ثمة عمل فنى قديم بات يمثل الآن إدراكًا معرفيا عالميا متجددًا، يشى بما لمصر من علاقات راسخة فى عمق التاريخ وسجل الحضارات بالشعوب الأفريقية، وأعنى أوبرا "عايدة" التى وضع ألحانها الموسيقار الإيطالى الشهير "فردي" فى القرن التاسع عشر احتفالاً بافتتاح قناة السويس، واحتفاء من الخديو إسماعيل كذلك بحضور "أوجيني" ملكة فرنسا لهذه المناسبة العظيمة.
لم تكن علاقة مصر بأفريقيا فى العصر الفرعونى مقصورة فحسب كما جسدتها أحداث أوبرا "عايدة" على صراع الإرادات عبر تأمين مصالحها فى تخومها الجنوبية فحسب، وإنما كانت التجارة وتبادل المنافع والتلاقح الاجتماعى والاحتكاك الثقافى أهم إفرازاتها وثمارها.
وتروى البرديات وكتابات وصور المعابد والمقابر الفرعونية الكثير من الحقائق التاريخية الموثقة حول العلاقات المصرية الأفريقية، ودور النيل كشريان للحياة وهمزة وصل جغرافى وديمجرافى بين مصر والشعوب والممالك والسلطنات التى كانت حاضرة آنذاك على حوض النهر، وكيف كان ملوك مصر الفراعنة يتبادلون الحكم مع أقرانهم السودانيين على ربوع وادى النيل شماله وجنوبه وفقًا لمعايير القوة والمصالح والعلاقات الروحية بالآلهة المعبودة آنذاك وبينهم الملك "باعنخي" السودانى الهوية والجذور وكذلك الملك "طرهاقة" الذى حكم وادى النيل موحدًا من جنوبه إلى شماله وهو أيضًا من أسرة "باعنخي"، لكأن تاريخ شعوب وادى النيل فى تقدير المؤرخين الثقاة منذ الأزل واحدًا متشابكًا وممتدًا لم ينقطع ولم يتجزأ!
حضارة كوش ومروى
والشاهد أن اللغة المصرية القديمة تميزت بكونها أكثر اللغات الحامية تأثرًا بالسامية أو العربية القديمة، وذلك بحكم موقع مصر الجغرافى، واتصالها بالشعوب العربية القديمة مثل الكنعانيين والسريان، وكانت الشعوب التى يسميها الغربيون بالسامية مرادفًا للشعوب العربية القديمة، وهى التى زحفت إلى مصر فى العصر الفرعونى من الجزيرة العربية إلى سيناء وفرع النيل البيلوزى، ولعل قصة سيدنا يوسف عليه السلام التى رواها القرآن الكريم، وكذا قصة سيدنا موسى عليه السلام شاهد على ذلك.
وإذا كانت اللغة المصرية القديمة مزيجًا ونتاجًا للهجرات البشرية القادمة من الجزيرة العربية، فقد كانت أيضًا وسيلة مصر الفرعونية للتخاطب مع الشعوب الأفريقية منذ زحف المصريون على مهل صوب الجنوب عهد الأسرة الأولى 3000 ق.م، حيث مدوا عمرانهم ولغتهم وثقافتهم على جانبى نهر النيل جنوبى الشلال الأول ثم الشلال الثانى وأنشأوا حصونًا وقلاعًا وقرى ومدنًا فيما بين الشلال الثانى والثالث إبان حكم الدولة الوسطى، واتصلوا بالشعوب الأفريقية القديمة فى منطقة دنقلا وتزاوجوا معهم، وبعدها تكونت حضارة مصرية سودانية فى بلاد النوبة تسمى "حضارة كوش" لها نفس السمات المصرية فى بناء المعابد والأهرامات الفرعونية ولكنها سودانية أيضًا، وعندما تعرضت مصر لغزو الآشوريين هبت لنجدتها الجماعات السودانية، وكونوا معًا الأسرة الحاكمة لوادى النيل وهى الأسرة الخامسة والعشرين التى استمرت من (663 إلى 712ق.م)، وكانت كوش ومروى عهدئذ منارتين للحضارة والثقافة التى امتد إشعاعها إلى أوغندا جنوبًا والحبشة شرقًا وحتى عرب أفريقيا غربًا، وهكذا فى كل العصور والعهود كان السودان مرحبًا ومستوعبًا للمؤثرات الحضارية الوافدة من مصر عبر النيل، كما كان مُصدرًا لهذه المؤثرات ـ بعد سودنتها ـ إلى القارة الأفريقية، وهكذا أيضًا دخلت المؤثرات الإغريقية الرومانية إلى أفريقيا عبر البوابة المصرية السودانية، وهو نفس المسار الذى دخلت المسيحية والإسلام عن طريقه إلى أفريقيا.
فإذا تجاوزنا العام إلى الخاص والعموميات إلى التفصيل والأقدم فالقديم فالحديث، نجد أن العلاقات الثقافية التى كانت تربط مصر بدول حوض النيل خلال العصر الفرعونى قد تجاوزت حوض النيل إلى ما وراءه من التخوم، وأنها امتدت عبر البحر الأحمر إلى "بلاد بونت" أو ما يعرف الآن ببلاد الصومال والقرن الأفريقى برمته من خلال التبادل التجارى، وأن التوابل والبخور والكولا والزيوت العطرية واللبان الذى كان من العناصر الرئيسية التى تعتمد عليها عملية التحنيط، فى مقدمة أهم واردات مصر من أفريقيا، بينما كان المردود الثقافى لهذه العلاقات موصولاً بوسائل الاتصال ولغة التخاطب بين أرباب التجارة بشكل خاص.
