لمن من القاطنين أرض الدولة تنسبغ حقوق المواطن وواجباته كاملة؟ وهل مقتضي القول بترجيح جامعة سياسية معينة، أن ينحسر بعض تلك الحقوق عن طائفة من طوائف الشعب ؟ وإلي أي مدي يكون الانحسار؟ ولعل هذه النقطة العلمية هي أدق ما يواجه فريقي الجامعتين الدينية والقومية، ولعله فيها تكمن بذرة الخلاف الأساسي بينهما. وقد سبقت الإشارة إلي أن الجامعية ليست في ذاتها محل الخلاف الرئيسي، ما اتفق علي تدبر ظروف الزمان والمكان ومراعاة الوظيفة في شأنها. أما ما يمكن أن يكون محلا للجدل فهو فكرة المواطنة. ولعل هذا الكتاب قد حدد من البداية أن نظرته للجامعية أساسها النظر في أمر المواطنة، وإن كانوا من أديان مختلفة، فالأمر هنا لا يتعلق بالجامعية، ولكنه يتعلق «بالمانعية» إن صح هذا التعبير.
وبالنظر إلي التيار الإسلامي السياسي، فإن مبلغ العلم في شأنه، أن دعوته السياسية ترتكز علي ركيزتين: الجامعة السياسية، وتطبيق الشريعة الإسلامية. علي أن تتبع هذه الحركة في صورها العملية الملموسة، يوجب النظر في الشريعة الإسلامية، من حيث وجه اتصالها بفكرة المواطنة وفيما يمس هذه الفكرة، وهي علي التقريب تتعلق بحقوق غير المسلمين وواجباتهم في المجتمع الإسلامي.
وما يحسن التزامه في بيان هذا الأمر، ذكر مايراه بعض مفكري الإسلام المعاصرين، ما يرونه رأي الإسلام في أوضاع غير المسلمين في المجتمع الإسلامي. وليس القصد من إيراد هذا البيان، الإحاطة بكل ما يثور من آراء في هذا الشأن ولا وصف أيها بأنه غالب أو راجح. وإنما القصد بيان أن ثمة آراء تثور واجتهادات تبدي وتساؤلات تطرح، تنقيبا عن الحلول لما يفرضه الواقع من مشكلات، وأن الفقه الإسلامي لديه من الأدوات والوسائل ما يمكنه من تحريك الأمور استجابة للواقع المعيش، وأن لدي مفكري التيار الإسلامي الرغبة والعزم علي الخوض في هذا الطريق.
وقد يكون من أسباب ما يصادفه الاجتهاد في هذا الشأن من تهيب وحذر، شدة الخوف علي أصول الشريعة الإسلامية وأصول الفكر الديني السياسي من أن يكون فتح باب الاجتهاد والأخذ بمبدإ المصلحة ونفي الحرج، قد يكون في ذلك ذريعة لاقتلاع تلك الأصول، وهي تواجه ـ في نظر التيار الديني ـ خلال القرنين الماضيين عواصف مزعزعة. ولعل التيار الديني السياسي يري نفسه في مرحلة تاريخية تستوجب منه ترسيخ المبادئ والأصول وليس في مرحلة معالجة الفروع. وأنه في مرحلة رفض الواقع المعيش وفرض واقع جديد علي الحياة الاجتماعية، وليس في مرحلة التعامل مع الواقع القائم.وأن قفزة علي تلك المرحلة الأولي قد تمكن للواقع القائم من الثبات علي حساب مشروعه هو. وأنه عندما ترسخ الجذور يمكن تناول الواقع ومشكلاته بمرونة أكثر. وهذا أسلوب تعرفه المعارضة الثورية في تصديها للواقع المرفوض، وهي في رفضها لأصول الواقع المعيش وسعيها لترسيخ القوائم الأساسية لدعوتها، تتجنب أن تستدرج إلي الاهتمام بتفاصيل المشكلات وجزئياتها، وذلك حرصا علي الحشد المنظم والتعبئة العامة وراء شعارات مركزة واضحة وإلا يؤدي الاستطراد في التفاصيل إلي إثارة الخلافات والتناثر، وحرصا علي الإيضاح الساطع للخطوط الفاصلة بين الأوضاع الراهنة والدعوة الجديدة.
ومن ثم، فهي لا تحبذ التعرض للفروع إلا لما يؤكد الاتجاه العام أو يدين الوضع القائم. ويظهر هذا المعني سيد قطب عندما يرفض في « ظلال القرآن» أن يستطرد في شرح آية الجزية، إلي الخلافات الفقهية التي تدور حول من تؤخذ منهم ومن لا تؤخذ، ويقول إنها قضية تاريخية وليست واقعية: «إن المسلمين اليوم لا يجاهدون، ذلك أن المسلمين اليوم لا يوجدون، إن قضية وجود الإسلام ووجود المسلمين هي التي تحتاج اليوم إلي علاج ». ويؤكد هذه الفكرة في كتابه «معالم في الطريق» في الفصل الخاص بطبيعة المنهج القرآني.
علي أنه إذا جاز هذا النظر في التصدي لفروع المسائل، فإن المسألة المعروضة الخاصة بأوضاع غير المسلمين وبمبدإ المواطنة، ليست من الفروع. إنها أمر يتعلق بالمواطنة وبالجامعة السياسية، وتجاهلها هو ما قد يؤدي إلي التناثر عينه، وهو ما قد يثير من الحرج ما يتعين تفاديه ، وهو يؤكد انقساما حادثا لا بين ذوي الأديان المختلفة بعضهم تجاه بعض، ولكن بين التيار الديني السياسي والتيارات الوطنية الأخري. وهو انقسام لا يمكِّن أيا من الجانبين أن تكون له الفاعلية المرجوة. انقسام جري من خلال عملية تاريخية بدأت من نحو قرن ونصف القرن، فأوهنت المجتمع وأضعفته وفصمته. والمطلوب اليوم رأب ما انصدع ورتق ما انفتق، ليقوم بجمعه مجتمعا قادرا علي الكفاح والنهوض. ومن الجانبين تتراءي محاولات الوصال.
يذكر الدكتور محمد فتحي عثمان، أن من المسائل التي تثور بمناسبة الدعوة لتقنين الشريعة الإسلامية، مسألة وضع المواطن غير المسلم في الدولة التي تطبق الشريعة: «هل يكون الأصل هو المساواة التامة بين جميع المواطنين في جميع الحقوق والواجبات؟ هل يجوز أن يكون غير المسلم نائبا ووزيرا وقاضيا ومسئولا في الجيش؟ ما حقوق غير المسلم في إنشاء معابد مستحدثة؟ كل هذه مسائل لا بد أن تجلي تماما للمسلمين ولغير المسلمين، فلا يكفي النوايا الغامضة أو العبارات المائعة أو الخطب الرنانة، ثم التهامس من وراءالظهور».
ثم يطرح المشكلة طرحا صريحا بقوله:«إن غير المسلمين قد عاشوا في ظل «الدولة العلمانية»، وتابعوا الثقافة الغربية التي تري أن مثل هذه الدولة هي الغاية والمثل الأعلي المنشود الذي يحقق المساواة بين المواطنين، وعايشوا مكائد الاستعمار التي استغلت «حقوق الأقليات» لعرقلة الاستقلال، وطالما استثارت القلاقل بين المسلمين وغيرهم وبين المواطنين والأجانب. وهم قد تكون لهم ذكريات سيئة عن حكم طاغية تسمي بأسماء المسلمين، أو عن حوار غير كريم من جانب أحد المسلمين. ومن حق هؤلاء المواطنين غير المسلمين أن يؤمنوا علي مركزهم القانوني وحقوقهم ومستقبلهم، وأن تبسط لهم وجهة النظر الإسلامية في معاملتهم، وأن يبين لهم الفرق بين الأحكام الثابتة القطعية المؤيدة وبين الشروح والآراء الفقهية الاجتهادية التي يؤخذ منها ويترك، والتي تتأثر بالظروف التاريخية المتغيرة .. من حقهم أن يبصروا بالقول الفصل في شأن ما قدمنا من مسائل .. لا أن يصدموا بتشريع دستوري مفاجئ ينص علي أن شريعة الإسلام هي مصدر التشريع..».
واقترح الكاتب ضرورة الشروع في حوار حول هذه القضايا، وهي ليست قضية حكم ما أو توفيق أو تلفيق بالنسبة لأحكام المعاملات.« إنها قضية أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية عامة ومهمة ». واقترح تشكيل لجنة موسعة من علماءالشريعة وأحبار الدين غير المسلمين والمفكرين البارزين في مختلف مجالات العلوم وأن تنشر مداولاتها.
ويذكر الدكتور فتحي عثمان أيضا، في حديثه عن قضايا الدستور والديمقراطية في التفكير الإسلامي المعاصر، أنه أثر عن الشيخ حسن البنا تفرقة هادية بين الدستور والقانون، مع إيضاح أن الدعاة للإسلام خلافهم مع القانون في تفاصيله «لا مع الدستور في قواعده العامة التي تقرر حقوق الأمة». ولكن ضاع معني هذه الكلمات والتبس، وكان من أثر ذلك، مع ما كان للدستور من رصيد سلبي، فشكت الشعوب من التلاعب به، ومع ما كان في المؤسسات السياسية من فساد ، فضلا عما شاع من القول بأن نظام الحكم في الإسلام نظام ثيوقراطي، كان من أثر كل ذلك أن «وقف بعض العاملين للإسلام موقفا سلبيا من المحن التي اجتازتها الدساتير والمؤسسات السياسية والحركات الديمقراطية بين الشعوب الإسلامية، بل ربما تطلع البعض إلي التخلص من هذه الأنظمة والارتماء في أحضان المستبد العادل..».
