جمعهما عصر واحد .. القرن التاسع عشر. وطموح واحد ... رغبة محمومة للسطوة والسيطرة علي مقدرات زمانهما. إحداهما ورثت السلطان، وإمبراطورية أسطورية، فلم تكتف، تسربلت بمسوح الزهد المخادع لإحكام يديها علي القريب سعياً لإحاطة الكرة بأذرع الاستعمار باسم الملكية البريطانية.
والأخري لم ترث إلا الفقر، وقدرة النصب علي القريب لتصل إلي البعيد، فالأبعد. القريب الزواج من الثروة، والبعيد اللعب علي كل الحبال لامتلاك رأس المال، والأبعد سلطان عظيم باسم رئاسة الجمهورية الأمريكية.
ونبدأ القصة مع الأسبق منهما في الطموح ... الملكة فيكتوريا.
فيكتوريا الإنجليزية
نشر في السبعينيات من القرن الماضي كتاب يتحدث عن علاقة الملكة فكتوريا(Victoria) بخادمها جون براون(John Brown)، ولم تكن هذه هي المرة الأولي التي تثار فيها هذه القصة، ولكنهم هذه المرة أكدوا أنه كان يدخل غرفة أرملة وندسورــ كما كانت تسمي ــ ليلاً ولا يخرج إلا بعد ساعات طويلة.
فيكتوريا هي القرن التاسع عشر، ولا نبالغ إذا قلنا أنها القرن التاسع عشر ليس لإنجلترا فقط، ولكن للعالم الاستعماري بكامله، حصلت إنجلترا في عهدها علي لقب الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وحصلت هي لطول عمرها وسطوتها وتوزع أحفادها علي عدة عروش، علي لقب (أم أوروبا). فيكتوريا كانت تمثل بالفعل الفكر الإنجليزي خلال هذا القرن الذي دوخ العالم الثالث، وأثار غيرة المنافسين في أوروبا وانتهي بالحرب العالمية الأولي، كانت تمثل التحفظ الإنجليزي والتستر الإنجليزي مع ما في داخله من عنصرية ورغبة في السطو بواجهة متأنقة وباطن متعفن جعل برنارد شو أو أحد الشهود من أهلهم يسخر من جزيرة جون بول والتفاحة التي أفسدت عربة التفاح بكاملها.
فيكتوريا هي إحاطة العالم بحزام استعماري (33 مليون كيلو متر)، والسيطرة علي ربع سكانه (450 مليونا) آنذاك. فيكتوريا هي سيطرة الإنجليز علي الهند ثم علي سنغافورة عام 1849، وسيطرتهم علي الصين بفرض حربي الأفيون من عام 1839 إلي عام 1842، وسيطرتهم علي هونج كونج، وربط كل من كندا واستراليا بنظام إنجليزي خاص، ودخولهم القتال مع البوير (الهولنديين) في جنوب أفريقيا، وإقامة النظام العنصري هناك، وتصفية الصراع مع الروس بتقسيم مناطق النفوذ علي حساب أفغانستان وإيران والتبت، وتعبيد الطريق الاستعماري بالسيطرة علي جبل طارق وقبرص واحتلال مصر عام 1882، والوصول إلي باب المندب أو مخرج البحر الأحمر، والوصول إلي الصومال والخليج العربي، والسيطرة علي أفريقيا ساحل الذهب ونيجيريا وكينيا وأوغندا، ومحاولة (سيسل رودس) الوصول من الكاب جنوباً إلي القاهرة شمالاً.
مرحلة البير :
عاشت فيكتوريا إلي سن الحادية والثمانين، حكمت منها خمسة وستين عاماً (1837 / 1901)، نصبت ملكة في سن السادسة عشرة والتصق اسمها بثلاثة رجال، الأول قبل زواجها كان رئيس وزرائها لورد ملبورن (أحرار) المستهتر في سلوكه الشخصي والجذاب للملكة الصغيرة، وانقطعت صلتهما بعد زواجها. والثاني زوجها الأمير ألبير (ALBERT) الذي كان يصغرها بثلاثة أشهر، وأصبحت قصة حبهما حديث أوروبا بل وسخريتها ولكنه مات عام 1861. ثم خادمها الاسكتلندي الشرس جون براون الذي اختصته بصفحات عديدة من مذكراتها ومات 1883، وبقيت (أم أوروبا) كما يلقبها الأحباب، أو السيدة ملبورن، ثم السيدة ألبير، ثم السيدة براون كما يلقبها الكارهون أو العارفون بالخفايا الفيكتورية.
كانت عصبية المزاج ذات اهتمامات محدودة وبالتالي كانت تعرف طريقها بسهولة دون تقليب للأمور أو دفعها في ممرات فكرية متعددة. وقبل الزواج من ألبير ابن خالها كانت تستند في تسيير أمور دولتها علي رئيس وزرائها ملبورن، ولكنها ما لبثت أن اندفعت بطاقة الشباب وحرارة المزاج نحو ألبير الشاب الوسيم، وقررت الزواج منه وتركت ملبورن يقول (لقد انتهي الأمر).
ويعلق صحفي جريء في زمانها هو شارل جريفيل بأن الملكة أخذت تتعلق بألبير مع مرور الأعوام حتي تعدت الحدود، وتحول التعلق إلي نوع من الخضوع فكانت لا تطيق البعد عنه لمدة يوم واحد، وحينما ذهب للصيد في ألمانيا لمدة أربعة أيام وحده كانت تشكو بأن غيابه بالنسبة لها مصيبة كبيرة. ويتهكم جريفيل «أربعة أيام ... رغم أن جلالتها كانت لا تتورع عن إبعاد بعض وصيفاتها عن أزواجهن وعن عائلاتهن لشهور طويلة». اشترت فيكتوريا مقاطعة أسبورن في جزيرة ويت لتنفرد بألبير، وكانا يعلنان في أحيان كثيرة انعزالهما في (بالمورال) القصر الملكي الاسكتلندي في منطقة (هاي لاند) بعيداً عن المعارك السياسية الداخلية والخارجية.
