ربما لم يكن لموضوع «عرب إسرائيل/ عرب 48» الأهمية ذاتها كما هى له الآن، أخذا فى الاعتبار مشاريع تسوية تتسرب مسوداتها، أو تصريحات وتلميحات نسمعها أو نقرؤها هنا وهناك. تتساوى فى ذلك ـ من حيث التحليل النهائى دعك من التفاصيل، آراء تسيبى ليفنى «الذاهبة» مع أفيجدور ليبرمان «القادم» من خلف الجدار الحديدى المتصلب لليمين الصهيونى القديم.
هذا كتاب فى الموضوع، لكاتب ربما هو أول من طرح على الساحة الفكرية العربية قضية «عرب الداخل» وهو كتاب قديم جديد صدر بداية فى الداخل الفلسطيني، كان ذلك فى العام 1998 تحت عنوان «الخطاب السياسى المبتور»، ثم صدرت عن مركز دراسات الوحدة العربية فى بيروت فى العام 2000 طبعة ثانية. ثم ثالثة «مزيدة» فى العام 2008، بعد أن أضيف اليها فصلان أحدهما عن «يهودية الدولة». وهى المسألة التى كان كاتبنا «عزمى بشارة» قد طرحها غير مرة على هذه الصفحات من «وجهات نظر».
وهنا بعض مما يقدم به الكاتب لكتابه المهم.
المحــــرر
صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب عام 1998. ماذا تغير بعد عشر سنوات؟
تضمن كتابنا الأول تحليلات نظرية بنيت عليها مواقف وشكلت مرشدا للتجربة العملية. فإضافة لقيمتها الأكاديمية، إذ اعتبرت تجديدا فى مقاربة مسألة العرب فى إسرائيل نظريا، فإن لها كما هى قيمة وثائقية أيضا بالنسبة لمن يرغب بدراسة نوع التحليل الذى قاد جهدنا السياسى فى عملية بناء الحركة الوطنية. وفى الواقع لم يتغير تحليلنا النظرى فى محاوره الرئيسية كثيرا. ونحن ندعى أن الأيام أثبتت صحة هذا التحليل، وأكثر من ذلك فقد تحقق الكثير من التوقعات التى يتضمنها. فالنموذج الذى طرحه سمح بتشخيص نزعات التطور المستقبلي، خاصة حول فعل صيرورتين متزامنتين فى المجتمع العربى فى الداخل:
1 ــ عملية أسرلة تتجلى فى نشوء ثقافة سياسية تابعة، ومشوهة، متولدة دون وساطة الوعى الوطني، أى متولدة مباشرة عن التهميش الاقتصادى الاجتماعى الحقوقى للعرب فى إطار كيان قام على أنقاض الشعب الفلسطيني، و2 ــ صيرورة تشكُّلٍ وطني. وتتولد هذه الصيرورة عن عملية إقصاء المجتمع والدولة الإسرائيليين للمواطنين العرب بفعل سياسة التمييز والعنصرية الإسرائيلية من جهة، وعن تشكل العرب والهوية العربية فى عملية تواصل لم ينقطع مع تاريخ البلاد وماضيها القريب ومع بقية أجزاء الشعب الفلسطينى والمنطقة العربية عموما من جهة أخري.
منذ تلك الفترة كانت مقاربتنا لموضوع الهوية فى هذا الكتاب أن الهوية ليست معطى أبديا بل نتاج اجتماعى ثقافى متشكل ومتغير. ولكنها ليست متشكلة ومتغيرة من لا شيء بل من عناصر قائمة.
