من الباقــــوري وحســـن البنـــا إلي «الهيب هــوب» و«الـــراب» (دقات الدف الإسلامية )
تدريجيا أخذ النشيد (الإخواني أو الوهابي كما يصنفه البعض) مكانه في العديد من المناسبات في مصر. من التجمعات النقابية والطلابية، وحتي الاحتفال بالزفاف أو قدوم مولود جديد في العديد من شرائح المجتمع وخاصة الطبقة الوسطي. ورغم التاريخ الطويل لهذه النوعية من الأغنيات، وانتشارها الملحوظ في السنوات الأخيرة من القرن الفائت، إلا أن ندرة الدراسات الاجتماعية أو النقدية التي تتعرض للظاهرة، وتلاحظ تطورها اللافت، أو تعمد إلي تحليل مضمونها الإعلامي كان ملحوظًا أيضًا.
في هذه الدراسة التي عكف عليها باحثان فرنسي ومصري إطلالة علي هذا التاريخ الطويل من المحاولات الأولي للباقوري وعبد الحكيم عابدين والبنا وحتي أغنيات «البوب» الإسلامية.. حسب تصنيف منشديها وكثير من مستمعيها.
المحــــرر
كان حسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين أول قائد إسلامي حديث يلجأ إلي الأغنية. لقد كان البنا ابنا لحقبة تؤمن بالفنون الاجتماعية، وتعتبرها وسيلة لتحريك وبلورة الميول السياسية. وشكل انخراطه في الصوفية رؤيته للموسيقي، وبدا أن البنا يسعي إلي نوع جديد من الفن هو ما أطلق عليه اسم «الفن الهادف»، ومن ذلك المنظور، أدخل البنا العديد من صور التعبير الفني في برامج تشكيل كوادر حركته، وعلي رأسها الأغاني الدينية و «الاسكتش»، ثم المسرح الإسلامي الذي أسسه شقيقه عبدالرحمن.
كان ذلك في فترة لم تكن السلفية قد أعلنت عن وجودها بعد في صفوف الإخوان، وكان للنساء وجود ملحوظ ليس في صفوف الحركة فقط بل وعلي خشبة المسرح الإخواني، لا سيما نجمة المسرح الشهيرة آنذاك «فاطمة رشدي» التي عملت في مسرح الإخوان!.
إذن، كان النشيد حتي ذلك الحين يتبع حركة اجتماعية في طور التشكيل، وبذلك كان معتمدا كلية علي السياسة: كلماته نضالية، كتبها الشيخ احمد حسن الباقوري، بعضها الآخر كان يكتبه عبد الحكيم عابدين زوج أخت المؤسس. لقد كان النشيد مصاحبا للتظاهرات والتجمعات في المناسبات والاحتفالات الدينية مثل مولد النبي والعام الهجري الجديد والعيد، في تلك الأوقات كان الأفراد جميعهم ينصهرون في حركة موحدة، يدا بيد، يرفعون أيديهم نحو السماء أثناء التظاهرات.
في جميع الأحوال، فإننا إذا أردنا البحث عن جذور صوفية عامة في مفهوم «النشيد» لوجدنا أولا أن محتوي الكلمات نفسه كان جديدا، بلا علاقة حقيقية مع الأشكال الموسيقية التقليدية، وتلك كانت بداية تسييس النشيد، صحيح أنه من الممكن أن نجد علاقة بينه وبين النشيد الصوفي إلا أننا نجد بالمقابل عدة فوارق بينهما، يتمثل أولها في إخضاع النشيد للسياسة ووضوح الإيقاع في موسيقي النشيد الذي تصاحبه عدة آلات موسيقية، كي يمثل النشيد في النهاية منتصف الطريق بين النشيد القومي والمارش العسكري.
وعليه صار النشيد الذي كتبه الباقوري والذي يحمل اسم «يا رسول الله» أقرب إلي النشيد الرئيسي للإخوان وتقول كلماته:
«يا رسول الله هل يرضيك أنا
إخوة في الله بالإسلام قمنا
ننفض اليوم غبار النوم عنا
لا نهاب الموت بل نتمني
أن يرانا الله في ساح الفداء
.............................
أشعلت دعوة الإخوان فينا
روح آباء كرام فاتحيننا
أسعدوا العالم بالإسلام حينا
فاستجبنا للمعالي ثائرينا
وتسابقنا إلي حمل اللواء
............................