في قصر وندسور كان ألبير يعمل بشكل دائم في مكتبه حتي ظهر عليه الكبر أكثر منها بكثير. ترهل وتساقط شعر رأسه، بينما احتفظت هي بقوتها وحيويتها. كان يعمل لوضع الخطط في مختلف الفروع حتي يوفر علي الملكة والحبيبة الوقت لاتخاذ القرارات في مشاكلها. يبدأ يومه في السادسة صباحاً، وأثناء تناوله الإفطار يقرأ (التايمز) ويسرح بين الحين والآخر، وينزعج إذا حاول أحد مقاطعته، ولكنه مع فيكتوريا كان صبوراً، كان يقبل تصرفاتها السطحية مع إبداء الإعجاب بصورة مصطنعة، أو عصبيتها وضحكاتها المتوترة أو عنادها أو حزنها الذي تغرق فيه حينما يموت شخص عزيز عليها، ثم تنصرف عنه فجأة. وفسر البعض موقف ألبير أنه خوف من صاحبة الجلالة، ويهمنا أن نفسر موقف صاحبة الجلالة منه. كان ألبير يمثل النموذج الذي يرضي شخصية فيكتوريا... متسلطة وجدت من يقوم بالجهد ويقدم الحلول ويحتفظ لها بالهيبة والسلطان. وتصورت في لحظة اندفاعها العاطفي أنهما سيبلغان الشيخوخة معاً، ولكنها نسيت من فرط ذاتيتها أنها تستهلكه وتعجل بشيخوخته وموته.
في أول ديسمبر عام 1861 وجدته يرتعش بصورة غير طبيعية، استدعت الطبيب جيمس كلارك وكان لا يقل عنها ذاتية فرفض أن يشاركه في الكشف أحد، وشخص المرض علي أنه نزلة برد شديدة، ولكن الحالة ازدادت سوءًا فاستدعي الطبيب وليم جيز الذي قرر أنه مصاب بالتيفوئيد.
استراحت فيكتوريا لتشخيص الدكتور كلارك فظلت تصر بعنادها رغم تدهور صحته علي أنه سيشفي قريباً، أما البير فكان يشعر بدنو أجله وقال لها «أنا غير متعلق بالحياة، إذا كنت مصابًا بمرض خطير فإنني أتعجل الرحيل». وأحاطت بعض الظروف النفسية به فشاركت في هد كيانه، ولكنها لم تنقص من عزيمة فيكتوريا، ولا من وزنها بعد أن بدأت تميل للبدانة. تلقي ألبير خبر وفاة (بدرو) ابن عمه ملك البرتغال بمرض التيفوئيد، كما بلغه أن ابنه الأمير ( دي جال ) البالغ من العمر تسعة عشر عاماً علي علاقة بامرأة، وكان حريصاً علي سمعة العائلة المالكة، إلي جانب رفضه التام لأية علاقة جنسية خارج الزواج. وحينما ساءت حالته الصحية لم تبك فيكتوريا بل كانت تنفرد في غرفة لمواجهة حالة اليأس التي تنتابها. ولم تبك حتي حينما بلغها نبأ وفاته.
أقبلت عليه وقبلته في جبينه، ثم جثت علي ركبتيها تناديه في حنان إلي أن ساعدوها علي الخروج من الغرفة، حينذاك ضربت كفيها علي جبينها ضربة خفيفة مرددة (عقلي... عقلي).
مرحلة براون :
غيرت فيكتوريا مكان إقامتها بعد وفاة ألبير، تركت وندسور في أوسبورن، وحينما كانت إجراءات جنازة ألبير تعد، كانت الملكة قد قررت ارتداء ملابس الحداد طوال حياتها.
لا شك أن وفاة ألبير أثرت علي الملكة بشكل واضح فبدت أكبر من الأربعين التي بلغتها، لكنها بدأت تعيش حاضرها. كان البير يقول عنها أنها تعيش في تقاليد الماضي العريق بقدر ما تعيش في طموحات المستقبل الزاهر. أخضعت نفسها والمحيطين بها لنوع من الحداد الدائم، وفسر البعض تصرفها بأنه نوع من الأنانية، ولكنه كان في الحقيقة أكثر من بعد نظر.
فيكتوريا الانجليزية عندما تولت الحكم عام 1837
لم يكن من حق أحد من البلاط أن ينسي ألبير، ظل الرجال يلبسون الحداد إلي نهاية 1862، أما السيدات المصاحبات للملكة فلم يصرح لهن بارتداء الألوان الرمادية أو الكحلية إلا بعد عام 1864. وظلت الوصيفات القريبات الصلة بالملكة يلبسن الحداد مثلها، بينما ظل الخدم يلبسون الأسود لمدة ثمانية أعوام. أصدرت الملكة أوامرها بأن تظل أجنحة وندرسور التي كان يشغلها زوجها كما كانت. قامت بختم الأبواب والأشياء الخاصة التي كان يستعملها، أو الأوراق التي كان يعدها، أو أعدها ومنعت الاقتراب من ملابسه. بل يحكي البعض أن خادم ألبير الخاص ظل يعد يوميا إناء الماء الساخن في حمام الأمير كالعادة، ويعد ملابس نومه علي السرير، وقالوا أن الملكة كانت قبل أن توقع علي الأوراق الهامة تنظر إلي مكان جلوس زوجها وتسأل في هدوء إن كان يوافق عليها. وظلت تحتفظ بالكوب الذي شرب منه آخر جرعة دواء لمدة أربعين عاماً، أي بقية عمرها. كما كانت تقوم يومياً بنثر الزهور علي سريره وتحمل بعضها إلي كاتدرائية سان جورج.
