ا أعاد الاحتلال الأنجلو أمريكي للعراق إلي الأذهان سجل تاريخ الاستعمار والإمبراطوريات في منطقة الشرق الأدني القديم، وكأنه قد كُتب علي الأجيال العربية التي ولدت بعد مرحلة الاستقلال أن تتجرع مرارة الاحتلال عقابًا لها علي عدم الاستفادة من دروس التاريخ، فمن لم يقرأ التاريخ كُتب عليه أن يعيده، ومن لم يكن فاعلاً يصبح مفعولاً به. وقد ظلت هذه المنطقة هدفًا استراتيجيا لكل الإمبراطوريات والدول الاستعمارية التي ظهرت منذ القدم، وسنتناول هنا الإمبراطورية الآشورية والبابلية ثم الفارسية 538ق.م، والاستعمار الأنجلو أمريكي (2003م).
وسنحاول في السطور التالية أن نقارن المخططات الاستعمارية التي تبنتها تلك الإمبراطوريات القديمة(1) والمخطط الأنجلو أمريكي في غزو واحتلال العراق. كما سنقارن بين دور بني إسرائيل في مخططات الإمبراطوريات القديمة، ودور اليهود في المخطط الأنجلو أمريكي. فنظرًا لأهمية موقع أرض كنعان (فلسطين) الاستراتيجي بالنسبة للإمبراطوريات القديمة وللاستعمار الحديث، فهي تشكل مع مصر أوسط نقطة في العالم. فإذا شبهنا مصر بثمرة فإن فلسطين بمثابة عنق الثمرة، لذلك ما أن تفرض إمبراطورية ما سيطرتها علي بلاد فارس والعراق والهلال الخصيب حتي تقوم بتأمين طريق الوصول إلي البحر الأبيض المتوسط وإلي مصر. ولا تكتفي باحتلال تلك المنطقة، بل تقوم بتهجير سكان فلسطين، وتوطينهم في مناطق أخري وجلب سكان آخرين تابعين للإمبراطورية أو المستعمر وتوطينهم في أرض كنعان، وهو ما يعرف بخلخلة التركيبة السكانية، وقد تكرر هذا كثيرًا في التاريخ القديم والحديث علي يد الإمبراطورية الآشورية، فالسبي الآشوري علي يد «شلما نصر» سنة 722ق.م ما هو إلا تهجير لسكان السامرة من بني إسرائيل في شمال فلسطين إلي آشور وميديا وشمال سوريا، وتوطين مجموعات سكانية من شمال سوريا وبابل وعيلام مكانهم.
ثم تكرر أيضًا علي يد الإمبراطورية البابلية، فالسبي البابلي الذي قام به «نبوخذ نصر» 586ق.م هو تهجير لبني إسرائيل سكان أورشليم وإقليم يهوذا إلي بابل، أما الإمبراطورية الفارسية فقامت بالتهجير العكسي، أي هجَّرت السكان من كافة أنحاء الإمبراطورية (سفر عزرا 1/1) إلي أرض كنعان تحت اسم (العودة من السبي) وذلك من أجل خلخلة التركيبة السكانية التي كانت موجودة والتي قاومت هذا «الغازي المعتدي» الذي وصف نفسه بأنه «عائد» فالإصحاح 4 ـ 6 من سفر عزرا يعكس الصعوبات الإدارية التي تواجه سياسة إدخال عناصر سكانية جديدة وديانات مركزية في منطقة ما، حيث يوجد سكان مستقرون ذوو علاقات وسلطات ذاتية منذ أمد بعيد. ويعكس التوتر والصراع رد الفعل البغيض الذي قوبل به هؤلاء «الغازون ـ العائدون».
وقد كان آخر مخططات التهجير في منطقة فلسطين هو ما قام به الاستعمار البريطاني أثناء الانتداب وهو يشبه المخطط الفارسي الذي قام به «قورش». فلقد تعاون الاستعمار البريطاني مع الصهيونية عن طريق وعد بلفور (1917م) وقام بتوطين سكان تابعين للإمبريالية من كافة أنحاء العالم، في فلسطين تحت اسم «العودة إلي أرض الآباء» وقام هؤلاء «العائدون» بترويع سكان فلسطين الآمنين وإرهابهم وإجبارهم علي مغادرة فلسطين.