إن نفسا ترتضي الإسلام دينا
ثم ترضي بعده أن تستكينا
أو تري الإسلام في أرض مهينا
لن تكون في عداد المسلمين الأوفياء
وبدا أن ساعة المواجهة قد حانت، وتظهر القناعة التامة بقرب النصر في نشيد الكتائب الذي كتبه زوج أخت حسن البنا، وتقول كلماته:
هو الحق يحشد أجناده
ويعتد للموقف الفاصل
فصفوا الكتائب آساده
ودكوا دولة الباطل
إلي النصر في الموقف الفاصل
مأساة أعوام الرصاص
لكن ليلة النصر الفاصل الموعودة لم تأت أبدا، بل أتت بدلا منها سنوات الرصاص تحت حكم عبد الناصر. والتي شهدت انتقال الجماعة إلي السرية مما أعاق نمو الحركة الفنية للإخوان. وظل النشيد حبيسا وراء القضبان، وفي الوقت الذي كان نشيد أعوام الثلاثينيات والأربعينيات محملا بتفاؤل البدايات الأولي، صار النشيد في الخمسينيات والستينيات محملا بالمأساوية. في تلك المرحلة بزغت أسماء سيد قطب، أبو الأصولية الإسلامية في مصر، وهاشم الرفاعي، الذي كان طالبا بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة واغتيل في ظروف لم يتم الكشف عنها بوضوح إلي اليوم.
كان هاشم قريبا من الإخوان المسلمين ولكن دون أن يكون واحدا منهم وكان ينشد ألم ويأس المرحلة في كلمات قصيدته «أبتاه»:
أبتاه ماذا قد يخط بناني
والحبل والجلاد منتظراني
هذا الكتاب من زنزانة
مقرورة صخرية الجدران
لم تبق إلا ليلة أحيا بها
وأحس أن ظلامها أكفاني
نلاحظ أن نبرة النشيد ليست وحدها هي التي تغيرت، بل تغير معها محتواه نفسه. في زمن حسن البنا كانت المواضيع المسيطرة عليه هي بذل الجهد في سبيل الخير وتوحيد المسلمين أو عودة الخلافة، لكن لم تنته الخمسينيات من القرن الفائت حتي شهد النشيد تفصيلا جديدا للمفاهيم يسيطر عليه أمران: «الجهاد» بمفهومه العسكري، والثاني هو «الغربة» ذلك الشعور بوجود منفي داخلي في قلب كل مؤمن تقي في مجتمع يبتعد عن الإسلام، وهو ذات الشعور الذي أوجد فرعا كاملا من الأدب هو أدب الغربة، والذي ارتكز علي قول النبي «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا، فطوبي للغرباء».
سعد سرور، وجمال فوزي وزكريا التوابيتي، كلها أسماء لشعراء مقربين من الإخوان، مروا جميعهم بتجربة السجن، وكتبوا حول التعذيب، والتمسك بالإيمان علي الرغم من المعاناة، والحياة في ظل السجون.وبدا الانتقال تحت قلم وكتابات سيد قطب من مجرد توصيف حال الغربة إلي تعظيم فكرة العزلة عن المجتمعات الجاهلة، أو ما يطلق عليه اسم «العزلة الشعورية»، وهو ما ظهر في نشيد سيد قطب الذي يحمل اسم «الغرباء»:
«غرباء ولغير الله لا نحني الجباه
غرباء وارتضيناها شعارا للحياة
إن تسل عنا فإنا لا نبالي بالطغاة
نحن جند الله دربنا درب الأباة
وكان طبيعيا أن تؤكد أناشيد أيامها علي الصبر والحفاظ علي المبادئ والمثل العليا في زمن الضعف، كما يبدو في نشيد «أخي أنت حر»:
«أخي أنت حر وراء السدود
أخي أنت حر بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصما
فماذا يضيرك كيد الحسود
وفي سياق مزدوج من ضعف الوجود العام للإخوان المسلمين -علي الرغم من إعادة تنظيمهم بالكامل بعد خروجهم من السجون عام 1973 -وتقاربهم مع المملكة العربية السعودية، بدأت الوهابية تفرض إيقاعها علي النشيد الإسلامي : تم منع كل الأدوات الموسيقية فيما عدا الدف، وأضيفت أناشيد المناضلين السوريين الفارين من قمع النظام البعثي الوحشي للإخوان في حماة عام 1982، إلي أناشيد سيد قطب. وظهرت السيطرة السياسية والعسكرية الأصولية بعنف علي النشيد علي يد منشدي هذه الفترة البارزين أبو مازن وأبو راتب وموسي مصطفي، وولدت نشيدا مثل «المجد القادم» الذي ينشد علي خلفية من أصوات حوافر الخيول وهي تضرب الأرض، أو نشيد مثل «ثوار..ثوار» الذي يهدر بـ:
«ثوار..ثوار
سيف ومصحف يا أحرار
لازم نصبر مهما طال
وبعون الرب الجبار
بعد الليل نهار...»