عاشت فيكتوريا في حداد لمدة أربعين عاماً. في بادئ الأمر قلت صلتها بأسرتها ولم تكن تقابل إلا الوزراء للضرورة. وحينما كانت تذهب أو تغادر وندسور كان يتم إخلاء المحطة من أفراد الشعب، وبمرور الوقت وبإصرارها علي هذه الطقوس القاتمة بدأ الناس، وبدأت الصحافة تثير الأقاويل. بدأت التساؤلات هل هذه المظاهر صادقة؟ وكيف تتحمل الملكة هذا اللون من النظام القاتم؟ وما هي إذن حقيقة علاقتها بخادمها الإسكتلندي جون براون.
جون براون كان أحد أتباع زوجها ألبير، وبعد وفاته توثقت صلة براون بالملكة. كان اسكتلندياً خشن المظهر والطباع، ورغم تحفظ الملكة الأوتوقراطية، بل وصرامتها التي لا تقبل أي نقد، إلا أنها كانت تقبل من براون اللوم بل التقريع في سرور. كان يسمح لنفسه بمجادلتها في نوع ملابسها وطريقة لبسها وبالطريقة التي تروقه. بل كان يناديها يا ( امرأة). وكان طبيعياً بعد ذلك أن يتجرأ علي حاشيتها والمقربين منها وبطريقة فجة، ويسمح لنفسه بثقة في مجادلة الوزراء، ويضرب علي أكتافهم كنوع من المداعبة أو السخرية.
ومن أشهر وزراء فيكتوريا (جلادستون) و(دزرائيلي). الأول كان يكره براون ويلقبه في استخفاف بديك في ثوب طاووس، أما دزرائيلي فكان من الدهاء والاطلاع علي دخيلة الأمور بحيث كان يحسن الإصغاء لتفاهات براون. أما فيكتوريا فكانت تقول عن براون «إنه تابع، وخادم أقدام، وغلام، بل وخادم غرفة أيضاً» ولكن هذا القول كان لا يمنع وربما قصد به ألا يمنع من أن ينام براون في الغرفة المجاورة لغرفتها في وندسور،حيث كانت لا تستريح إلا في حضوره بصورة تثير الدهشة والسخرية والريبة.
كانت فيكتوريا بالتأكيد مشدودة إلي براون، وفسر البعض هذه العلاقة بأنها لا تعدو أن تكون علاقة خادم مفضل بسيدته، وفسر آخرون هذه العلاقة بأن تهاون الملوك أو الملكات مع خدمهم شيء لا ينقص من سلطاتهم لأن الخدم أنفسهم جزء من هذا السلطان، بينما لا يجد أقرب الناس إليهم نفس المعاملة لأن ذلك يقبل التفسير بوقوعهم تحت سيطرة الآخرين. ولكن يعود فريق ثالث فيؤكد أن تصرف فيكتوريا مع براون فيه تجاوز كبير لم يمنح لغيره من الأتباع أو الخدم، وبالتالي تعرضت الملكة لموجة من النقد ارتفعت إلي درجة توجيه الاتهام أو الهجوم علي فيكتوريا وبراون الذي تمتع علي حد قولهم بمكانة تقرب من الشرعية.
وحينما مات براون 1883 أقامت له الملكة نصباً تذكارياً، وكانت تحتفظ له بعدد من التماثيل الصغيرة. وفي يوم الأحد كانت حريصة علي أن تضع علي مائدتها ملاحتين فضيتين علي شكل أصداف بحرية، كان براون قد أهداهما للملكة، وبعد أن كتبت الملكة جزءين من تاريخ حياتها صممت علي إصدار الجزء الثالث عن براون. وأبدي عميد وندسور «دافيدسون» قلقه لذلك، وخشيت الملكة أن يقدم استقالته، وانتهي الأمر بأن عدلت عن رأيها، وأعلنت عن إصدار الجزء الثالث، ولكنه لا يخلو من صفحات عديدة تتحدث عن براون، في الوقت الذي عين فيه دافيدسون رئيس أساقفة كانتربري.
هذه القصة ذاعت وأصبحت السيدة التي كانت تنسب إلي ملبورن ثم إلي ألبير تسمي السيدة براون... وكانت قمة الإهانة للملكة في القرن التاسع عشر.
القمة الاستعمارية :
شعور الاستياء كان ينتشر في انجلترا من تصرف الملكة، وأعلن شارل برادلي وهو راديكالي ملحد في خطبه إدانة العائلة المالكة، وافتتحت الكثير من النوادي الجمهورية في أنحاء انجلترا وأصدر جورج أوتو تريفيلان كتيباً بعنوان «ماذا تفعل هناك ؟» أي الملكة ــ يكشف فيه فضائحها وخاصة بخلها وحبها لجمع المال، وأعلن آخر أن العائلة الملكية تكلف الدولة مليون جنيه في العام، وأن هذا الإنفاق الهائل لا يعتبر نوعاً من التبذير فقط، ولكنه مساوئ قبيحة.
ظلت فيكتوريا رغم الهجوم عنيفة المزاج، أكولة، محافظة علي الشكليات، تقبل في شراهة علي أنواع البودنج والفطائر المحشوة بالكريمة، والحلويات والبسكويت. كانت مائدتها لها طقوس خاصة وفخامة خاصة. الأطباق من الذهب، أو السيفر، والخدم الهنود يقفون دائماً وراءها في سكون، واسكتلندي جبلي يتولي تقديم النبيذ. يلبسون ملابس مذهبة وقرمزية في الشتاء، وبيضاء في الصيف، وأيديهم معقودة علي أحزمتهم، وذقونهم تبدو عجيبة من شدة سوادها مع ملابسهم الناصعة البياض صيفاً.
أما العاملون في القصر فكانت تختارهم من الشبان أو الشابات غير المتزوجين، وتلزم الوصيفات بأن يستقبلن الزوار من الرجال في قاعة الاستقبال فقط. كما منعت الرجال من التدخين في أي مكان ترتاده، ومن يعمل في مكتبها عليه ألا يقدم إليها أوراقاً تناولها وهو يدخن، ولم تستثن من هذه القواعد سوي براون.