لقد انطلق تحليلنا للعرب فى الداخل من:
1 ــ أنه لا يمكن أن نفهم مسألة عرب الداخل بنيويا فقط بتجرد عن تاريخ نشوء هذه المسألة، أى بتحليل بنية دولة إسرائيل كأنها دولة وطنية عادية، هى الدولة اليهودية، تعيش فيها أقلية عربية تتعرض للتمييز أو الإهمال (أو تعيش فيها أقليات دينية بموجب الخطاب الاستشراقى الصهيوني). فالعرب فى إسرائيل هم سكان البلاد الأصليون وهم جزء من الأمة العربية التى تعيش حالة صراع مع إسرائيل ومن الشعب الفلسطينى الذى تعرض لعملية سطو مسلح على أرضه شملت هدم مشروعه الوطني. وقد نشأت قضيتهم تاريخيا كجزء من القضية الفلسطينية، فلولا نشوء قضية اللاجئين لما نشأت مسألة «أقلية» عربية فى الداخل. أما الممارسات الإسرائيلية التى تتضمن مصادرة أراضى العرب فى الداخل ومحاصرتهم وتجميعهم ديموغرافيا، والعمل على إعادة تشكيل هويتهم الثقافية بما يتناسب مع احتوائهم كأقليات متنافرة متنازلة عن المساواة الكاملة وعن الشخصية العربية الكاملة فى دولة يهودية... هذه كلها ليست مجرد مركبات فى سياسة تمييز، بل هى جزء من سياسة تشكل استمرارا تاريخيا لمسألة استعمارية هى قضية فلسطين، وهى تضع لنفسها أيضا أهدافا تاريخية. فهى ما زالت تجرى وتنفَّذ بعقلية كولونيالية استيطانية إحلالية، وتتخذ أشكالا كولونيالية أيضا.
2 ــ أنه لا يمكن أن نفهم قضية عرب الداخل بالمنهج التاريخى وحده. إذ لا يكفى فهم تاريخ تشكل القضية الفلسطينية وكيفية تحول الفلسطينيين إلى أقلية فى بلدهم فى فهم واقعهم الحالي. يكفى هذا لفهم نشوء هذا الواقع، ولكن ليس لفهم الواقع ذاته. فهنالك ما يميز حاضرهم عن تاريخه، وإلا لما تميزوا عن بقية التجمعات الفلسطينية فى الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات الفلسطيني. وهم يتميزون بأنهم خلافا لبقية الفلسطينيين تحولوا إلى جزء (غير مرحب به) من الكيان الذى قام على أرضهم، ولو على هامش اقتصاده، كما تحولوا رسميا إلى مواطنين، بصرف النظر الآن عن نوع هذه المواطنة ومن أية درجة هي... وقد أدى هذان الأمران سوية إلى تغيرات فى نمط السلوك السياسى والثقافة السياسية السائدة، خاصة أن 90% من المواطنين العرب فى الداخل ولدوا فى هذا الواقع الإسرائيلي، بما فيه من تغيرات ثقافية تمس حتى اللغة، أقصد لغة المخاطبة اليومية ولغة الصحافة واللغة السياسية، وتحول القرية إلى هامش اقتصادى للمدينة اليهودية... المفارقة الكبرى التى عاشها العرب فى الداخل أن عملية التحديث كانت فى الوقت ذاته عملية مصادرة وقطع أواصر العلاقة الاقتصادية مع الأرض وعملية تهميش، كما أن عملية التحديث ذاتها هى عملية إسرائيلية، وعملية أسرلة فى الوقت ذاته.
3 ــ كما انطلق من أن من قارب موضوع العرب فى الداخل بنيويا لم يخطئ منهجيا فى فهم تميُّزِهم (نقصد تميّزهم عن أقليات مهاجرة فى دول أوروبية مثلا) فحسب، ولم يتجاهل الطابع الكولونيالى لإسرائيل فحسب، بل قاده ذلك إلى طرح مسألة المساواة كما تطرح فى حالة المهاجرين فى الدول الديمقراطية، أى كمطلب اندماجي. ولا يوجد خيار اندماجى حقيقى أمام العرب فى دولةٍ، لا هى دولة مواطنين، ولا هى دولة تعترف ببنية ثنائية القومية. ومن ناحية أخري، فمن قارَبَ موضوع عرب الداخل من زاوية النظر التاريخية وحدها انتهى إلى عجز أمام فهم السلوك السياسى والثقافة السياسية السائدة عند عرب الداخل من التصويت إلى أحزاب صهيونية وحتى نشوء أحزاب وقوى «عربية إسرائيلية»، وإلى انعدام القدرة على طرح برنامج وطنى فى الظروف الخاصة لهذا المجتمع، لأنه ببساطة لم ير الخصوصية. وخصوصية العرب فى إسرائيل مقابل أقليات قومية وإثنية أخرى هى خصوصية تاريخية، وخصوصية عرب الداخل مقارنة مع بقية الفلسطينيين هى بنيوية الطابع وليست تاريخية فحسب.
