وفرت فورة الغضب الإسلامي تجاه الولايات المتحدة والغرب ــ والتي رصدها «استطلاع بيو Pew Poll» وغيره من استطلاعات الرأي ــ والمكاسب الأخيرة للإسلام السياسي لدي العديد من الإسرائيليين إحساسا طارئا جديدا بأنهم تحت الحصار. ومؤخرا، كتب «سيفر بلوتزكر Sever Plotzker»، وهو معلق صحفي إسرائيلي شهير، في «يديعوت أحرونوت Yedioth Ahronoth»، أكثر الصحف الإسرائيلية انتشارا، أن الانتخابات الفلسطينية وثيقة الصلة بالظواهر المثيرة للقلق التي تنتشر الآن في العالم العربي ويتردد صداها داخل كل بيت في إسرائيل، وأن إسرائيل تجد نفسها الآن علي بعد بوصة واحدة من بركان ناشط علي خط القتال الأمامي لـ «تصادم الحضارات».
في العراق لم تتغلب الأحزاب الشيعية فقط علي المسلمين السنة بل أيضا علي الأحزاب السياسية العلمانية. وفي مصر زاد تمثيل الإخوان المسلمين في البرلمان إلي خمسة أضعافه. وفي فلسطين اكتسحت حركة حماس الانتخابات التشريعية. كما ضاعفت تصريحات الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد المتبجحة المعادية للسامية وتصميم حكومته علي تطوير أسلحة نووية من المخاوف الإسرائيلية.
إن إسرائيل لا تواجه فقط تهديدات حماس ــ وهي المنظمة التي أكدت علي حق المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي وأنكرت حق إسرائيل في الوجود ــ وإنما أيضا تواجه تزايد الغضب العام في العالم الإسلامي الكبير تجاه الغرب. عادة ما ينظر إلي تهديدات حماس وغضب العالم الإسلامي كشيء واحد. ولكن هذا الدمج مضلل بصورة خطيرة، فهو يقدم رؤية مشوشة لكلٍّ من المخاطر والفرص التي أفرزها فوز حماس في الانتخابات مهما بدت تلك الفرص ضئيلة.
إن غضب مسلمي العالم تجاه الغرب تؤججه مهانة إخوانهم المسلمين الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي، وما يعتبره المسلمون اغتصابا ــ بالتواطؤ مع الغرب ــ لفلسطين كجزء من دار الإسلام يعتبرونه حقا أبديا لهم، وكذلك الحرب في العراق وعواقبها، والفظائع التي جرت وما زالت في السجون العسكرية الأمريكية، والخطط الأمريكية الزائفة لإدخال الديمقراطية إلي مناطق مختلفة من العالم. إن هذا العداء يعد دليلا علي المواجهة الدينية والثقافية بين الإسلام والغرب المسيحي والتي جادل «صامويل هانتنجتون Samuel Huntington» كثيرا بأنها قد أصبحت الصدع العالمي الجديد الذي حل محل الحرب الباردة. ومن المفارقة أن الصراع الإسرائيلي العربي هو أقل التهديدين خطورة لأنه صراع سياسي في الأساس وليس صراعا دينيا، كما أن المجتمع الفلسطيني يعد من بين المجتمعات الأكثر علمانية في العالم العربي.
وحتي بالنسبة لحماس، فإن الشق القومي لكفاحها ــ والذي يتناقض مع «عالمية» الإسلام التقليدي الذي لا يعترف بحدود إقليمية داخل دار الإسلام ــ عادة ما ينتصر علي الثوابت الدينية عندما يصطدم الاثنان. وليس ذلك فقط لأن معظم الفلسطينيين يعارضون توجهات حماس الدينية وخاصة جهودها لضبط سلوكياتهم الشخصية دينيا، وإنما ــ وهو الأهم ــ لأن حماس نفسها حركة قومية فلسطينية بقدر ما هي حركة دينية.
وردا علي دعوة أيمن الظواهري ــ الرجل الثاني في القاعدة ــ لحماس لمواصلة الجهاد المسلح لاستعادة «كل ذرة من تراب فلسطين التي كانت أرضا إسلامية احتلها أهل الكفر»، صرح أحد مسئولي حماس بحدة أن «حماس تؤمن بأن الإسلام يختلف تماما عن أفكار الظواهري». وأضاف: «إن معركتنا هي ضد الاحتلال الإسرائيلي وهدفنا الوحيد هو استعادة حقوقنا وحماية شعبنا». والآن بعد أن سيطرت حماس علي المجلس التشريعي الفلسطيني ومنصب رئيس الوزراء، فإن الاختلاف بين حماس والإسلام السياسي خارج فلسطين يشكل ما قد يكون فرصة لا تستطيع تقديمها لإسرائيل سوي حكومة ترأسها حماس.
وأثناء اختيار المرشحين للمجلس التشريعي الفلسطيني، تفوق ــ بوضوح ــ مرشحو حماس «الواقعيون» بقيادة إسماعيل هنية رئيس الوزراء الجديد وعبد العزيز دويق المتحدث الجديد باسم المجلس، علي أولئك المعروفين بتشددهم في حماس. بل إن العديد من المتشددين أنفسهم انتهجوا خطا أكثر اعتدالا، ويعلم الكثير من المتشددين أن حماس فازت بالانتخابات ليس بسبب تمسكها الشديد بالثوابت وإنما لأنها دخلت الانتخابات ببرنامج معتدل يتضمن حكومة نزيهة وخدمات أفضل. وفي استطلاع للرأي أجري بعد الانتخابات، ذكر 1% فقط من المشاركين أن الأولوية الأولي لحماس يجب أن توجه لتطبيق الشريعة الإسلامية في فلسطين، بينما ذكر 73% أنهم يؤيدون اتفاق سلام مع إسرائيل وتسوية تتضمن إقامة دولتين.