وحديث الدكتور فتحي يوضح إلحاح المسألة المعروضة من جهة أوضاع غير المسلمين، ومن جهة المسألة الدستورية عامة.أما من حيث مواجهة هذه المسألة، فيذكر الشيخ محمد الغزالي أن الإسلام يعترف بالأديان السابقة عليه جميعا، وبخاصة يهودية موسي ومسيحية عيسي، علي عكس من سبقه، ومن ثم فإن الانكماش والتعصب ليسا من طبيعته. وأن الآيات التي وردت بالقرآن الكريم تمنع اتخاذ المؤمنين لليهود أو النصاري أو الكافرين أولياء، إنما وردت جميعها «في المعتدين علي الإسلام والمحاربين لأهله». ونزلت لتطهير المجتمع الإسلامي من مؤامرات المنافقين الذين ساعدوا فريقا معينا من أهل الكتاب اشتبكوا مع الإسلام في قتال حياة أو موت، «فاليهود والنصاري في هذه الآية يحاربون الإسلام فعلا، وقد بلغوا في حربهم منزلة من القوة جعلت ضعاف الإيمان يفكرون في التحبب إليهم».
ويذكر أن كانت عواطف المسلمين تتجه إلي اليهود والنصاري لصلة القربي التي جمعتهم، وقد حمي نجاشي الحبشة النصراني المسلمين الفارين إليه من عسف قريش، كما تعاطف المسلمون مع نصاري الروم في حربهم ضد مجوس فارس، ولكن اليهود أبدوا الكراهية للمسلمين بعد هجرتهم إلي المدينة، وتحالف اليهود مع الوثنيين ضدهم. ومع ذلك، فهو يقبل دعوة التآخي بين الأديان، في نطاق وحدة تكون تعاونا بين الأديان وليست فناء فيها، علي أساس أن ما يقدسه أتباع دين ما لا يكره عليه أتباع دين آخر،« وضمان المصلحة المعقولة لإشباع كل نزعة دينية لا يهدم ـ بداهة ـ حق الكثرة في إعلان سيادتها وتنفيذ برنامجها .. فإذا كانت مصر تضم كثرة مسلمة تبلغ أكثر من 90%، فمن حق مسلميها يقينا في نطاق ما أسلفنا من قواعد أن يجعلوا الدولة في مصر إسلامية لحما ودما، وإنه لمما يساعد علي ذلك أن الإسلام كما رأيت يري نفسه صدي الكتب الأولي، وامتدادا صحيحا مشرقا لتعاليم موسي وعيسي عليهما السلام».
ويقول في موضع آخر: «قد أجمع فقهاء الإسلام علي أن قاعدة المعاملة بين المسلمين ومسالميهم من اليهود والنصاري تقوم علي مبدإ «لهم ما لنا وعليهم ما علينا». وإذا كان هذا المبدأ قد طبق أحسن تطبيق في أقطار الإسلام، فهو في مصر قد طبق علي نحو ممتاز بالنسبة للاقباط».
ويذكر سيد قطب أن الإسلام دلل الأقليات كما لم يدللها نظام آخر، سواء الأقليات القومية التي تشارك شعوبه في الجنس واللغة والوطن، أو الأقليات الأجنبية، وأن مايذكر ضد حكم الإسلام عن مذابح الأرمن علي أيدي الترك ـ المتأخرين ـ فهي لم تكن وليدة التعصب الديني، بل كانت ذات طابع سياسي، وما وقع للأرمن وقع مثله للعرب المسلمين في سوريا في ظروف سياسية مشابهة. «وقد قامت بهذه وتلك أرذل العناصر في الدولة العثمانية»، «إن الحكم حين يصير إلي الإسلام، سيسير في مبادئه السمحة الكريمة التي لا يملك إنكارها أحد، ولن يتغير علي الأقليات شيء في أوضاعها ولا حقوقها التي تتمتع بها الآن وقبل الآن».
ويذكر الأستاذ محمد قطب المبدأ الفقهي العام من أن لغير المسلمين ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، هل حدث اضطهاد في العبادة إلا الأمثلة النادرة التي كان المستعمرون الإنجليز دائما من ورائها، ليثيروا الفتن التي تمكن لهم في الأرض؟». وأشار إلي أن الجزية تفرض مقابل الإعفاء من الخدمة العسكرية، فإذا دخلت الجماعة المسيحية في خدمة الجيش أعفيت منها، وقد سبق فرض الجزية علي فلاحي مصر المسلمين لما أعفوا من خدمة الجيش.
ولعل من أكثر كتَّاب الدعوة الإسلامية اهتماما بأوضاع غير المسلمين وتفاصيل هذه المسألة، هو الدكتور يوسف القرضاوي. وقد نشر كتابا فصل فيه القول عن حقوق أهل الذمة وواجباتهم في المجتمع الإسلامي.فمن حقوقهم حمايتهم من الاعتداء عليهم بحفظهم ومنع ما يؤذيهم وفـك أسرهم ودفـع من يقصدهم بأذي،«ولوكانوا منفردين ببلد».وينقل عن الإمام القرافي: «إن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلي بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك، صونا لمن هو في ذمة ا& تعالي وذمة رسوله». وحكي في ذلك إجماع الأمة. ومن حقوقهم أيضا حمايتهم من الظلم الداخلي، ونقل عن رسول ا& قوله: «من ظلم معاهدا أو انتقصه حقا أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فيه، فأنا حجيجه يوم القيامة». ونقل ما ذكره ابن عابدين من أن ظلم الذمي أشد من ظلم المسلم إثما.وقال إن حق الحماية المقرر لأهل الذمة يتضمن حماية دمائهم وأنفسهم وأبدانهم وحماية أموالهم وأعراضهم. فهي كلها معصومة باتفاق المسلمين. ومن قتل ذميا غير حربي قتل،ومن سرقه قطعت يده.«وبلغ من رعاية الإسلام لحرمة أموالهم وممتلكاتهم، أنه يحترم ما يعدونه ـ حسب دينهم ـ مالا وإن لم يكن مالا في نظر المسلمين» كالخمر والخنزير.
ويحمي الإسلام عرض الذمي وكرامته كفا للأذي عنه. وتحرم غيبته، «ولا يجوز سبه أو اتهامه بالباطل أو التشنيع بالكذب، أو ذكره بما يكره ». وينقل عن القرافي المالكي: «فمن اعتدي عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة، فقد ضيع ذمة ا& وذمة رسول ا& [، وذمة دين الإسلام».ومن حقوقهم تأمينهم عند العجز أو الشيخوخة أو الفقر، فالضمان الاجتماعي في الإسلام يشمل المسلمين وغير المسلمين. ويذكر عن شمس الدين الرملي الشافعي أن دفع الضرر عن أهل الذمة واجب كدفعه عن المسلمين. ومن حقوقهم أيضا حرية الاعتقاد والتعبد فلا إكراه في الدين بنص القرآن. ولا يجبر أحد ولا يضغط عليه لترك دينه إلي غيره،«ولهذا لم يعرف التاريخ شعبا مسلما حاول إجبار أهل الذمة علي الإسلام .. وكذلك صان الإسلام لغير المسلمين معابدهم ورعي مشاعرهم.
وبالنسبة لبناء الكنائس ودور العبادة، أورد القرضاوي عهد عمر بتأمين الكنائس القائمة وقت الفتح الإسلامي، ثم أورد عهد خالد: «لهم أن يضربوا نواقيسهم، في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار إلا في أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم». وذكر عن إحداث الكنائس، أي بناء الكنائس الجديدة، أن من فقهاء المسلمين من يجيزها في الأمصار الإسلامية وحتي في البلاد التي فتحها المسلمون عَنوة، وأورد أمثلة من مصر وما ذكره المقريزي: «وجميع كنائس القاهرة المذكورة محدثة في الإسلام بلا خوف». ثم قال: « وهذا التسامح مع المخالفين في الدين من قوم قامت حياتهم كلها علي الدين، وتم لهم به النصر والغلبة، أمر لم يعهد في تاريخ الديانات».