ورغم وحدتها أيام الشيخوخة إلا أنها كانت لا تسمح لأحد من عائلتها بمشاركتها المائدة إلا في العشاء.
جعلت هذه القواعد الصارمة الجميع يعتبرون زيارة قصر وندسور شرفاً عظيماً لرؤية أم أوروبا، أو أرملة وندرسور بملابسها السوداء الغالية الثمن، ولكن دون ذوق. غطاء رأسها مرصع بقطع من النجوم الماسية بدون تنسيق، والأنواط التي تزين خصل شعرها، والصور الصغيرة التي تتحلي بها تمثل العديد من أفراد أسرة كبيرة ترمز لها هذه السيدة الصغيرة البدينة رمز الإمبراطورية الواسعة والتي كان دزرائيلي يشعر أنه حقق ذاته وأهدافه من خلالها.
كان طبيعياً أن تردد فيكتوريا آراء رجعية تناسب سطوتها الاستعمارية. كانت تقول أن التعليم ــ وتقصد التعليم المتحررــ أفسد الطبقات العليا كما أنه حال دون تخريج الخدم الجيدين، والشغالين الذي يعرفون مهامهم من الطبقات الفقيرة. وكانت تقول أنه يجب جلد هؤلاء الدعاة الذين ينادون بإعطاء حق التصويت للمرأة!! كانت تمثل الرجعية في قمة توازنها مع نفسها ويكفي أنها كانت علي قمة أكبر إمبراطورية استعمارية عرفها العالم، ويقولون أن فيكتوريا قد ارتدت شكلاً حزام العفة بعد موت زوجها ألبير، وأنها في ذلك كانت تمثل نموذج الحزام الحضاري المصطنع الذي أحاطت به إنجلترا العالم.
وكما أن الحزام الاستعماري الذي ادعي الإنجليز أنهم يعمرون به العالم قد انكشف وانحل عن وسط العالم بثورات التحرر في القرن العشرين، فكذلك كشف لنا التاريخ أن حزام فيكتوريا لم يعمر بالعفة حول وسطها إلا شكلاً وحفاظاً فقط علي التناسق بين حزامها الخاص وحزامها الاستعماري.
فيكتوريا الأمريكية
فيكتوريا وود هول (VICTORIA,WOODHULL)... كانوا يسمونها في أمريكا «الفضيحة» ظهرت أواخر القرن التاسع عشر، لعلها أوحت لبرنارد شو بالصورة الواقعية لفتاته بائعة الزهور «إليزا» في مسرحية بجماليون. فقد كتبها عام 1912، وعرفناها بعد «فلمنة» المسرحية باسم «سيدتي الجميلة»... ولعلها أيضاً تعيد صورة تيودورا زوجة الإمبراطور جستنيان. كانت تيودورا ممثلة وداعرة ثم صارت زوجة إمبراطور وحامية للفضيلة. وعلها أيضاً تلبست روح كليوباترا كما صورها خيال العديد من الشعراء والأدباء، طموحة عند شكسبير، و تلعب بالدلال عند برنارد شو، أو بطلة قومية عند شوقي. فيكتوريا دار في خيالها كل ما يصلها بملكات الزمان الغابر والحاضر، من كليوباترا إلي ملكة زمانها وزمان أوروبا بكاملها، وزمان الاستعمار الإنجليزي، الملكة فيكتوريا، ولنترك إصدار الحكم عليها حتي الانتهاء من رواية قصتها.
في 6 يونيو عام 1872 كانت قاعة «كوبرا» الواسعة في نيويورك تموج بآلاف من البشر.. رجال تتخللهم بشكل غير مألوف العديد من النساء، ويرفع الجميع الرايات، وتصدر الحناجر كلمة واحدة «وود هول ... وود هول» تحددت الهتافات منادية «انتخبوا فيكتوريا وود هول» ساد الصمت في القاعة فقد أشرف عند مدخل القاعة زعيم هندي بصدر عار ورياش منفوشة يصحبه رجلان بثياب رسمية إلي مقعد يتصدر وسط الصف الأول. هز الزعيم رأسه وفضل الجلوس علي الأرض... ليس غريباً فقد كانت صاحبة الدعوي تنادي بالمساواة بين الرجل والمرأة، وبالمساواة بين الأبيض، والهندي، والأسود.
رفع الستار ببطء وساد الصمت، ظهرت امرأة في الرابعة والثلاثين من العمر، تقف في شموخ، ترتدي سترة طويلة من المخمل الأسود وربطة عنق قرمزية وبنطلونًا من الستان مشدودا إلي الساق، يغطي نهايته عند القدم غطاء أبيض كزي الفرسان. زالت صدمة اللقاء الأولي وعادت الهتافات، أشارت المرأة بيدها في وقار فهدأت الضجة، أعلنت فيكتوريا «اليوم أعلن رسمياً ترشيحي لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية».
وقفت القاعة احتراماً، وربما اندهشت لجرأة هذه المرأة. بلد قام علي عضلات ومغامرات الرجال، مسدسات وبنادق المتهورين، كان طبيعياً أن يقتصر فيه حق التصويت علي الرجل فما بالك بالترشيح للرئاسة. ظلت أمريكا في دهشة لمدة عامين من عام 1870 إلي 1872 موعد الانتخابات الجديدة لرئاسة الولايات المتحدة.
قصة فيكتوريا مع التاريخ الأمريكي يتجاهلها عادة الأمريكيون برغم ما بها من مغامرة يحركها طموح علي الطريقة الأمريكية. طموح مخلوط بدعوة اشتراكية، أو دعوة لتحرير النساء، تغلفها رغبات متهورة وأحياناً داعرة، في وسط ضباب من عالم روحانيات الدجل تخفي دوافع من النصب والغش ورغبة جامحة للإثراء بعد مرحلة من الجوع والتشرد والمطاردة. ولعل هذا الخلط في قصة فيكتوريا هو الداعي لتجاهل التاريخ الأمريكي، أو علي الأقل حركة التحرير النسائية الأمريكية لقصة طويلة هزت أمريكا بكاملها ووصلت أوروبا طوال ربع قرن كامل.