ما أن انتصفت السبعينيات حتي صارت الحركة الإسلامية من جديد تحت لواء الإخوان، متواجدة في كل مكان: في الاتحادات الطلابية والنقابات المهنية والمجالس المحلية والبرلمان.. كانوا ينظمون المؤتمرات والاحتفالات والمظاهرات والصلوات العامة للاحتفال بالعيد في الخلاء، وظهر جيل جديد لم يعان من ويلات السجون، يسعي للخروج من «ثقافة السرية» التي كانت تسيطر علي الأجيال السابقة عليه، كي يبدأ في مد مشروع الأسلمة إلي خارج المحيط السياسي.
تضاعفت التجمعات الإخوانية، وصارت الأناشيد مصاحبة لها باستمرار، وراحت فرق الأغاني تتشكل ما بين القاهرة والإسكندرية: تأسست فرقة الهدي عام 1989.. تبعتها فرق الفتح والندي وزهرة المدائن.. في بداية التسعينيات، وانتشرت مهنة جديدة في مصر، هي مهنة المنشد الذي يشدو بالأغنيات الدينية، واتجه رجال مقربون من الإخوان أو ينتمون إليهم إلي هذا اللون الغنائي الجديد، لون الدعوة بالغناء.
ولعب عامل آخر دورا في ذلك، هو عامل المهرجانات الموسيقية التي أقيمت بهدف دعم القضية الفلسطينية، وكانت قد بدأت منذ عام 1987 تحت إشراف الإخوان المسلمين الفلسطينيين، كان هؤلاء يتزايدون في بلاد الخليج وخاصة الكويت «ذات التواجد الفلسطيني الكثيف وقتها» انطلاقا من الفرق القريبة بشكل عام من حماس، وهي فرق شديدة الميل نحو العسكرية وبعيدة عن السلفية في آن واحد.وهو ما سمح بالآلات الموسيقية في بلاد الخليج في الوقت الذي كان الضغط السلفي في مصر يمنع أن يصاحب الغناء أي آلة موسيقية باستثناء الدف!. ومنذ عام 1989 ومع انفتاح سوق الكاسيت، وجدت حركة مهرجانات الأناشيد لدعم الانتفاضة صدي كبيرا في مصر، وأعادت تشكيل نفسها تحت إشراف الإخوان في الجامعات، خاصة في جامعة الإسكندرية، وظلت تلك المهرجانات تقام كتقليد سنوي هناك حتي عام 1993 عندما بدأت ضربات النظام تتوالي علي الإخوان.
ثم كان العامل الثالث الذي ساهم في تحويل هذه الفرق إلي الشكل المؤسسي واستقلالها عن السياسة، وهو التوجيه الذي أطلقته المكاتب الإدارية للإخوان في المحافظات خاصة القاهرة والإسكندرية وأعطي لهذه الفرق الحق في أن تستقل بعيدا عن الرقابة التنظيمية المباشرة من الجماعة، وهو ما أتاح لها أن تنمي نفسها خارج نطاق سيطرة الإخوان، ودون أن تلزم نفسها بقواعد الدعوة الكلاسيكية.
وبذلك، وبدءًا من العام 1992، تحررت فرق النشيد من السيطرة الأيديولوجية للإخوان، وبدأت تبتعد به عن السياسة، ومنذ ذلك الحين صار منطق العرض والطلب هو الذي يحكم تطور النشيد، وليس مشاكل السياسة أو علاقة الإخوان بالسلطة. لقد بدأ النشيد يخضع بوضوح لآليات السوق.