وإذا ما رجحت كفة المنادين بالاعتدال في حماس، وتحقق تعايش طويل المدي بين سلطة فلسطينية تتزعمها حماس وبين إسرائيل، فإن مغزي تلك التسوية سيكون بالفعل بعيد الأثر في علاقات إسرائيل ليس فقط مع الفلسطينيين بل أيضا مع العالم الإسلامي الكبير. وسوف توفر موافقة حماس علي مثل هذه الترتيبات «بوليصة تأمين» لإسرائيل لا تستطيع «فتح» أن تقدم مثيلا لها.
في كتابه الأخير «ندوب الحرب وجراح السلام Scars of War, Wounds of Peace» كتب «شلومو بن عامي»، وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق، عن رحيل عرفات من المشهد السياسي باعتباره «كارثة» لأنه كان «الرجل الوحيد الذي يمكن لتوقيعه علي اتفاق للتسوية والمصالحة يتضمن التخلي عن أحلام لا يمكن تحقيقها، أن يحقق شرعية في نظر شعبه»، وأنه أخذ شرعيته معه إلي القبر. وربما شكل دخول حماس إلي الحياة السياسية الفلسطينية إحياء لإمكانية التوصل لاتفاق إسرائيلي فلسطيني يتمتع بشرعية تقارب بالفعل ــ أو ربما تزيد علي ــ الشرعية التي كان يمكن لعرفات أن يحققها.
هل من الممكن علي الإطلاق أن تتحقق مثل هذه النتيجة المتفائلة؟ من المبكر جدا ــ علي الأقل ــ استبعاد ذلك الاحتمال قبل أن يتضح الخط السياسي والفكري لحكومة حماس الجديدة. لقد تلقيت مؤخرا من أحد كبار الأعضاء البارزين في اللجنة السياسية لحماس شرعا للاتجاه المرجح لذلك الخط يتلخص في النقاط التالية:
* هناك أعضاء في الإدارة السياسية لحماس لا يستبعدون إجراء تغييرات جوهرية متدرجة في سياساتهم تجاه إسرائيل وفي ميثاق تأسيس الحركة، بما في ذلك الاعتراف بإسرائيل، بل وبإجراء تعديلات حدودية ثانوية مشتركة. وتتوقف تلك التغييرات علي اعتراف إسرائيل بالحقوق الفلسطينية. ولن تقبل حماس بأقل من المعاملة بالمثل.
* لا تعترض حماس علي إجراء مفاوضات مع إسرائيل، بشرط أن ترتكز تلك المفاوضات علي اتفاق الطرفين علي عدم قيام أي منهما بصورة منفردة بتغيير الموقف الذي كان سائدا قبل حرب 1967، وأن المفاوضات ــ حين تستأنف ــ ستتخذ من حدود ما قبل 1967 نقطة بداية.
* لن تتخلي حماس عن إيمانها بأن فلسطين هي وقف ديني منحه الله للمسلمين إلي الأبد. ومع ذلك، فإن ذلك الإيمان العقائدي لا يستبعد التكيف مع الحقائق المؤقتة والقانون الدولي، بما في ذلك الوضع الراهن لإسرائيل (كل من المشكلة والحل يتوازيان مع الموقف علي الجانب الإسرائيلي. فاليهود المتدينون يؤمنون أن الله وعد الشعب اليهودي بكل أرض فلسطين علي مر العصور. وهم لن يقبلوا بالتخلي عن ذلك المطلب الديني. ومع ذلك فهم مستعدون لإرجاء تحقيقه إلي عهد مسيحي يعلمه الله).
* حماس علي استعداد للالتزام بهدنة طويلة تنهي كافة أشكال العنف. وهنا ــ أيضا ــ يجب أن تسود المعاملة بالمثل بالكامل، فيجب علي إسرائيل أن توقف كافة الهجمات علي الفلسطينيين. وإذا ما وافقت إسرائيل علي الهدنة، فسوف تتحمل حماس مسئولية منع العنف الفلسطيني ومعاقبته، سواء كان مصدره الجهاد الإسلامي أو انتفاضة الأقصي أو عناصر من حماس نفسها. وتدرك حماس أنه ليس بإمكانها أن تطالب بالاعتراف بها كحكومة شرعية لفلسطين إذا لم تكن مستعدة للحفاظ علي تلك الهدنة في سياق مسئوليتها عن القانون والنظام.
* تقوم حماس ــ كأولوية قصوي ــ بإعادة إحياء المجتمع الفلسطيني عن طريق دعم سيادة القانون، واستقلال السلطة القضائية، والفصل بين سلطات مختلف أفرع الحكومة، وتأهيل ومصداقية قوي الأمن. وسوف تستهدف القضاء علي الفساد الحكومي وإطلاق مبادرات اقتصادية واجتماعية جديدة تتفق مع الظروف الفلسطينية الحالية (أخبرني مسئول حماس أن الحركة قد شكلت ــ قبل الانتخابات التشريعية الأخيرة ــ فرقًا من الخبراء لإعداد خطط تفصيلية لإعادة بناء المجتمع الفلسطيني اقتصاديا واجتماعيا. وقد ذكر أن وضع تلك الخطط موضع التنفيذ ستكون له الأولوية القصوي لدي حماس، ولكنه لم يصرح بمحتوي تلك الخطط).
* لن تسعي حماس لفرض معايير للسلوك الديني والتقوي علي الشعب الفلسطيني مثل ارتداء الحجاب أو العباءة، رغم أنها تؤمن أن هناك معايير معينة للاحتشام العام ــ وإن كانت لا تخضع لرقابة دينية ــ يجب علي الجميع الالتزام بها.
