يقول الكاتب الفرنسـى جان جيرودو بأن الاحتفال بمئوية رجل عظيم يمكن اعتبـاره احتفـالا بواحدة مـن ولاداتنا. والاحتفال بمـرور مائة عـام على ميلاد شـاعرنا الأكبر أبى القاسـم الشابى هو فى حقيقة الأمر احتفال بولادات متعـددة. أوّلها ولادة الشـعر فى تونس. فقبل الشابي، لم يكن هناك شعر فى تونس بالمعنى الحقيقـى والعميق للكلمة. وكان الذين يسمون أنفسهم «شعراء» أو تطلق عليهم هذه الصفة، يبرزون غالب الأحيان فى المناسبات العامة، دينية كانت أم غير دينية. أما فى ما عدا ذلك فهم غائبون. ونحن لا نستشف فى جل ما كانوا يكتبونه أو ينشـدونه، ما يمكن أن يعكس أوضاعهم النفسية ولا أوضاع ومشاغل مجتمعهم. كما لا نجد فيه وصفا للطبيعة، أو للحالات الإنسـانية والاجتماعية، ولا تحضر فيه تلك الأغراض التى انشـغل بها الشـابى بشكل خارق لم يسبق له مثيل فى بلادنا. ففى جـل قصائد صاحب «أغانى الحياة» تحضر نفس الشاعر فى جميع تجلياتها، وتحضـر تونـس بواحاتهـا، وجبالها، ووديانهـا وغاباتها وآلامهـا، ونكباتها. ونحن لا نجد بين الذين سـبقوا الشابي، أو عاصروه أو حتى عند الذين جاءوا من بعده، شـاعرا تغنى بتونس مثلما تغنى بها هـو. فقد كانت تسـكنه مثل الجمرة الملتهبة. ومتمثلا بـين مختلف مناطقها منذ سـنوات الطفولة الأولي، كان يختزن مشاهدها فى ذاكرته ليعيد تشكيلها فيما بعد فى أشـعاره بشـكل آسـر، ففى سن السادسـة عشـرة، كتب قصيدته البديعة «تونس الجميلة» والتى فيها يقول:
أنـا يا تونس الجميلة فـى لجّ
الهوى قد سبحت أى سباحه
شرعتى حبك العميق وإني
قد تذوّقـت مـره وقراحـه
لست أنصـاع للواحى ولو مت
قامت على شـبابى المناحه
لا أبالـي.. وإن أريقـت دمائـي
فدماء العشاق دوما مباحه
ومع الشـابى ولد الشـاعر، «المنفرد بنفسه» بحسـب تعبير جان جاك روسو. ذلك الشـاعر الذى انطلق من ذاته، يكتب قصائـده فى مختلف الأغـراض من دون أن يكـون خاضعا لأى سـلطة، مهما كان نوعها، ومهما كانت سطوتها. هدفـه الوحيد هو إرضاء نفسـه. لذا هو لا يسـتجيب إلا لمطامحه الأدبية تلك التى تسمو بالكلمة عاليا، وتبيح للخيال أن يحلق بعيدا، غير عابئ بقوى الظلام التى تريد حبسه، وتكبيله، وتدمير قدراته الإبداعية الفذة. وفى جميع رسـائله إلى صديقـه محمـد الحليوى نجد الشـابى حانقا على أولئك الذين لا يحترمون «ذات الشـاعر» ولا «روح الشـعر» ويتحولـون إلـى مدّاحين يتذللون لأصحاب السـلطة والنفـوذ. وهو يصف هـؤلاء بـ«الأصنام الخشبية» الذين «يعقلون فى الشعب روح الحياة» ولا يعرفون كيف يعلمونه «محبة الحق والقوة والجمال».
ومثل كل الشـعراء الكبـار، كان أبو القاسـم الشـابى «يحتفى بذاتـه» لأنها رفيقتـه الوحيدة فـى الملمـات. وعندما تشـتد عليه الخطوب، ويشعر أن صوته لا يصـل إلـى أولئك الذين يرغب فى أن يفتح أعينهم علـى «الجمال» وعلى «نور الحياة»، هـو يوجه شـكواه إلـى ذاته الملتاعة المعذبة، قائلا:
شـرّدت عن وطنـى السـماوى الذي
ما كان يوما واجما، مغموما
شـرّدت عـن وطنـى الجميل... أنا
الشقي، فعشت مشطور الفؤاد، يتيما
فـى غربـة روحية ملعونـة
أشواقها تقضى عطاشا، هيما
يا غربة الـروح المفكر! إنه
فى الناس يحيا سائحا مسؤوما
وفى قصيدة أخري، يقول الشـابى متمنيا أن يرى فى الأفق بصيص أمل:
يا ليت شـعري! هل لليل النفس من صبح قريب؟
فتقـر عاصفة الظـلام ويهجع الرعد الغضوب
ويرتل الانسان أغنية مع الدنيا، طروب.