أما عن واجبات أهل الذمة، فقد ذكر القرضاوي أن عليهم منها ثلاثة، أداء الجزية والخراج والضريبة التجارية، والالتزام بأحكام القانون الإسلامي، واحترام شعائر المسلمين ومشاعرهم. والجزية ضريبة رءوس أساسها نص القرآن وإجماع المسلمين، ووجه إيجابها حسبما يستظهر المؤلف، أن الإسلام أوجب الخدمة العسكرية علي أبنائه، وجعلها عليهم فريضة دينية مقدسة، وعَدَّ أداءها منهم عبادة فكان من لطفه مع غير المسلمين ألا يلزمهم بما يعَدُّ عبادة في غير دينهم؛ فالجزية علي غير المسلم بدل مالي عن الخدمة العسكرية المفروضة علي المسلمين. لذلك فهي لا تجب إلا علي القادر علي حمل السلاح من الرجال ولا تجب علي امرأة ولا صبي ولا شيخ ولا ذي عاهـة، ولا تفـرض عـلي راهب. ولـذلك فهي« تسقط عمن تجب عليه، إذا لـم تستـطـع الـدولـة أن تقـوم بـواجـب حمـايـة أهـل الذمـة مـن مواطنيها، وتسقط أيضا باشتراك أهل الذمة مع المسلمين في القتال، والدفاع عن دار الإسلام..».وقد أعفي من الجزية نصاري الإغريق لسبب غير الاشتراك في القتال، وهوالإشراف علي القناطر، كما فرضت الجزية علي مسلمي مصر كمسيحييها لما أعفوا من الخدمة العسكرية.
وأما الضريبة التجارية، فقد فرضها عمر علي أهل الذمة بنصف العشر من مال التجارة الذي ينتقل من بلد إلي بلد، وهي ضريبة لم يرد فيها نص معصوم، إنما فرضت باجتهاد مصلحي اقتضته السياسة الشرعية، «وعلي هذا لو تغير الوضع بالنظر إلي الذمي وأصبح يؤخذ منه ضرائب علي أمواله الظاهرة والباطنة مساوية للزكاة... فيمكن حينئذ أن يؤخذ من التاجر الذمي مثل ما يؤخذ من المسلم ولاحرج».
وأما الالتزام بأحكام القانون الإسلامي، فيصدر عن وصفهم يحملون جنسية الدولة الإسلامية يلتزمون بقوانينها فيما لا يمس عقائدهم وحريتهم الدينية. وأما مراعاة شعور المسلمين، فيقتضي ألا يسبوا «الإسلام ورسوله وكتابه جهرة، ولا أن يروجوا من العقائد والأفكار ما ينافي عقيدة الدولة ودينها، ما لم يكن ذلك جزءا من عقيدتهم كالتثليث والصلب عند النصاري»، وغير ذلك من مظاهر السلوك.
ويشير الدكتور القرضاوي في علاقة المسلمين بغيرهم، إلي ما لا يدخل في نطاق الحقوق التي تنظمها القوانين، وهو الروح التي تبدو من حسن المعاشرة ولطف المعاملة ورعاية الجوار وسعة المشاعر الإنسانية من البر والرحمة والإحسان. وأورد جملة من آيات القرآن تحض المسلم علي البر والقسط مع غير المسلمين ممن لا يقاتلونهم في الدين، والمجادلة مع أهل الكتاب بالتي هي أحسن {وقٍولٍوا آمّنَّا بٌالَّذٌي أٍنزٌلّ إلّينّا وّأٍنزٌلّ إلّيكٍمً وّإلّهٍنّا وّإلّهٍكٍمً وّاحٌدِ}(العنكبوت:46)، وإكرام الرسول لأهل الكتاب وزيارتهم وعودة مرضاهم والتعامل معهم. وذكر أن أساس التعامل مع غير المسلمين «اعتقاد كل مسلم بكرامة الإنسان أيا كان دينه أو جنسه أو لونه» ،«اعتقاد المسلم أن اختلاف الناس في الدين واقع بمشيئة ا& تعالي»، «ليس المسلم مكلفا أن يحاسب الكافرين علي كفرهم أو يعاقب الضالين علي ضلالهم»،«إيمان المسلم بأن ا& يأمر بالعدل ويحب القسط». وأن من ضمانات سيادة هذه الروح لدي المسلمين، أن الإسلام نفسه يحض المسلمين عليها.
أما عن تولي غير المسلمين للوظائف العامة، فذكر: «لأهل الذمة الحق في تولي وظائف الدولة كالمسلمين، إلا ما غلب عليه الصبغة الدينية، كالإمامة ورئاسة الدولة، والقيادة في الجيش، والقضاء بين المسلمين، والولاية علي الصدقات». لأن الإمامة رئاسة عامة في الدين والدنيا وهي خلافة عن النبي عليه السلام، وقيادة الجيش ليست عملا مدنيا صرفا، بل هي من أعمال العبادة لكونها جهادا، والقضاء حكم بالشريعة الإسلامية، فلا يطلب من غير المسلم أن يحكم بما لا يؤمن به. وأشار في ذلك إلي ما صرح به الماوردي من جواز تقليد الذمي وزارة التنفيذ دون وزارة التفويض.
هذه بصورة عامة جوانب المسألة كما يضعها بعض من مفكري التيار الإسلامي السياسي علي منهج اتبعوه ويتضح أكثر ما يتضح في مؤلفات الدكتور القرضاوي، إذ يعود إلي أقوال السلف وآثارهم، ويأخذ منهم ويترك وفقا لما يراه أكثر استجابة لحل مشكلات الواقع المعيش، ولكنه لا يخرج عن أقوالهم وآثارهم إلي غيرهم. ومن ثم أتت هذه النظرة تمثل فيما يبدو الموقف ذا القبول العام في التيار الإسلامي السياسي. ومن هذه النظرة يمكن تحديد نقاط الاتفاق والاختلاف، سواء بين التيارين القومي والديني السياسي، أو داخل التيار الديني العام بين المحافظين الملتزمين بتطبيقات السلف لا يخرجون عنها وبين دعاة التجديد في الفكر الإسلامي. وخلاصة النظرة السابقة، أن مبدأ المساواة القانونية والتواد الاجتماعي مقرر، تنسبغ به صفة المواطنة علي غير المسلمين إلا في الوظائف العليا في الدولة، وهي الإمــامة وقيــادة الجيش والقضاء، وبهــذا يكاد الحوار أن ينحصر في هذه النقطة داخل التيار الإسلامي السياسي القائم الآن. ويمكن بيان بعض وجوهه والتعقيب عليه.
للشيخ عبد المتعال الصعيدي عبارة دقيقة ووافية: «يقيني أنه بفتح باب الاجتهاد يمكننا التوفيق بين الحكم الديني والحكم القومي، لأنه لا يلزم أن يكون هناك خلاف بينهما... إن الإسلام ينظر إلي أبناء الوطن الواحد من مسلمين وغير مسلمين علي هذا الأساس، لهم ما لنا وعليهم ما علينا ـ وفي هذا الأساس تجتمع الحكومة الإسلامية والحكومة القومية». ويوصي بالمضي في سبيل المصلحين العظيمين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
ويفرق المرحوم حسن عشماوي بين الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي. والشريعة لديه هي الأحكام العامة التي وردت في القرآن وفي الثابت من سنة رسول ا&، «ونحن معشر العرب مسئولون أن نرعاها. وهي أحكام قليلة بالنسبة لشئون الدنيا ... لقد جعل لهم في العقل والضمير ما يكفيهم، وعلم أن الحياة في تطور. فترك لهم جل ـ إن لم يكن كل ـ شئون الأرض يباشرونها بأنفسهم. ولم يضع لهم أعلاما ومنارات يهتدون بها».
أما الفقه الإسلامي فهو اجتهاد من سبق في فهم الشريعة، «وقد كان الأوائل يجتهدون في فهمهم علي نحو مطلق...وإذا كان المتأخرون قد ابتدعوا للفقه أصولا، فإنهم ـ وإن أحسنا بهم الظن ـ قد سعوا في عنت شديد إلي تقييد الناس بفهم معين، الأمر الذي لا أقرهم عليه... هذا الفقه الإسلامي يستحق من جانب أن يجمع وأن يقرأه الراغبون في فهم الشريعة، ولكنه من جانب آخر لا يلزم أحدا. وحين أقول لا يلزم أحدا إنما أعني أحدا من أولئك الذين يحق لهم الاجتهاد». وأجري تفرقة أخري بين ما يمكن أخذه من حلول غير المسلمين لبعض المشكلات، مثلما كان المسلمون يفعلون قديما في أخذهم من الحلول من الأخذ من النوع الأول دون الأخير.
ثم أوضح الفرق بين كون الإسلام دينا ودولة، وبين الحكومة الدينية. ويقول إن دعاة الحركة الإسلامية، يدعون إلي أن يكون الإسلام عقيدة وشريعة بحسبانه دين الأغلبية، وأنه يشكل التراث الفكري لجميع أبناء المنطقة وإن اختلفت دياناتهم ومذاهبهم. ولكنهم لا يدعون إلي إقامة حكومة دينية، بالمعني الذي تقوم به هذه الحكومة واسطة بين الأرض والسماء وتحكم باسم السماء. وقد جربت الحكومات الدينية من قبل علي أيدي الكهنة، فكانت مآسي الحكم باسم الآلهة. وجربت علي أيدي أحبار اليهود، فقتل زكريا وحكم بإعدام المسيح. وجربت علي أيدي الكنيسة وحق الملوك الإلهي، فكانت محاكم التفتيش وإحراق القديسين.«ورأت شهداءالمسيحية الأصيلة في مصر تقتلهم الواسطة الرومانية التي ادعت أنها تحكم باسم السماء». ثم جربت في أمة المسلمين مع من ظنوا أن الخلافة ظل ا& في الأرض،فكانت محنة مالك وابن حنبل، «ورأت حبس وقتل كل من اجتهد ليواجه أحداث العصر وسطوة الحكم ..»، « لا، هذا لا نريده أبدا، وبعدا لولاء الفرد لحكومة تكون واسطة بين الأرض والسماء...ولا يحسبن أحد أن أمجادنا القديمة في المنطقة كانت قيام حكومة دينية فيها. لا، إنما كانت نتيجة وجود قوم متدينين، يعيشون في الأرض بمثل ما تستحق أن تعيش».