من الجامعة إلي فنادق الخمس نجوم
ولنتأمل حالة فرقة «الهدي»..لقد ظهرت تلك الفرقة في إطار مهرجانات الأناشيد لدعم الانتفاضة الفلسطينية... أشرف علي تأسيسها الشيخ عباس السيسي عام 1989، وهو أول عسكري ينضم إلي جماعة الإخوان المسلمين في عهد الملك فاروق، وكان وراء تأسيسها فعليا عمرو أبو خليل، الناشط الكبير في الجماعة الإسلامية ( الإخوان المسلمين) في جامعة الإسكندرية في الثمانينيات.
كانت الفرقة في بدايتها مكونة من أعضاء اللجنة الفنية للإخوان، وهي مؤسسة تتولي مهمة إدارة كل صور التعبير عن آراء الإخوان، بما فيها الشعارات في المظاهرات والاسكتشات المسرحية في الجامعات وكلمات الأناشيد، كان عدد أعضاء الجماعة يتراوح بين سبعة أو ثمانية أفراد، معظمهم من طلاب جامعة الإسكندرية، نشطت في أول الأمر في المجالات الكلاسيكية للحركة الإسلامية مثل المؤتمرات والمظاهرات والاحتفالات الدينية... ثم بدأوا كذلك في إحياء الأفراح علي الرغم من الجناح السلفي في الحركة الذي يقبل بصعوبة صياغة الإسلام في كلمات الأغاني ويقبل بصعوبة اكثر تحصيل عائد منها.
بدأ الزواج الإسلامي يفرض نفسه في قلب البرجوازية المسلمة، وراحت فنادق الخمس نجوم ونادي سموحة نادي البورجوازية الراقي يقدمون عروضا لمثل هذا النوع من الزواج الذي يحتفظ بملامح إسلامية في الجانب والمظهر الأخلاقي أكثر من احتفاظه بها في الممارسات الدينية المحددة.
( يلاحظ أنه في الإسكندرية يرفض فندق الشيراتون وحده إقامة مثل هذا النوع من الأفراح الذي يصر علي عدم الاختلاط بين الرجال والنساء )
وبدأت الهدي تدخل بعدها إلي سوق الكاسيت، في البداية، كانت تغني في الأفراح وتقوم ببيع شرائطها إلي المدعوين، وبعدها راحت المكتبات الإسلامية تنشر هذه الشرائط، ثم جاء دور المساجد، وأخيرا قامت الفرقة بتسجيل سلسلة من شرائط الكاسيت في الاستديو تحمل اسم «أفراح الهدي».
لقد صمدت الهدي في وجه الضغوط السلفية التي كانت قوية داخل جماعة الإخوان في منتصف التسعينيات، وساعدها علي ذلك أنها كانت في ذلك الحين قد استقلت بما يكفي عن الإخوان المسلمين بحيث لا يتم التعامل معها باعتبارها منهم...ومن ثم فقد راحت «الهدي» تستخدم كل الآلات الموسيقية في أدائها ضاربة عرض الحائط بكل الآراء السلفية، لتنتج ألحانا تتأرجح ما بين الإيقاع الشبابي والشعبي.أما محتوي الأغنيات نفسه، فبدا اكثر نعومة وتلاشت النداءات الثورية منه.
ثم ظهر الجيل الثاني من الفرقة في نهاية التسعينيات: جيل اكثر احترافا، وقريب كذلك من الإخوان المسلمين، أدار ظهره للسياسة، وفتح ذراعيه للرومانسية، مما دفع الفرقة تدريجيا باتجاه ثقافة الغناء الشعبي الذي كانت السلفية تحاربه لأكثر من ربع قرن.. وبدا ذلك في شريطها الأخير «من أفراح الهدي» الذي يحمل طابعا شعريا غير ثوري، ويضم أغنيات مثل «عصافير الجنة» «وبلبل الأفراح» و«حور الجنة»!
وتبدو قصة فرقة الهدي متشابهة إلي حد ما مع قصة فرقة البنات التي حملت اسم «سندس» نسبة إلي الحرير الذي تصنع منه ملابس أهل الجنة. لقد بدأ كل شيء في قلب مجموعة من البنات الطالبات في جامعة القاهرة، أغلبهن من طالبات كليات الهندسة والطب. كن ينظمن حفلات في الجامعة للفتيات قبيل الزواج بهدف «إدخال البهجة علي قلب الفتاة التي تنوي الزواج» كما تروي رحاب سلامة المسئولة عن المجموعة.