ويذكر التاريخ أن الملكة "حتشبسوت" لم تكن أول امرأة تحكم مصر فى العصر الفرعونى، فقد سبقتها الملكة "ميريت تيت" من الأسرة الأولى، والملكة "حتب حيرس" من الأسرة الرابعة قبيل حكم الملك "خوفو"، ثم الملكة "خنت" من الأسرة الرابعة، لكن "حتشبسوت" كانت الملكة الفرعونية التى خرجت من مصر فى رحلة طويلة إلى "بلاد بونت"، ولم يكن ليتأتى لها الغياب شهورًا عن ملكها إلا لأنها محبوبة من شعبها ولأنها قوية كذلك عبر نظام متقدم للحكم ازدهرت فيه الفنون والثقافات والعلوم ووسائل الإنتاج، ومن ثم راق لها أن تلقى نظرة معايشة ومتأنية على واحدة من دول التخوم آنذاك فى إطار رحلات الفراعنة البحرية التى كانت تجوب الآفاق ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً!
الكنيسة الأرثوذكسية
ومع دخول المسيحية إلى مصر، وبناء الكنائس والأديرة فى الصحراء بعيدًا عن بطش حكام الإمبراطورية الرومانية، ونشأة أول حركة للرهبنة فى التاريخ بوادى النطرون، ثم رحلة السيدة العذراء والعائلة المقدسة إلى مصر منذ ألفى عام تقريبًا، نجد أن تعزيز مكانة مصر القبطية المسيحية قد انعكس بشكل مباشر عبر انخراط بعض الشعوب الأفريقية تباعًا فى هذه الديانة، وفى مقدمتهم النوبيون والأحباش الذين ظلوا حتى وقت قريب تابعين للكنيسة الأرثوذكسية المصرية، حتى تقرر انفصالهم عنها إبان حكم الإمبراطور "هيلاسلاسي" لأسباب سياسية بحتة، ومن هنا يمكن استقراء مدى التأثير الإيجابى للثقافة المسيحية المصرية على روابط مصر السياسية والاجتماعية والثقافية مع دول حوض النيل، بينما نشطت بعثات التبشير المسيحى الكاثوليكية والإنجيلية والبروتستانتية بعدئذ فى مناطق أفريقية أخرى فى ركاب الاستعمار الأوروبى للقارة السوداء.
وهكذا نجد أن المسيحية القبطية قد دخلت إلى شمال السودان عبر التجار المصريين "الجلابة" الذين اختاروا حى "المسالمة" فى أم درمان مكانًا لهم فيما بعد وحتى اليوم، بينما استأثرت المسيحية الأوروبية بتنوعها المذهبى بجنوب السودان، بعد أن تحول على يد الاستعمار البريطانى إلى "مناطق مقفولة" ومعزولة ممنوع دخولها على أبناء شمال السودان وعلى المصريين كذلك رغم الحكم الثنائى الذى انفرد الإنجليز بمصائره دون المصريين، كما انفردت جمعيات التبشير الأوروبية بأبناء الجنوب الوثنيين دون أن تفسح إلى جوارها دورًا للقساوسة والرهبان الأرثوذكس من المصريين والسودانيين، الأمر الذى كان وراء الازدواجية الثقافية الحالية فى شمال السودان ومنطقة جبال النوبة فى الغرب الموروثة عن المسيحية القبطية الأرثوذكسية بينما استأثرت الثقافة الأنجلوسكسونية بتنوعها المسيحى الأوروبى الوافد مع الاستعمار البريطانى بالجنوب مع احتفاظ بعض أبنائه حتى الآن بديانتهم الوثنية والطوطمية الأفريقية التى ظلت على فطرتها.
كذلك تفاعلت الحضارة المصرية وثقافتها مع حضارات وثقافات الشرق وأفريقيا وفى مقدمتها الحبشة ومن ثم تلاقحت الحضارتان الأفريقية والعربية على الصعيد الثقافى بشكل خاص منذ أقدم العصور، وتشاء تصاريف القدر أن تستيقظ القارة الأفريقية بعد كفاح طويل، فى الوقت الذى استيقظت فيه الأمة العربية أو قبلها بقليل، لتجد نفسها كما وجد العرب أنفسهم أمام تحول فكرى كبير وتقدم علمى هائل يهب عليهما من أوروبا، ويلاحظ أنهما وقفا معًا فى تحدٍّ للغزو الثقافى بينما سعيا إلى استيعاب الجانب العلمى فحسب، ومرد ذلك أن العرب والأفارقة يرتبطان بتاريخ مشترك وفلسفة إنسانية واحدة، وكلاهما ينتميان إلى الإيمان بالقيم الروحية، وبفطرة الإنسان وقدراته وإمكاناته لتحقيق التطور الطبيعى، ولذلك كانا وهما يستشعران ضرورات الأخذ بالعلم الحديث ثم بالتكنولوجيا الغربية يصران فى نفس الوقت على الاحتفاظ بالمبادئ والقيم الثقافية والروحية الموروثة، لأن خصوصيات الإنسان العربى هى ميزات الإنسان الأفريقى، ومن ثم كان الطريق ممهدًا بينهما للتلاقح الحضارى منذ دخول الإسلام إلى أفريقيا، وربما كانت تلك الخصائص الأصيلة المشتركة بمثابة الحصن الواقى للعرب والأفارقة من الانهيار وسدًا منيعًا أمام الاختراق الثقافى الخارجى مع زحف الاستعمار الأوروبى إلى المنطقة العربية وأفريقيا.