تعد تلك الآراء استثنائية فقط إذا نظر إليها بصورة شاملة. ولبعض الوقت، عبر بعض معتدلي حماس الآخرين عن آراء مشابهة. وقد صرح إسماعيل أبو شنب ــ الذي اغتالته إسرائيل فيما بعد ــ أن حماس ستوقف كفاحها المسلح إذا ما كانت إسرائيل مستعدة للانسحاب الكامل من المناطق المحتلة عام 1967 وأعلنت عن جدول زمني لذلك.
وفي العام الماضي، ذكر محمد غزال أحد قياديي حماس أن دستور حماس ليس القرآن. وقد صرح بأن «فلسطين ــ من الناحية التاريخية ــ ملك للفلسطينيين، ولكننا نتحدث الآن عن الواقع والحلول السياسية. لا أعتقد أن هناك مشكلة في التفاوض مع الإسرائيليين». وقد ردد حسن يوسف ــ قيادي بحماس في الضفة الغربية يقبع الآن في أحد السجون الإسرائيلية ــ قوله: «لقد قبلنا مبدأ القبول بدولة فلسطينية داخل حدود 1967 ».
وفي تصريح حديث بالغ الأهمية، ذكر إسماعيل هنية رئيس الوزراء أنه لم يوافق فقط علي عقد لقاء بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس و«إيهود أولمرت»، بل أضاف أنه لو استعاد محمود عباس شيئا بموافقة الشعب الفلسطيني فإن حماس سوف تغير من موقفها.
إن تلك الأفكار تتناقض تماما مع بشاعة ميثاق تأسيس حماس (في 18 أغسطس 1988) والذي يعتمد علي تفسير متطرف للتعاليم الدينية الإسلامية معاد لليهود، وعلي افتراءات معادية للسامية مثل «بروتوكولات حكماء صهيون». ولم تكن نفس لغة الكراهية تلك غائبة تماما في وثائق وتصريحات منظمة التحرير الفلسطينية في فترة ما قبل «أوسلو». وفي المقابل، يمكن ملاحظة التشهير بالفلسطينيين الذي تقوم به بعض الجماعات اليهودية بما في ذلك الأحزاب السياسية الإسرائيلية التي تنادي بالتطهير العرقي للسكان الفلسطينيين في الضفة الغربية. وكما جاء في مقال منشور لـ «هنري كيسنجر Henry Kissinger»، فإن الرفض والتشهير سمة شائعة في الصراع العرقي والسياسي، وكذلك الاعتدال المفاجيء للمتطرفين السابقين عند دخولهم العملية السياسية وتحملهم مسئولية الحفاظ علي مصالح من أتوا بهم إلي السلطة.
يدعي زعماء الحكومة الإسرائيلية الحالية أنه لا يمكن تحقيق السلام في ظل حكومة فلسطينية تقودها حماس. ولكن بعض المراقبين المطلعين جيدا علي تفاصيل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يعتقدون أنه لا يمكن تحقيق سلام دائم بين إسرائيل والفلسطينيين بدون مشاركة حماس. ومنذ ثلاث سنوات تقريبا، وقبل أن يتوقع أحد أن حماس يمكن أن تترأس السلطة الفلسطينية، كتب «إفرايم هاليفي Ephraim Halevy» الرئيس السابق للمخابرات الإسرائيلية (الموساد) يقول:«إن حماس تمثل 20% من المجتمع الفلسطيني. وهي تتمتع بثقل سياسي كبير لأنها جماعة فعالة ونشطة وواعية. ولذلك فإن أي شخص يعتقد أنه من الممكن تجاهل عنصر محوري في المجتمع الفلسطيني مثل حماس هو ــ ببساطة ــ علي خطأ. وكذلك فإن أي شخص يعتقد أن حماس يمكن أن تختفي بين ليلة وضحاها هو ــ أيضا ــ علي خطأ. إن الرئيس محمود عباس (أبو مازن) لن يقتل آلاف الفلسطينيين كي يقهر الحركات الإسلامية. أري أن إستراتيجيتنا نحو حماس يجب أن تتسم بالقسوة الشديدة تجاه جناحها الإرهابي، بينما ــ في الوقت نفسه ــ نرسل بإشارات إلي قيادتها السياسية والدينية بأنهم لو انتهجوا خطا معتدلا والتحموا في نسيج المؤسسة الفلسطينية، فإننا لن نعتبر ذلك تطورا سلبيا. وأعتقد أنه في النهاية لن يكون هناك مفر من القبول بحماس كشريك في الحكومة الفلسطينية. وإذا ما حدث ذلك فأعتقد أنه ستكون هناك فرصة لترويضها وإضعاف قوتها التدميرية».
ومهما تعددت التفسيرات لنوايا حماس بعد توليها قيادة السلطة الفلسطينية فإن الإيحاء بأن فوزها الكاسح في الانتخابات يعني «نهاية لعملية السلام» هو محض هراء. لقد ماتت عملية السلام عند انتخاب «شارون» رئيسا للوزراء عام 2000. وبالأحري، فإنها قتلت بمكر مبيت أحادي الجانب عندما نفذ شارون انسحابا من غزة وفر بالمقابل غطاء لكل إجراءاته المنفردة. وقد ساعد قيامه بالانسحاب ضد رغبة المستوطنين علي تحويل الانتباه عن رفضه إجراء أية مفاوضات مع الفلسطينيين.