الذهاب إلى الغاب
وعندما يشتد تشـاؤمه، وتكبر آلامه، وأوجاعه، يزداد الشابى تعلقا بذاته التى لن يكون للشـعر من دونهـا روح ولا معنى فينأى بها عن الجموع المسـتكينة الخامـدة، ويمضى إلى الجبال والغابات آمـلا فى أن يجد فى الطبيعة ما يمكن أن يسـاعده على المحافظة علـى نار الثورة التى تعتمل فى داخله:
إننـى ذاهب إلـى الغاب يا شـعبي
لأقضى الحياة، وحدي، بيأس
إننى ذاهب إلى الغاب، علّي
فى صميم الغابات أدفن بؤسي
ثم أنسـاك ما اسـتطعت، فمـا
أنت بأهل لخمرتى ولكأسي
سـوف أتلو على الطيور أناشـيدي
وأفضى لها بأشواق نفسي
فهى تـدرى معنـى الحياة، وتدري
أن مجد النفوس يقظة حس
ولأنـه كان يعلـم أن احتفاء الشـاعر بذاته لـن يتحقّـق فى مجتمع تسـيطر عليه العقلية القبلية، وأن طموحاته الأدبية لن يكتب لها النجاح فى ظل ثقافة راكـدة، موسـومة بالانغـلاق والتزمّت، فإنه أطلق أفكاره فى الإصلاح والتجديد فى المحاضرة الشـهيرة التـى ألقاها فى «الخلدونية» عـام 1929، تحـت عنـوان «الخيال الشعرى عند العرب» والتى كتب فيها يقول مسـتنهضا الهمـم والعزائم «لقد أصبحنا نتطلب حياة قوية مشـرقة ملؤها العزم والشباب. ومن يطلب الحياة فليعبد غده الذى فى قلب الحياة. أما من يعبد أمسـه وينسـى غده فهو من أبناء الموت وأنضاء القبور الساخرة. لقـد أصبحنـا نتطلب الحياة ولكن لنعلم قبل ذلـك أننا جياع عراة، وأن تلك الثـروة الطائلة الضخمة التى أبقاها لنا العرب لا تشـبع جوعنا ولا تسـدّ خلتنا. لعلنا إن شـعرنا بفقرنا وعرانا، تحركت فينا عوامل العزة الإنسانية فطفقنا نعمل بعزم وقوة ما نستر به سواعدنا العارية ونطعم به أرواحنـا الجائعة مما نحوكه بأنفسنا ونستخرجه بأيدينا من مصانع الحياة».
ولادة شعرية مغايرة
وكان محمد الحليوى على حق حين كتب متحدثا عن رؤية أبى القاسـم الشـابى للتجديد فى الشعر وفى الحياة.
«رسـالة الشـاعر كما يرى الشـابى هى تلك التى توسـع أفق الحياة فى نفسـك، وتجعلها تحـس بتيارات الوجود أكثر مما كانت تحس، وتدرك معانيه وأصواته أكثر مما ألفت أن تدرك، وتنسيك وجودك الإنسـانى لحظـة لتسـتغرق فـى عالم الجمـال المطلـق الـذى يخلقه الشـاعر حواليك ويسبغ منه على نفسك».