وطبعا يمكننا من هنا أن نتشعب أكثر لنجد أن التاريخى بنيوى وإلا لما تحول إلى واقع قائم، كما أن البنيوى تاريخي، فتاريخه فاعل فى بنيته.
أ ــ بنية دولة إسرائيل تاريخية ليس فقط من حيث تطورها الاستيطانى بل أيضا فى تعريفها لنفسها كدولة يهودية فى الفكر والممارسة. وإذا طرح مطلب المساواة للغرب فى الداخل بشكل كامل دون مساومات على الحقوق، ودون التخلى عن الهوية الوطنية، هوية السكان الأصليين، فإنه لا بد أن يتناقض مع البنية القائمة للدولة وتعريفها لذاتها كدولة يهودية ومع الوظائف الناجمة عن هذا التعريف. من خلال هذا التناقض يتصل مطلب المساواة الكاملة فى دولة مواطنين مع القضية الوطنية الناشئة تاريخيا فى صراع مع الصهيونية.
ب ــ تأطرت تاريخية الحالة العربية فى الداخل فى البنية القائمة، ولذلك نشأ وضع يصاغ فيه خطاب وطنى ضمن الإطار القائم، ويتخذ شكل المطالبة بحقوق جماعية والاعتراف بالعرب كجماعة قومية هى جزء من الشعب الفلسطينى والأمة العربية، والمطالبة بحق وضع برامج التدريس العربية، وبتطوير الثقافة العربية.
4 ــ ينتج هذا الواقع الذى تجرى فيه صياغة المطالب المدنية الإسرائيلية بلغة وطنية فلسطينية وصياغة المطالب الوطنية الفلسطينية بلغة مدنية إسرائيلية كما هائلا من التناقضات والتشويهات... من الانضواء تحت لواء الأحزاب الصهيونية، وتشكُّلِ شخصية «العربى الإسرائيلي»، وحتى إقامة أحزاب عربية قولا وإسرائيلية فى الممارسة. لقد نشأت قوى سياسية ذات خطابين واحد بالعربية وآخر بالعبرية، كما نشأ فى ظل التنافس الانتخابى تحت السقف الإسرائيلى نواب الخدمات الذين يتوسطون بين مطالب المواطن الفرد والسلطة الإسرائيلية الحاكمة بلغتها، أما الموقف الوطنى عند هؤلاء فمسألة تُمَارسُ خطابةً فى الإعلام العربي. فالقوى السياسية «العربية الإسرائيلية» لا تتخلى عن الرغبة بكسب كافة العوالم، بما فيها خطاب الولاء لإسرائيل والخطاب النضالى الوطنى فى وسائل الإعلام العربية. ويبدو هذا السلوك ممكنا، خاصة أنه فى ظروف نشوء تيار فى الدول العربية المحيطة يجاهر بالتطبيع، و«يناضل» من أجل فرض تسوية غير عادلة على الفلسطينيين، فقد انتقل قسم من الرأى العام العربى من موقف خاطئ هو تخوين عرب الداخل إلى موقف خاطئ آخر هو اعتبار كل ما يقوله عربى بصوتٍ عالٍ داخل إسرائيل بطولة... مع أن ذلك يجرى فى دولة يتوفر فيها هامش واسع لحرية التعبير، ولا يكلِّفُ فيها الكلامُ كثيرا.
وكما ينتج هذا الواقع الملتبس وغير العادى تشويهات سياسية وثقافية تطيح بالتجربة العربية فى الداخل، كذلك قد ينتج حالة سياسية مركبة وغنية التجربة فى الوقت ذاته، إذا نجحت بالمحافظة على الهوية العربية الفلسطينية من جهة، وإذا عرفت كيف تعمل فى إطار المواطنة بتحويل خطاب الحقوق إلى خطاب معادٍ للصهيونية... وطبعا إذا كانت مستعدة لدفع الثمن. فهذا الموقف يشكل حالة نضالية. وهو لا يواجه مقاومة من المؤسسة الصهيونية الحاكمة فحسب، بل أيضا من قبل القوى السياسية العربية المحلية المحتواة فى فضاء سياسى ثقافى اجتماعى على هامش الدولة اليهودية والمرتبطة بالوضع القائم.