ومفهوم «العودة» مفهوم أيديولوجي أساسي في سياسة التهجير وإعادة التوطين منذ عصر الإمبراطوريات القديمة، وهو محاولة إيجاد صلة دينية قديمة تربط هؤلاء المهجَّرين بتلك الأرض الغريبة. وسنناقشه بتفصيل أكثر في موضع آخر ونبدأ بأول المخططات الاستعمارية وهو:
1 ـ التهجير والتوطين:
تذكر النصوص والآثار أن الخطط الاستعمارية للسيطرة علي السكان اعتمدت سياسة التهجير والتوطين وكانت مظهرًا شائعًا في كل حروب مصر القديمة وبابل والعالم الحثي منذ بدايات الألف الثانية قبل الميلاد، وقد قام بها جيش آشور في القرن السابع ق.م واعتبرت قاعدة للسياسة الاستعمارية البابلية والفارسية بعد انهيار آشور بوقت طويل. وهناك عدة أسباب جعلت الآشوريين يعمدون إلي هذا التغيير في البنية السكانية في الإمبراطورية وهي:
أ ـ تدمير التركيب الاجتماعي في المناطق المفتوحة، وخلق كيانات مفككة وتابعة ومخلصة للإمبراطورية الآشورية (وهو ما تنويه أمريكا وبدأت تنفيذه بقوة السلاح لرسم خريطة جديدة للشرق الأوسط عبارة عن كيانات مفككة، متناحرة مخلصة فقط لأمريكا).
ب ـ استخدم الآشوريون التهجير كعقاب للمواطنين علي المقاومة أو الثورة، كما استخدم للقضاء علي المنافسين المحتملين أو علي إمكانيات المقاومة والعصيان (وهو ما تخطط إسرائيل للقيام به مع الفلسطينيين وسنعرضه لاحقًا).
ج ـ استخدم الآشوريون التهجير وإعادة التوطين كمكافأة للسكان ضد حكامهم، فالتهجير كما عرضه (سفر الملوك الثاني 18/28 ـ 33) عُرض ليس كعقاب بل كمكافأة علي عدم مقاومة السلطة الآشورية. وبالفعل فقد ذهبت بعض النصوص إلي حد وصف الآشوريين بأنهم يتصرفون نيابة عن الشعب، ويرعون مصالحه ويحمونه وينقذونه من طغيان حكامه.
فلم يوعَد المهجَّرون بالأرض والرخاء عندما يعيد الآشوريون توطينهم فحسب، بل وُعدوا أيضًا بالدعم ضد السكان المحليين، الذين نظروا إليهم بالطبع علي أنهم متطفلون ومغتصبون. (وهذا لا يختلف كثيرًا مع ما فعلته أمريكا مع أكراد العراق عندما سمحت لهم بدخول كركوك، وسمحت لهم بطرد سكانها العرب واحتلال مساكنهم، كمكافأة للأكراد علي موقفهم من صدام حسين وتسهيل مهمة أمريكا في احتلال العراق، ولا يختلف موقف الشعب العراقي من الأكراد ومن شخوص المعارضة العراقية التي تحاول أمريكا فرضها علي الشعب العراقي وتوليتها زمام الأمور، لا يختلف كثيرًا عن موقف السكان المحليين في الإمبراطورية الآشورية).
د ـ استهدفت سياسة التوطين إيجاد جماعات تعتمد علي السلطة الآشورية ضمن الشعوب المحكومة، وبذلك تضمن أن تظل مخلصة لها، لذلك انحصرت في مجموعة من العسكريين والزعماء السياسيين والنخبة... (وهو ما فعلته أمريكا منذ حرب الخليج الأولي فقد احتضنت المعارضة العراقية وراعت عند اختيارها أن تضم عسكريين وسياسيين (متطلعين إلي الحكم) ونخبة ممن يمكن الاعتماد عليهم في إدارة البلاد في عراق ما بعد الحرب).