وفي نهاية التسعينيات بدأ الطلب يتزايد علي الفرقة لإحياء أمسيات خارج نطاق الجامعة. هنا طرحت مسائل الاحتراف والمكاسب المادية المتحققة للمناقشة، وارتضت الفرقة في البداية أن تنال مقابلا من الجوائز الرمزية التي تخصصها فقط لتغطية مصاريف التشغيل دون الحصول علي أية عوائد أو رواتب إضافية لعضواتها. الأمر الذي أتاح لهن تحسين نوعية آلاتهن الموسيقية، وابتكرن لأنفسهن زيا موحدا ثم اخترن الاسم في النهاية : سندس.
وبذلك تشكلت أول فرقة «موسيقي إسلامية» للنساء، وأمام الانتقادات التي وجهتها إليها الفرق النسائية الأخري، والتي اعتبرت الحصول علي مكاسب مادية أمرا يتناقض مع الدعوة، قالت رحاب سلامة:«هل من الضروري أن يكون كل مشروع إسلامي مشروعا خيريا؟ وهل الإسلام يعارض الربح؟»..
الواقع أن نجاح هذه الفرقة قد صعد بها حتي فنادق الخمس نجوم، وفي الصيف كن يقدمن خمسة عروض أسبوعيا (بدءا بليالي الحناء ومرورا بحفلات الخطبة وحتي احتفالات الحجاب) وهو ما دفعهن لاستخدام الأورج الكهربائي بعد أن صارت الطبول مجهدة بالنسبة لهن، ولنفس السبب بدأن في استخدام مكبرات الصوت.
لقد أدت مضاعفة أعداد الكوادر والانفتاح المطرد للفرقة علي جمهور جديد، إلي أن تقوم الفرقة بتنويع اجندتها في إطار السياق المحدود الذي تمنحه الأناشيد الإسلامية، والتي لا يوجد بينها ما هو موجه للمرأة. بالتالي وجدت الفرقة أنها مضطرة إلي تركيب كلمات إسلامية علي الأغنيات العربية الكلاسيكية الموجودة بالفعل، أو القيام بإنشاد هذه الأغنيات مع حذف المقاطع «غير الملائمة دينيا» منها. وهو ما قامت به المجموعة بالفعل في ألبومها الأول الذي حمل اسم «زي البنات»، وهو اسم لأغنية شهيرة كتبها المطرب الشهير سيد درويش وكان أبرز أشهر من غناها ممثلة الإغراء مها صبري في ثلاثية نجيب محفوظ!
من النشيد إلي الأغنية الإسلامية
فرض النشيد نفسه، بوصفه شكلا موسيقيا جديدا، كعلامة مميزة لديناميات التحول إلي الأسلمة، لقد تمت إعادة اكتشاف النشيد من جديد ليصبح عنصرا في الحركة الثورية وفي السلفية المتخيلة وفي أزمة الهوية، كل ذلك في آن واحد، كان النشيد هو ما ظهر علي الساحة الموسيقية ( هناك أكثر من 50 فرقة تتقاسم السوق في مصر) وصاحبه الحجاب علي ساحة الأزياء، وموائد الرحمن في مجالات الخير. وأخيرا الدعاة الجدد.
كلها علامات مميزة للتحول إلي الأسلمة التي صارت تدخل في فكر عام خال من التوجهات السياسية في التسعينيات ويكافئ نفسه بمنطق السوق وثقافة الجماهير.
كان ذلك هو «النشيد»، الذي كان لابد أن يتحول إلي «الأغنية» الإسلامية وهو الاسم الذي استقر بعد المواجهة مع المنظومة السلفية والتي بدأت مبكرا... ظهرت فرق أغان إسلامية في سوق الكاسيت متخصصة في إحياء الحفلات الخاصة - كالأفراح والسبوع والختان- وحملت أسماء جذابة وحالمة مثل أندلسية، زهرة الأندلس،كنوز، تغريد، السراج، الزمن الجميل، الندي، مرحبا. كانت الفرق الإسلامية متشددة عند انطلاقها، تصر علي مبدأ منع الاختلاط بين الجنسين، وكانت الفرق النسائية مثل «سندس» و«زهرة البنات» لا تشدو إلا للنساء في احتفالات خاصة بهن، وبالتالي ظلت هذه الفرق ممنوعة من دخول سوق الكاسيت ( فصوت المرأة يثير الرغبة، ومن بعدها الفوضي، لذلك فهو عورة بالنسبة للرجال)، وتحايلت فتيات الفرقة علي تلك العقبة بتسجيل أغاني الألبوم في الاستديو بصوت فتاة صغيرة غير بالغة.