وتستمر الإجراءات أحادية الجانب في تحويل الانتباه عن السياسات الإسرائيلية التي صادرت نصف ما كان يعرف دائما بدولة فلسطين وتقوم بحشر السكان الفلسطينيين ــ الذين سيزيد عددهم قريبا علي عدد السكان اليهود ــ في مناطق محاصرة منفصلة إقليميا تقف شاهدا علي الاستخفاف بالتعهد بإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كما جاء في خارطة الطريق عام 2003 التي أعلنت رباعيا بواسطة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا.
وقد استمرت الإجراءات أحادية الجانب كسياسة لحزب «كاديما Kadima» الجديد الذي أسسه «إرييل شارون» ويرأسه «إيهود أولمرت» القائم بأعمال رئيس الوزراء والذي يقوم الآن بتشكيل الحكومة الإسرائيلية القادمة. وفي الحقيقة فإن أهداف «كاديما» قد تحققت إلي حد كبير. ووفقا لصحيفة «هاآرتس Haaretz»، فإن الحكومة الإسرائيلية قامت عبر السنوات القليلة الماضية بفصل الضفة الغربية بصورة شبه كاملة عن وادي الأردن الذي حولته إلي منطقة يهودية. فبعد توسع مستعمرة «محلة أدوميم» الإسرائيلية الكبيرة شرقا، وتوسع تجمعات وادي الأردن غربا، وتوسع الكتل الاستيطانية تجاه الخط الأخضر، أصبح الفلسطينيون بدون منطقة يقيمون عليها دولة.
وقد قام أولمرت ووزيرة الخارجية «تسيبي ليفني» بقيادة الحملة الإسرائيلية الدولية لعزل وإذلال حماس ما لم تتنصل تماما من حق المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي وتعترف بحق إسرائيل في الوجود. ومن المفارقة أن مشروعية هذين المطلبين تكون محل شك عندما يأتيان من «أولمرت» و«ليفني» بالذات، حيث إنهما «أمراء من حزب الليكود». ويشير ذلك المصطلح إلي الناشطين سياسيا من أبناء وبنات مؤسسي جماعة الـ «إرجون Irgun» منظمة إرهابية يهودية كان يقودها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيجين إبان قيام دولة إسرائيل وارتكبت العديد من المذابح ضد السكان العرب» والذين يدينون ــ إلي حد كبير ــ بمراكزهم القيادية إلي تلك البنوة. وقد تميزت الـ «إرجون» بلجوئها للإرهاب في سبيل الكفاح اليهودي لإقامة دولة إسرائيل ورفضها التام للمطالبات الفلسطينية بأي جزء من فلسطين. ومن هاتين الناحيتين ــ علي الأقل ــ فإن الـ «إرجون» تشبه «حماس» إلي حد كبير.
وفي الحقيقة، فإن الـ «إرجون» ــ وفقا للمؤرخ «بيني موريس Benny Morris» - هي التي أرست سابقة استهداف المدنيين بصورة منهجية. وقد كتب «موريس» في كتابه «ضحايا صالحون Righteous Victims» أن «فورة الإرهاب العربي عام 1937 أطلقت موجة من تفجيرات الـ «إرجون» ضد تجمعات العرب وحافلاتهم، مما شكل بعدا جديدا للصراع». فبينما كان العرب في السابق يطلقون الرصاص بصورة متفرقة علي السيارات والمارة وأحيانا يلقون بقنبلة يدوية مما يؤدي عادة إلي مقتل أو جرح عدد قليل من المتفرجين أو الركاب، غير أنه الآن ــ وللمرة الأولي ــ بدأ زرع قنابل كبيرة في مراكز تجمع العرب وجري قتل العشرات بلا تمييز والتمثيل بجثثهم». ويلاحظ «موريس» أن «ذلك الابتكار سرعان ما وجد من يقلده من بين العرب».
بقدر علمي، لم ينتقد «أولمرت» أو «ليفني» أنشطة الـ «إرجون» الإرهابية أو يتنصلا منها، مما يضفي علي إدانتهم لحماس لمسة نفاق. وليس المقصود من ذلك أن تفجيرات حماس الانتحارية ليست بأي حال من الأحوال أقل من همجية، بالضبط كما كان استهداف الـ «إرجون» للمدنيين العرب. وإذا لم تتوقف تلك الأعمال الإرهابية فسيكون ذلك سببا كافيا لعزل حكومة حماس وإذلالها. ويعني ذلك أن تاريخ الليكود نفسه يؤكد أن الإرهابيين يمكن أن يغيروا سياستهم لو توفر لديهم سبب للاعتقاد أن الأهداف القومية الشرعية يمكن تحقيقها بالوسائل السياسية.
لقد عوضت الحكومات الإسرائيلية افتقارها لمهارة صنع السلام بمهارة لا تباري في ابتكار أساليب لتحويل الانتباه بهدف خداع مواطنيها وكثيرين غيرهم بشأن نواياها الحقيقية. ومن أحدث تلك الأساليب «تحويل الكتل الاستيطانية الكبيرة»، وهي عملية لضم المستوطنات الكبيرة لإسرائيل رسميا، مع الانسحاب ــ في الوقت نفسه ــ من مستوطنات أخري. ومن المفترض أن يؤدي ذلك في النهاية إلي حدود إسرائيلية دائمة مع تطبيق الحل الذي اقترحه الرئيس «بوش» بإقامة دولتين.