هـ ـ كان الهدف من إقامة بعض المستوطنات الجديدة هدفًا استراتيجيا وشملت عددًا كبيرًا من المستوطنات الحدودية شبه العسكرية (وهو ما خططت أمريكا له بعد حرب الخليج الأولي في منطقة الحدود الشمالية، فقد سمحت للأكراد بالتجمع فيها وأمدتهم بالسلاح ومنحتهم حكمًا ذاتيا وفرضت علي حكومة صدام حظرًا جويا علي تلك المناطق فجعلتها بمثابة مستوطنة حدودية شبه عسكرية، وحاولت أمريكا تنفيذ نفس المخطط علي حدود العراق الجنوبية مع الشيعة، ولكنها فشلت لأسباب ترجع للسكان أنفسهم وهو ما أظهرته حرب الاحتلال الحالية التي تخوضها أمريكا وبريطانيا فقد أظهرت تلك الحرب بسالة وشجاعة أهل الجنوب في مقاومة القوات الغازية).
و ـ كانت لسياسات إعادة التوطين أهمية اقتصادية ومدنية بالنسبة للمدن الآشورية، وخاصة توطين الحرفيين والعمال المهرة وعمال السخرة ودورهم في بناء العاصمة الآشورية الجديدة كما يظهر في نصوص آشور بانيبال الثاني (668 ـ 626ق. م). (وهو لا يختلف كثيرًا عما تقوم به أمريكا بإصرار من تهجير علماء العراق إلي أراضيها تحت حجج ومبررات مختلفة). كما أن تركيز أمريكا علي تغيير البنية السكانية في جنوب العراق وشماله يرجع إلي وجود مناطق إنتاج النفط العراقي، وتوطين سكان موالين للمحتل وللقوات الغازية في مناطق إنتاج النفط هدف اقتصـادي، فالنفـط مصـدر الطاقة الأول ولا قيام لحضارة ولا لمدنية بدونه، فضلاً عن كونه هدفًا استراتيجيا كما سبق وذكرنا.
ولم يتوقف هذا المخطط الاستعماري المتمثل في تهجير وتوطين السكان عند انهيار الإمبراطورية الآشورية في الربع الأخير من القرن السابع ق.م، فقد استمر هذا المخطط في الحملات العسكرية البابلية ثم الفارسية بعد ذلك ولكن لم يصلنا إلا نصوص قليلة عنهما، وتختلف في خطابها عن النصوص الآشورية، فمعظمها موجه إلي الشعوب المحتلَّة، وكُتبت لهدف صريح هو تشجيع هذه الشعوب علي قبول التغير الجذري الذي أدي إليه تغير الإمبراطورية إلي إدارة بابلية أولاً ثم إلي إدارة فارسية بعد ذلك، لذلك أخذت النصوص البابلية والفارسية المتعلقة بالتهجير سمة دعائية ذات طابع أكثر إقناعًا، واعتمدت علي مفهوم «العودة» أو «الإعادة» وهو ينسحب علي «إعادة الحكام» أو «إعادة الشعوب» أو «إعادة الآلهة»، فقد وُصف الملك في كل النصـوص البابلية المتعلقـة بالتهجير بأنه «معيد» الآلهة والسكان إلي موطنهم كما في النصب التذكاري الذي ينسب لـ«نابونيد»، ويعيد سرد قصة بناء نابونيد للمعبــد في حــاران، ليعيــد بنــاء ماضي حــاران العظيــم، فقد سـمح نابونيد للآلهة «بالعودة من المنفي».
هذا المفهوم الأيديولوجي استخدمه الفرس بإتقان فسفر «عزرا» الإصحاح الأول، يصور قورش كبانٍ للهيكل وكمعيد لما أخذه الآشـوريون. كما استغل الاستعمار البريطاني والصهيوني هذا المفهوم الديني «العودة إلي أرض الآباء» في الترويج لمشروعهم الاستعماري في فلسطين.
|
2 ـ الحملة الدعائية:
اعتمدت الإمبراطوريات القديمة علي الحملات الدعائية، ومن يقرأ خطبة مبعوث الملك الآشوري سنحاريب 701ق.م إلي شعب أورشليم المحاصر والتي يدعوهم فيها إلي الاستسلام ويحرضهم ضد حاكمهم ويعرض عليهم المكافأة بدلاً من توقيع العقوبة، لن يجدها تختلف كثيرًا عن الرسائل التي أسقطتها طائرات الغزو الأنجلو أمريكية علي مدن العراق، قبل استسلامها، وتحت نيران القصف الجوي العنيف: «حققوا السلام معي، استسلموا لي، وسيأكل كل فرد منكم عنبًا من كرمه وتينًا من بستانه، وسيشرب كل واحد ماءً من بئره حين آتي وأهجِّركم إلي أرض مثل أرضكم.. وستحيون ولن تموتوا ولا تسمعوا كلام حزقيا (ملك أورشليم) لأنه يغرّكم..» (سفر الملوك الثاني 18/31 ـ 32).