الأصول الأسرية :
اسم أسرة فيكتوريا «كلافلان» (CLAFLIN) والدها «بويك» ولد في «ماساشوستس» عام 1796. طويل رفيع أعور. بدأ كفاحه من الخامسة بسيناريو خاص يعتبر مقدمة طبيعية لحياة الأسرة والابنة فيكتوريا. اشتغل مقامراً محترفاً، وغشاشاً في اللعب، سائساً أو مروض خيول، مزور عملات، نصاباً تخلص بأعجوبة من السجن وحبل المشنقة. التقي بخادمة اسمها «روكسانا» من أصل ألماني يهودي، وصلت جماعتها إلي أمريكا عام 1700 واعتنقت المسيحية، وخالطت الدماء الهندية. تزوجها، وأنجبت روكسانا ثمانية أطفال.
الأسرة الفيكتورية فى مطلع الملكية
سكنت أسرة بويك في قرية بولاية أوهايو. ذات صباح صرخت الأم في خبل معلنة أنها تلبست روح العذراء ثم أعلنت بعد ذلك أنها العذراء بنفسها والدة المسيح. تأتيها رعدة تقرأ بها الغيب، وتنسي الماضي، وعندما تفيق تعود إلي واقعها البائس. ولدت ابنتها فيكتوريا في عام 1838 وبعد أن وعت الدنيا، شاركت إخوتها وأخواتها التقاط الرزق من الطرقات بالشحاذة أو النصب أو السرقة. وعندما وصلت فيكتوريا إلي سن السادسة أصابتها الحمي الغيبية التي أصابت أمها. أختها «تونيس» أصابتها أيضاً الحمي وصارت العائلة عائلة الغيب والنصب.
في اليوم الثاني لتأمين الأب علي بيته احترق البيت، هرب الأب. جمعت الأم أولادها وأقامت عند عمها لحين. هناك بدت مواهب الصغيرة في الظهور، قراءة الغيب وإرشاد الناس إلي أماكن أشيائهم الضائعة، أو حيواناتهم الضالة. جمع «بويك» عائلته في منزل وعلق علي بابه «تونيس تكشف لك المستقبل بدولار واحد». كبرت الفتاتان، اصطحبهما الوالد إلي المسارح للعرض. الصغيرة لقراءة الغيب، والكبيرة تدير مائدة القمار، والزبون يختار بينهما. تزوجت الأخت الكبيرة لفكتوريا من حاكم تكساس، أنجبت طفلة. صار لها بيت جميل ولكنها كبقية قبيلة كلا فلان كانت لا تطيق الحياة الهادئة. هربت ولحقت بأسرتها البائسة. أخت أخري أعجب بها صيدلي وطلب منها الزواج، اشترطت الأم أن تقيم القبيلة بكاملها مع الابنة، قبل الرجل فخربوا بيته. في يوم زفافه حضر صديقه الطبيب «كاننج وود هول»(CANNING,WOODHULL) الحفل وأعجب بالأخت الصغيرة فيكتوريا. كانت في الخامسة عشرة، ناضجة، جميلة. طلب يدها فقبلت. كان طبيباً ثرياً ناجحاً قال أن أسرته في نيويورك تمتلك بيتاً كبيراً وثروة. تزوج الصيدلي والطبيب الأختين وأقاما مع القبيلة في منزل كبير.
تحول البيت إلي جحيم بفضل أطماع الأب، وصرخات الأم. طلق الصيدلي زوجته، وطلب الطبيب «وود هول» من فيكتوريا زوجته أن يتركا بيت أسرتها ليقيما في بيت أسرته ... بيت الأسرة لم يكن في نيويورك بل كان في «روشيستر». قبلت فيكتوريا ... يكفي أنها ستري عالماً جديداً. بيت كبير، منسق، نظيف، أنيق كل ما فيه ثمين، الحوائط والأثاث والأرضية والبشر. والد زوجها كان قاضياً يتمتع بسلطان واسع. عرفت في البيت الكبير أصحاب النفوذ، وكيف يديرون أمورهم وأمور الآخرين. عرفت وسائل الخداع البرجوازية. في ثوب أنيق، وعبارة براقة، وثقافة واسعة. أدركت أيضاً أن المرأة في المجتمع الناعم هي نفس المرأة في المجتمع المنحط، في الأول دمية بلا حقوق كجزء من الأناقة والوجاهة يستكمل بها أصحاب الملايين عقد الصفقات، وفي الثاني دمية أيضاً بلا صوت، أو أداة للنصب أو النهب في يد أصحاب الحانات ونوادي القمار والدعارة.
انبهرت وخضعت في بادئ الأمر لأوامر البرجوازية. تعلمت بعض أصول اللعبة، أرادت أن تتعلم أكثر، ولكن كان يغلبها الأصل في بعض الأحيان كالفتاة «إليزا» في مسرحية برنارد شو. في جلسة أنيقة تخيم عليها أحلام أصحاب الراحة والنعيم قال أحدهم .. إن ما يشوقه هو رؤية هذا العالم وقد تحول سكانه إلي ملائكة كالعالم الآخر. هنا انفجرت فيكتوريا قائلة ... فكرة خائبة، في العالم الآخر لن نكون مجتمعين حتي نمارس الجنس. تكهربت الجلسة، أصابها الصمت، وانتهت باللباقة البرجوازية المعتادة. ابتسم آل «وود هول» وحولوا الابتسامة إلي ضحكة هينة معتذرة لجانب، ومحتقرة لآخر ...