إن «أولمرت» القائم بأعمال رئيس الوزراء وأعضاء من وزارته يتحدثون الآن كثيرا عن هذا «التحول». إن المعلقين الإسرائيليين يعلنون الآن هزيمة المستوطنين ونهاية حلمهم في «أرض إسرائيل الكبري». وتعود إمكانية تحقيق كل ذلك بصورة أحادية من جانب إسرائيل إلي قيادة «أولمرت» البارعة وصعود نجم حماس، حيث لا يستطيع أحد بالتأكيد أن يدعي بأنها شريك محتمل للسلام. وكما أشار جدعون ليفي« المعلق بـ «هاآرتس»، فـ «بينما يشير النقاد واستطلاعات الرأي إلي تحول لليسار تؤيد فيه الغالبية إقامة دولة فلسطينية وإخلاء المستوطنات، إلا أن الخريطة السياسية الحقيقية قد اتخذت منحي حادًا نحو اليمين». إن «الإجماع الجديد» بشأن إبقاء الكتل الاستيطانية الكبيرة علي الجانب الإسرائيلي من الحدود يقوم علي أساس إجماع سابق مزعوم علي عدم السماح بمنفذ للفلسطينيين إلي أي جزء من القدس الشرقية. والنتيجة هي المطالبة بحتمية احتفاظ إسرائيل بمناطق فلسطينية تصل إلي نصف الضفة الغربية. ويعلق «ليفي» بأن ذلك يعد في إسرائيل هزيمة للمستوطنين وتحولاً نحو اليسار. يقول «ليفي»: «إن من يقولون أن «حلم إسرائيل الكبري» قد تنازل لـ «تقسيم الأرض» إنما يخدعون الوطن. وينطبق الشيء نفسه علي من يؤكدون أن الإسرائيليين الآن يعترفون بالحاجة إلي إنهاء الاحتلال. إن الحقيقة أسوأ من ذلك بكثير، فالخطاب الإسرائيلي مستمر في تبني الحلم القومي الإسرائيلي الأكبر، ألا وهو الحصول علي الكعكة والتهامها».
لا يوحي أي مما سبق بأنه لن يكون حتي لدي أي حكومة إسرائيلية تسعي للسلام بإخلاص المبرر للتوجس من أي سلطة فلسطينية تقودها حماس، علي ضوء معارضتها الرسمية لوجود الدولة اليهودية ولجوئها ــ حتي وقت قريب ــ إلي التفجيرات الانتحارية الهمجية. ولكن وجود حكومة إسرائيلية تقدر السلام أكثر من الاستيلاء علي مزيد من الأراضي لم يكن ليمهد الطريق لانتصار حماس في الانتخابات، وهو بالضبط ما فعلته حكومة «شارون» بلجوئها للإجراءات أحادية الجانب. وكذلك فإن مثل تلك الحكومة لم تكن لتتعامل مع تلك المخاوف باللجوء للتهديد بـ «تجويع» الفلسطينيين. كان هذا الاقتراح المهين من بنات أفكار «دوف فايسجلاس» كبير مستشاري «أولمرت» وكبير مستشاري «شارون» سابقا، الذي شرح لزملائه ــ ساخرا ــ أنه إنما أراد مساعدة الفلسطينيين علي إنقاص وزنهم.
وتقارن «هاآرتس» ــ في مقال نشرته ــ بين هذا السلوك الساخر المستخف وبين سلوك حماس الذي تصفه بأنه «أكثر مسئولية» من سلوك الحكومة الإسرائيلية. يقول المقال: «يتحدث مندوبو حماس عن عهد جديد وعن التحول من الإرهاب إلي السياسة وعن استمرار مقاومة الاحتلال بوسائل أخري وعن التطلع إلي هدنة طويلة الأمد».
وكما لو أن هناك تصميمًا علي تأكيد اتهامات «هاآرتس»، أعلن «آفي ديختر» الرئيس الأسبق لجهاز الأمن الإسرائيلي (الشين بيت) والنجم الحالي في حزب «كاديما» ــ والمفترض أنه حزب وسطي ــ أنه عندما يقع العمل الإرهابي التالي فسيكون إسماعيل هنية نفسه علي قائمة الأهداف المرشحة للاغتيال بواسطة قوات الدفاع الإسرائيلية. وقد زايد «شاؤول موفاز» وزير الدفاع الإسرائيلي علي ذلك فأعلن بعد ذلك أن جميع عناصر حماس الأعضاء في المجلس التشريعي الفلسطيني ــ وعددهم أربعة وسبعون ــ سيكونون أيضا مرشحين للاغتيال المستهدف.
ويعتقد الإسرائيليون ــ باستثناء القليل منهم ــ أنه إذا ما تم قبول حماس كـ «شريك للسلام» فإنها يجب أولا أن تعترف بدولة إسرائيل، حيث أقرت إسرائيل منذ وقت طويل بحق الفلسطينيين في إقامة دولة لهم في الضفة الغربية وغزة. ولكن ذلك غير صحيح. بل إن صحفيا واسع الإطلاع مثل «سيفر بلوتزكر» يعتقد أن هذه الكذبة تشير إلي مدي سيطرتها علي خيال الإسرائيليين. ذكر «بلوتزكر» في المقال المشار إليه أن الافتراض الأساسي الذي سيطر علي الإسرائيليين منذ تفاهمات أوسلو أنه بينما قد يضطرون للتفاوض مع الشعب الفلسطيني حول الحدود والقدس، فإنهم لن يتطرقوا لحق إسرائيل الأساسي في الوجود كدولة يهودية وحق الفلسطينيين في الوجود كدولة فلسطينية. وطبقا لـ «بلوتزكر» فإن هذا الافتراض الأساسي قد «تزعزع تماما» الآن بعد فوز حماس.
من الواضح أنه لم يتبادر لذهن «بلوتزكر» أن التفاوض بشأن الحدود والقدس ليس مجرد مناورة بلاغية بالنسبة للفلسطينيين الذين رأوا بأنفسهم الأرض تسحب ــ حرفيا ــ من تحت أقدامهم، حيث تضيف إجراءات «شارون» الأحادية لإسرائيل مساحات واسعة مما كان مقدرا أن يكون دولة فلسطين. يؤكد «بلوتزكر» أن الشعب الفلسطيني قد سلم مقاليد الحكم ــ من خلال انتخابات ديمقراطية ــ إلي حركة تتبني إقامة مملكة إسلامية من البحر الأبيض المتوسط وحتي نهر الأردن، يسمح فيها لليهود بالبقاء كأقلية دينية لها حقوق محدودة. ولا يعود ذلك بنا للخلف أربعة عشر عاما وإنما مائة وأربعين عاما.
