«سنوات بيروت: 1973 - 1983»، هو عنوان المعرض الذى أقامته «كلية الهندسة المعمارية والتصميم» فى الجامعة الأميركية فى بيروت، من الرابع حتى الثامن من شهر مايو الماضي، احتفاء بمن تعتبره صاحبة المبادرة، الأكاديمية زينة معاصرى «من أهم رواد التصميم الغرافيكى فى العالم العربي»، الفنان المصرى حلمى التوني.
«سنوات بيروت: 1973 ــ 1983» هى الحقيبة السوداء التى سقطت من متاع الفنان وهو يهرب ذات يوم من عام 1983 من «عاصمة النار والدخان»، بيروت التى أقام فيها لعقد من الزمن بعد أن صرف من عمله فى دار الهلال فى القاهرة لمطالبته بإنهاء حالة اللا حرب واللا سلم مع إسرائيل.
أمنية سرعان ما لبّتها الأقدار، إذ وقعت الحرب: لكن وفق معطيات وظروف أخري، وفى مكان آخر...
أمام زحف الدبابات الإسرائيلية على لبنان، وتحت وابل من قصف الطائرات، عاد التونى إلى «المحروسة» عام 1983، تاركاً وراءه حطام منزل ضمّ كل نتاجه البيروتى الذى أكلته نيران الاجتياح: أمّهات الملصقات وأغلفة الكتب السياسية والثقافية والفنية التى ضاعت وكأنها الحقيبة السوداء لمرحلة مضيئة من تاريخ الرجل الفني.
لكن الكنوز تدفن ولا تضيع. فخلال إعداد كتابها الذى صدر منذ حوالى عام «ملامح النزاع: الملصق السياسى فى الحرب الأهليّة اللبنانية (1975 ــ 1990)»، وقعت معاصرى على بعض الملصقات السياسية التى أنجزها التونى خلال إقامته فى لبنان، لا سيما منها ذلك الملصق الذى خصّ به منظمة العمل الشيوعى اللبناني، بمناسبة الاجتياح الإسرائيلى عام 1978، وتظهر فيه عائلة تحتضن منزلها الذى تمطره الطائرات بالقصف، بينما تظللها جملة «السلام الأميركى الإسرائيلى فى لبنان».
كان ذلك كافياً لدفع معاصرى إلى البحث مجدداً فى أدراجها وفى أدراج غيرها من أفراد ومن مؤسسات ثقافية وفنية وسياحية عن نتاج التونى غير السياسى حصراً. كانت تجمع، كما غيرها، على مراحل، كل ما يقع تحت يديها من أعمال نجت من لهيب الاجتياحات المتكررة على لبنان.
وجدت لدى عبودى أبو جودة، صاحب مكتبة الفرات، مجموعة من أغلفة الكتب ومن الملصقات التى جمعها بوصفه يهوى جمع المجلات والملصقات القديمة، فتعاونا معاً ليفتتحا بمعرض التونى سلسلة معارض «سنوات بيروت»، التى تعنى باستعادة نتاج فنانين لبنانيين أو غير لبنانيين خلال مرحلتهم «البيروتية».
فمرحلة بيروت، التى شكّلت ملاذاً فنياً وسياسياً للتوني، كانت من أهم وأغنى المراحل الفنية فى حياته: هنا، صمّم أوائل الأغلفة لصالح دار الآداب عام 1974. وهنا، عمل مخرجاً فنياً فى «المؤسسة العربية للدراسات للنشر» ، ليترك بصمة تاريخية فى الواقع الصحافى اللبناني، بعد أن صمم «لوغو» جريدة السفير المحلية، باللون البرتقالي، رمز المقاومة الفلسطينية،
وليزيّن بريشته أغلفة كتب نقدية (الرحلة الثامنة لجبرا ابراهيم جبرا)، وروايات (حين تركنا الجسر لعبد الرحمن منيف)، ودواوين (للشاعر اللبنانى بول شاوول)، وسلسلة «تاريخ العرب والإسلام للفتيان والفتيات» (عرض منها فى المعرض الكتاب رقم 15 فى السلسلة، وهو عن أبو عبيدة بن الجراح).