لقد ربط الإسلام منذ الفتوحات الإسلامية الأولى على يد عقبة بن نافع فى القرن الأول الهجرى بين أجزاء القارة الأفريقية برباط العقيدة الدينية وبروح قوية تضم خصائص مشتركة ومميزة بين مجموعات بشرية متماسكة، فما أن دخل ملك غانا الإسلام حتى انبرت قبيلة "الفلاني" إلى نشر الإسلام فى غرب أفريقيا، وأنشأت عدة مراكز إسلامية فى القرن الثانى الهجرى بينها مركز "فوتا تون" غرب مالى وآخر فى "فوتاجالون" بغينيا، فيما نهض عبد القادر الفلانى بتأسيس أول دولة إسلامية فى قلب أفريقيا، كذلك المركز الإسلامى الذى أنشأه عمر الفوتى والذى امتدت إشعاعاته الروحية والثقافية من السنغال إلى النيجر ونيجيريا، وبعدها كان تأسيس المراكز الإسلامية فى سكتو والكاميرون وإنجامينا عاصمة تشاد.
والثابت أن قبائل الفلانى تأثرت إلى حد كبير بالثقافة العربية الإسلامية فيما أسهمت الطرق الصوفية بالتوازى كالقادرية والتيجانية فى تعميق الالتزام بالعقيدة ونشر الدعوة الإسلامية، ومازالت كتابات محمد بيلو تفيض بالدعوة الإسلامية الملتزمة، وقد وضع عشرات الكتب التى تضم حواراته المفتوحة مع مريديه، مما مكن للثقافة الإسلامية عبر هذه المؤلفات الإسلامية السهلة التداول والاستيعاب من الحيوية والاستمرارية والانتشار!
لم يكن العامل اللغوى حائلاً دون التواصل بين أفريقيا والعروبة، وخاصة أن ثقافة الإسلام لا تعتمد على اللغة إلا لكونها أداة للتواصل، بينما اعتمادها الأساسى على العقيدة المتمكنة من عقلية المسلم كيفما كانت لغته ولهجته، الأمر الذى مكن أو سهل للأفارقة المسلمين تدوين تعاليم الإسلام بلغاتهم، بينما سجلوا بالحرف العربى إنتاجهم الفكرى واعتبر وافيا بأداء الكلمة ونقلها بأمانة، وهو تأكيد آخر على القيم الروحية والتأثير الثقافى الإسلامى فى أفريقيا، وذلك لأن الإسلام يعتمد العقيدة فقط ولا يعتمد العرقية ولا اللونية ولا اللغة، فدعوته تكمن فى السلام وتآزر البشرية مصداقًا لقوله تعالي: "فكلكم لآدم وآدم من تراب"، وقوله تعالي: "يا أيها الذين آمنوا إنا خلقناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
فما كادت دعوة الإسلام تصل إلى أفريقيا، حتى وجدت فيه ما يؤكد شخصيتها، وأن الإسلام ليس استغلالاً للشعوب ولا استيطانًا للأرض، وإنما رسالة توحيد وسلام تحافظ على القوميات فى إطار وحدة التوحيد، أو هو وحدة عقائدية داخل التعدد القومى، وتلك هى عبقرية الإسلام وخلوده على حد تقدير الأستاذ عبد الهادى بوطالب المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة.
ومما لا شك فيه أن البلاد الأفريقية ساهمت كذلك بقسط وافر فى دراسة الإسلام وإشاعة الثقافة الإسلامية ذاتيا، فكان من بين أبنائها العلماء والفقهاء والكتاب الذى أثروا الفكر الإسلامى مثل أحمد بابا السودانى الذى يعتبر من أعلام المذهب المالكى، وكذلك ابن فرحون الذى أتم أعمال سلفه التى لاتزال تحظى باهتمام الفقهاء والمحققين، والقاضى السعدى والقاضى محمود كنت وغيرهم.
أيضًا ساهمت أفريقيا فى نشر الإشعاع الإسلامى مبكرًا عبر العديد من المراكز الأفريقية التى تعنى بالثقافة الإسلامية فى مدينة "تمبكتو" التى نشأت فى عهد المرابطين وامتد إشعاعها إلى السنغال والنيجر ونيجيريا وتشاد وزنجبار والصومال وغيرها فى بقاع القارة الأفريقية، كما لا يفوتنا التنويه إلى الدور الحيوى الذى لعبته طرق التجارة القديمة التى سلكها التجار العرب والدعاة الذين حملوا على عاتقهم نشر الإسلام بين قبائل وجماعات وقوميات أفريقية وبينهم التكرور والفلاتة والولوف والسوتكة والديولة والهوسا والصنغاى والماندقو والكانورى والكانيون.. إلخ.
ويلاحظ أنه بعد فترة قصيرة من فتح عمرو بن العاص مصر ظلت اللغة القبطية حية ومتداولة ثم اقتصرت على طقوس العبادة فى الكنائس، وحتى أصبح المصريون تدريجيا عربًا فى اللسان والفكر والروح والتقاليد، وقد انعكس هذا التحول على تعزيز لغة التخاطب بالعربية مع أفريقيا.