الوقع أن حماس لا تطالب بمملكة إسلامية أو خلافة وفقا لرؤية «القاعدة» التي تنصلت منها حماس بكل حسم. بل أن الفلسطينيين يمكن ــ من واقع خبرتهم العملية منذ حرب 1967 ــ أن يتبنوا رأي «بلوتزكر» استنادا إلي مبررات أقوي كثيرا مما ذكر.
لقد سلم الشعب اليهودي مقاليد الحكم ــ من خلال انتخابات ديمقراطية ــ إلي حركة تتبني إقامة مملكة يهودية من البحر الأبيض المتوسط وحتي نهر الأردن، يسمح فيها للفلسطينيين بالبقاء كأقلية دينية لها حقوق محدودة. ولا يعود ذلك بنا للخلف أربعة عشر عاما وإنما ألف عام.
الواقع أن دولة إسرائيل قامت بتوسيع حدودها إلي أكثر من 50% فوق ما خصصته الأمم المتحدة للدولة اليهودية عام 1947، بينما تقلصت بالفعل المساحة المخصصة للفلسطينيين بمقدار 60% تقريبا، بخلاف جميع المستوطنات والأراضي الأخري التي صادرتها إسرائيل في الضفة الغربية.
لو أعلنت حماس اعترافها بشرعية إسرائيل فقط علي نصف المناطق التي شكلت الدولة اليهودية قبل حرب 1967، فإن ذلك الإعلان لن يؤخذ بالتأكيد علي محمل الجد من قبل أي جهة في إسرائيل كاعتراف بحق إسرائيل في الوجود. ومع ذلك، فهذا تماما هو ما وجده الإسرائيليون إعلانا مقبولا من قبل حكومتهم تجاه شرعية قيام دولة فلسطينية، والذي يلزم الفلسطينيين بالاعتراف بدولة إسرائيل في حدود ما قبل 1967 وليس نصفها فقط، بل وأكثر من ذلك بكثير. ولذلك فقد صرح إسماعيل هنية أن الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل سوف يتوقف علي «أي إسرائيل» تتطلب الاعتراف. هل هي إسرائيل في حدود ما قبل 1967؟ أم هي إسرائيل التي ضمت أكثر من نصف المناطق الفلسطينية الباقية؟ وإذا كانت إسرائيل الأخيرة هي المقصودة فإن حماس لن تعترف بها. وأضاف أنه إلي أن يعرف الفلسطينيون أي الدولتين هي التي تتطلب اعترافا فلسطينيا، فليس علي الفلسطينيين الاستجابة لذلك الطلب.
ما الذي هو غير منطقي في هذا الموقف لحماس؟ ما هو الأساس الذي يستند إليه النقد الإسرائيلي والأمريكي لسياسة حماس التي تطابق تماما سياسة إسرائيل تجاه دولة فلسطينية؟ إن طرح تلك الأسئلة هو إقرار بالمبدأ الرئيسي المنظم لحكومة ترأسها حماس، وهو ليس القضاء علي الدولة اليهودية، حيث ردد العديد من قادة حماس بالفعل أن تلك ليست سياسة قائمة لحماس ــ وهي في جميع الأحوال فوق مقدرة حماس علي تنفيذها، لأن السياسات الإسرائيلية الانتحارية هي فقط القادرة علي تحقيق ذلك ــ وإنما سياسة حماس هي طلبها المتصلب بمبدأ المعاملة بالمثل.
إن المطالبة بالمعاملة بالمثل هو أيضا رد حماس علي الشرطين الآخرين المطروحين من قبل إسرائيل للتعامل مع سلطة فلسطينية تتزعمها حماس، ألا وهما قبول كافة الاتفاقيات السابقة ونبذ العنف. ولكن من المؤكد أن الإسرائيليين لا يستطيعون تصديق أن حماس لا تدري أن إسرائيل لم تحترم اتفاقياتها السابقة مع الفلسطينيين. وعند الحديث عن قبول إسرائيل المزعوم أمام الرئيس «بوش» وزعماء عالم آخرين لخارطة الطريق، نجد أن «شارون» أضاف دائما الشرط المقيد «وفقا لقبول الحكومة الإسرائيلية» والتي أضافت عند قبول خارطة الطريق أربعة عشر شرطا أفرغتها من نصوصها الرئيسية. فعلي سبيل المثال، تطالب خارطة الطريق بوضوح أن يبدأ كلا الطرفين فورا في تنفيذ التزاماتهما، وهي ــ في حالة إسرائيل ــ إنهاء الإنشاءات الاستيطانية وإزالة النقط الحدودية غير الشرعية، وهي ــ في حالة السلطة الفلسطينية ــ القضاء علي الإرهاب، بغض النظر عن قيام الطرف الآخر بتنفيذ التزاماته من عدمه. وقد تعهدت الحكومة الإسرائيلية بأنها لن تنفذ أيا من التزاماتها حتي يوقف الفلسطينيون كل أشكال العنف والتحريض ضد إسرائيل ويقوموا بـ «تفكيك البنية التحتية للإرهاب».