أدركت فيكتوريا أن تعلم اللعبة ليس سهلاً، ضاقت وبدأت تتمرد، أقاموا لها احتفالاً بعيد ميلادها، زينوا المكان، حضر الجمع المرسوم بعناية وانتظروا عروس الحفل. هلت عليهم من أعلي السلم ترتدي سترة قصيرة من المخمل الأخضر، وثوبًا من قماش «التفتاه» الأسود ينتهي عند الركبة، وبنطلونا منقوشا ومشدودا من أسفل وحذاء أسود .. ملابس بوهيمية كانت ترتديها نساء حركة تحرير المرأة في أمريكا، صاعقة نزلت علي آل «وود هول».
في عام 1848 كانت المرأة التي تجرؤ علي ارتداء هذا الزي وتحمل شعار حركة تحرير المرأة تطارد في الطريق من الرجال وكأنها عاهرة. وتسمع من السباب ألواناً علي ألسنة النساء المتدينات ... انتهت الأزمة الثانية أيضاً بأدب برجوازي، صاحت إحدي الحاضرات .. يالها من فكرة ساحرة، ابتكار رائع.
الثروة والنصب :
أرادت فيكتوريا الهرب. ألحت علي زوجها بالهجرة إلي كاليفورنيا حيث يبحث المقامرون هناك عن الذهب. رغم حملها إلا أنها هددت بترك البيت. قبل الزوج وبدأت الرحلة الشاقة لمدة ثلاثة أشهر إلي «سان فرنسيسكو» وضعت طفلها ووصلت إلي مدينة رعاة البقر ومعارك الطرقات، والطلقات الطائشة، والعصابات، وقطاع الطرق، وصالونات القمار والشرب والدعارة والاعتداء علي الصغير والكبير. مارس الزوج مهنته كطبيب، طبيب مهذب وسط قوم يعتبرون الأدب ضعفاً ... فشل وانصرف إلي الشراب.
بدأت فيكتوريا تبحث عن عمل. عملت خادمة في منزل ممثلة، ومن صحبتها وصلت إلي المسرح. ولما كانت تفوق سيدتها في الجمال والخفة والابتذال فقد طالبها الرجال بعروض عامة، ثم عروض خاصة. في سن العشرين أنجبت طفلا ولانصرافها عن البيت سقط ابنها من الشرفة، أصيب بالبله .... صارت علاقتها بزوجها شكلية، تفرغت للمعجبين، وتفرغ هو للإدمان علي الشرب.
في ذات مساء عاودتها الرعدة الإلهامية، تصورت أن أختها «تونيس» تناديها. تركت كل شيء الزوج، والأولاد، والمعجبين، ورحلت متوجهة الي نيويورك. في محطة مدينة «أنديانا بولس» نزلت إلي الرصيف لتخفف من ملل الطريق. وجدت صبياً يحمل لافتة كتب عليها «اطلب مشورة الخبير هيبرن كلا فلان لعلاج الأمراض المزمنة أو السرطانية بخمسة دولارات في فندق سنترال، تعرف أيضاً علي مستقبلك عند تونيس الشهيرة». هرولت فيكتوريا إلي فندق سنترال واجتمع شمل القبيلة من جديد.
بدأوا تنظيماً جديداً، تونيس كانت النجمة، خصصوا لها غرفتين في الفندق، واحدة للكشف عن المستقبل، والأخري لاصطحاب الزبائن أصحاب المزاج الخاص. ويؤكد كثير من الزبائن والشهود بعد ذلك أن فيكتوريا شاركت أيضاً في العملية بطريقة متحفظة وباختيار خاص.لم يحقق هذا العمل طموحات فيكتوريا فاقترح عليها والدها أن تنظم مؤتمرات وتلقي الخطب بما لديها من خبرة في الحياة وخبرة في مواجهة الجماهير كممثلة وراقصة. إلقاء الخطب كان آنذاك وسيلة هامة من وسائل الإعلام تستطيع أن ترضي به هوايتها، وتستطيع من جانب آخر أن تجر رجل الزبائن إلي فندقهم بطريقة متحضرة. اقتنعت فيكتوريا واختارت موضوعاً موفقاً تناقشه في خطبها .. الدفاع عن حقوق المرأة.
قضية حقوق المرأة في أمريكا كانت محتدة، بدأت عام 1824 بإضراب عاملات النسيج. وفي عام 1836 تكونت جمعيات نسائية عمالية، وفي عام 1852 تكونت «الجمعية النسائية لمجتمع التسامح».بدأت فيكتوريا تدرس ما يدور حول حقوق المرأة ونقلت نشاط الأسرة بكاملها إلي «إلينوي». أظهرت براعة في استقطاب الجماهير حول دعوتها ... نشطت أيضاً حركة أسرتها كل في دائرته، وجمعوا ثروة لا بأس بها، ولحق زوج فيكتوريا مع ابنته وابنه بالقبيلة، وقبل أن يعيش معهم علي الهامش.
بدأت المشاكل عندما توفي أحد مرضي شقيقها مدعي الطب. أرسلت لجنة تحقيق وفضحت الأمر. تحركت الأسرة بسرعة وعند المساء جمعوا حملهم ورحلوا عن المدينة متجهين إلي «سنسناتي» في ولاية «أوهايو» .. هناك استأنفوا النشاط وأصرت فيكتوريا علي أن يقتصر فقط علي قدرات أختها «تونيس» المؤكدة مع مشاركة متواضعة من جانبها، دون تعريض أنفسهم لخطر قتل الآخرين بقدرات شقيقها المشكوك في أمره.
أصرت فيكتوريا في هذه المرحلة علي الطلاق، لم يكن أمام الزوج إلا القبول علي أن يقبلوه في صحبتهم دون إزعاج لأحد. قبلوا واستمرت القافلة في نشاطها الثلاثي، رؤية الغيب، راحة الزبائن، مؤتمرات فيكتوريا حول تحرير المرأة...