ومـع الشـابى ولدت لغة شـعرية لم تكـن مألوفة حتى ذلـك الحين. كما برزت موسـيقى راقصـة أزاحـت الغبـار عن الكلمات، مانحة إياها قوة عجيبة جعلتها قادرة على نقل المشاعر والعواطف، وعلى اختراق الواقع الذى ظل حتى ذلك الحين مخفيا وراء لغـة كاذبـة، تغلـب عليها المحسـنات اللفظية وبفضل هـذه اللغة الجديدة، وهذه الموسـيقى الراقصة التى ابتكرها الشـابي، تحرر الشعر التونسى من القوالـب الجامدة، وخرج من الأماكن المغلقة التى كان محبوسـا فـى داخلها، ليعانق الآفاق الرحبة:
وشفّ الدّجى عن جمال عميق
يشبّ الخيال ويذكى الفكر
ومدّ على الكون سحر غريب
يصرّفه سـاحر مقتدر
وضـاءت شـموع النجـوم الوضاء
وضاع البخور، بخور الزهر
ورفرف روح غريب الجمال
بأجنحة من ضياء القمر
ورنّ نشـيد الحياة المقدّس
فى هيكل حالم قد سحر
وأعلن فى الكـون: أن الطموح
لهيب الحياة، وروح الظفر
إذا طمحـت للحياة النفوس
فلابد أن يستجيب القدر
ولادة الشابي.. ولادة جيل
وعندما نحتفـل بمرور مائة عام على ميلاد أبى القاسـم الشـابي، فـإن هذا لا يعنى شيئا آخر غير الاحتفال بميلاد جيل ما أصبحنا نسميه بـ«جيل إرادة الحياة». ذلـك الجيل الذى ولد أبنـاؤه فى بدايات القرن العشـرين. وابتداء من العشرينيات مـن القـرن المذكـور، سـوف يخوضون معارك سياسـية وفكرية وثقافية كانوا يطمحون من ورائها للنهوض بالمجتمع، ولايقـاظ الوعـى الوطني، ولتحسـيس الشـعب بمصيره المظلـم. وعندما كان أبنـاء «جيل إرادة الحياة» أطفالا، كانت النخبـة التونسـية قـد أعـادت الحياة للأفكار الإصلاحية والتحديثية التى جاء بها خير الدين باشـا التونسي. وبفضل الرمـوز الكبيرة لهذه النخبـة من أمثال على باش حامبه وعبـد العزيز الثعالبى والبشـير صفـر، والشـاذلى خير الله اسـتعادت الحياة السياسـية والثقافية حيويتهـا، وكثرت النـوادى حيث كانت تلقـى المحاضـرات، وتعقـد النـدوات، وعرفت الصحافة اليومية والأسـبوعية تطـورا هاما أتاح لعامـة الناس التعرف علـى أحـوال مجتمعهم، وعلـى أحوال العالم بصفة عامة. وخلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشـرين شهدت تونس أحداثـا سياسـية وثقافية واجتماعية أتاحـت للنخبـة التونسـية التمـرّس بالواقـع، والاطلاع على أحـوال البلاد، ومشاغل مختلف الفئات. ففى خريف عام 1903 جاء الشيخ محمد عبده إلى تونس.
وفى زيارته الثانية هذه (الأولى كانت عام 1888) التقى بالشيوخ المعاضدين لحركة الاصلاح من أمثال سالم بوحاجب ومحمد النخلي. وفى «الجمعية الخلدونية» التى كان قد أنشـأها البشـير صفر عام 1896، ألقى الشـيخ محمد عبده محاضرات كان لها الصدى الكبير لدى النخبة التونسية المتطلعة للإصـلاح والتحديث. وفى عام 1905 بعثـت «جمعية قدمـاء الصادقية» التـى اهتمت بتقديم محاضـرات باللغة العربية بهدف تثقيف عامـة الناس فى مجالات مختلفة ومتنوعة. وفى عام 1911، اندلعـت «انتفاضة الجـلاز» التى أعطت دفعـا جديدا للحركـة الوطنية المناهضة للاسـتعمار، والتى كانت آنذاك فى طور التشـكل. وفى عام 1919، تأسـس الحزب الدسـتورى بزعامة الشـيخ عبد العزيز الثعالبى صاحب كتاب «تونس الشهيدة».
وفى عام 1924 أنشـأ محمد على الحامى «جامعة عموم العملة التونسـيين». وفى مطلع الثلاثينيـات، أصدر الطاهر الحداد كتابـه الشـهير «امرأتنـا فى الشـريعة والمجتمع»، والذى أثـار ضجة هائلة فى الأوساط الثقافية والسياسية والدينية.