لقد صرح الاتحاد الأوروبي ــ بل والولايات المتحدة ــ علنا بأن مصادرة إسرائيل لمساحات واسعة من الضفة الغربية هو انتهاك للقانون الدولي وخارطة الطريق وقرارات الأمم المتحدة. لقد كانت «كوندوليزا رايس» ــ وليس متحدثًا باسم حماس ــ هي التي صرحت في مؤتمر صحفي عقب لقائها الأخير في واشنطون مع وزيرة الخارجية الإسرائيلية «تسيبي ليفني»، بأن «موقف الولايات المتحدة تجاه الإجراءات الأحادية الإسرائيلية واضح تماما ولم يتغير. فلا يجوز لأي طرف أن يحاول مسبقا وبصورة أحادية تحديد نتيجة اتفاق وضع نهائي. ويجب ترك ذلك للوضع النهائي». وأضافت «رايس» أن خطاب الرئيس «بوش» إلي رئيس الوزراء «إرييل شارون» الذي يؤكد الحاجة إلي مراعاة «المراكز السكانية الجديدة» في الضفة الغربية لا يمنح ترخيصا لأي طرف كي «يسعي لتغيير تلك المراكز مسبقا بوضع اليد أو بالشفعة، حيث تترك تلك القضايا لمفاوضات الوضع النهائي».
وبالنسبة لمسألة العنف، أعلنت حماس «التهدئة» منذ عام مضي، وحافظت عليها إلي حد كبير رغم استئناف إسرائيل للاغتيالات المستهدفة التي كانت قد أوقفتها استجابة لمبادرة حماس. وقد عرضت حماس الآن التقيد بهدنة طويلة الأمد، وما زالت تنتظر الرد الإسرائيلي. وسواء سرحت حماس جناحها «الإرهابي» ــ كتائب عز الدين القسام ــ أو لم تفعل، فمن المرجح أن حماس المسئولة عن حكم ورفاهية الشعب الفلسطيني ستكون كيانا مختلفا تماما عن حماس التي تعمل ضد حكومة فلسطينية. حماس الآن هي الحكومة، وهي تدرك أنها لا تستطيع الجمع بين الحكم والعمل كقوة إرهابية في الوقت نفسه.
والحقيقة أنه لو اعترفت حماس غدا بدولة إسرائيل وفككت «بنيتها التحتية للإرهاب» فلن يكون هناك أدني احتمال لاستئناف عملية السلام بدون ممارسة الولايات المتحدة ضغط كبير علي إسرائيل، ولا يوجد احتمال يذكر لأن تمارس الولايات المتحدة مثل هذا الضغط. لقد ذهبت إسرائيل بعيدا في قراراتها أحادية الجانب بحيث أصبح من الصعب عليها إعادة الدخول فجأة في عملية سلمية تتطلب موافقة فلسطينية علي أي وجود إسرائيلي مستمر في الضفة الغربية. ولن توافق حماس علي عملية سلمية تتخلي عن مبدأ الموافقة الفلسطينية المنصوص عليها في الاتفاقيات السابقة والتي أعاد الرئيس «بوش» والمجلس الأوروبي التأكيد عليها ومع ذلك، فللمفارقة، ونتيجة لفوز حماس بالانتخابات، فربما زاد ــ بدلا من أن ينقص ــ احتمال التوصل لتسوية مؤقتة تتحول في النهاية إلي اتفاق بين الإسرائيليين والفلسطينيين. إن كلا من حماس والحكومة الإسرائيلية يعتقد أن مصالحهم تقتضي فترة طويلة من التعايش الصامت غير المعلن، وليس عودة متعجلة إلي عملية السلام. إن التحرر من ضغوط استئناف عملية سلام سوف يسمح لإسرائيل بمواصلة نواياها المبيتة للقيام بالمزيد من عمليات فك الارتباط الأحادية من بعض مناطق الضفة الغربية الواقعة تحت سيطرة إسرائيل، لضمان أغلبية سكانية يهودية علي الجانب الإسرائيلي من الحدود. أما بالنسبة لحماس، فإن المزيد من الانسحاب الإسرائيلي سيوفر متنفسا تحتاجه حماس لاستئناف بناء المؤسسات الفلسطينية وإعادة تأهيل المجتمع الفلسطيني والحياة الاقتصادية التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي.
بالنسبة للإسرائيليين، فإن وقفًا مطولاً لإطلاق النار سيكون متسقا مع إصرار «شارون» علي أن مفاوضات الوضع النهائي يجب أن تسبقها ترتيبات مؤقتة طويلة الأمد. وبالنسبة لحماس، فإن وقف إطلاق النار سيتوافق مع وضعها باعتبارها ليست بعد مستعدة لأن تقدم لإسرائيل ما هو أكثر من هدنة طويلة الأمد. وكما علق مؤخرا «رامي خوري»، وهو صحفي لبناني بارز، يبدو من الممكن أنه سيكون هناك «تفاهم بين إسرائيل وحماس لا يجرؤ أحد علي الحديث عنه» كما جاء في عنوان لأحد مقالاته الأخيرة.
وإذا ما صمدت تلك الترتيبات غير الرسمية، فمن الممكن أن تؤدي بمرور الوقت إلي مفاوضات ثنائية واتفاقيات أكثر علانية وربما حتي معاهدة سلام. ولكن ذلك لن يتحقق إلا بالتزام الطرفين بشروط عديدة. فيجب علي حماس أن تطبق الهدنة التي عرضتها وأن تمنع الإرهاب ليس فقط من قبل مقاتليها ولكن أيضا من قبل الجهاد الإسلامي وكتائب الأقصي والجماعات الإرهابية الأخري. ولكن لكي تفلح حماس في تحقيق ذلك، فعلي إسرائيل أن توقف اغتيالاتها المستهدفة وغاراتها علي المناطق الفلسطينية. والأهم من ذلك، علي إسرائيل أن تعلن صراحة أن الخطوط التي تنسحب إليها نتيجة لعمليات فك الارتباط أحادية الجانب التي تقوم بها ليست حدودا نهائية، وأن الحدود النهائية لن تتقرر إلا أثناء المفاوضات مع الفلسطينيين. ولو كانت لمثل هذا الإعلان أية مصداقية، فعلي إسرائيل التوقف عن توسيع وجودها في الضفة الغربية كي تؤكد أن الخطوط «المؤقتة» لا يمكن التراجع عنها.