لكن سرعان ما تهاوت النصرانية وثقافتها فى بلاد النوبة وغيرها من مناطق السودان وأفريقيا حين افتقدت دعمها من مصر، وتحولها إلى الإسلام تدريجيا مع هجرات القبائل العربية نحو سهول السودان الشرقية والغربية وأرض الجزيرة وبين النيلين ودنقلة وكردفان، وقد لعبت القبائل السودانية العربية الأصل والمنبت مثل جهينة والجعلية والقحطانية دورًا ملموسًا فى نشر تعاليم الإسلام بالدول الأفريقية المتاخمة للسودان حيث تكونت قاعدة عريضة للثقافة العربية الإسلامية.
|
الأزهر.. الطرق الصوفية
إذا كانت مصرفى تقديرالمؤرخين مهد الحضارات الإنسانية، بحكم موقعها الجغرافى العبقرى، وسبقها الريادى إلى حرفة الزراعة التى تعتمد على الرى والملازمة بالضرورة للاستقرار والنظام ونشأة المجتمعات وسيادة القانون وقيام السلطة المركزية، الأمر الذى يتولد عنه تلقائيا توحيد لغة التخاطب المشتركة وتلاقح الثقافات والعادات والتقاليد والانسجام المزاجى والوجدانى، فقد تضافرت كل هذه العوامل وتفاعلت فى تأهيل مصر للقيام بدور همزة الوصل الثقافى بين أفريقيا وآسيا وأوروبا عبر النيل والصحراء والبحر الأبيض المتوسط، وأن تظل أرض مصر مفتوحة الذراعين لاستيعاب الهجرات البشرية والأفكار والفلسفات والعقائد الدينية، عبر تعاقب العصور الفرعونية والإغريقية والرومانية والقبطية والمسيحية والإسلامية!
يقول المؤرخ السودانى عبد العزيز أمين عبد المجيد فى كتابه "التربية فى السودان فى القرن التاسع عشر" إن محمد على كان متحمسًا لنشر العلوم الحديثة والثقافة العربية فى السودان، ولكنه تحاشى أن يملى إرادته على السودانيين وحملهم على ذلك فورًا، ويقول محمد محمد على فى كتابه "الشعر السودانى فى المعارك السياسية" أن محمد على وأسرته الحاكمة من بعده كان همهم تقدم السودان وإسعاد أهله، وقد لجأ محمد على فى البداية إلى تشجيع السودانيين على طلب العلم فى مصر، وقد تولى رفاعة الطهطاوى عبر رحلته النيلية المشهودة اختيار النجباء من أبناء مصر والسودان فى العديد من المدن والقرى التى زارها خصيصًا لهذا الغرض، كما أشرف بنفسه على شئونهم التربوية والروحية ورعايتهم دراسيا وثقافيا. وبعضهم رُشح لبعثات دراسية فى الخارج، كما اختار بعناية هيئة التدريس لأول مدرسة مصرية فى السودان تحت رئاسته، حيث توفى أربعة من المصريين تباعًا بسبب الأجواء والظروف المعيشية القاسية وإصابتهم بالأمراض، وعبر هذه المدرسة تخرَّج كبار الموظفين السودانيين والضباط والموظفون ورجال الدين والكتبة والمدرسون.
على أن الدور الثقافى للأزهر الشريف امتد إلى السودان قبل محمد على، وكان أول خريجيه من السودانيين الشيخ محمود أحمد العركى، الذى نهض بإنشاء 15 مدرسة لنشر التعليم والثقافة العربية والإسلامية فى منطقة الكوة جنوب الخرطوم، وأولاد الشيخ جابر الذين قاموا بتدريس المذهب المالكى كما مارسوا القضاء الشرعى فى السودان، بينما حمل عبء تدريس العلوم الدينية والثقافية العربية فى السودان من بعد عدد كبير من العلماء المصريين بينهم المشايخ محمد المصرى القناوى ومحمد بن على بن قرم الكيمانى وإبراهيم بن عبودى، فى الوقت الذى كان الحكم العثمانى يعانى من حالة الانحطاط الثقافى، وقد شهد السودان إبان ولاية محمد على توسعًا فى بناء وإعمار المساجد والزوايا وخلاوى حفظ القرآن والمدارس الدينية، وبعدها نشأت المدارس المدنية التى كانت تعنى بتدريس اللغة العربية إلى جانب الفرنسية والتركية والرياضيات والجغرافيا والتاريخ وفقًا لنظام التعليم المتبع فى مصر، وقد ظل التعليم المصرى المدنى قائمًا فى السودان حتى قيام الثورة المهدية (1885 ـ 1898م) بينما ظل السودانيون يواصلون دراستهم الدينية فى الأزهر وكان من أبرز خريجيه فى ذلك الوقت المشايخ محمد نور البنا ولد نعمة والفكى أحمد عوض الله والأمين الضرير وحسين إبراهيم الزهراء والقاضى أحمد جبارة. وهم الذين نهضوا بعملية التنوير الثقافى ونشر علوم الفقه والشريعة الحديثة وعلوم اللغة العربية فى السودان!
وعلى غرار الأروقة الملحقة بالأزهر التى كانت تؤوى الطلبة الدارسين من كل بقاع العالم الإسلامى رعاية ومأوى ودراسة، أنشأ محمد على أول رواق لأبناء السودان سمى "رواق السنارية" للطلبة الوافدين من سنار ثم "رواق دارفور" وبعدها تعددت الأروقة التى كانت تضم المئات من الطلبة المبتعثين من مختلف ربوع السودان، وبينهم من نهض بإنشاء المراكز الدينية والثقافية فى السودان آنذاك وفى مقدمتها مركز "الدامر"، ومن السودان امتد الدور الثقافى لخريجى الأزهر والمراكز الإسلامية فى السودان إلى دول الجوار.