لقد كُتِب هذا الكتاب مدفوعا بأكثر من التحليل الاكاديمى الذى اعتبر فى حينه تجديدا حتى فى الجامعات الإسرائيلية، بل أيضا بإرساء القاعدة الفكرية لهذا الخيار الأخير الذى لا يتجنب التناقضات بل يشخِّصها ويحولها من قوة هدم لمجتمع لا يعى فعلها، ولا يحاول أن يوجه هذا الفعل، إلى قوة دفع عند مجتمع يعيها ويخضعها لمشروعه. ولذلك يجد القارئ فى الجزء الثانى من الكتاب محاولة لطرح مشروع وطنى ديمقراطى فى ظروف الداخل يبنى على جدلية العلاقة بين الوطنى والمدني، وبين الخطاب العروبى الفلسطينى والمواطنة.
يصعب تخيل مشروع آخر يطرح كمشروع فى هذا الواقع المركب، أى فيما يتجاوز ردود الفعل الآنية ومجاراة الأحداث. ولذلك فعندما حاول بعضُ المثقفين العرب من اتجاهات مختلفة مؤخرا، أى فى الأعوام 2006-2008، التصدى لمهمة طرح مشروع متكامل لمستقبل العلاقة بين المواطنين العرب والدولة والمحيط العربى على شكل أوراق وجدوا أنفسهم يطرحون أجوبة تدور حول هذين المحورين: الهوية القومية والمواطنة، ويطرحون بتنوعات مختلفة مسألة دولة المواطنين ووجود جماعتين قوميتين وحقوق قومية. كما وجدوا أنفسهم مدفوعين بضرورة طرح مشاريع تخطيط بديلة للعرب لكى يتصرفوا كشعب فى دولة تخطط لاستيعاب الهجرة اليهودية، ولبناء جيش قوي، واقتصاد يهودى قوي، وتتعامل مع وجود العرب كمشكلة وكعبء.
فى هذه الأثناء حصلت تغيرات هامة تؤكد برأينا عمليتين متوازيتين جرى الكلام عنهما فى الكتاب: لقد تحدثنا عن عملية «أسرلة» موضوعية ناجمة عن البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحقوقية، وأن هذه العملية تولِّد «أسرلةً» ثقافيةً تؤدى إلى تشويه الثقافة العربية، دون أن تتحول إلى ثقافة عبرية. كما تتجلى فى تحويل الاندماج إلى مطلب، وذلك على هامش دولة تعرف نفسها كدولة يهودية ولا تقبل بدولة مواطنة اندماجية. وقد شهدنا منذ كتابة هذا الكتاب ليس فقط تطور مشروع وطنى ديمقراطى يطرح نفسه على الساحة بل ردة فعل صهيونية و«عربية إسرائيلية» عليه من قبل قوى سياسية عربية تقليدية رأت به خطرا. كما شهدنا من ناحية أخرى تفاعلا غير مسبوق مع القضية الوطنية للشعب الفلسطينى تحت الاحتلال عبر عنه المجتمع العربى الفلسطينى فى الداخل فى بداية الانتفاضة الثانية، ثم شهدنا ردة فعل إسرائيلية عليها ليس فقط فى تشديد ملاحقة من تنعتهم ب«المتطرفين» والتضييق عليهم، بل أيضا فى عملية دعم و«تشجيع» ما تسميه «المعتدلين العرب» حتى لو تأطروا فى أحزاب عربية.
لقد سن البرلمان الإسرائيلى خلال السنوات الأخيرة عدة قوانين تراجع الحريات السياسية وتحدد الشروط المفروضة على الأحزاب لتتمكن من المشاركة فى الانتخابات البرلمانية، وتمنع التواصل الحر مع الأمة العربية، وبشكل خاص الدول العربية فى ما تسميه دول العدو، كما زادت فى تحديد مسألة الولاء للدولة والاعتراف بها كدولة يهودية. وقد شكلت هذه تعبيرات حادة عن رد إسرائيل على تطورين هما:
1 ــ نشوء قوى سياسية عربية تجاهر بموقفها الوطنى المتمسك بالهوية العربية والمعترض على طبيعة إسرائيل الصهيونية وبدعمها لحق الشعوب فى مقاومة الاحتلال رافضة التحديد الإسرائيلى الرسمى لمعنى الولاء للدولة.