أما عن منهج تطبيق أحكام الشريعة في المسائل الدستورية، التي تدخل فيها المسألة المعروضة من جانبها الحقوقي، فقد تعرض له الدكتور عبدالحميد متولي، وخصه باهتمام بالغ في الكثير من كتبه. وإذا كان يصعب إجمال رأي الباحث الكبير بغير إخلال، فيمكن الإشارة إلي اتجاهه الفكري، وهو أنه يتعين في المسائل ذات الأهمية والخطورة، كالمسائل الدستورية المتعلقة بنظام الحكم في الدولة، يتعين الالتزام بنصوص القرآن والسنة اليقينية متواترة كانت أو مشهورة. أما السنة التي تتمثل في أحاديث الآحاد، فلا يلزم الأخذ بها متي تضمنت حكما مستقلا، أي مبدأ جديدا لم يرد أصله بالقرآن والسنة اليقينية. وإن من فقهاء المسلمين من لم يكن يقبل بأقل من الأحاديث المشهورة، وكذلك فعل المعتزلة والخوارج، «وكان الإمام الغزالي يري أن خبر الواحد لا تثبت به الأصول». ولهذا لم يثبت لدي الفقهاء في المسائل المتصلة بالعقائد التي يتوقف عليها صحة الإسلام، إلا ما يثبته صريح العقل ونصوص القرآن والسنة المتواترة. وكان أبوبكر وعمر يشترطان نقل الحديث عن اثنين من الصحابة، وذلك «في رواية أحاديث تروي بصدد بعض مسائل أو تشريعات عادية، تقل كثيرا في الخطورة والأهمية عن التشريعات الدستورية».
وبالنسبة للإجماع مصدرا للتشريع الإسلامي، يلاحظ الدكتور متولي أنه فيما يتعلق بالمسائل الدستورية، فإن صدور الاجماع في عصرسابق لا يلزم في عصر لاحق، أي لا تكون له حجية شرعية ولا يعَدُّ تشريعا عاما. ونقل الأستاذ الباحث بيانا لذلك عن ابن حزم، أن الصحابة أجمعوا ثلاث مرات، كل مرة علي طريقة مختلفة من طرق بيعة الخليفة. وبذلك لم يلتزم الصحابة في أي من هذه المرات بالإجماع السابق، بل نقضوه بإجماع لاحق.
ومن جهة أخري، فإن سنن الأحكام الدستورية لا تعد ملزمة، إلا اذا تضمنت هذه السنن تشريعا عاما، أي لم تكن صدرت لعلاج وضع خاص. فمن باب أولي لا يكون الإجماع ملزما إذا نقصته طبيعة التشريع العام، لأن الإجماع بوصفه مصدرا يلي السنة في المرتبة التشريعية. ومن جهة ثالثة، فالإجماع لا يكون إلا عن دليل يستند إليه من قــــــرآن أو ســـــــنة. وقـــــد جـــــاء القـــرآن بأحكام ومبادئ تصلح لكل زمان ومكان.
وأما بالنسبة لجهود الفقهاء المسلمين، فيلاحظ الدكتور متولي، أن عناية الفقهاء بالأحكام الشرعية المتصلة بالقانون، وبخاصة النظام الدستوري، كانت ضعيفة. وصرفوا جل اهتمامهم إلي غير الأحكام المتعلقة بنظام الدولة السياسي. وبقي الفقه الإسلامي في هذا المجال في دور الطفولة. ولعل من أسباب ذلك نزعة الاستبداد التي عرفت عن حكم الخلفاء منذ عهد الأمويين، فانصرف الفقهاء عن هذا المضمار؛ واستند في هذا النظر إلي رأي كتبه الدكتور عبد الرزاق السنهوري. ولعل من أسباب هذا الضعف أيضا حذر بعض الفقهاء من الاجتهاد والأخذ بالمصالح المرسلة في هذا المجال، حتي لا ينفتح الباب لهوي الحكام.
وبالنسبة لوضع غير المسلمين في الدولة الإسلامية، يذكر الدكتور متولي أن الإسلام إن كان سوَّي بين المسلمين وغير المسلمين من المواطنين في كثير من الشئون، فإن فقهاء الإسلام القدامي لم يسووا بينهم في جميع الشئون، بمعني أنه لم تكن المساواة تامة بينهم في صدر الإسلام. وما كان يمكن أن تكمل المساواة في دولة تقوم علي أساس عقيدة جديدة، سواء كانت عقيدة دينية كما هو شأن دولة الإسلام، أو عقيدة سياسية كما هو شأن الدولة السوفيتية اليوم. وحسب دولة الإسلام ـ في نظر الأستاذ الباحث ـ حسب أي دولة عقائدية، أن تنظر إلي مواطنيها نظرة التسامح. وهو الأمر الذي اشتهرت به الدولة الإسلامية، مما اعترف لها به المستشرقون والمؤرخون الغربيون أنفسهم. وضرب الدكتور متولي المثل لهذه الفروق بقصْر شغل وظائف القضاء ووزارات التفويض علي المسلمين. ثم قال إنه يفوت الكثيرين أن الأحكام الشرعية في غير ميدان العقيدة والعبادات تختلف باختلاف الظروف،«ففي صدر الإسلام كانت الدولة ـ كما قدمنا ـ تقوم علي أساس وحدة العقيدة الدينية، بينما تقوم الدولة في هذا العصر (ومنها الدولة الإسلامية) علي أساس القومية، في غير اعتبار أو اشتراط لوحدة العقيدة الدينية».
وكانت الحرب تجري دفاعا عن العقيدة الدينية ضد خصوم الدولة في الدين، فألقي عبئها علي المسلمين وحدهم، بينما تجري الحرب اليوم دفاعا عن أرض الوطن وأبناء الوطن فيلقي عبئها علي المسلمين وغير المسلمين من أبناء الوطن.وإذا كانت الأحكام تتغير بتغير الظروف، فإن مما جاء به الإسلام من المبادئ ما يجعل هذا التغير أمرا حتميا. ومن تلك المبادئ تجنب الفتنة طبقا للقاعدة الشرعية: «إذا اجتمع ضرران ارتكب الأخف». واستند في ذلك إلي الإمام محمد عبده والشيخ محمد الخضر حسين والشيخ محمد محمد المدني. ومن هذه المبادئ أيضا نفْي الحرج الذي يؤدي إلي تلف النفس أو المال أو العجز المطلق عن الأداء، حسبما يقرر الشيخ محمد مصطفي المراغي. وثالث تلك المبادئ مراعاة مبدإ الضرورة، فلا ضرر ولا ضرار في الإسلام. ورابعا مراعاة الاعتدال والأخذ بسنة التدرج. والخامس التفرقة بين ما يعد من السنة تشريعا عاما وما يعد تشريعا وقتيا. وبعد أن فصل الأستاذ الباحث رأيه في هذه النقطة، نقل عن الشيخ عبدالوهاب خلاف ما لاحظه من أن وضع أهل الذمة في البلاد الإسلامية، لم يكن يخضع للاعتبارات الدينية وحدها، بل كان يخضع للاعتبارات السياسية،وأخصها مدي ما يبدونه من الولاء والصفاء للدولة وللمسلمين.
وبمراعاة تلك الاعتبارات جميعا، «يصبح أمرا طبيعيا بل وحتميا أن ننتهي إلي الرأي بأن علينا ألا نحرم إخواننا المسيحيين مما كسبوه من الحقوق حقا، ولا نثير لهم ـ لا سيما في هذه الآونة ـ نفسا.. إننا بذلك نقوي من روح الإخاء بين طائفتي الأمة بل ونزيدها، ونبعد عن طريق تطبيق الشرع الإسلامي أكبر عقبة بل ونذللها». وختم حديثه بما جاء في السنة من أن «لهم ما لنا وعليهم ما علينا».
مع تقدير الموقف المتكامل الذي يعرضه الدكتور متولي في كتبه المشار إليها فيما سلف، عن منهج تطبيق القانون الإسلامي في مجال الأحكام الدستورية، وهو المجال الذي يتصل بوضع غير المسلمين، فإنه يمكن إضافة عدد من النقاط إلي ما كتب:
فمن جهة أولي، لقد سبق بيان أن نقطة الحوار العملية بين تياري الجامعة الدينية والجامعة القومية، تتعلق أساسا بوضع غير المسلمين، ومدي المساس بمبدإ المساواة التامة بين المسلمين وغيرهم من مواطني هذه الديار..وفي هذا الصدد، يتعين الاعتراف بأن الجهود الفكرية التي أشير إلي بعضها في إطار مواقف التيار الإسلامي، لا بد أن تحظي بالاهتمام البالغ. وهي تحل من حيث نتائجها جزءا مهما من المسألة، من حيث المساواة في التعامل والأوضاع أمام القانون. كما أن الاهتمام بهذا الأمر يثير التفاؤل في إمكان حل المسألة برمتها.