هنا أيضاً، حاز «جائزة اليونيسيف للعام الدولى للطفل» سنة 1979 بينما تعاون مع «دار الفتى العربي» لمخاطبة أذهان أطفال وناشئة بلون ومضمون هو أكثر الفنانين المرشحين لمخاطبتها: فهنا، بريشة تقطر براءة لأربعينى لا تزال ألوانه الزاهية وريشته الرشيقة تشى بروح طفل مشاكس حزين، رسمها «هي».
هى فلسطين جرّعها للأطفال نقطة نقطة من الحسرة والحب على مدى صفحات كتاب من القطع الصغير. «هي» امرأة تصدّرت غلاف القصة بعينين واسعتين لبدوية ترفض إغلاقهما والاستسلام، ينسدل شعرها البرتقالى الدافئ كأنثى مكتملة الأنوثة والإغواء، وتحتضن طفلاً يبدو بالغ الصغر أمام عظمتها، كأم لا تتبرأ من أولادها.
وهى فتاة، فى ملصق كبير استوحاه من أغنية فيروز «القدس فى القلب»، تتهادى بفستان مزركش بألف لون ولون للفرح، تعاند ابتسامة ثغرها قفلاً يحاول إغلاقه، بينما طبع مسجد قبة الصخرة على صدرها وفى قلبها، هى التى تنوء تحت ثقل أربع برتقالات تحملها فى صينية على رأسها، ولا تقبل التخفف منها.
فى بيروت، أطلق التونى العنان لألوانه التى تلفّها مسحة من الحزن رغم زهاوتها، من سلسلة الملصقات التى أنجزها لـ «جمعية المقاصد الخيرية» بمناسبة ذكرى المولد الشريف حيث غرف من كنوز تراثه المصرى الفولكلوري، إلى الملصقات التى أنجزها لـ«النادى الثقافى العربي» كدعاوى الأمسيات الشعرية والفعاليات التى كان النادى ينظمها، حتى لوغو «المعرض العربى الدولى للكتاب» الذى لا يزال النادى يعتنقه حتى اليوم فى دورات معارضه السنوية فى بيروت. لوغو عمل التونى على تنويعاته كطفل يضيع بين الألوان المبهرة، فكرّر نسخاً متتالية منه، بألوان مختلفة فى كل مرة، إلى أن أعلن عنه بحداد عبر ملصق لكتاب يقفل على فصول من الدم خلال الاجتياح عام 1982: كتاب يغلق بينما تنبت منه وردة تقطر دمأ...
فى المقابل، خصه المعرض بالجائزة الأولى لأفضل غلاف وتصميم كتاب لثلاث سنوات على التوالي، من 1977 حتى 1979.
لم تكن السياسة شغله الشاغل، لكن الهاجس السياسى كان دائم الحضور، حتى فى أعماله ذات المنحى غير السياسى والتى لا تتناول القضايا العربية المحورية كقضية فلسطين بشكل مباشر، تتسلّل إلى أعماله بخفر عبر شخصيات فولكلورية وتقاسيم عربية وتراث تجرّع منه الفنان حتى الثمالة. لا روافد مستوردة فى أعمال التوني، وفى ذلك ترجمة لالتزام سياسى غير مباشر وغير مقصود ربما، فيه تجسيد للتراث الزخرفى العربى بألوانه وتقاطيع أشكاله. فى أسلوبه بساطة «السهل الممتنع»، وفى أعماله رسالة ومنهج لا يمكن إغفالهما.
رنــا حــايك
بيروت
امــرأة تصــدّرت
بعــــينين واســــعتين لبـــدوية ترفــض
إغلاقهمـا والاســـتسـلام
معرض: «سنوات بيروت: 1973 ــ 1983» حلمى التوني
الجامعة الأميركية ــ بيروت مايو 2009