أما الحملة الدعائية في الإمبراطورية البابلية والفارسية بعد ذلك فقد تركزت علي إيجاد الولاء والتعاون مع الشعوب التي احتلوها، لذلك فقد ظهر ملك بابل ـ نابونيد ـ في دور ديني فهو معيد الآلهة من المنفي، وحامي سكان الإمبراطورية التي كانت آشورية ثم أصبحت الآن بابلية. ويلقي باللوم عن الأفعال البربرية علي حلفاء تلك الإمبراطورية السابقة، أما هو وإمبراطوريته فهم الذين أعادوا بناء المدن والمعابد القديمة التي وضعها مردوك ـ الإله القومي ـ بين يديه.
وقد أتقن الفرس الدافع الأيديولوجي في سياسة التهجير وفي حملتهم الدعائية فـ«أسطوانة قورش» وهي نص دعائي تزعم أن الملك البابلي السابق قد دمر وحدة الدين، وبدَّل الآلهة الروحية السماوية الحقيقية فعُبدت نسخ ـ مجرد تماثيل من الطين ـ في كل أرجاء الأرض. لقد استعبد الملك البابلي شعبه، والمدن أصبحت خرائب، وهُجرت الحقول،وغضبت الآلهة لأنها أُبعدت قسرًا من موطنها في بابل، فتخلت عن المدينة. حتي الصلوات والقرابين كلها خاطئة. لكن «مردوك» كان رحيمًا فدعا قورش لإقامة العدل بين كل الشعوب التي جعل مردوك قورش يأتي بها إلي بابل، وقورش بالطبع، لم يكن بحاجة إلي السلاح في هذا الغزو، فالنص يذكر أن الشعوب استقبلت حاكمها الجديد قورش بأذرع مفتوحة وبدموع الفرح والأغاني، وبدل القتل والنهب، اجتهد قورش في «إعادة» الشعوب والآلهة إلي مواطنها، وهذه هي المهمة الأولي للإمبراطورية والتي ركزت النصوص الضوء عليها، فقورش وجيشه في بابل في مهمة سلمية!! وكل العالم رحب بتولي قورش السلطة. (هذا النص الدعائي من الممكن أن نستبدل اسم بوش بقـورش ولن نجـده اختلف كثيرًا عما رددته أبواق الدعـاية الأمريكية قبل غزو العراق، فلقد زعم بوش أن مهمة جنوده في العراق مهمة سلمية هي تخليص هذا الشعب من عبودية صدام، وتحقيـق الرفاهيـة لهذا الشـعب، لـذلك فقد توقعوا أن يقابلوا بالأحضان والترحيب).
3 ـ التستر وراء الدين:
لعب الدين دورًا بارزًا في حضارة الشرق الأدني القديم، وكان هو العامل المسيطر علي كل مظاهر الحياة، وكان خلاصة القيم الإنسانية، لذلك فقد احترم الغزاة القدامي دين الشعوب المحتلة ولم يكن غريبًا أن يقبل الغزاة المنتصرون دين الشعوب المهزومة مع إدخال بعض التعديل، وهي ظاهرة تكررت كثيرًا خلال التاريخ، فقد امتزجت الآلهة البابلية والآشورية، وهاهو مردوك إله البابليين القومي يصبح بعد ذلك إلهًا للفرس ويتصرف قورش بأمره. وليس غريبًا كذلك أن يصرح كل ملك من الملوك أن ما يقوم به من أعمال هو تنفيذ لأوامر الآلهة. فهاهو «حمورابي» الملك البابلي، يبدأ قانونه بمقدمة يمجد فيها المهمة التي ألقتها الآلهة علي عاتقه وهي نشر العدل في الأرض.. وهاهو «نابونيد» الملك البابلي يصف نفسه بأنه خادم مطيع للإله «سين» وأنه يتصرف بناء علي تعليمات مباشرة منه.. فقد هجّر السكان من موطنهم إلي حاران ليقرب موعد عودة الإله سين إلي المدينة ويعيد بناء مجدها القديم. وكما ذكرنا فالإله «مردوك» هو الذي اختار «قورش» وأمره بالزحف علي بابل. خلاصة القول أن المستعمرالقديم غلَّف أهدافه التوسعية بستار الدين وتنفيذ الأوامر الإلهية وهو ما يفعله المستعمر الأنجلو أمريكي ، وما عبرت عنه زلة اللسان التي وقع فيها بوش واعتذر عنها، فقد وصف حربه ضد الإرهاب بأنها «حرب صليبية».