ولكن يبقي التحفظ بالنسبة لعدم المساواة في تولي بعض من الوظائف العليا في المجتمع، وهي كلها علي قلتها العددية تتعلق بمراكز القيادة والتوجيه واتخاذ القرارات. والاستبعاد هنا لا يرد من مسلك عملي فقط، ولكنه يصدر من مفهوم نظري وفقا لصيغة تجرد غير المسلمين من الصلاحية الشرعية لتولي هذه المناصب. وإذا كان يساغ تسويغ هذا الاستبعاد أحيانا بما للأغلبية من حقوق في اختيار من يشغل هذه المناصب، ومع تقدير أن الأغلبية الدينية الكاسحة في المجتمع للمسلمين، فإن وجه الاعتراض علي هذا التسويغ، أن استناده إلي مفهوم نظري من شأنه أن يمس مبدأ المواطنية ذاته، وأن الأغلبية المقصودة بالهيمنة، يلزم أن تكون هي الأغلبية السياسية التي قد يشارك فيها غير المسلمين أو يشكلون فيها سهما شائعا. وأن وجود الأغلبية العددية الإسلامية من شأنه أن يزيل حذر التيار الإسلامي، من أن تئول مقاليد الأمور في لحظة ما إلي الأقلية الدينية بوصفها الديني، وعلي العكس من ذلك فإن ما يثير حذر التيار القومي، أن يكون استبعاد غير المسلمين علي أساس مفهوم نظري يتعلق بالصلاحية مما يمس مبدأ المواطنية لهم ويحيل المجتمع إلي مجتمعين ويفصم عري الترابط فيه.
ومن جهة ثانية، فإنه مع ملاحظة ما ذكره الدكتور متولي من تغييرات طرأت علي مجتمعات اليوم في هذه المسألة، يمكن تنويعا علي ذات الفكرة، ملاحظة أن من مظاهر تغير ظروف اليوم عما كانت عليه في الصدر الأول للإسلام، أن المسلمين في الصدر الأول للإسلام كانوا قوة سياسية وعسكرية راجحة، كما كانوا قوة بشرية عددية مرجوحة، فلزمهم في هذا الظرف قصر تولي قيادة الدولة علي المسلمين.وكان هذا القصر ضروريا وقتها بالنظر إلي قوتهم العددية المرجوحة في مواجهة شعوب البلاد المفتوحة، لئلا يفلت الزمام من أيديهم. كما كان هذا القصر ممكنا بحسبان التفوق السياسي والعسكري غير المنازع إزاء القوي المناهضة لهم.
أما اليوم، فقد آل الوضع إلي عكس ما كان عليه من كلا طرفيه. صارت الغلبة العددية للمسلمين في بلادهم، بحيث لم يعد ثمة وجه للخشية علي إسلام المسلم، من مساهمة غير المسلمين في الشئون العامة. كما آلت أوضاع المسلمين السياسية والعسكرية في الموازين العالمية إلي ضعف غير خاف، بحيث يخشي علي المسلمين من عدم استقرار الأوضاع في بلادهم، بسبب عدم مساواة غيرهم بهم وانفصام عري الرابطة الوطنية واستغلال القوي الخارجية الطامعة هذا الامر. ولمفكري الإسلام اليوم أسوة بعمر بن الخطاب، الذي أسقط سهم المؤلفة قلوبهم برغم النص عليه، لما ارتآه من أن ا& تعالي قد أعز الإسلام بما لم يعد به حاجة لتأليف القلوب. وهذا أثر لعمر شائع مشتهر لا يرفض منهجه فيه غالبية المفكرين فيما يرجح.
ومن جهة ثالثة، فإن التيار الفكري الديني هنا، لا يواجه بالمسلمين جميعا أقلية من غير المسلمين تنازعه سيادته أو تطالبه بأمر ما، بوصفها أقلية أو جماعة دينية أيا كانت. ولكنه يقابل تيارا فكريا قوميا يحاوره في النظر إلي المواطنين. وهو تيار امتدت جذوره في الأرض، وتراكمت له علي مدي السنين أعراف شاعت في أساليب الحياة المعيشة ولا يسهل إغفالها. وهو تيار لديه تاريخ كفاح وجهاد وله وظيفة كفاحية، فهو تيار أصيل مشارك في قضايا الكفاح والنهضة، وهو يقدم في هذين المجالين صيغة توحيد داخلي بالنظر إلي كل قطر يحتوي مسلمين وغير مسلمين، وصيغة توحيد شامل بالنظر إلي الوطن العربي برمته.
وإذا كان يمكن القول بأن التطور التاريخي في القرنين الأخيرين قد أنتج انفصاما في المجتمع، بل ما يمكن أن يسمي ـ من قبيل التبسيط ـ الوافد والموروث، فإن رأب هذا الصدع لن يجيء عن طريق تجاهل أي من الجانبين للآخر أو إنكاره. ليس في مكنــة أحدهما نزع صاحبه أو نفيه، ولا في مكنة الآخر القفز إلي آخر الطريق. وإيجاد صيغ التفاهم والتلاحم أمر لا محيص عنه. ولا يظهر أن ثمة حكما دينيا قطعي الورود قطعي الدلالة، ينفي دعواه من حيث انسباغ صفة المواطنة الكاملة علي غير المسلمين من الشركاء في الوطن المشاركين في كفاحه ونهضته.
ومن جهة مقابلة، فإذا كان لا يثور خلاف تطبيقي بين الجامعتين السياسيتين، أهم من هذه المسألة محل النقاش، فإنه بالنسبة للأخذ بالقانون الإسلامي، لم يَعُد يظهر لكاتب هذه الدراسة، أن عقبة تقوم إزاء الدعوة للأخذ بالشريعة الإسلامية، أهم من تلك المسألة عينها محل هذا النقاش، وهي وضع غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.
علي أنه بشكل عام يمكن القول بأنه لا حجة في الادعاء بأفضلية التشريعات المستقاة من اللاتين والجرمان والسكسون علي الشريعة، وأن الشريعة عنصر موحد للعرب كافة، وهي بذلك تُعَدُّ مجالا أصيلا للالتقاء بين التيارين الديني والقومي. وفضلا عن ذلك، فهي في نطاق الوحدة العربية عنصر جامع أيضا لغير العرب من الأقليات القومية كالأكراد والبربر مثلا. لا صحة كذلك في قول يزعم أن أسس الشريعة الإسلامية، من حيث هي كذلك، لا تصلح أداة لطموحات التقدم والنهضة الاقتصادية والاجتماعية. وقد احتوي الفكر الإسلامي من قبل تيارات للعدالة الاجتماعية والثورة ضد الاستبداد والظلم الاجتماعي. وهو قادر بجهد المجتهدين أن يؤدي رسالته في هذا السبيل.
وإلي من لا يطمئنون إلا إلي صواب المفكرين الغربيين، حتي في أخص شئون مجتمعاتنا، يمكن إيراد مقولة روجيه جارودي: «إن الجزائري ذا الثقافة الإسلامية، يستطيع أن يصل إلي الاشتراكية العلمية بدءا من منطلقات أخري غير سبيل هيجل أو ريكادور أو سان سيمون، فلقد كانت له هو الآخر اشتراكيته الطوباوية ممثلة في حركة القرامطة، وكان له ميزانه العقلي ممثلا في ابن رشد، وكان له مبشر بالمادية التاريخية في شخص ابن خلدون، وهو علي هذا التراث يستطيع أن يقيم اشتراكيته العلمية.
وليس المقصود هنا الدعوة لفكر هؤلاء أو إلي تلمس سبيل « تراثي» للاشتراكية العلمية التي يعنيها جارودي. ولكن المقصود بيان إلي أي مدي سحيق يمكن للفكر التراثي أن يصل بشهادة واحد من مفكري الغرب. ودلالة ذلك أن استخدام المنطلقات الغربية وصولا إلي الصياغات الفكرية الإصلاحية أو الثورية في مجتمعاتنا لم يكن بسبب الفقر بقدر ما كان سببه الإفقار، ولم يكن سببه النضوب بقدر ما كان سببه الاقتحام، وأنه إن صدق ذلك علي الفكر الفلسفي والاجتماعي، فهو يصدق من باب أولي بالنسبة للشريعة الإسلامية، بما لها من دقة فنية ومرونة.
إنما يثور الأمر في شأنها من حيث صلاحية ارتباط الدعوة إليها بالدعوة إلي الاجتهاد،وصلاحية التمسك بأصولها تمسكا متصل الآصرة بمشكلات الواقع المعيش وأعرافه التي لا تتنافي مع أصول الشريعة. ومع التسليم بلزوم أن يصدر الاجتهاد عن أصولها وأن يستخدم مادتها ووسائلها، فلا يصير محض غطاء صوري لواقع ينافي أصولها.كل ذلك لا يبدو بعيدا عن الإمكان، ولكن تظل النقطة التطبيقية الواجب إثارتها حسبما سلفت الإشارة إليه، هي وضع غير المسلمين في التشريع المأخوذ عن الشريعة الإسلامية. وضعهم من حيث الاعتراف بالمساواة التامة لهم مع غيرهم إزاءه، من جهة التطبيق ومن جهة المشاركة في التشريع ـ بموجب وصفهم مواطنين من خلال الهيئات التشريعية النيابية.