2 ــ تطوير التيار العروبي، وهو إلى حد بعيد نفس التيار المجاهر فى دعم حق الشعوب فى مقاومة الاحتلال، لعملية تواصل بين العرب فى الداخل والأمة العربية. لقد تجلى ذلك فى زيارة الدول العربية، حتى تلك التى تسمى دول العدو، حين سمحت هذه الأخيرة، وذلك دون تنسيق مع إسرائيل أو طلب إذنها. لم يكن لدى إسرائيل فى الماضى أى مانع من أن يقوم مواطنوها العرب بزيارات حتى لدول عربية تعرفها كدول عدو. وقد مكَّنت إسرائيل فى الماضى وفودا ونوابا عربا فى الماضى من زيارة دول مثل سوريا واليمن. فهى تعتبر مثل هذه الزيارات إذا تمت بإذن منها وبتنسيق معها نوعا من التطبيع. لقد ثارت ثائرة المؤسسة الصهيونية عندما نشأ تيار يرغب بالتواصل مع الدول العربية، كعربى وليس كـ«عربى إسرائيلي»، ويرفض أن يطلب إذنا لذلك من إسرائيل، لكى لا تتحكم هى بنوع العلاقة. هنا بدأت إسرائيل عملية ملاحقة قانونية لهذا التيار وسن قوانين تسمح بمحاكمة ممثليه. بذلك أوضح التيار العروبى فى الداخل الفرق بين التطبيع وبين التواصل على أساس قومي. وهذا أحد أسباب ملاحقته حاليا.
وفى الوقت الذى بودر فيه إلى سن العديد من القوانين التى تهدف إلى تضييق مجال العمل السياسى على القوى التى تعتبرها إسرائيل راديكالية، وحين تعرضت هذه القوى لملاحقة سياسية وأمنية، حدث ما توقعنا فى هذا الكتاب منذ العام 1998 وهو اتجاه المؤسسة الإسرائيلية لتعيين وزير عربي، ذلك لأنه يسهل على المؤسسة الإسرائيلية احتواء مطلب وحلم عرب الأحزاب الصهيونية هذا. فهى تتجه من التمييز العنصرى البسيط الى التمييز المركب القادر على احتواء مطالب رمزية للعرب «المعتدلين» تنفس الاحتقان وتورط جزء من العرب مباشرة فى المسؤولية عن سياسات الدولة العنصرية. لقد تم تعيين وزير عربى مرتين فى حكومات إسرائيل منذ الفترة التى صدر فيها الكتاب، وقد عين واحد منهم فى حكومة شارون. ولم نشهد عملية مقاطعة عربية لهذا النوع من التورط فى السياسة والمؤسسة الصهيونية فى محاولة لنزع الشرعية عنه.
وفى مقابل توسيع هذا النمط من فهم «الحقوق» كاحتواء فى سياسة التمييز القائمة، وهذا النموذج من «المساواة»، تطرح الحكومة الإسرائيلية مسألة الخدمة الوطنية الإسرائيلية على العرب كبديل عن الخدمة العسكرية وكشكل من أشكال تعبير الشباب العرب عن «الولاء للدولة»، وخلق فضاء سياسى «عربى إسرائيلي».
وعلينا أن نذكر أن الخطر ماثل فى غياب مؤسسات دولة وطنية عربية، وغياب حتى مؤسسات اجتماعية اقتصادية عربية مستقلة. وبرامج التدريس فى المدارس العربية لا تمنح الطالب أيَّ نوعٍ من التربية الوطنية، وأيّ نوع من المعرفة المنهجية لتاريخ شعبه. يفترض إذا أن يتم الحفاظ على الهويّة العربية والفلسطينية وتطويرها على مستوى التنظيم الذاتى السياسى والاجتماعى وبناء المؤسسات التى تقدم أطرا ومضامين وطنية بديلة للطالب.