ومن المفارقة أن مثل هذه الترتيبات التي ستترك الباب مفتوحا ــ بعد بضع سنوات ــ لقرار أكثر رسمية، لن تكون ــ علي الأرجح ــ ممكنة إلا في ظل سلطة فلسطينية تقودها حماس، لأن مصداقية حماس تسمح لها بتفسير قبولها لفترة تحول تتسق مع رفضها تقديم تنازلات رسمية لإسرائيل دون اعتراف الأخيرة بالحقوق الفلسطينية وبمبدأ المعاملة بالمثل. وفي الوقت نفسه، يمكن لحماس اثناء فترة التحول أن تركز علي تطهير البيت الفلسطيني الذي لطخه فساد «فتح». وعلي النقيض مباشرة من إصرار «فتح» أن إصلاح مؤسسات السلطة الفلسطينية يجب أن ينتظر قيام الدولة الفلسطينية أولا، فقد أكدت حماس دائما ــ وكذلك الإصلاحيون الفلسطينيون غير الإسلاميين ــ أن وجود حكم فلسطيني نزيه ناجح هو شرط مسبق لتحقيق الأهداف القومية الفلسطينية.
ربما يتضح أن التوقعات باعتدال حماس كانت علي خطأ. وإذا ما حدث ذلك فسيكون هناك من الوقت ما يكفي أمام إسرائيل والأمم الأخري لفرض العقوبات التي ــ عندئذ ــ ستستحق تماما علي حماس والسلطة الفلسطينية. ولكن التصريحات الأخيرة للعديد من قادة حماس حول أولوياتهم الجديدة تشير بقوة إلي أن هناك بالفعل تغيرات في فكرهم. فعلي سبيل المثال، صرح الدكتور نصر الدين شاعر، نائب رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية، لـ «هاآرتس» في 27 مارس 2006 قائلا: «إن الحكومة الجديدة لا ترفض التنسيق والتعاون مع أي طرف ــ بما في ذلك إسرائيل ــ لحل المشاكل الروتينية». إن تسرع الحكومة الإسرائيلية في سعيها للتشكيك بمصداقية حماس وإسقاطها يقوض إمكانية معرفة الحقيقة. كما يهدد ذلك أيضا بالقضاء علي أية إمكانية محتملة لتبني حماس خطا معتدلا.
وقد حذر الجنرال الإسرائيلي «شلومو بروم» الذي عمل حتي وقت قريب كنائب لمستشار الأمن القومي للتخطيط الإستراتيجي في قوات الدفاع الإسرائيلية، أنه إذا ما فشلت حكومة حماس بسبب سياسة إسرائيل لعزلها وإسقاطها، فإن الإخفاقات والصعوبات التي يعانيها السكان الفلسطينيون لن تنسب عندئذ إلي حماس بل إلي إسرائيل والغرب. والمقصود من ذلك ــ علي الأرجح ــ توسيع الصدع بين الولايات المتحدة وكل من الفلسطينيين والعالم الإسلامي. ومن جهة أخري، فإن وجود سياسة إسرائيلية وغربية للاتصال والتفاوض مع حماس قد يشجع علي مزيد من التغييرات الأساسية في سياساتها وــ في النهاية ــ في عقيدتها. وهناك ميزة كبيرة تتفوق فيها إستراتيجية الاتصال بحماس علي إستراتيجية عزلها وتقويض سلطتها، ألا وهي أن إسرائيل سيكون بمقدورها ــ إذا ما اتضح أن سياسة الاتصال قد فشلت ــ أن تتحول عن تلك السياسة إلي سياسة المواجهة. أما التحرك في الاتجاه المعاكس فلن يكون ممكنا. ومن المرجح أن يكون ثمن الفشل هو القضاء علي مشروع الدولتين لحل للصراع، بكل ما يحمله ذلك لمستقبل الدولة اليهودية التي تقع ضمن منطقة ربما يقع فيها «صدام للحضارات».
لن تتخلي حماس عن إيمانهـا بأن فلســطين
هـي وقـف ديني منحه اللـه للمسـلمين إلي الأبد.
ومع ذلك، فإن ذلك الإيمان العقائدي لا يستبعد التكيف
مـع الحقـــائق المـــؤقتـة والقـانـون الــدولي،
بمــا في ذلك الوضع الراهــن لإســرائيل
أي شخص يعتقد أنه من الممكن
تجاهل عنصر محوري في المجتمع الفلسطيني
مثل حماس هو ــ ببساطة ــ علي خطأ. وكذلك فإن
أي شخص يعتقد أن حماس يمكن أن تختفي
بين ليلة وضحاها هو ــ أيضا ــ علي خطأ
مهمــا تعــددت التفسيرات
لنــوايا حماس بعد توليهـا قيادة
السلطة الفلسطينية فإن الإيحاء بأن فوزها
الكاسح في الانتخابات يعني«نهاية
لعملية السلام» هو محض هراء
لقد عوضت الحكومات الإسرائيلية
افتقارهـا لمهـارة صنــع السلام بمهـارة
لا تباري في ابتكار أساليب لتحويل الانتباه بهدف
خـداع مواطنيهــا وكثيرين غيـرهم
بشأن نوايــاها الحقيقيــة