حـكايات أندرسـون
احتفلت الأوساط الأدبية في العالم بالمئوية الثانية للكاتب الدانمركي هانز كريستيان أندرسون (1805-1875 )، وعلي الرغم من الأعمال الإبداعية لأندرسون من رواية ومسرحية إلا أن اسمه قد ارتبط بحكاياته الخيالية Fairy Fales وقد استمد منها شهرته ومكانته العالمية بل إن أندرسون نفسه لم يكن لديه فكرة ضئيلة أن حكاياته الخيالية هي التي سوف تفتح له العالم بل كان يسمي هذه الخطابات بالتفاهات. ولم يكن أندرسون بأية حال أول من حكي هذه الحكايات الخيالية، ولكنه أصبح أكثرهم شهرة، لماذا؟ إنه يعتبر أن حياته قدمت افضل توضيح، وقد حكي كل قصة حياته بشكل كامل وتفصيلي في The Fairy tale of my life ( Mitlivs Eventry) 1855.وفي الوقت الذي تبدو فيه القصة الخيالية لأغلب الرومانسيين ماضيا متخيلا وتعويضا عن الواقع، فإنها بالنسبة لأندرسون حقيقة مؤلمة موجعة وقاسية، كانت محنة وصراعا وشهرة في آن. وفي الأشياء الصغيرة والكبيرة، بدأت فكرة الحكاية الخيالية تتأكد في حياته الخاصة «منذ خمسة عشر عاما مضت، وصلت مع حزمتي الصغيرة إلي كوبنهاجن، صبيا فقيرا غريبا، واليوم فقد شربت الشيكولاتة مع الملكة، وأجلس في مقابلها والملك علي المائدة».
وفي البداية لم يكن أندرسون واعيا أن كتابة الحكايات الخيالية كانت مجاله كما عبر في خطاب كتبه عام 1843 وقال فيه إنه الآن قد حزم أمره «أنا أكتب حكايات خيالية، والحكايات الأولي التي كتبتها كانت في أغلبها حكايات قديمة سمعتها كطفل والتي حكيتها واعدت تشكيلها بطريقتي وأسلوبي الخاص، أما تلك التي خلقتها بنفسي مثل «جنية البحر الصغيرة» فقد لاقت استحسانا وهو ما منحني دافعا، وهذا ما أقوله الآن من قلبي» وبعبارة أخري كان نجاح الحكايات الخيالية هو ما أقنعه بخصائصها.
وبين أعوام 1835-1872، نشر 150 حكاية خيالية، جمعت في أجزاء صغيرة ثم في أجزاء أكبر، وكانت صفة الحكاية الشعبية أوضح الأجزاء الأولي ومن ثم كان عنوانها Told for the children ولكنها كانت تتجه بشكل اكثر نحو القصة القصيرة، ومن ثم جاء الوصف الأوسع علي صفحة العنوان «Stories » فما هو التنوع الذي تضمنته هذه الحكايات؟ إنه يشعر وهو يشكلها ويبنيها أنه في بيته وعالمه اليومي، وهو يجعل عالم الوهم ينمو من الواقع بشكل أكيد لا يخطئ وعلي هذا فهي تبدو صادقة بشكل لا يصدق، وبشكل دقيق يعبر في الحكاية الواحدة من الواقع علي الخيال، إنه يجعل عالم الخيال حقيقة ولكن عظمته تكشف عن نفسها في العملية العكسية حيث يصبح الحقيقي خياليا، إنه يجد ويكتشف العجيب في عالمه اليومي ويجد الشعر في النثر.