ولكن محاولات التحكم فى أجندات المجتمع العربى وإعاقة تنظيمه على أساس قومى تأتى من مصادر أخرى أيضا. فمن الظواهر التى نشأت مؤخرا أيضا فى العقد الأخير ولوج مؤسسات التمويل الأجنبية، الأوروبية والأميركية ساحة العرب فى الداخل، كما فعلت قبل ذلك طيلة عقود فى الضفة الغربية وقطاع غزة حاملة أجندة شبيهة جدا بأجندة حزب العمل الإسرائيلى فى دعم المعتدلين ومحاربة المتطرفين، واحتواء مثقّفين فى صناعة الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، وإبعادهم عن الفعل السياسى المباشر، ونشر ثقافة التعايش عند الشعب الواقع تحت الاحتلال وحده، والتحكم بأجندة التنمية السياسية بوضع أجندات غربية فى مقابل الأجندة الوطنية وحاجات المجتمع العربي. لقد جرى بذلك إبعاد كم كبير نسبيا من المثقّفين خاصة العلمانيين واليساريين عن دائرة العمل السياسى والوطني، أو إخضاع عملهم لأجندة صناديق الدعم. ويجرى بشكل واضح حرمان المؤسسات ذات الأجندة الوطنية المستقلة من التمويل بما فيها المؤسسات الثقافيّة والبحثيّة التى تضع نصب أعينها إجراء أبحاث بأجندة وطنيّة مستقلّة. ويُفترَض أن يشكل المثقفون فى مجتمعات العالم الثالث مركبا أساسيا فى الحركات الوطنية. وكان اللافت هو دخول حتى صناديق دعم مالى أميركيّة صهيونيّة ساحة العمل فى أوساط العرب فى الداخل بعد الانتفاضةِ الثانيةِ، وذلك بعد أن كان دعمها يقتصر فى الماضى على الدولة والمجتمع اليهودي. وطبعا ما زال دعمها موجّها بالاساس للمجتمع الصهيوني، ولكن يمكن النظر إلى هذا الإجراء كخطوة استثنائية لأسباب سياسية متعلقة بدعم «الاعتدال» و«تشجيع» نزعات التعايش مع الصهيونيّة عند العرب، دون تغيير سياسة الدولة ذاتها.
يزداد الواقع الذى تناوله هذا الكتاب تركيبا إذا، ويفرز فى تطوره نفس الصراعات. فنفس القوى التى كانت تعارض تطوير رؤية بديلة لرؤية المؤسسة الحاكمة لمستقبل عرب الداخل كشعب، استسلمت لرغبة العرب أن تكون لهم مؤسسات مستقلة عن الدولة، ولكنها تحاول الآن التحكم بها عبر التمويل وغيره، وتحولها إلى أدوات رقابة وسيطرة وتكريس نهج «اعتدال»... ينطبق صراع الأضداد هذا على كافة التطورات. فقد استسلمت الدولة لمطلب العرب فى تحصيل وظائف وفرص عمل فى المؤسسات الحكومية، ولكنها تحاول الآن أن تتحكّم بالعدد والنوع ومواقف الناس الذين يتم تعيينهم، كما تطالب بالولاء وفرض الخدمة الوطنية الإسرائيلية على الشباب العرب مقابل ذلك. لا يتوقف التطور بعد تحقيق أمر ما، بل يعاد إنتاج نفس أطراف التناقض ونفس الصيرورات المتناقضة على حلبة أخرى على مستوى أعلي.
من الطبيعى أننا لن نلمّ هنا بكافة التطورات التى وقعت فى العقد الأخير. وإنما رغبنا فقط بتقديم لمحة عن نوع التطورات، وكيفية فهمها فى إطار النموذج النظرى الذى قدمه الكتاب، وفى فهم الحالة التى تشكل موضوع بحثه.
هم سكان البلاد الأصليون وهم جزء من
الأمة العربية التى تعيش حالة صراع مع
إسرائيل ومن الشعب الفلسطينى الذي
تعرض لعملية سطو مسلح على أرضه
للاستزادة:
العرب فى اسرائيل، رؤية من الداخل
عزمى بشارة
مركز دراسات الوحدة العربية
بيروت 2008