وقد عزَّز وجود الجيش المصرى فى السودان نشر الثقافة العربية الإسلامية المصرية، وكان من بين ضباطه وجنوده أدباء وشعراء وفنانون وكانت لهم ندوات للحوارات الثقافية مع أقرانهم من السودانيين، وهم الذين أدخلوا الآلات الموسيقية إلى السودان مثل العود إلى جانب الآلات الموسيقية النحاسية وموسيقى القِرَب التى أصبحت لها فرق موسيقية ملحقة بالتشكيلات العسكرية السودانية فيما بعد.
كان انضمام أبناء السودان إلى الجيش المصرى فرصة للسفر إلى مصر والإقامة بها، حيث تعلموا فنون القتال والعلوم الحديثة، والذين عادوا منهم إلى السودان لعبوا أدوارًا طليعية مهمة فى نشر العلم والثقافة المصرية بين ذويهم، خاصة فى المناطق المتخلفة والمنعزلة مثل الجنوب وجبال النوبة، ومن المعروف أن الضباط أبناء الجنوب الذين تشربوا الثقافة العربية الإسلامية عبر المدارس والمدرسين المصريين ومعظمهم ينتمون لقبيلة الدينكا من أمثال على عبداللطيف وعبدالعزيز عبدالحى تزعموا فيما بعد ثورة اللواء الأبيض التى تجاوبت مع ثورة 1919 المصرية ومقاومة الإنجليز بسحب الجيش المصرى من السودان فى أعقاب واقعة مقتل السردار "سير لى ستاك".
كذلك شجع محمد على الطرق الصوفية على دخول السودان، وظلت العلاقة بين الطرق الصوفية فى مصر والسودان منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، مثالاً ونموذجًا رائعين للتآخى الإسلامى بين الشعبين، وحربًا على التعصب وعونًا على حل الخلافات القبلية فى السودان، علمًا بأن دعاة الطرق الصوفية ومشايخها كان لهم سبق الريادة فى نشر الإسلام بالسودان ومقاومة نشاطات المبشرين وأسلمة الآلاف من الوثنيين، يقول الباحث المؤرخ البريطانى "ج. سبنسر تريمنجهام" فى كتابه القيم "الإسلام فى السودان" وترجمه للعربية الأستاذ فؤاد محمد عكود أن الطريقة "التيجانية" دخلت إلى مصر من بربر لأول مرة قبل المهدية عبر محمد بن المختار المعروف بود العليا المتوفى عام 1882، وبعدها انتشر فى دارفور وكردفان عبر عمر جانيو الذى ينتمى إلى الهوسا وآخرين.
ومن المعروف أن السودان فى مقدمة الدول والشعوب التى دخلها الإسلام لا عبر الفتح وإنما عبر الحوار والإقناع والقدوة الحسنة، ولعله يفسر إصرار الشعب السودانى على الخيار الديمقراطى وثوراته فى مواجهة النظم الديكتاتورية.
على أن عناية محمد على ببسط نفوذ السلطة المركزية على ربوع السودان، استدعى بالتالى عنايته بشق الطرق وبناء المستشفيات والثكنات العسكرية والموانئ الحديثة ومبانى الحكومة والمدينة الصناعية فى "فازوغلي"، وقد نهضت هذه المشاريع بسواعد المصريين والسودانيين، وعبر تلك المشاريع وهذا الاحتكاك انتشر الكتاب والثقافة المصرية وصحيفة الوقائع المصرية "الجازتية" فى السودان، الأمر الذى يؤكد على أن حملة محمد على إلى السودان لم تكن غزوًا عسكريا وإنما حملة حضارية بالأساس، وكل إنجازاتها كانت على نفقة الخزانة المصرية، ويحسب لمحمد على أنه كان أول من اكتشف منابع النيل فى أدغال التخوم الاستوائية قبل المكتشفين الأجانب الذين استكملوا المهمة من بعد (1869 ـ 1872م) عبر بعثتين بقيادة صمويل بيكر وجوردون وبعثة ثالثة بقيادة البكباشى المصرى سليم قبطان الذى اكتشف منابع النيل الأبيض الاستوائية (1839 ـ 1842م) وشتان بين أهداف محمد على التى تصب فى مصلحة شعبى وادى النيل والأمن القومى المشترك، وبين الأهداف الأجنبية المشبوهة التى استثمرت تلك الاكتشاف فى بسط النفوذ الاستعمارى على القارة الأفريقية.
لقد انتشر الإسلام والثقافة العربية بشكل واسع فى حوض النيل والقرن الأفريقى فى عهد الخديو إسماعيل، ولأن الناس على دين ملوكهم ـ كما يقولون ـ نجد أن إسلام "أمتيسا" ملك أوغندا كان فاتحة لدخول الشعوب الخاضعة لحكمه فى الإسلام وتوقيع معاهدة وضع بمقتضاها مملكته تحت الحماية المصرية، وبناء على طلبه عسكرت قوة مصرية بقيادة الضابط السودانى "نور بك محمد" فى "روباجا" عاصمة ملكه التى كانت تقع على ساحل بحيرة فيكتوريا، فى الوقت الذى أرسل ابنته إلى مصر وأقامت ثمانى سنوات وكادت تتزوج ضابطًا مصريا ولكن تغير الأحوال حال دون ذلك.