وكان يقول في وصف منهجه، أن امسك بفكرة تصلح للكبار ثم ارويها للصغار، في الوقت الذي أتذكر فيه أن الأب والأم يستمعان وأنه يجب أن يكون لهم شيء يفكرون فيه، مثل هذه الجاذبية للصغار كانت إلهاما لحسن الحظ وسوء الحظ معا: حسنة الحظ لأنها جعلته يعتمد علي رموز مفهومة في كل مكان، وسيئة الحظ لأنها أدت إلي سوء الفهم بأن الحكايات المثالية هي للأطفال فقط، لذلك فقد سارع إلي إزالة العنوان الفرعي: «تروي للأطفال» واحتج بشدة في عمره المتقدم ضد تصميم تمثال له يظهره محاطا بالأطفال، لقد كان ضد خفضه إلي مثال يسلي الأطفال، بينما كان لديه الطموح الأبعد لكي يكتب لكل العائلة، لقد كان علي حق، ولكنه لم ينجح فقد أوقف التمثال، ولكنه لم يفشل في أن يحطم أسطورة انه كاتب الأطفال.
ورغم أن اسم هانز كريستيان أندرسون يرتبط في العالم كله اليوم علي انه فقط مؤلف الحكايات الخيالية إلا أنه خلال حياته لم يكن مهتما بشكل أساسي بكتابة هذا اللون من القصص الخيالية واقل اهتماما بالكتابة للأطفال. كانت القصص الخيالية مجرد مرحلة من كتاباته، ولم تلق لعدة سنوات إلا اهتماما قليلا من النقاد الدانمركيين، وظلت رواياته ومسرحياته وكتب رحلاته ظلت إلي وقت طويل جدا لا تقرأ إلا في الدانمارك فقط، وعلي العكس من ذلك فإن هناك حشدا من طبعات قصصه الخيالية، ونادرا ما يمر عام منذ عام 1900 دون أن تصدر طبعة أو أكثر من قصص أندرسون الخيالية باللغة الإنجليزية.
وليس ثمة شك عند نقاد اليوم أن قصص أندرسون الخيالية تشكل مساهمته العظيمة للأدب، غير أننا من أجل أن نفهم أندرسون، وزمنه، والمسرح الأدبي والدانمركي خلال حياته، وأن يصل إلي تقييم عادل لمساهمته في الأدب الدانمركي، فإنه من الواجب أن ننظر إلي كل أعماله.
وحين يتحدث الدانمركيون مع معارفهم الإنجليز والأمريكيين، فإنهم دائما ما تأخذهم الدهشة حين يكتشفوا أن حكايات أندرسون تعتبر فقط للأطفال ذلك أنه يمكن القول بلا مبالغة إن حكايات أندرسون هي الملكية الروحية المشتركة للدانمركيين صغارا وكبارا، وزيادة علي ذلك، فإن الكبار في الدانمارك لا يقرأون أندرسون من باب العاطفة فلديه ما يقوله للكبار وكما يقول الناقد لويس كارول فان معظم حكايات أندرسون لها معان مزدوجة لا يستطيع تصورها إلا الكبار. ومن يظن أن حكايات أندرسون هي فقط للأطفال عليه أن يقرأ: The Bell , The new century goddess , The most incredible thing ، فهذه الأعمال تتضمن أشياء مجردة ليس لها مكان في عالم الأطفال. كما انه ليس من السهل أن نوضح ما كان يعنيه اندرسون من مثل هذه الحكايات مثل: «ملك الثلج» التي تستخدم الرمزية التي مازال الباحثون يتجادلون حولها وفي هذا ينصح القراء الذين لا دراية لهم بحكايات أندرسون في أصلها الدانمركي أو في ترجمة دقيقة غير معدلة أن يلجأوا ويستخدموا مجموعة مختارة من الحكايات غير تلك المعروفة جدا مثل: Ugly duckling , The Constantine Soldier حتي يمكنهم أن يصدروا حكما أكثر دقة علي أشهر أبناء الدانمارك.