تركيبة عجيبة ... في نهاية مؤتمر من هذه المؤتمرات ألح رجل في الأربعين من عمره اسمه الكلونيل «بلود» (BLOOD)علي التعرف عليها عن قرب. وكان لقاء وحوار وإعجاب متبادل. لقاء جاد يناقش قضايا القهر وكيفية تحقيق العدالة. يناقش الاشتراكية والدعوات التي تموج بها أوروبا لإعطاء المرأة حقوقها الانتخابية.
«بلود» كان متزوجاً وله أولاد. وزع وقته بين نهار فيكتوريا، وليل لأسرته وأخيراً استقر بنهاره وليله عند فيكتوريا. وقرروا قرارهم الخاص، القيام بجولة في أنحاء مدن الولايات يدعون إلي دعوتهم .. رفع الظلم والاضطهاد، تطبيق العدالة والحرية والاشتراكية. قاموا بجولتهم في عربة صنعها أفراد القبيلة بأنفسهم. تألق نجم فيكتوريا فيما تلقيه من خطب وتثير به حماس الجماهير... الرجال قبل النساء ... تغيرت صورتها في نظر الناس، عرفت فيكتوريا حاملة لواء حقوق المرأة وحقوق الإنسان، بعد أن كانت في صحف شيكاغو تلقب بفكتوريا «الفضيحة» هي وأختها تونيس. أخيراً طلق بلود زوجته وتزوج فيكتوريا، صار الحبيب والزوج ورفيق الكفاح، ورفض الزوج الجديد أن تصحب القافلة أو جماعة كلا فلان الزوج السابق لفكتوريا، الزوج الذي ظلت تحمل اسمه «وود هول» .. وضاع المسكين في زحمة الحياة.
في نيويورك استأنفت النشاط مع أسرتها. استطاعت الأخت «تونيس» صاحبة القدرات الخاصة علي كشف الغيب، أو شفاء الروح والجسد، أن تكسب أكثر رجال أمريكا ثراء، اسمه «فاندربلت»(VANDERBUILT). عجوز في الخامسة والسبعين، شفي علي يديها من صداع نصفي مزمن. أراد أن تصحبه بصفة دائمة وتشرف علي علاجه. واكتشف من الصحبة قدراتها هي وأختها فيكتوريا علي تحريك سوق التجارة والمال والبورصة. بدأ حياة جديدة، تحولت فيكتوريا وأختها بمعونة مليونير أمريكا الأول إلي عالم الربح بالملايين. كونتا معه شركة مشتركة ثم انفصلتا بنشاط خاص. تحدثت الصحف عن نشاطهما، وصارت الأسرة المشردة تتمتع أخيراً بعز لم تكن تحلم به.
الطموح الأكبر والسقوط :
في وسط النشاط التجاري لم تنس فيكتوريا القضية التي كسبت بها الشهرة، قضية الحرية والعدالة وحقوق المرأة... ولنفوذها الحالي فتحت لها الصحف أبوابها. وأصبحت تكتب افتتاحيات «نيويورك تربيون» جري قلمها وأصبح لها قراء، أراد أحد فلاسفة ذلك الزمان أو دعاة الحرية ويسمي «استفان بيرك اندراوس» أن يتعرف عليها لتشاركه في دعوته. كان في السبعين من العمر، يتقن 39 لغة، ويدعو إلي إلغاء الملكية الخاصة، وتكوين مجتمع اشتراكي، حكومة مثالية، عالمية لا يحتكر فيها إحدي أدوات الإنتاج ... مجتمع يتخلص من الجريمة والحرب للوصول إلي الشكل الإنساني المثالي الذي لا يفرق بين جنس وآخر، أو لون وآخر، أو رجل وامرأة. وجدت فيكتوريا في دعوته تجسيداً أو تنظيراً منسقاً لدعوتها، استعانت بآرائه ووجدت منه التأييد لحملتها الداعية إلي إباحة العلاقة الجنسية تحقيقاً في رأيه لمجتمع منطقي.
ارتفع توزيع «نيويورك تربيون» لمتابعة ما تكتبه فيكتوريا بجرأة، صارت تناقش مشاكل عملية وقضايا حيوية خاصة ما يتعلق منها بالنساء. أصبحت في نظر المرأة الأمريكية مثالاً، أو علي الأقل أملاً لتحقيق حصولها علي حقوقها. وفي 2 أبريل عام 1870 كتبت في افتتاحية جريدة «نيويورك هيرالد» تقول أن تحقيق الآمال بصورة عملية لا يتأتي إلا بترشيح نفسها لرئاسة الولايات المتحدة ... دخلت في صراع عنيف استعداداً لمعركة الرئاسة التي ستحل بعد عامين. ارتفع عدد المستمعين لخطبها من ألف، إلي ثلاثة، إلي ستة آلاف. ارتفعت حرارة العداوة لدعوتها، أثاروا ماضيها وماضي أختها وممارسة الدعارة. التقطت فيكتوريا الكرة في خبث وذكاء وأثارت قضية استغلال الرجل للمرأة في تجارة الجنس. كشفت كثير مما تعرف، هددوها بالقتل وتخريب الجريدة. أقامت لنفسها جريدة خاصة باسم «وود هول أند كلافلانس وكلي» (WOODHULL& CLAFLINزS,WEEKLY) وجعلتها منبرها. لقبوها بالسيدة الشيطانة أو ملكة الداعرات ... أرادت أن توسع دائرة نشاطاتها فاتفقت مع فيلسوفها «أندراوس» علي ضرورة تحويل دعوتهما إلي العالمية.
فيكتوريا الفضيحة والانتخابات الأمريكية
قامت فيكتوريا بجولة في عدة مدن ودعت إلي ضرورة ترابط طبقة العمال، بل نشرت في جريدتها بيان «ماركس» الشهير. تخوف منها «ماركس» نفسه في أوروبا وتبرأ من دعوتها واعتبرها تحريفاً واستغلالاً لدعوته.