ولعله من سخريات القدر أن ما فشل فيه الاستعمار البريطانى لفصم الروابط الثقافية بين شعبى وادى النيل كان محور عناية الجبهة الإسلامية التى تحكم السودان الآن عبر إلغاء التعليم المصرى فى السودان فجأة من طرف واحد ومصادرة نادى ناصر الثقافى والاستيلاء على مقرات المدارس المصرية وفرع جامعة القاهرة بالخرطوم، ثم احتفاء الجبهة بهذا الحدث كما لو أنه إنجاز وطنى وسياسى للتحرر من الاستعمار الثقافى المصرى فى السودان، وإزالة أهم العقبات التى تعترض أيديولوجية الجبهة ومشروعها الرامى إلى أسلمة دول الجوار وزعزعة أمنها عبر إيواء وتصدير الإرهاب إبان كان الدكتور حسن الترابى مفكر النظام وعرّابه!
|
الأمير عمر طوسون
وتظل هناك علامات مضيئة وباقية حول ماضى العلاقات الثقافية بين مصر والسودان وعلامات استفهام حول حاضرها ومستقبلها الغائم، وبينها فترة السنوات الخمس التى قضاها رائد الفكر والتنوير رفاعة رافع الطهطاوى منفيا بالسودان بقرار تعسفى من الخديوى عباس، ورغم أنه خفض من وظيفته إلى مجرد ناظر مدرسة ابتدائية، ورغم أن أقرانه من أعضاء البعثة التعليمية المصرية مات معظمهم من قسوة المعيشة، إلا أنه ظل صامدًا يواصل دوره فى نشر التعليم والثقافة والترجمة، ورعايته للنجباء من أبناء السودان، كذلك دور الإمام محمد عبده فى اختيار المدرسين المصريين الذين قاموا بنشر الوعى التحررى والثقافة العربية الإسلامية فى السودان على هدى مبادئ جمال الدين الأفغانى خاصة بين طلبة كلية جوردون والدور الذى قام به جعفر مظهر حكمدار السودان فى عهد الخديوى إسماعيل الذى جمع حوله علماء وأدباء السودان فى أول ندوة حوارية منتظمة بالخرطوم مع أقرانهم من المصريين، بينما ظلت الصحف المصرية اليومية والأسبوعية والمجلات الشهرية التى ظلت تعنى بأوضاع السودان بوعى ومعايشة ميدانية عبر مراسليها فى الخرطوم وبقية مدن السودان، كما كانت تهتم بألوان الأدب والفكر السودانى وتنقل بعض ما تنشره الصحف والمجلات السودانية ومنها "روضة الشعر" و"الرائد" التى كانت وأمثالها تنهض بنشر الأدب والشعر والفكر السودانى، لذلك كان الاستعمار البريطانى يجرِّم ويعاقب على تهريب الصحف المصرية وتداولها فى السودان.
فيما صدرت العديد من الصحف السودانية التى كانت تعنى بقضية العلاقات السودانية المصرية وتسعى إلى ترسيخها أو الدفاع عنها، وفى مقدمتها جريدة "الحضارة" ومجلة "الفجر" وجريدة "النيل"، وكان السياسى والأديب المصرى المرموق محمد حسين هيكل قد زار السودان وكتب سلسلة مقالات تحت عنوان "عشرة أيام فى السودان" فى جريدة "السياسة" المصرية فانبرى له بالنقد الشيخ عبدالرحمن أحمد فى مقالين بصحيفة "الحضارة" السودانية، وبعدها صار من كتَّابها.
ومن الصحف السودانية التى تأثرت فى نهجها وأسلوبها بالصحافة المصرية صحيفة "النيل" التى وقع اختيار رئاسة تحريرها على الكاتب والثرى المصرى حسن صبحى، كما اختير لمراسلتها من مصر فكرى باشا أباظة.
والطريف أن حسن صبحى الذى كان يعشق الأناقة، فرض على طاقم المحررين تفصيل بدل "إسموكنج" لحضور الاحتفالات العامة، وحين تأكد من أن الكوادر السودانية باتت قادرة على تسيير الصحيفة قفل راجعًا إلى مصر، وترك رئاسة التحرير للأستاذ أحمد يوسف هاشم.
فى المقابل كانت "رسالة السودان" بابًا ومادة مستدامة فى مختلف الصحف والمجلات المصرية، وعبرها كان الاهتمام الواعى والدءوب بقضايا السودان ومتابعة شئونه وشجونه، ويرصد الدكتور إبراهيم عبده أخطر المواقف فى تاريخ الصحافة المصرية التى ارتبطت بالسودان ومنها على سبيل المثال لا الحصر واقعة منع دخول جريدة "العروة الوثقي" إلى القطر المصرى بسبب متابعتها لأحداث السودان عبر دعوة جمال الدين الأفغانى والإمام محمد عبده للمصريين بتأييد الثورة المهدية والقيام بثورة مماثلة لها فى مصر، وقضية جريدتى "الفلاح والبسفور إجيبشيان"، وتناولت منشور الإمام المهدى الذى حرَّض فيه المصريين على الثورة بعد هزيمة الأنصار لجيش الإنجليز بقيادة جوردون، وهاجم فيها زيارة المندوب البريطانى "اللنبي" للسودان وقال فيها:
ويح قلبى ماذا يروم اللنبى يوم وافى يجر سيفًا صقيلاً
أتراه يريد يفصم حبلاً بين مصر وبيننا موصولاً
جل من ملك الدخيل فجر الذيل واستمطر العذاب وبيلاً
ويقول الدكتور حسنين عبدالقادر أول أستاذ لتدريس مادة الصحافة بالسودان، إن الصحف شكلت أهم جوانب الاتصال والاستمرارية فى العلاقات المصرية السودانية، خاصة فترات الجمود السياسى بين البلدين على الصعيد الرسمى، بينما يقول المناضل الوحدوى المرحوم الدرديرى أحمد إسماعيل الأمين المساعد الأسبق بالجامعة العربية: "إن الصحافة كانت النافذة السياسية التى أطل منها جيلهم فى الثلث الأول من القرن العشرين على معنى ارتباط القطرين ارتباطًا واعيا لمصلحة تطورهما معًا، وأنها ـ كما قال ـ لاتزال أهم دعامات تحقيق هذا الهدف الذى استخدم نفس الأسلوب المنطقى الذى يناسب الجيل الجديد وفكره القائم على الموضوعية.