التعبير الثاني الذي استخدمه بوش بكثرة، ولم يفطن أحد إلي أنه تعبير ديني صهيوني هو: «محور الشر» فقد وصف العراق وإيران وكوريا الشمالية بأنهم محور الشر أو معسكر الشر، وقد علقت مارجريت تاتشر علي هذا التعبير، بأن بوش قد أخطأ بضم كوريا الشمالية إلي «محور الشر»، لكنها أيدته في وصف العراق وإيران بأنهما «محور الشر». فما المقصود بمحور الشر في المسيحية الصهيونية؟
«معسكر الشر» أو «محور الشر» تعبير مسيحي صهيوني استمده بوش من التفسير الصهيوني لرؤيا يوحنا اللاهوتي وهو السفر الأخير من الكتاب المقدس، وقد وضعه يوحنا اللاهوتي قرب نهاية القرن الأول الميلادي، ويضم مجموعة من الرؤي بعضها ملغز وغامض، وبتأثير من اليهودية فسره البروتستانت والأدفنتست وشهود يهوه تفسيرًا حرفيا، بأن تلك الرؤي تشير إلي قدوم السيد المسيح في نهاية الزمان مرة أخري ليحكم علي الأرض، فتكون الأرض بمثابة جنة ويكون مركزها القدس، ويجلس علي عرش مملكة داود، ويحكم لمدة ألف عام وهو ما يعرف بـ«المُلك الألفي» إلي أن تكون هناك دينونة أخري(2). والفكرة منشأها سياسي وليس لاهوتيا، وقد ظهرت في الأدبيات اليهودية في القرن الثاني ق.م لعلاج حالة اليأس والاكتئاب التي انتابت اليهود تحت الحكم الروماني وفي ظل ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية بالغة السوء والتردي فجاءت «الرؤي» في الأدبيات اليهودية تمثل الأمل والعلاج لهذا اليأس.
ووفق التفسير الصهيوني لرؤي يوحنا أن نزول السيد المسيح سوف تسبقه معركة حاسمة «قتال يوم الرب» 16/14، وستدور تلك المعركة في جبل مجدو 16/16 (هرمجدون بالعبرية) في شمال فلسطين، وهذه المعركة الحاسمة هي التي ستأتي بالخلاص، وستكون بين معسكر الخير ومعسكر الشر أو أبناء النور والظلام.
والاعتقاد بحتمية الحرب بين الخير والشر أو النور والظلام لكي يأتي الخلاص أخذها اليهود عن الزرادشتية(3) فهي تقول: إن وجود العالم سببه امتزاج «النور» و«الظلام» أو «الخير» و«الشر» فلولا امتزاجهما لما كان وجود العالم، وهما أي الخير والشر، أو النور والظلام يتقاومان ويتغالبان إلي أن يغلب «النور» «الظلام» و«الخير» «الشر» وهذا هو «سبب الخلاص».