ويبدو أن كتاب الماوردي «الأحكام السلطانية والولايات الدينية» يمثل المرجع الأساسي لدي الباحثين في نظام الحكم الإسلامي. ويظهر لقارئ الماوردي اليوم أن النموذج الذي يطرحه نظام الحكم في بلاد الإسلام يختلف في كثير من هياكله التنظيمية عن نماذج الحكم السياسي الشائعة الآن. ويختلف عن تلك النماذج التي ترجو إقامتها التيارات السياسية المختلفة الآن، ومنها التيار الإسلامي، دون أن يمس هذا الاختلاف أصلا من أصول الشريعة الإسلامية. وإذا كان وضع أهل الذمة في تولي الوظائف أو الولايات العامة، قد جاء لدي الماوردي في إطار هياكل تنظيمية رسمها، فالغالب أن هذا الوضع يتعين إعادة النظر فيه، في إطار التنظيمات الجديدة القائمة أو المرجوة.
وإذا كانت هذه الدراسة لا تريد أن تطرح تفسيرا جديدا ما لنص من نصوص الشريعة في هذا المجال، تفسيرا قد يكون محلا للإنكار، ولا تريد أن تطرح منهجا من نوع ما أثاره الدكتور متولي بالنسبة لحجية الأحكام وتصنيفه لها، اكتفاء بما ذكره الدكتور الباحث في هذا الشأن، فحسب هذه الدراسة أن تلج من باب آخر غير باب تفسير نصوص القرآن والسنة، والتصنيف القطعي منها والظني من جهة الورود والدلالة.
وإذا كان التفسير صلة بين النص والواقع، فحسبها أن تلج من باب تصوير الواقع ورسم هياكله التنظيمية،سواءكان هو الواقع القائم فعلا أو كان واقعا منشودا؛ لأن الأمر هنا لا يتعلق ببيان مدي مطابقة أصول الشريعة الإسلامية لنظام معين قائم فعلا،ولكنه يتعلق ببيان مدي موافقة نظام منشود لهذه الأصول. وعلي هذا يمكن إثارة الموضوع، لا من جهة مدي صلاحية أهل الذمة لتولي وظائف معينة، ولكن من جهة مدي إمكان بناء نظام دستوري موافق لأصول الشريعة، ويحقق في الوقت نفسه مبدأ المساواة بين المواطنين جميعا، وإن اختلفت أديانهم.
لقد كان الماوردي من الحنكة في بيان الولايات المختلفة،بحيث عين سلطات كل ولاية،جنبا إلي جنب مع شروط توليها، لأن الوظيفة مجموع اختصاصات وسلطات. وشروط التعيين فيها هي بيان أهلية ممارسة هذه المجموعة من السلطات. فشروط تولي الوظيفة وثيقة الاتصال بسلطات الوظيفة. وشروط الإمامة عند الماوردي سبعة، هي: العدالة والعلم المؤدي للاجتهاد وسلامة الأعضاء والشجاعة المؤدية لجهاد العدو والنسب القرشي (وإن اختلف في وجوب هذا الشرط الأخير). والماوردي إن لم يورد شرط الإسلام هنا، فهو مستفاد من سياق حديثه.. وواجبات الإمام عشرة، هي حفظ الدين، وتنفيذ الأحكام بين المتشاجرين فلا يتعدي الظالم ولا يضعف المظلوم، وحماية البيضة وحفظ النظام وإقامة الحدود لتصان محارم ا& تعالي، وتحصين الثغور، وجهاد من يعادي الإسلام حتي يدخل في الذمة، وجباية الفيء والصدقات، وتقدير العطايا، وتقليد عمال الدولة فيما يفوض إليهم من أعمال، وأن يباشر لنفسه سياسة الأمة وحراسة الملة.
ويذكر الماوردي أن الوزارة علي ضربين، وزارة تفويض ووزارة تنفيذ. والأولي «أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه (أي برأي الوزير) وإمضاؤها باجتهاده». ويشترط لتقليد هذه الوزارة «شروط الإمامة إلا النسب وحده، لأنه ممضي الآراء ومنفذ الاجتهاد، فاقتضي أن يكون علي صفات المجتهدين..». ويشترط فيها شرط زائد علي الإمامة هو شرط الكفاية والخبرة فيما وكل إليه من أمر حرب أو خراج. وأما وزارة التنفيذ« فحكمها أضعف وشروطها أقل، لأن النظر فيها مقصور علي رأي الإمام وتدبيره، وهذا الوزير وسط بينه وبين الرعايا والولاة، يؤدي عنه ما أمر ويمضي ما حكم، ويخبر بتقليد الولاة وتجهيز الجيوش، ويعرض عليه ما ورد من مهم وتجدد من حدث ملم، ليعمل فيها ما يؤمر به ..فإن شورك في الرأي كان باسم الوزارة أخص، وإن لم يشارك فيه كان باسم الواســـــطة والســـفارة أشبه».
وذكر أن شروط وزارة التنفيذ هذه لا توجب في المؤهل لها الحرية ولا العلم، «لأنه ليس له أن ينفرد بولاية فتعتبر فيه الحـريـة، ولايجـوز أن يحـكم فيعتبر فيـه العلم ..». وذكر أنه يراعي في وزير التنفيذ سبعة أوصاف: الأمانة ، وصدق اللهجة، وقـلة الطـمع، والسلامـة من العـداوة، ذكـورا، ذكيـا، ليس أهلا للهـوي، «فإن كان الوزير مشاركا في الرأي، احتاج إلي وصف ثامن وهو الحنكة والتجربة». ولايجوز لوزير التنفيذ أن يكون امرأة، «ويجوز أن يكون هذا الوزير من أهل الذمة، وإن لم يجز أن يكون وزير التفويض منهم ».
وإمارة البلاد عند الماوردي علي ضربين: عامة وخاصة. والإمارة العامة تكون تفوضا من الخليفة للأمور في بلد معين، فيكون الأمير عام النظر خاص العمل، ويشمل نظره «تدبير الجيوش وترتيبهم في النواحي وتقدير أرزاقهم..والنظر في الأحكام وتقليد القضاة والحكام ..وجباية الضرائب وقبض الصدقات وتقليد العمال فيها وتفريق ما استحق منها، وحماية الدين والذب عن الحريم .. وإقامة الحدود، والإمامة في الجمع ..وتسيير الحجيج». واعتبارا بهذه السلطات يشترط في التقليد في الإمارة العامة،«الشروط المعتبرة في وزارة التفويض، لأن الفرق بينهما خصوص الولاية في الإمارة وعمومها في الوزارة ».
وأما الإمارة الخاصة، فهي كحالة أن يكون الأمير مقصور الإمارة علي تدبير الجيش وسياسة الرعية، وليس له أن يتعرض للقضاء والأحكام ولا لجبابة الخراج. وما دامت استبعدت من الإمارة الخاصة سلطات القضاء والخراج، فقد استبعد من شروط تقليدها الشرط المحقق لهذه الصلاحية وهو شرط العلم. وفرق أيضا في إمارة الجهاد بين الإمارة العامة والإمارة الخاصة.
ويظهر مما سبق أن الإمام في نظر الفقه الإسلامي، وإن كان مقيدا بأحكام الشريعة مأمورا بحفظ الدين وتطبيق القانون الإسلامي، فإن سلطانه داخل هذا الإطار العام من أحكام الشريعة، أي سلطته التقديرية، لا يحدها حد من تنظيم دستوري أو رقابة سياسية من هيئة ما. ويكشف عن ضخامة هذا الأمر، أن حدود سلطته السياسية والإدارية بالغة السعة والعموم، وذلك في حفظ الأمن وخوض الحروب وتقليد عمال الدولة. وأن شروط تولي الإمام تتفق مع وضعه هذا بوصفه حائزا هذه السلطة منفردا.
وبالنسبة للوزير، فقد أفرده الماوردي بسلطان هو جماع سلطات الحكم كلها الآن،ومنها مباشرة الحكم وتقليد الولاة وتسيير الجيوش وتدبير الحروب والتصرف في المال العام قبضا وأداء. وإن هذه السلطات لا يملكها فرد واحد أو حتي هيئة واحدة في أي من نظم الحكم الحاضرة، بله أن يكون نظام الحكم نظاما قائما علي توزيع السلطات. وسلطات الوزير عند الماوردي لا يملكها اليوم وزير ولا رئيس وزراء، ولامجلس الوزراء مجتمعا يملكها وحده. وإذا كان لا يجوز للذمي أن يكون وزير تفويض، فلا يوجد اليوم وزير تفويض علي الصورة التي صورها الماوردي،لأن سلطة وزير التفويض الجامعة المفردة هذه، قد توزعت علي كثير من الهيئات الدستورية تتداول فيما بينها العمل الواحد، وتتقاسمه مراحل حتي ينشأ كاملا منها جميعا، كما تتبادل الرقابة فيما بينها علي الأعمال.