وسـواء عـاش هـذه الأحـداث، أم لم يعشـها، فـإن المؤكد هو أن الشـابى تأثـر بها، وتفاعـل معها تفاعـلا كبيرا، ومبكـرا انحـاز إلى الأفـكار الإصلاحية والتحديثية، وقاوم بشدة الركود والتزمت والقنـوط. ورغم مرض القلـب الذى كان يعذّبـه، ويعيق حركته ونشـاطه، فإنه كان دائـم التفكير والعمـل. وكان يتابع بانتباه واهتمام كل الأحداث السياسـية والاجتماعية والثقافية التى كانت تجد فـى بـلاده. وهذا مـا تعكسـه قصائده، ورسـائله الموجهة إلـى محمد الحليوي، ويومياتـه، وكتابـه النقـدي: «الخيال الشـعرى عند العرب». وفـى هذا الكتاب تبـرز الرؤية الجديدة والجمالية التى اكتسـبها الشـابى فى وقت مبكر وتتأكد الثقافة الواسـعة التى كانـت تميزه عن بقية أبناء جيله، ويتجلى الحس النقدى الرفيع الذى كان يتحلى به. فمنتقدا ما سـماه «الـروح العربية» يقـول الشـابى أن هذه الـروح خطابية مشـتعلة، لا تعرف الأناة فى الفكر فضلا عن الاستغراق فيه، وهى مادية محضة لا تسـتطيع الإلمام بغير الظواهر مما يدعو إلى الاسترسـال فـى الخيال إلـى أبعد شـوط وأقصى مـدي. لهذا السـبب كان لهـا ذلك الطبع الشـبيه بـ«النحلة المرحة لا تطمئـن إلى زهرة حتـى تغادرها إلى أخـرى من زهور الربيع». ولذلك هى أبدا متنقلة. وهى أبدا حاسـمة». ولأنها على هذه الصورة فإن الروح العربية بحسـب أبى القاسم الشابى أضعفت ملكة الخيال الشـعرى فى النفـس العربية، وجعلت من الشـاعر محامى القبيلـة، وخطيبها، وفارسـها، وليس ذلك الـذى يحاول أن يسـاعد أبناءها الضائعين على اكتشاف نور الحياة. كما أن الروح العربية منحت العـرب إلى حـد كبير من الاطـلاع على مـدى العصور الماضية علـى آداب الأمم الأخـري. وصحيح أنهـم ترجموا بعض الآثـار وأنهـم ترجموا مختلـف العلوم العقلية، غير أنهم لم ينقلـوا إلى لغتهم من آداب الأمم الأخرى ما يمكن أن يحدث انقلابا فى الروح العربية. لهذا السـبب ظلت الآداب عند العرب فقيرة وجافة على مرّ الأجيال والعصور..
الشابى وحقوق المرأة
وفى «الخيال الشـعرى عنـد العرب» يثـور الشـابى ضـد النظـرة العربية للمـرأة، والتى تتوقف عند الجسـد، ولا تعطـى اهتماما يذكر لروحهـا، ولنبلها، ولسـحرها، وجمالها الباعث على الإلهام والوحي. وإذا ما تحدث الشـاعر العربى عن جمال المرأة، فإنـه يتحدث كما لو أن الأمر يتعلق بشيء «يوزن بالرطل والقنطار من الشـحم واللحم» ويرجع الشابى هذا الأمر إلـى أن المرأة العربية لم تنقل فى جميع العصور العربية قسطا من الحرية الحقيقية، تتمكن معهـا من إظهار مالها مـن مواهـب وملكات تجبـر الرجل على أن يحترمهـا، ويبدّل رأيه فيها، فيطلع علـى ما خلف الجسـد من «بحـر عميق تختلف فيه الأمساء والأصباح والأضواء والظلمات».