ففسرت اليهودية «قتال يوم الرب» في سفر يوحنا اللاهوتي بأنه حرب الخير والشر أو النور والظلام. وهنا قد يتبادر سؤال: ما هي العلاقة بين العراق وإيران و«جبل مجدو» التي ستدور عليها رحي الحرب بين الخير والشر؟
العلاقة تكمن في التفسير اليهودي الصهيوني لسفر الرؤيا. فقد تردد اسم نهر الفرات ومدينة بابل في رؤي يوحنا وارتبط ذكرهما بالحوادث والكوارث التي ستحدث علي الأرض تمهيدًا «ليوم الرب» 16/12، 16/19. فتوصف مدينة بابل في 17/2ـ3 بأنها «الزانية العظيمة الجالسة علي المياه الكثيرة التي زني معها ملوك الأرض».. وفي 17/5: «بابل العظيمة أم الزواني ورجاسات الأرض». وفي 17/15 ـ 16: «ثم قال الملاك لي المياه التي رأيت حيث تجلس الزانية هي شعوب وجموع وأمم وألسنة. وأما القرون العشرة التي علي الوحش فهؤلاء سيبغضون الزانية وسيجعلونها خَرِبة وعريانة ويأكلون لحمها ويحرقونها بالنار. لأن الله وضع في قلوبهم أن يصنعوا رأيه.. والمرأة التي رأيت هي المدينة العظيمة..».
وفي الإصحاح الثامن عشر تدور رؤيا يوحنا حول سقوط بابل (18/2) وسبب سقوطها (18/3) ثم يستكمل في (18/5 ـ 7): لأن خطاياها بلغت السماء وتذكر الله آثامها. جازوها كما هي أيضًا جازتكم وضاعفوا لها ضعفًا نظير أعمالها. في الكأس التي مزجت فيها امزجوا لها ضعفًا. بقدر ما عظمت نفسها وتنعمت بقدر ذلك أعطوها عذابًا وحزنًا». ثم يستكمل السفر وصف الموت والحزن والجوع والحرائق التي ستنزل ببابل.
لقد استغل الصهاينة الأمر الذي ورد في 18/6: «جازوها ـ أي بابل ـ كما جازتكم» بأنه دَمْج للمسيحيين باليهود، فبابل لم ترتكب آثامًا في حق المسيحيين، ولكن وفقًا لوجهة النظر التوراتية، تلك الآثام ارتكبت ضد اليهود، فهم الذين تم سبيهم إلي بابل علي يد نبوخذ نصر 586ق.م كما ذكرنا. وهذا الأمر الوارد في (18/6)، كأنه استجابة لما ورد في سفر المزامير (مزمور 137/8 ، 9): يا بنت بابل المخربة طوبي لمن يجازيك جزاءك الذي جازيتنا. طوبي لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة. فالمزمور (137) يعرض السبي الذي تعرض له اليهود علي يد نبوخذ نصر علي أنه عقاب وبلاء ومحنة. وجاءت رؤيا يوحنا لتفسر وتفصل الجزاء المتوقع الذي تستحقه بابل وهو الدمار والخراب والذل وأكل لحمها.
وعلي النقيض من المزمور (137)، يصف «سفر عزرا» حال اليهود المسبيين في بابل فيخيل لنا أنه يتحدث عن يهود أمريكا الآن وليس عن يهود بابل: فقد سمح قورش الملك الفارسي لليهود بالعودة إلي أورشليم، ولكن هناك يهودا فضلوا أن يظلوا في بابل فطلب منهم أن يتبرعوا بفضة وذهب وأمتعة وبهائم وتبرعات لبناء بيت الرب في أورشليم (عزرا 1/4). فالسبي يبدو وكأنه مكافأة لليهود.
وعلي النقيض أيضًا من المزمور (137) يصف «سفر دانيال» نبوخذ نصر بأنه تقي ويمجد إله بني إسرائيل ويعامل اليهود بلين ورفق (دانيال 2/47 ، 3/28 ، 29).
وسواء كان السبي البابلي عقابًا أم مكافأة لليهود، فما يعنينا هنا هو توظيف «اليمين المسيحي الصهيوني» للسبي البابلي في الحرب الأنجلو أمريكية من أجل تحقيق أهداف دينية لتلك الحرب:
1 ـ فما أنزلته الحرب بالعراق من خراب ودمار وحريق وإذلال وعذاب وحزن، هو جزاء بابل علي ما ارتكبت من آثام في حق اليهود عند السبي البابلي. وهو التنفيذ الصهيوني لرؤيا يوحنا اللاهوتي.