ومن جهة أخري، يلاحظ من الناحية الإدارية ـ لا الدستورية فقط ـ أن لم تعد السلطة الإدارية المحدودة بالتنفيذ نفسه مجتمعة في يد فرد ما، أو مرتبطة بتوافر العلم الفردي لموظف ما بالأحكام الشرعية وأمور الحرب والخراج، لأن المعرفة ذاتها لم تعد تتهيأ للمدير بموجب العمل الفردي، ولكنها تتهيأ بواسطة أجهزة فنية متعددة، يتوزع عليها العمل توزيعا فنيا متخصصا، وتجتمع المعرفة بتجميع هذه المعارف والتنسيق بينها وتصنيفها.
والقصد من هذا البيان، إثبات أن ما يكله الماوردي لسلطة من السلطات، قد صار اليوم موكولا لهيئات تنظم علي وجه يضمن تجميع الجهود المتعددة، ولم يعد لفرد سلطة طليقة في تدبير أو تنفيذ. أو علي الأقل هذا هو المرتجي. والسلطة تقيدها أحكام الدستور، وفي نطاق أحكام الدستور تقيدها القوانين المتعددة. وفي نطاق هذه القوانين، لا تمارس السلطة التقديرية حسب الغالب وفي المهم من الأمور، لاتمارس كسلطة فردية، وإنما تتخلق في الممارسة علي نحو مركب، فيمر مشروع القرار السياسي أو حتي الإداري عبر قنوات محددة ومتعددة من خلال هيئات متنوعة محددة قانونا. وإن صدر القرار بإمضاء فردي بعد ذلك، فهو يصدر بهذا الإمضاء تتويجا لكل العمليات المركبة السابقة. وهو في الغالب في المهم من الأمور يصدر بإمضاء هيئة يشارك فيها كثير من الأفراد لا فرد واحد.
ويمكن إجمال هذه النقطة بالقول إن السلطة الفردية، سواء في السياسة أو الإدارة قد تغيرت عن طريقين وعلي مبدأين: توزيع السلطة بين الكثير من الأجهزة والهيئات، وحلول القرار الجماعي محل القرار الفردي في المهم من الأمور.
وسلطة الإمام التي صورها الماوردي فردية تماما، يبين من تحليل عناصرها التي ذكرها أنها صارت موزعة اليوم بين ما يسمي بسلطات الدولة الثلاث، التنفيــــذية والتشريعية والقضائية. وأنها في النظم الحديثة قد استبدل بها ما يسمي بالقيادة الجماعية أو العمل الجماعي، سواء كان تنفيذيا أو تشريعيا أو قضائيا.
وبالنسبة لوزير التفويض الذي خصه الماوردي بجماع سلطات الدولة، لم يعد في المقدور تسمية أي من عمال الدولة وقيادتها الآن وزير تفويض، ما دام لم يعد فرد ما يملك هذه السلطات مجتمعة ولا واحدة منها كاملة. وفضلا عن ذلك، فإن الماوردي يرتب علي الوضع القانوني لوزير التفويض، أن عزله يفيد عزل جميع من ولاهم من عمال التنفيذ. ولا يظهر وجه للأخذ بهذا الرأي الآن، وأن تغيير رئيس الجمهورية أو الملك أو مجلس الوزراء أو المجلس النيابي، لا يقتضي عزل واحد من عمال التنفيذ. وعلي هذا، فإن منصب وزير التفويض الذي يشترط في شاغله ألا يكون ذميا، لم يعد هذا المنصب موجودا لا في النظم الديمقراطية المستهدفة،ولا حتي في النظم القائمة.
ومن جهة أخري، فقد أجاز الماوردي للذمي أن يقلد وزارة التنفيذ. وإذا كان وزير التنفيذ حسب قول الماوردي مبلغ معلومات للإمام ومنفذا لقراراته، أي أنه «يؤدي إلي الخليفة ويؤدي عن الخليفة»، فلا يلزم حسب تصور الماوردي أن يقتصر علي هذه الوظيفة، إنما يمكن أن يكون مشاركا في الرأي. وهذا الاشتراك يستوجب عند الماوردي أن يضاف إلي شروط تقليده شرط «الحنكة والتجربة » ،ولكنه لم يقتض إضافة شرط الإسلام إليه. ووزير التنفيذ المشارك في الرأي هو عينه ما يمكن أن يصدق علي وزراء اليوم وغيرهم في أعلي مناصب الدولة، ولاتزيد مساهمة رئيس الوزراء مثلا أو غيره في مهام الدولة عن التأدية إلي الجهات التابع لها والتأدية من الجهات التابعة له مع المشاركة بالرأي في اتخاذ القرارات. ويصدق ذلك علي ما ذكره الماوردي عن إمارة البلاد.
أما عن جهة ولاية القضاء، فقد شرط الماوردي لتقلدها، الرجولة بلوغا وذكورية، والحرية والإسلام والعدالة والسمع والبصر، والعلم بالأحكام الشرعية، وفصل عناصر العلم ومداه ثم ذكر: «فإذا أحاط عمله بهذه الأصول الأربعة صار بها من أهل الاجتهاد في الدين.. وإذا أخل بها أوبشيء منها خرج عن أن يكون من أهل الاجتهاد فلم يجز أن يفتي ولا أن يقضي .. فأما ولا ية من لا يقول بخبر الواحد فغير جائزة». وذكر عن سلطات القاضي أن ولايته عامة وخاصة، والعموم يشمل الفصل في المنازعات واستيفاء الحقوق وإثبات الولاية علي من كان ممنوع التصرف بجنون أو غيره، والنظر في الأوقاف وتنفيذ الوصايا وتزويج الأيامي وإقامة الحدود، والنظر في المصالح العامة من كف عن التعدي وغيره، « وتصفح شهوده وأمنائه واختيار النائبين عنه»، والتسوية بين القوي والضعيف. وليس للقاضي جباية الخراج، أما الصدقات فتدخل في عموم ولايته إن لم يختص بها ناظر فيقبضها القاضي من أهلها ويصرفها في مستحقيها ، لأنها من حقوق ا& تعالي. ويمكن أن يكون القاضي مختصا بإقليم معين عام النظر خاص العمل، أو أن يختص بمنازعات معينة.
ومن الجلي أن ليس من قاض اليوم تجتمع له هذه السلطات. وقد توزعت وظيفة القضاء إلي تقسيمات تتعلق بالولاية (حسب المصطلح الجاري الآن )، وتقسيمات تتعلق بنوعيات الدعاوي،وأخري تتعلق بالاختصاص الإقليمي. وفوق ذلك وأهم منه في التمييز بين نظام القضاء الذي يصوره الماوردي والنظام الحالي، أن استبدل في الغالبية العظمي من تشكيلات المحاكم، استبدل بنظام القاضي الفرد، نظام القضاة المتعددين، ثلاثة أو خمسة أو أكثر، يشتركون في نظرالمنازعة الواحدة وإصدار القرار بشأنها. ولم يعد لقاض فرد صلاحية الحكم وحيدا إلا فيما ضؤل شأنه وتفه أمره من المنازعات. كما استبدل بدرجة القضاء الوحيدة نظام تعدد درجات التقاضي، بحيث يجوز استئناف الدعاوي والأحكام أمام محاكم أعلي.
ومن ثم صار القاضي الواحد مجرد مشارك في الحكم بين زملائه في المحكمة، وحكمه خاضع للمراجعة من المحاكم الأعلي، فلايصير نهائيا واجب النفاذ إلا بتأييده من المحكمة الأعلي أو برضاء المحكوم عليه وعدم طعنه عليه. وثالث الفروق وأهمها أن قاضي اليوم مقيد في إجراءات نظره للدعاوي وفي إنفاذ الأحكام فيها، مقيد قانونا بمجموعة ضخمة من القوانين التي تنظم إجراءاته وترسم له مسلكه في النظر والتقرير، وتحدد له الأحكام التفصيلية التي يلتزمها في نظر الموضوع وإثبات وقائعه وتبين أوضاع المتنازعين وحقوقهم، وهذه كلها تصدر بها قوانين من سلطات التشريع. والقاضي فوق ذلك مقيد من الناحية العملية بسوابق ما استقرت عليه الأحكام من درجات التقاضي الأعلي.
ويمكن ملاحظة أن وظيفة القاضي في تصور الماوردي تدور في دائرة أوسع في إطار الشريعة الإسلامية، دائرة تشمل التفسير والتطبيق، وتشمل أيضا الاجتهاد بالقياس وغيره مما يعُدُّه مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي، أي يدخل في وظيفته ما يعَدُّ ذا صفة تشريعية بالمعني المتعارف عليه اليوم للوظيفة التشريعية، التي تدخل ممارستها في اختصاص السلطة التشريعية وحدها الآن. وقد سقط عن القاضي في النظام الجاري عليه العمل الآن عدد من الصلاحيات، مثل اختيار النواب عنه والأمناء، وكذلك مايتعلق بالصدقات.ومن ثم فإن اختلاف الوظيفة القضائية الآن علي هذا النحو، يمكن به النظر في اختلاف الشروط.