ومـن المؤكد أن أبا القاسـم الشـابى تحمّـس كثيرا للحركـة النقابية التى أنشأها محمد على الحامي، معتبرا إياها شرارة جديدة بإمكانها أن تلهب النضال الوطني، وتوقظ الضمائر الميتة، وتنفض عن الشعب رماد القنوط واليأس. فلما قامت السـلطات الاسـتعمارية بضـرب الحركة الوطنية الفتية، مجبرة زعيمهـا الشـاب المتشـبع بالأفـكار الاشـتراكية، أعنى محمـد على الحامى على مغادرة البلاد، أطلق الشابى صرخة متوجعة:
لست أبكى لعسف ليل طويل
أو لربع غدا العفاء مراحه
إنما عبرتى لخطب ثقيل
قد عزانا، ولم نجد من أزاحه
كلما قام فى البلاد خطيب
موقـظ شعبه يريد صلاحه
ألبسـوا روحـه قميص اضطهـاد
فاتك شائك يردّ جماحه
أخمـدوا صوته الإلهي
بالعسـف أماتوا صدحه ونواحه
وفـى الرسـائل التى يبعـث بها إلى صديقـه الحميم محمد الحليوي، كان الشـابى يظهـر تعاطفا واضحـا مع كل المثقفـين والمناضلـين من أجـل الحرية والعدالـة والتجديد، وينتصر لأفكارهم ولمواقفهم التى عـادة ما تعرّضهم للقمع والسـجن ولمظالم أخرى من هذا القبيل. وعندمـا أصـدر الطاهـر الحـداد كتابه «امرأتنا فى الشـريعة والمجتمع» والذى دافع فيه عـن حرية المرأة، وعن حقها فى العمـل والتعليم، هاجمه شـيوخ جامع الزيتونة بعنف وقسـوة. أما الشابى فقد انتصب مدافعا عنه. وفى الرسـالة التى بعـث بها إلى محمد الحليوى فى شـهر أكتوبـر 1930، وهو ينتقد بشـدة موقف شيوخ جامع الزيتونة «المتزمتين»، ويعبّر عن ابتهاجه بالحفل الذى أقامه المثقفون التقدميون لمساندة الطاهر الحداد. وثمـة حدث آخر، كان له وقع حاسـم على مسيرة الشـابى الشعرية. فبحسب الأسـتاذ أبو القاسـم محمد كرّو، التقى صاحـب «أغانى الحياة» فى خريف عام 1933، بالمناضل الوطني، والمثقف الألمعى الطاهـر صفر فـى مدينة طبرقـة. وكان اللقـاء بينهما مناسـبة لكـى يتعرف كل واحـد منهما علـى الآخر، ولكـى يطيلا الحديث فى مسـائل وقضايا سياسـية وثقافية. ومن المؤكد أن الطاهر صفر كان معجبا بموهبة الشابى الشعرية، وبآرائه فـى الأدب والثقافـة، وإلا لما حرص على الاجتماع به. ومن المؤكد أيضا أن الأفكار التـى طرحها الطاهـر صفر أثنـاء ذلك اللقاء فى المدينة البحرية الجميلة، أثارت إعجـاب الشـابي، وفتحت أمامـه آفاقا جديدة لم يألفها من قبل. فقد كان الطاهر صفر المولود عام 1903 بالمهدية، قد درس القانون والآداب والفلسفة والاقتصاد فى باريس فى العشرينيات من القرن الماضي. وكان عارفـا بـآداب العـرب، القديمـة منها بالخصـوص. وكان يتميز بثقافة موسوعية تجعله قادرا على الخوض بكل يسر فى كل القضايا والمسائل التى تطرح للنقاش. ولعله تحدث أثناء اللقاء المذكور عن كبار الكتاب والشـعراء الفرنسـيين والغربيين الذين كان مغرمـا بهم. ومن المؤكـد أن الشـابى المعـروف بفضولـه الشـديد لمعرفة مـا خفى عنه مـن آداب أوروبا. استمع إليه بانتباه، وإعجاب. ومـن المؤكد أنـه طرح عليه أسـئلة حول مسـائل كانت لا تـزال غامضة فى ذهنه. فلما انتهى اللقاء، شـعر الشـابى أنه «يولد من جديد» وأن مفهومه للشـعر وللحياة بصفة عامة، بدأ يتغيّر ويتجذر. وهذا ما سـتؤكده القصائد الرائعة التى سـوف يكتبها خلال السـنة التى سبقت وفاته. ففى هذه القصائد تخلى الشـابى عن النغمة الحزينة اليائسـة التى طبعت البعـض من قصائده السـابقة حيث كان يفرّ إلى «الغـاب» باحثا فى الطبيعة عما يمكن أن ينسـيه عتمة الواقـع، ومظالم الحياة، لينحـاز إلـى فلسـفة القـوة، والطمـوح، والأمل، أى ل«إرادة الحياة» التـى قد يكون حدثه عنها الطاهر صفر.. وها هو يرفع صوته متحديا:
سـأعيش رغـم الـداء والأعـداء
كالنسر فوق القمة الشمّاء
أرنـو إلى الشـمس المضيئـة هازئا
بالسحب والأمطار والأنواء
لا أرمق الظل الكئيب ولا أري
ما فى قرار الهوة السوداء
وأسـير فـى دنيا المشـاعر حالمـا
غردا، وتلك سعادة الشعراء
أصغـى لموسـيقى الحياة ووحيها
يحيى بقلبى ميّت الأصداء
ولا يمكـن أن نشـكك فـى أن قصيدة «فلسـفة الثعبان المقدس» كانت من وحى ذلك اللقاء أيضا. ففلسفة الثعبان المقدس كما يقول الشـابى فى مقدمـة القصيدة هى «فلسـفة القوة المثقفة فى كل مكان». والغـرض من هـذه القصيدة التى تدلّ على نضج شـعرى وفكرى لم يسـبق له مثيل عند الشـابى هو فضح السياسـة التـى ينتهجهـا الغرب تجاه الشـعوب الضعيفـة والتـى يسـتعمل فيهـا «لغة الشـعر والأحلام» لكى يتمكن فى النهاية من ابتلاعها بكامل السهولة. وفى قصيدة «الغاب» لا يذهب الشابى هـذه المرة إلـى الطبيعة ليشـتكى إليها عذاباته، وآلامه ويحدثها عن خيباته، بل لكى ينثر كل هذا للريح.