وتختلف الحكايات من حيث طولها، فبعضها في خمسين صفحة، وفي المتوسط في بضع صفحات فقط، وهذا لا يعني أنها بسيطة في مصادرها وإيمانها ومضمونها السيكولوجي. إن حكايات أندرسون سواء المتفائلة أو المتشائمة، الحزينة أو خفيفة الظل الخيالية أو الفلسفية ليست حلولا لأفكار مألوفة وبسيطة أو خبرات فردية. إن بعضها مثل «الفراشات» هي خرافات، وقليل منها حكايات شعبية أعيد روايتها، وأخري مثل «لم تكن تجيد شيئا» كانت رواية لتاريخ حياة. وبعض هذه الحكايات تعبر عن اعتقاد في العناية الإلهية وما بعد الطبيعة، والأخري عن فلسفة تقدمية، وبعضها يحتوي علي عنصر رمزي، باطني وروحي لا يدرك بالفعل، وبعضها عقلانية، وبعض هذه الحكايات مثل God Fatherصs Picture book هي أساس تاريخ كوبنهاجن. وبعضها نقد للعلاقات الدانمركية والنرويجية وبإشارة خاصة إلي القومية النرويجية في اللغة والأدب، وعدد من الحكايات قصد بها التعليم والموعظة ولكن قلة منها مثل «الشيء الذي لا يصدق» هي التي تتحدي التحديد الدقيق لطبيعتها.
وقد قدم أندرسون نفسه تفسيرا لأصول حكاياته وذلك في بعض الملاحظات التي أرفقها بإحدي طبعات الحكايات عام 1862. وفي هذه الملاحظات لم يكن يبدو ذا صفة تعليمية، وإن كانت هذه الملاحظات وغيرها مثل معظم رواياته عن حياته، لا يمكن قبولها بشكل مطلق، غير أن هذه الملاحظات النقدية ذات قيمة لا تقدر وهي دليل قاطع ونهائي علي أنها لم تكن عمل شاعر وساذج. وقد قدم أندرسون نفسه كشاعر واع تحمل الكثير من الآلام لكي يقدم لنا حكاياته بالشكل الذي عرفناه. وقد اعترف أن بعض الحكايات قد استعيرت من القصص الشعبية الدانمركية كما اعترف بالهدف التربوي لبعض حكاياته ولاحظ انه قد عرف العديد من الأشخاص الذين ظهروا في الحكايات وانه ربما كان بعضهم مازالوا معاصرين فإن آخرين قد استراحوا في قبورهم.
وعن الدافع لكتابة لبعض الحكايات، قال أندرسون «إنهم يرقدون في عقلي مثل البذرة التي لا تحتاج إلا إلي نسمة رقيقة، شعاع من الشمس لكي تزدهر، ولكنه لا يستطيع أن يعطي تفسيرا لكيف يكتب البعض الآخر «التي جاءت بغير دافع، «كنت أسير في الشارع حين جاءتني الفكرة» والبعض الآخر كتبته بإيحاء من بعض الأصدقاء مثل شارلز ديكنز وقليل من الحكايات جذورها في واحدة أو اكثر من الحكايات المبكرة.
إن أسلوب أندرسون بوصفه قاسيا وعنصرا مشتقًا من خبراته الشخصية هو الملح الذي يعطي في التحليل الآخر مذاقا مختلفا عن قصص مشابهة لكتاب آخرين. وسيكون التوصل إلي تحديد دقيق لكل موضوعاته عملا صعبا جدا والذي يكون مجزيا باعتبار أن أندرسون وهو يضع حكاياته قد استقاها من العديد من المصادر ومزج عدة أنواع من الرواية البشرية.