2 ـ تُمثل بابل في هذه الحرب «محور الشر» إذًا. فهذه حرب «الخير والشر» أو «النور والظلام» وعند انتصار «الخير» أو «النور» سيكون «الخلاص». فالهدف الديني من هذه الحرب استعجال «الخلاص» أي نزول المسيح والمُلك الألفي، فإن لم يأت «الخلاص الديني» ففي البترول العراقي «الخلاص الدنيوي» من الكساد والركود في الاقتصاد الأمريكي والإسرائيلي.
بهذا يتضح دور اليهود في هذه الحرب الأنجلو أمريكية وهو دور «فاعل»، فاليهود حاليا، تحت ستار الدين، وتعجيل الخلاص، يمعنون القتل في الفلسطينيين ويمارسون حرب إبادة شرسة لا رحمة فيها ولا هوادة، لأنها وفق تفسيرهم لرؤيا يوحنا «حرب يوم الرب» وهي حرب «الخير والشر» التي ستكون علي جبل مجدو (هرمجدون) وهذا يفسر الدعم اللانهائي الذي يدعمه اليمين الأمريكي لإسرائيل وحروبها.
وهنا في هذا الصدد يجب أن ألفت الانتباه إلي:
أ ـ إنه بعد انتصار معسكر الخير!! الأمريكان واليهود في هذه الحرب سوف تُستغل أجزاء من أرض العراق لتنفيذ مخطط «التهجير» كعقاب للفلسطينيين علي ثورتهم وتمردهم علي جيش الاحتلال الإسرائيلي.
ب ـ وكمنتصر في الحرب ستعرض أمريكا تنفيذ خطة أو «خريطة الطريق» وخطة «التسوية النهائية» وستملي شروطها، التي هي شروط إسرائيل، ومنها أن تتنازل السلطة الفلسطينية عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وستعرض العراق كبديل عن فلسطين لمن يرغب في العودة من اللاجئين، ففي المخططات الاستعمارية لا اختيار للشعوب فهم «مفعول بهم» دائمًا كما يذكر لنا التاريخ، إلا إذا أرادوا الحياة وقاوموا واستبسلوا فلا بد أن يستجيب القدر ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر. ولنا في تعاقب الليل والنهار آية، فكلما اشتد سواد الليل كان ذلك بشيرًا بقرب بزوغ الفجر.
الهوامش:
(1) اعتمدت في مخطط التهجير والتوطين ومفهوم «العودة» والحملة الدعائية علي كتاب: توماس. لي. طومسون، التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي، ترجمة صالح علي سوداح، بيان، بيروت1995م. ص232ـ240 و284 ـ 291.
(2) ترفض الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية التفسير الحرفي لسفر الرؤيا، ويدرك رجالها الأهداف السياسية اليهودية التي تقف وراء تسريب الفكرة ـ الملك الألفي ـ إلي الأدبيات المسيحية. ويعتقد اللاهوت المسيحي الأرثوذكسي أن ملكوت الله ليس ماديا أرضيا ولكنه سماوي، وأن بناء الهيكل معارضة صارخة لسر الفداء الذي تؤمن به المسيحية.
(3) ضمَّهم الشهر ستاني تحت من له شبهة كتاب، ويصف زرادشت بأنه حكيم، ولكن هناك من يصفه بأنه نبي الملل والنحل: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهر ستاني المتوفي 1153م.
تخريج محمد بن فتح الله بدران، الطبعة الأولي، مطبعة الأزهر 1951م، الجزء الثالث.
من يقرأ خطبة مبعوث الملك الآشوري سنحاريب 701ق.م إلي شعب أورشليم المحاصر والتي يدعوهم فيها إلي الاستسلام ويحرضهم ضد حاكمهم ويعرض عليهم المكافأة بدلاً من توقيع العقوبة، لن يجدها تختلف كثيرًا عن الرسائل لتي أسقطتها طائرات الغزو الأنجلو أمريكية علي مدن العراق، قبل استسلامها، وتحت نيران القصف الجوي العنيف: «حققوا السلام معي، استسلموا لي، وسيأكل كل فرد منكم عنبًا من كرمه وتينًا منبستانه، وسيشرب كل واحد ماءً من بئره