وذروت أفـكارى الحزينـة للدجـي
ونثرتها لعواطف الأيام
ومضيت أشـدو للأشـعة سـاخرا
من صوت أحزاني، وبطش سقامي
وهتفـت: «يا روح الجمـال تدفقـي
كالنهر فى فكري، وفى أحلامي
وتغلغلـى كالنـور، فى روحـى التي
ذبلت من الأحزان والآلام
أنـت الشـعور الحـى يزخـر دافقا
كالنار فى روح الوجود النامي
ورغم إيمانه بإرادة الحياة، وأمله فى نهضـة قوية توقـظ المجتمع من الخمول والركود فإن الشابى كان عالما بأن حياته سـوف تكون قصيرة بحيث لن تمكنه من إنجاز ما كان يطمح لإنجازه. وفى رسالة بعث بهـا إلى صديقه محمـد الحليوي، كتـب يقول: «لقد ضقت ذرعـا يا صاحبي، ولا أخالنـى إن ظلـت الحياة علـى ما هى عليه اليوم إلا ذاهبا إلـى القبر. أو فى سـبيل الجنون إننـى أحاول أن أخط إليك ما تحسه نفسى من مرارة الأوجاع، وهموم الزمـن الجائر. فلا أسـتطيع إلا مثل هذه الكلمـات المتقطعة التى لا تكاد تبـين عمـا أكابد مـن غصـص العيش وبأسـائه ولا تعبـر عما يسـاورنى من الأفكار المدلهمة كقطع الليل». وفى رسالة أخري، كتب يقول: «إنه لا يحزننى شـيء فى هذه الدنيا أكثر مما يحزننى التفكير فى أننى أموت قبل أن أؤدّى رسالة الدنيا التى أحس أننى لم أخلق لغيرها فى هذا العالم». وعندما اشـتد عليه المرض فى صيف عام 1934 ترك الشابى الجريد وهو «سـقيم، متعب، موهون القوي»، وسـافر إلى العاصمة فى أواخر شهر أوت 1934. وعند وصوله إلـى هناك نصحه الطبيب بالإقامة فى المستشـفي. وفى مطلع شهر أكتوبـر من العـام المذكور لفظ أنفاسـه، وهو فى الخامسـة والعشرين من عمره. وقد يكون رحل إلـى العالم الآخر وهو لا يدرى أنه سـيكون شـاعر تونس الأوحد خلال القرن العشرين!
المصادر
Dean Giraudoux - litterature (1)
Idees - NRF 1941 -
(2) الشعر العربى الحديث من أحمد
شوقى إلى محمود درويش د.ميشال جحا - دار العودة - دار الثقافة ـ بيروت
(3) حصاد العمر - أبو القاسم محمد كرو - دار المغرب العربي
(4) أضواء من البيئة التونسية على الطاهر
الحداد - أحمد خالد - الدار التونسية للنشر
(5) الأعمال الكاملة - أبو القاسم الشابى - الدار التونسية للنشر
شوأعلن فى الكـون:
أن الطموح لهيب الحياة، وروح الظفر
إذا طمحـت للحياة النفوس
فلابد أن يستجيب القدر
لست أنصـاع للواحى ولو مت قامت
على شـبابى المناحه لا أبالـي.. وإن أريقـت
دمائـي فدماء العشاق دوما مباحه