما ناقشوا الشروط التى يشترطها كل طرف منهما على الآخر، ويختلف عن العقد الذى تنعقد به عقدة النكاح. وحرم علماء المشنا على المرأة أن تقيم فى بيت زوجها دون «عقد كتوبا» ومن تفعل ذلك تعد زانية(9).
ناقش علماء المشنا فى باب «قيدوشين» أى عقد عقدة النكاح: طرق النكاح، والوكالة فى النكاح، ومقدار الصداق أو المال الذى تنكح به المرأة، والغرر فى النسب أو قيمة الصداق أو صفته، وتقسيم أنساب اليهود إلى عشرة أنساب وتقسيم هذه الأنساب لثلاث مجموعات ويحل لأفراد كل مجموعة الزواج من بعضهم، ولا يحل لهم الزواج من المجموعات الأخري.
باب الخلافة على الأرامل «يفاموت» يناقش الفصل الأول منه محارم الزواج وقسمها لمحارم من الدرجة الأولي، وهى ما نصت عليها التوراة، ومحارم من الدرجة الثانية وضعها العلماء. من الفروق الواضحة بين الربانيين والقرائين فى النكاح أن الربانيين يحلون نكاح البنت من عمها وخالها، وسندهم فى ذلك أن التوراة لم تحرم على الرجل الزواج من ابنة أخيه أو ابنة أخته، أما القراءون فقد حرموا ذلك تأثراً بالإسلام.
عندما قام موسى بن ميمون بتجديد الخطاب الدينى مرة أخري، ضم هذه الأبواب بباب واحد، أطلق عليه اسم «هلخوت إيشوت»، أى أحكام النكاح. وسار فى تقسيم الموضوعات وطريقة عرض كل مسألة على خطى كتب الفقه الإسلامي، وسوف نورد بعض الأمثلة من هذا الباب للتدليل على التجديد من ناحية، وعلى مخالفة موسى بن ميمون للمشنا، وتأثره بالفقه الإسلامى من ناحية أخري.
فقد جاء فى كتاب المشنا فى باب قيدوشين، التشريع الأول: «تملك المرأة بثلاث طرق، وتملك أمر نفسها بطريقتين... تُملك بالمال وبالعقد وبالوطء»، فرغم أن النكاح بالوطء هو الطريقة الوحيدة التى نصت عليها التوراة فى (التثنيه: 24/1)(10)، فقد قدم علماء المشنا الطريقتين الأخريين عليها. أما ابن ميمون فقد حرمها واعتبرها زني، وقال: «كل من يطأ امرأة بدون عقد عقدة النكاح يجلد»(11).
المثال الثانى عن تعدد الزوجات. فقد أحلت التوراة تعدد الزوجات ولم تضع حداً أقصى لعدد الزوجات، وقد أباح علماء المشنا تعدد الزوجات دون حد أقصى كذلك، فجاء فى (باب قيدوشين: 2/ز): «الرجل الذى عقد عقدة النكاح على خمس نساء فى آن واحد...» وجاء فى (باب كتوبوت: 10/هـ): «من كان متزوجاً من أربع نساء ثم مات...». أما موسى بن ميمون فقد أباح تعدد الزوجات وقال فى أحكام النكاح (14/د): «يجب ألا يجمع الرجل بين أكثر من أربع نساء حتى وإن كان لديه مال كثير، حتى يستطيع أن يعاشر كل واحدة منهن مرة فى الشهر». ورغم تأثر موسى بن ميمون الواضح فى هذه المسألة بالفقه الإسلامي، فإنه يعزو رأيه إلى حادثة وقعت زمن التلمود لرجل توفى أربعة من إخوته، وكان يجب عليه أن يخلفهم فى أراملهم، فنصحه علماء التلمود ألا يجمع بين أكثر من أربع نساء(12). وسواء تأثر موسى بن ميمون فى هذه المسألة بالإسلام أم اقتدى بفتوى علماء التلمود، فما يهمنا فى هذا المثال هو أن نرصد الأدلة على تجديد الخطاب الديني، وأن نسلط الضوء على الدور الذى قام به موسى بن ميمون فى تجديد اليهودية الربانية بالقرن الثالث عشر، ومازال أثره مستمراً ليومنا هذا. ورغم مرور ثمانية قرون على تأليفه، لا يزال كتاب «مشنه تورا» هو المرجعية الدينية لليهود الربانيين بجميع أنحاء العالم، لذلك فهو موجود كاملاً على شبكة المعلومات الدولية «إنترنت»، شأنه شأن التلمود، ليسهل على اليهود الرجوع إليه.