والحقيقة أن مدارس الأقباط والكلية القبطية المصرية لعبت دورًا شعبيا فى نشر التعليم والثقافة المصرية مما شجع زعامات السودان الروحية والإسلامية ومن بينهم السيد عبدالرحمن المهدى والسيد على الميرغنى والشريف الهندى على دعمها ماليا ورعايتها أدبيا.
كذلك فى ذروة الوجود المصرى فى السودان كان عدد ضباط وجنود الجيش 22635 بينهم 7379 مصريا والباقى من السودانيين، ومعظمهم من قبائل الدينكا والشيلوك الجنوبية وقبائل الفور والشكرية والكواهلة والجعليين والبقارة من شمال وغرب السودان، وقد ورث جيش السودان الحديث روابطه ونهجه القومى عقيدته وثقافته العسكرية عبر مرحلة التحامه بالجيش المصرى، وربما من هنا أدرك الإنجليز خطورة هذه العلاقة على وجودهم.. ومن ثم كان قرار الحاكم العام البريطانى فى السودان يوم 14 يناير 1923 بإنشاء قوة الدفاع السودانية وبدأ تنفيذ الفكرة إثر انسحاب الجيش المصرى من السودان.
ومع بداية هيمنة بريطانيا على السودان ظل الشغل الشاغل لأجهزته الأمنية تعقب السياسيين والمثقفين والأدباء السودانيين الوطنيين ومنع اتصالهم بأقرانهم المصريين، وكشفت وثائق الخارجية البريطانية عن سلسلة التعليمات المشددة التى وجهها رئيس الحكومة البريطانية "ونستون تشرشل" إلى الحكام والمفتشين الإنجليز للعمل على موات منطقة النوبة فى السودان ومصر وحرمانها من الخدمات والتنمية، كونها همزة الوصل الجغرافى والديموجرافى بين البلدين، وإدراكًا منه لارتباط ارتفاع مستوى المعيشة والحياة الاجتماعية بالثقافة، خاصة أن الثقافة المصرية كانت الأكثر انسجامًا مع النوبيين والأقرب للنوبة وأهل السودان عمومًا عهدئذ!
وكذلك كان للأمير عمر طوسون اهتمامات ثقافية واسعة بالسودان، عبر تعليم المئات من أبنائه على نفقته الخاصة فى مصر والخارج، وتزويد المدارس فى السودان بالكتب، وإصدار العديد من الكتب المهمة التى تعنى بشئون السودان ودول حوض النيل والقرن الأفريقى.
فإذا استقرأنا واقع العلاقات الثقافية المصرية مع دول حوض النيل والقرن الأفريقى منذ الاستعمار البريطانى لوادى النيل ثم استقلال السودان عام 1956.. نلاحظ ندرة زيارة المثقفين والفنانين المصريين للسودان من أمثال طه حسين وتوفيق الحكيم ومحمد عبدالوهاب، وغياب الاهتمام الصحفى المتخصص فى شئونه، وهو ما انعكس بالسلب إزاء الغياب المعرفى المصرى بمتابعة ما يجرى فى السودان سياسيا وثقافيا واجتماعيا، حتى لا يكاد المصريون يعرفون من أدباء السودان سوى الروائى الطيب صالح والشاعر محمد الفيتورى، ومن الفنانين سيد خليفة وأغنيته الشهيرة "المامبو السوداني" بينما لا يزال كتاب محمد حسين هيكل باشا "عشرة أيام فى السودان" ودور رفاعة الطهطاوى فى تعليم أبناء السودان، وإقامة عباس محمود العقاد فترة من الوقت فى الخرطوم ومساجلاته مع المثقفين من أبناء السودان علامات مضيئة لكنها متواضعة على درب التواصل بين البلدين.
فى المقابل نجد أن السودانيين حتى بسطاءهم يعرفون الكثير عن مصر رغم عدم زيارتهم لها، عبر السينما والإذاعة والصحافة والكتاب، بينما أخفق السودانيون فى المقابل فى التعريف والإعلام عن واقعهم بسبب ضعف أو تخلف آليات السودان الإعلامية والثقافية، ولعل زيارة السيدة أم كلثوم للسودان وغنائها على المسرح القومى فى أم درمان فى إطار دعم القوات المصرية وإعادة بنائها بعد هزيمة يونيو 1967م تمثل فتحًا وجدانيا للأغنية والموسيقى الشرقية فى السودان الذى تعتمد موسيقاه على السلم الموسيقى السداسى، بينما الأغنية والموسيقى السودانية تعتمد على السلم الموسيقى الخماسية. ومن هنا كانت عبقرية أم كلثوم فى تلوين أداء أغنياتها وهو ما نوهت عنه فى مقال منشور فى مجلة روزاليوسف "أم كلثوم تسودن أغانيها".