ومجمل القول في هذه النقطة، أنه حيثما أمكن الأخذ بما يسمي اليوم بالأساليب الديمقراطية في بناء الـدولة، فـإن ذلك يمـكن أن يحل ـ من وجهة نظر إسلامية سياسية ـ تلك المشكلة ذات الأهمية في تكوين الجماعة السياسية. ويمكن بهذه الأساليب رسم خريطة لتوزيع السلطات العامة، علي نحو يمكن من المساواة بين المواطنين جميعا مسلمين وغير مسلمين، بما لايخل بالأساس النظري والفقهي الذي يقوم عليه تفكير الماوردي نفسه. وذلك كله وفقا لمبدإ توزيع السلطات وحلول الهيئات محل الأفراد في اتخاذ القرارات. وأنه حيثما يبني تنظيم الدولة علي أساس من دمج السلطات والسلطة الفردية، فإن فكر الماوردي يظل علي حاله فيما شرط من شروط لتقلد بعض الوظائف العليا التي تتركز فيها السلطات وتنكشف السلطة الفردية
وإذا أمكن قبول هذه النتيجة، فإن حقيقة المسألة ـ الخاصة بالمساواة بين المسلمين وغيرهم، وما تؤثر به في أوضاع الجماعة السياسية ـ هذه المسألة تئول من الناحية العملية إلي وضع آخر يتعلق بأساليب بناء الدولة ونظام الحكم. ومن هنا تظهر أهمية أخري للأساليب الديمقراطية في أحكام بناء النظم السياسية، وقدرة هذه الأساليب علي استيعاب مبدإ المساواة في بناء الجماعة السياسية.
إن كل ماورد ذكره فيما سلف، يتعلق بحوار فكري حول الحقوق والواجبات. وإذا أمكن حل هذه المسألة من وجهة نظر الفكر الإسلامي، فلا يظهر أن سيبقي ما يحتاج إلي حلول فكرية، لأنه بذلك تنحل مسألة المساواة والمشاركة من وجهة نظر الفكر الإسلامي وهذا أهم ما يؤثر فكريا في بناء الجامعة السياسية.
وكل ما يتبقي بعد ذلك يتعلق بالسلوك والممارسة. ولا يظهر أن عقبة فكرية تعوق الوصول في هذا الأمر إلي المستوي المأمول. ومراجعة الأدبيات السابقة يوضح ذلك. وإن عصمة الأموال والأرواح وحرية العقيدة واحترامها وممارستها، كل ذلك سبق بيان ما يراه مفكرو التيار الإسلامي عن رأي الإسلام فيه، وهو نظر لا يكاد يكون محلا لخلاف. بل هي جوانب يسوقها الداعية المسلم اعتزازا منه بموقف الإسلام في إنسانيته. وقد سلفت الإشارة في فصل سابق، إلي ما بينه الإمام حسن البنا من أن الإسلام يلقي علي هذه الحقوق قداسة لا توفرها لها القوانين المدنية.كما سلفت الإشارة في هذا الفصل إلي ما ذكره يوسف القرضاوي بعد نحو ثلث القرن من اعتقاد كل مسلم بكرامة الإنسان أيا كان دينه، وأن اختلاف الناس في الدين واقع بمشيئة ا&، وأن ليس المسلم مكلفا بمحاسبة غير المسلمين.
علي أنه بدت في الآونة الأخيرة، من بعض من يتزيون زي التيار الإسلامي، بدت أمور وأحداث مما ينكره الإسلام فكرا ومسلكا، ومما لا يتجافي فحسب مع روحه السمحة، ولكنه يتجافي مع ما عاهد به المواطنين من عصمة الأفراد والأموال ودور العبادة.
لا يستطيع منصف أن يطمئن إلي نسبة هذه الممارسات إلي التيار الديني الإسلامي. ولم تتكشف أي مسئوليات محددة عن أي من هذه الوقائع. علي أن وجه النظر هنا، لا يتعلق بواقعة حدثت أو بيان أو منشور وزع، ولكنها تتعلق بزعم انتساب هذه الأمور إلي التيار الإسلامي السياسي، مما يوجب اتخاذ موقف جهير يزيل هذا الزعم ويعلن موقف الإسلام من تلك الأمور. وقد لا تتوقف تلك الأحداث بذلك. ولكن موقف البراءة منها من شأنه أن يفسد دلالتها ودورها السياسي، فعلا وردود فعل، ويجردها من فاعلية ضارة تراد من ورائها.
ومن جهة أخري، فإن الإسلام يميز بين المعاهدين والحربيين من أهل الكتاب، ولو كانوا علي دين واحد، وهذا يوجب تمييزا واضحا بين النصاري المواطنين وبين غيرهم، سواء في المواقف التاريخية أو الحالية، وهو تمييز يفتقد كثيرا فيما يكتب في الأدبيات الآن. وفقدان هذا التمييز من شأنه إشاعة الكراهية تجاه فريق من أبناء الوطن بغير مستند من واقع تاريخي. وتلزم الإشارة أيضا إلي منهج الأستاذ الإمام محمد عبده عندما ذكر أنه يتعين ألا تحاسب جماعة من أبناء الوطن بفعل فرد فيها أو أفراد. إنما يجب فرز الخيوط بدقة في هذا الشأن. ولكن الحاصل أن بعضا من الجماعات يستبد بها الغلو أو يخضع بعضها لما لا يعرف من المؤثرات، لإشاعة الكراهية ضد المواطنين من غير المسلمين. وهذا جهاد في غير ميدانه، وتوجيه للكراهية إلي غير مستحقها، وصرفها عمن يستحقها من الأعداء الحقيقيين للوطن والإسلام، وشغل للناس بغير الحقيقي من الأخطار، شغلا لا يقف ضرره عند ذلك، ولكنه يمتد إلي المساهمة فيما يراد من خلق الصراع خلقا بين فئات الشعب بعضها وبعض.
وقد كتب الأستاذ عمر التلمساني في صحيفة الـدعوة (ربيـع الأخـر عام 1400هـ)، مستهجنا نسبة أي شبهة في مســـــــــلك الأكــثرية المســــــلمة تجــــــاه الأقليـــــة القبطية، فقال: «إن الموقف في مصـــــــر من جميــــــع جوانبه، لا يحتمل مثل هــــــذه الإثارات. إن أضـــرار الإساءة إلي هذا الوطن، تلحق أول ما تلحق بالأكثرية فيه. فهل بلغ الغباء من المســــلمين في مصر، أن يسيئوا إلي وطنهم بأيديهم وإلي أنفســـهم بأنفسهم؟! لا أظن، فما زال في الرءوس العقول».
المراجع
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، المجلد الثالث، الطبعة الثامنة عام 1979.
(2) مقال «قبل تقنين أحكام الشريعة كأساس لتطبيقها» الدكتور محمد فتحي عثمان.مجلة المسلم المعاصر، العدد الحادي عشر (يولية ـ سبتمبر عام 1977)، ص 85 ـ 87.
(3) مقال «قضايا الدستور والديمقراطية في التفكير الإسلامي المعاصر»،د. محمد فتحي عثمان، مجلة المسلم المعاصر العدد السادس (إبريل ـ يونية عام 1976). ص 107 ـ 113.
(4) التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، الشيخ محمد الغزالي.
(5) معركة الإسلام والرأسمالية، سيد قطب ، القاهرة عام 1951 الطبعة الأولي.
(6) شبهات حول الإسلام ، محمد قطب، القاهرة عام 1954، ص 176 ـ 182.
(7) غير المســلمين في المجتمــع الإســلامي، الدكتور يوســف القرضــاوي، القــــاهرة عــام 1977.
(8) من أين نبدأ ..الشيخ عبدالمتعال الصعيدي.
(9) أزمة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث.. مظـاهرهـا ـ أسبـابها ـ علاجـها . الدكتـور عبد الحميد متولي الطبعة الثانية عام 1970.
(10) أزمة الفكر.. المرجع السابق ، ص 12 ـ 113.
(11) بحوث إسلامية، الدكتور عبد الحميد متولي، منشأة المعارف بالإسكندرية عام 1979، بالبحث الثاني عن الإسلام ومشكلة المساواة بين المسلمين وغير المسلمين.
(12) «مباديء نظام الحكم في الإسلام ..مع المقارنة بالمبائ الدستورية الحديثة».
(13) ماركسية القرن العشرين، روجيه جارودي ، ترجمة نزيه الحكيم، دار الآداب بيروت عام 1967 ـ ص 59.
(14) الأحكام السلطانية والولايات الدينية، تأليف أبي الحسن علي بن محمد حبيب البصري الماوردي، راجعه الدكتور محمد فهمي السرجاني مدرس بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، المكتبة التوفيقية بالقاهرة سنة 1978.
إن رأب هذا الصدع لن يجيء
عن طريق تجاهل أي من الجانبين
للآخر أو إنكاره. ليس في مكنة أحدهما نزع
صاحبه أو نفيه، ولا في مكنة الآخر القفز إلي
آخر الطريق. وإيجاد صيغ التفاهم
والتلاحم أمر لا محيص عنه
حيثما أمكن الأخذ بما
يسمي اليوم بالأساليب الديمقراطية
في بناء الـدولة، فـإن ذلك يمـكن أن يحل ـ
من وجهة نظر إسلامية سياسية ـ تلك
المشكلة ذات الأهمية فــي تكـويـن
الجمــاعة السياسـية
بدت في الآونــة الأخيرة، من
بعــض من يتزيـــون زي التيـــار
الإســـلامي،أمور وأحداث مما ينكره
الإسلام فكرا ومسلكا، ومما لا يتجافي فحسب
مع روحه السمحة، ولكنه يتجافي مع
ما عاهد به المواطنين من عصمة
الأفراد والأموال ودور العبادة