ردت عليه فيكتوريا مستنكرة تتهمه بأنه برجوازي صغير متعفن، رجل مثل كل الرجال يغار من كونها امرأة تبشر بحرية العلاقة بين الرجل والمرأة.
حانت اللحظة الحاسمة، في ربيع عام 1872 دخلت فيكتوريا قاعة «اتحاد كوبر» في نيويورك وأعلنت وسط الهتاف «اليوم أعلن رسمياً ترشيحي لرئاسة الولايات المتحدة».
تراوحت ردود الفعل بين جمهور صامت وجمهور مهلل ... وسط الدهشة أعلنت برنامجها ... دستور جديد، تعديل الميثاق الوطني، إعطاء حق الاقتراع للجميع علي اختلاف الجنسيات والأقليات والمرأة، إلغاء الجمارك، استقرار العملة، تأمين العمل للجميع، تأمين المعاش للجميع، إصلاح السجون، إلغاء عقوبة الإعدام، النضال ضد وسائل الإرهاب أو ما يثير الصراع الدولي أو الحروب، الاتجاه إلي تكوين حكومة عالمية تجمع شعوب الأرض جميعاً.
لم تمنع معركة فيكتوريا الجادة من ممارسة حياتها الخاصة بطريقتها، تقدم لها شاب صحفي يستجوبها. شاب وسيم وقعت في غرامه، فاستأذنت من «زوجها الشهم» في تطبيق مبادئ حرية العلاقة.. وأذن لها!...
وحينما بدأت المعركة الانتخابية بدأ معها النحس، تخلي عنها المليونير «فندربلت» اضطرت إلي الاستدانة وإلي ترك منزلها، وإلي رهن ممتلكاتها. ظلت تتمتع بسحر استقطاب الجماهير كخطيبة وكاتبة من خلال جريدتها، لكن النحس ارتفعت درجته فقد طاردها شاب من جماعة الشباب المسيحي، يتهمها بممارسة الدعارة. قدمت للمحاكمة وقدمت ضدها عدة أدلة أدت إلي القبض عليها وإيداعها هي وأختها وزوجها السجن.
دارت المعركة الانتخابية وهي في السجن وحصلت علي 5 بالمائة من مجموع الأصوات، وحصل منافسها جرانت «جنرال سابق تولي رئاسة أمريكا مرتين من عام 1868 إلي 1876» علي 35 بالمائة. علقت قائلة بأن حصولها علي 5 بالمائة في بلد ناخبوه من الرجال فقط شيء لم يكن يأمله أحد.
خرجت من السجن مهدودة، أرادت أن تواصل حملتها ولكنها ضعفت فأخذت سفينة ورحلت إلي إنجلترا. أثناء الرحلة طاردتها رغباتها الخاصة، فطلبت الطلاق من زوجها وطلقها. وفي إنجلترا استقبلت بترحاب وتهليل لموجة العداوة بين الإنجليز والنظام الأمريكي آنذاك، ولحماس النساء الإنجليزيات لدعوتها التحررية. أعجب بها أحد رجال البنوك الإنجليز «جون مارتن» (JOHN,MARTEN) فتزوجته وصارت من نساء الطبقة الراقية واسعة الثراء، وتزوجت أختها «تونيس» رفيقتها في الفضائح من ثري آخر واستقرا في إنجلترا. ولم يرد الزوج الإنجليزي المتيم بفكتوريا أن يحرمها من الانتقام من مجتمعها الأمريكي بعد عشرين عاماً فذهب معها عام 1892 إلي أمريكا وتقدمت من جديد لمعركة الرئاسة الأمريكية، وأنفقت من مال زوجها الكثير ولكنها لم تحصل في النهاية علي صوت واحد. وفي عام 1897 مات زوجها وترك لها ثروة هائلة، أما هي فقد عمرت إلي سن «99» وماتت في 1927.
وماذا يبقي ؟
لـ (برنارد شو) مسرحية ذات دلالة عميقة بعيدة. مسرحية «عربة التفاح» كتبها عام 1929 يصور فيها الوضع العالمي عام 1962.
المسرحية تستعير في مغزي أسماء رومانية قديمة وتتحدث عن ضيق الهيئة الوزارية الإنجليزية بتدخل الملك في الشئون السياسية. تنذره وتنتظر الرد بعد الظهر. يفاجئهم الملك بقلب عربة تفاحهم فقد قرر التنازل عن العرش لابنه، وبالتالي سيصبح مواطناً من حقه الترشيح، وتكوين حزب يعرف ويثق بأنه سيكون قوياً في دائرته (وندسور) وبالتالي سينتهي الأمر بأن يصبح ابنه ملكاً، ويصبح هو رئيساً للوزراء. أي أنه سيحكم وابنه سيملك.
يأتي الحدث التالي مفاجأة صاعقة. لقد طلب سفير الولايات المتحدة الأمريكية من الملك أن تتحد الولايات المتحدة مع إنجلترا لإعادة الإمبراطورية (الرومانية) العظيمة. تقسيم المصالح. سيصبح الملك إمبراطوراً، وتصبح السيطرة للأمريكان. يبلغ الملك مجلس وزرائه بذلك ... لقد قلب السفير الأمريكي عربة تفاح الجميع.
ونعود لقصة فيكتوريا الملكية، وفيكتوريا الجمهورية وصلتهما بالمسرحية. فإلي جوار حديث المسرحية المبكر عن التقارب والتطابق بين إنجلترا والولايات المتحدة رغم الفوارق البادية بين الملكية والجمهورية، وبالتالي اتفاق المنهج الفيكتوري الإنجليزي والفيكتوري الأمريكي، هناك خطة الطموح الموحد الساعية للسطوة والسيطرة علي العالم تحت العلم الأمريكي.
هل استلهم (شو) مسرحيته من فيكتوريا المدعية بالفضيلة وفيكتوريا المستعرضة بالفضيحة ؟