ومن المؤسف حقًا أن يتكاسل أهل الموسيقى فى مصر عن تعهد المواهب الغنائية فى السودان أسوة بالمطربين والمطربات العرب، وكذلك إهمال القائمين على تنظيم مهرجانات الموسيقى العربية والأغنية العربية وليالى التليفزيون عن دعوتهم للمشاركة أسوة بغيرهم من العرب والأجانب، ومن المؤسف ثالثة عدم الاستفادة بنحو مليونى سودانى يقيمون الآن فى مصر وبينهم خيرة المثقفين فى التنوير بشئون السودان الثقافية عبر الكتابة فى الصحف والمشاركة فى الحوارات الإذاعية والتليفزيونية، ولماذا لا تنهض الهيئة المصرية للكتاب ومصلحة الاستعلامات بطبع الإنتاج السودانى وتوزيعه بأسعار رخيصة دعمًا لواجب الإدراك المعرفى بشئون وشجون السودان على نحو ما بادر إليه المجلس الأعلى للثقافة مؤخرًا إزاء نشر ترجمات لكتاب "حرب النهر" لوستن تشرشل، وكتاب "السيف والنار" لسلاطين باشا، وكتاب "الإسلام فى السودان" لسبنسر تريمنجهام.
والحقيقة أن إذاعة ركن السودان سابقًا وإذاعة وادى النيل لاحقًا تكرِّس النظرة القطرية للسودان التى لم تجذب إليها المستمعين المصريين والعرب، بينما المطلوب توزيع مادتها السودانية تحديدًا على مختلف الإذاعات المصرية، وعبر هذا الأسلوب يمكن للمستمع المصرى والعربى استيعابها، وتذوق الموسيقى والغناء السودانى على سبيل المثال جنبًا إلى جنب مع الأغنية والموسيقى المصرية واللبنانية والخليجية، ومن واقع خبرتى أستطيع التأكيد على أن تذوق الموسيقى والغناء السودانى المدخل الطبيعى لفهم الشخصية السودانية والاقتراب من الوجدان السودانى.
ولعل أخطر ما يواجه علاقات مصر والسودان، اتجاه السودان الآن حثيثًا نحو أفريقيا بأكثر من تحليقه فى سرب العروبة نتيجة لغياب الاهتمام العربى بشئون السودان، فأين الدور المصرى ـ على سبيل المثال ـ من الدور الأفريقى الذى استأثر بالوساطة لرأب الصدع السياسى وإحلال السلام فى السودان عبر رعاية دول الإيقاد.
ولا أحد يعرف حتى الآن السبب وراء إلغاء معهد شئون السودان الذى كان يعنى بتخريج الكوادر والخبراء فى مختلف شئون السودان، وإسناد المهمة وهذا الدور الثقافى الحيوى للمعهد الأفريقى.. كأن أهمية السودان الاستراتيجية القصوى بالنسبة لمصر توازى أهمية أفريقيا الوسطى مثلاً، بينما غاب عن أساتذة الدراسات العليا فى الجامعات المصرية توجيه طلبة الماجستير والدكتوراة إلى اختيار رسائلهم فى شأن من شئون السودان، ولماذا لا توجه الرحلات الطلابية المدعومة من الجامعات للاطلاع على أحوال أشقائنا فى السودان وحوض النيل والقرن الأفريقى، وإتاحة الفرصة أمامهم لعقد الصداقات مع أقرانهم فى تلك الدول، كونهم معًا طليعة المستقبل؟
ثم نشيد بالأهمية السياسية والاقتصادية والأمنية لصيغة منظومة دول "الأندوجو" التى بادرت إليها الدبلوماسية المصرية فى عهد الثمانينيات، فلاشك أنها كانت تمثل الآلية الواقعية والعملية للتعاون والتكامل الخلاق بين دول حوض النيل العشر اتساقًا مع روابطها الأفريقية التاريخية.. ومن المتعين إذن على مصر القيام بدور فاعل ورصد الإمكانات الكفيلة بإحيائها، بحيث لا تقتصر نشاطاتها على الصعيد السياسى أو الرسمى فحسب، وإنما المطلوب كذلك استيعابها للدور الثقافى وتطويرها لاستيعاب الدور الشعبى للأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني!
أن العرب والأفارقة يرتبطان بتاريخ مشترك وفلسفة إنسانية واحدة، وكلاهما ينتميان إلى الإيمان بالقيم الروحية، وبفطرة الإنسان وقدراته وإمكاناته لتحقيق التطور الطبيعى
حملة محمد على إلى السودان لم تكن غزوًا عسكريا وإنما حملة حضارية بالأساس، وكل إنجازاتها كانت على نفقة الخزانة المصرية، ويحسب لمحمد على أنه كان أول من اكتشف منابع النيل فى أدغال التخوم الاستوائية قبل المكتشفين الأجانب
مدارس الأقباط والكلية القبطية المصرية لعبت دورًا شعبيا فى نشر التعليم والثقافة المصرية مما شجع زعامات السودان الروحية والإسلامية ومن بينهم السيد عبدالرحمن المهدى والسيد على الميرغنى والشريف الهندى على دعمها ماليا ورعايتها أدبيا