وقدم فحص حكايات أندرسون ويومياته الكثير من التفاصيل حول كتابة الحكايات وان كانت هذه التفاصيل بغير قيمة جمالية رغم أنها تساهم بالكثير لفهم أندرسون كفرد ولعلاقاته وصداقاته. وما هو شائع ومشترك في أغلبية حكايات أندرسون هو مزاجه الفردي في رواية قصصه:سذاجته الواضحة في الأسلوب، وعلاقته الخاصة المتميزة بالقارئ أو المستمع واستخدامه للاستعارات والتشبيهات والرموز وتجسيده للشخصيات وعواطفه الاجتماعية وسخريته. ويمكننا أن نستبعد طريقته في تأليف الحكايات بفحص إحداها بشيء من التفصيل، ولهذا الغرض فإننا نختار واحدة من حكاياته وهي «ابن الحمال» 1866 والحكاية في جوهرها قصة صبي فقير يتغلب علي كل العقبات ويعترف به رجل عظيم وفنان. وتبدو رواية هذه الحياة واضحة لكل من يعرف حياة أندرسون الخاصة، ويقول أندرسون نفسه إن هذه الحكاية تحتوي «العديد من الصفات المأخوذة من واقع الحياة» في الوقت الذي ينشا فيه قدرها من التوتر في الوقت الذي تتقدم فيه القصة، وحيث يتأكد القارئ من البداية أن النهاية ستكون سعيدة. وحيث تروي القصة في جمل قصيرة وبسيطة، فإن مستمعي القصة من الأطفال سوف يجذبهم فيها وضوح فكرها وأسلوبها الرائق. أما القارئ الناضج فسوف يجذبه فيها جمالها ورشاقتها وسخريتها الساحرة.
إن هناك الكثير مما يمكن قوله عن حكايات أندرسون الأمر الذي يعكس العديد من الكتب والمقالات النقدية التي كتبت عنها. وسوف يجد القارئ الذي يتغلب علي تحيزه بان أندرسون هو كاتب للأطفال فقط، سوف يجد مصدرا لا ينضب من السرور ذلك انها لا تمتلك كل الخصائص المميزة للأدب الكلاسيكي، وحين يشرع القارئ في قراءة حكاية من حكاياته سوف ينتهي منها وهو يريد أن يقلب الصفحة ويواصل القراءة، وحين ينتهي من قراءة حكاية فهو يريد أن يقرأ الأخري، وحين يقرأها جميعا فإنه يزداد إعجابا وتقديرا لمعرفته أندرسون، وللعودة لقراءة الخطابات مرة بعد أخري. فمع كل قراءة يكتشف فكرة جيدة أو لمحة طريفة وخفيفة الدم أو تعبيرا أنيقا ودقيقا ومحكما غاب عنه من قبل، ورغم أن العديد من الحكايات تجري في الدانمارك فقد كان لها شعبية واضحة في بلاد بعيدة مثل اليابان والهند حيث لا يحتاج القارئ فيها إلي معرفة تاريخية أو جغرافية خاصة لكي يقدرها
وفي أخريات أيامه كتب يقول «إن حكايتي الخيالية لم تعد تحدث لي وكأني قد أكملت الدائرة كلها بحكاياتي والتي كان كل منها لصيقًا بالأخري. فقد كنت حين أسير في حديقة للورود فقد كان لورودها ما تحكيه لي، وفي الغابة وتحت شجرة السنديان القديمة كانت تقص علي حلمها الأخير من زمن طويل، ولكني الآن لا أتلقي شيئا جديدا أو أي نبض جديد وهذا شيء محزن».
وفي أبريل عام 1875 احتفل بعيد ميلاد أندرسون السبعين ولم يكن احتفالا وطنيا فقط بل عالميا. ففي اليوم السابق لعيد ميلاده توجهت المركبة الملكية لكي تحضره إلي القلعة حيث أضفي عليه الملك نيشانا آخر وتحدث عن السعادة التي أعطاها لكل بلاد العالم. ولكن اكثر ما أسعد أندرسون في هذه المناسبة هي افتتاحية جريدة ديلي نيوز اللندنية والتي تحدثت عنه فيها باعتباره «الشاعر الذي ربما مثل دائرة أوسع من المعجبين من أي رجل أدب مثل أندرسون عزيز علي أطفال كل بلد أوروبي وقد أقام شهرته في قلوب الأجيال المقبلة».
المصـــادر
(1) The Complete Illustrated Stories of Han Christian Anderson, Translated by H.W. Dulken, Chancellor Press, 1987 (2) Ellas Bredsdorff, "An Introduction of Scandinavian Literature" 1951 (3) John Budd, Eight Scandinavian Novelists: Criticism and Reviews in English/complied by John Budd.Greenwood Press, 1981 (4) Evert Sprinchorn, The Genius of the Scandinavian, Amentor book, 1964