بعد عرض التجرية اليهودية فى تجديد الخطاب الدينى بإيجاز، اتضح أن الفقه الإسلامى كان القدوة والنموذج لدى عنان بن داود وموسى بن ميمون، ويبدو أن أحوج ما نحتاج إليه هو أن نُعمِل منهج البحث العلمى لدى النظر فى أى دين، وألا ننظر فى أى حكم من أحكام أى دين بمعزل عن نظامه الكلى ومقاصده، ولا نحاكم أى دين بسلوك الخارجين عنه.
الهوامش
(1) باب عقود الزواج: 7/و.
(2) باب عقد عقدة النكاح: 7/ أ.
(3) عند تهجير بنى إسرائيل إلى بابل بالقرن الخامس (ق.م)، ذهب فريق منهم إلى مصر ومنهم النبى أرميا.
(4) أنظر للباحثة: كيف أصبح جبريل عليه السلام عدواً لليهود؟ رسالة المشرق، مركز الدراسات الشرقية، جامعة القاهرة، المجلد 13، 2004.
(5) سورة الأنعام: 38.
(6) سفرا وسفرى والتوسفتا: مؤلفات تشريعية يعتمد عليها الربانيون.
(7) لم ينسب أى مصدر من المصادر العبرية عملية تأليف التلمود لفرد أو شخصية بعينها فهو تجميع لمرويات ظلت تتردد مشافهة على مدى قرون، وأقدم مخطوط للتلمود (المشنا وشروح الجمارا) يعود تاريخه للقرن الثانى عشر، أما التلمود فى صورته الحالية فهو تصوير عن الطبعة التى أصدرها دانيال برومبرج فى 1520، ومازال باب الاجتهاد فى التلمود مفتوحاً للآن، فتضاف شروح وتعديلات وتفاسير إلى الطبعات الحديثة منه.
(8) من الأمور اللافتة للنظر أن ابن حزم (994 - 1064) وابن ميمون (1135 - 1204) من مواليد قرطبة بالأندلس، وإن كان ابن حزم يسبق ابن ميمون بواحد وسبعين عاما، وقد تلقى كل منهما تربية علمية وفلسفية ودينية، أى تشابهت نوعية التنشئة، لذلك تشابهت اهتماماتهما، فألف كلاهما فى الفقه والمنطق والفلسفة وعلم الكلام والطب. ورغم غزارة إنتاج ابن حزم، وتنوع مؤلفاته فى الفقه والحديث والأصول والملل والنحل والتاريخ والأنساب والأدب والرد على المعارض، وعلى الرغم من السبق العلمى الذى أحرزه فهو أول من اهتم بدراسة الأديان دراسة تاريخية نقدية. ورغم أنه يفوق ابن ميمون وابن رشد فى حجم إنتاجه وتنوعه، فإن اسم ابن حزم لم يبرز فى التاريخ العام للفلسفة وعلم الكلام، ولم يحظ بشهرة ابن رشد وابن ميمون رغم إعجابهما وتأثرهما به، و«المحلي» أحد أربعة كتب لابن حزم دون فيها فقهه ومذهبه، ويقع فى أحد عشر مجلداً يشتمل على 4388 صفحة وهو آخر مؤلفات ابن حزم، ولم يتمه بعد.
(9) انظر للباحثة: أحكام النساء فى التلمود، الدار الثقافية للنشر، 2005.
(10) فقد جاء فيها: «إذا اتخذ رجل امرأة ووطأها...»
(11) «مشنه تورا»، هلخوت إيشوت، الفصل الأول، تشريع: د.
(12) التلمود البابلي، باب يفاموت، وجه ص 44.
يبدو أنه لولا ظهور موسى بن ميمون، والدور الذى اضطلع به، لما قامت لليهودية الربانية (الحاخامية) قائمـة بعد ذلك. فقد ترتب على الصراع والانقسـامات
فى صفوف اليهودية أن انهارت المدارس الدينية فى بابل
أحلت التـوراة
تعدد الزوجات ولـم تضـع
حداً أقصى لعدد الزوجات، وقد أباح
علمـاء المشـنا تعدد الزوجات
دون حد أقصى كذلك
فـى حـين يبـدأ
ابن حـزم الجـزء الأول
من «المحلي» بموضوع التوحيد، يبدأ ابن ميمون
الجـزء الأول من كتابه
بموضوع التوحيد أيضاً
مـع تـزايد حمـلات
التشكيك فى السنة النبوية،
يتبين أن الهدف من وراء الدعوة إلى
تجديد الخطاب الدينى أبعـد
ممـا يذهب معظمنـا