كان الزواج الإسلامي في بداية الأمر يمنع الاختلاط، ثم صار بعدها احتفالا يتم في قاعة واحدة مع التأكيد غير الصارم علي شكل محترم للاختلاط؛ وصار ذلك معيارا للاحترام لدي البورجوازية المتدينة التي لم تكن مستعدة لتقبل الرؤية السلفية في المنع المبدئي للاختلاط.. لقد بدا أن وحدة وتجانس التيار الإسلامي هي أول ضحية لنجاحه وانتشاره.
أما الفرق ذات التوجه التربوي التي لا تحيي الأفراح مثل الجيل، فلم تضطرها الأفراح إلي الميل نحو الشاعرية، وظلت قادرة علي الالتزام بنهجها التربوي، ولكن أتاح لها تحررها من منطق الطلب المباشر المزيد من الابتكار في حقل الموسيقي. فتمزج فرقة مثل الجيل في ألبومها الأخير ما بين الإيقاع العربي الحديث «new age » وبين الجاز، بشكل أقرب إلي أسلوب المغني الشهير ربيع أبو خليل، ومن المنتظر أن تعد فيديو كليب إسلاميا لأول مرة في تاريخ الأغنية الإسلامية(>).
وهنا لا يكون لروح وأجواء أفراح الزواج دور كبير في التطوير، إذ تصبح الكلمة العليا لقواعد الأداء الموسيقي الصرف واحترافه، فعلي سبيل المثال يمنح عازفو فرقة «النور» أنفسهم كلية للموسيقي، إذ إن الموسيقي تحتاج إلي محترفين، وهو ما يتعارض مع فكرة النضال. والمؤكد أنه في تقييم الفرق الموجودة في سوق الكاسيت، فإن المهارة تأتي في المرتبة الثانية بعد الانخراط الأيديولوجي. أما الملحنون فيتم اللجوء إلي خدماتهم دون أدني اعتبار لتوجههم أو مظهرهم الديني، مثل حسن إش إش وباهر الحريري وكلاهما من الملحنين المعروفين الذين يتعاملون مع المطربين الكبار.
إن «الأسلمة» لم تتلاش، لكنها تميل إلي إعادة صياغة نفسها علي أسس غير سياسية، بل أخلاقية مثل السمعة والاحترام والتقوي. بمعني أنها تستنبط من المجتمع وليس من روح الجماعات التي تكونه.
ولم تتوقف التجديدات في المحتوي فيما يطلق عليه اسم «الأغنية الإسلامية» بل تتصاعد كلما خرجت الفرق من عباءة الوصاية المباشرة للتنظيم الإخواني. وكانت كلاسيكيات الأناشيد النضالية هي أول ما فقد جزءًا من رونقه، فكلمات مثل «لبيك إسلام البطولة» و«ثوار» و«أنا عائد» ليوسف القرضاوي، كانت من قبل تلقي دون موسيقي، ثم تم تركيبها علي موسيقي ذات إيقاع هجومي، تماما مثل أي أغنية ثورية...ولكن مع التطور الأخير لانت النبرة التي تشدو بها حناجر أعضاء فرق الغناء الجديدة مثل فرق الجيل وكنوز.
أطلقت فرقة كنوز سلسلة من شرائط الكاسيت تحت اسم «بشائر النصر».. خصصتها لفلسطين وأنشدت فيها أغنيات مثل «خدوا بالكم» ظهر فيها بوضوح تخفيف الثقافة الجماهيرية للحماس الثوري. وأعادت «كنوز» غناء نشيد «رددي يا جبال» الكلاسيكي الثوري ولكن بصوت هادئ تصاحبه الموسيقي.
في كل شيء، بدأ محتوي النشيد يميل إلي النعومة، وبدأت الرومانسية تجد طريقها إليه ( علي سبيل المثال، نداء الحب لفرقة السراج)، وبدأت روح السخرية والفكاهة تتزايد، فتطلق فرقة مثل الوعد علي ألبومها الأخير اسم «جوزناه وخلصنا منه»، بينما تشدو جمــــاعة كنـــــــوز بهــــــــذا المقطع: «يا جماله يا جماله يا جماله..عريسنا تايه في دلاله»!.
ومن الواضح أيضا تزايد التداخل بين الأغنية الإسلامية وثقافة الجماهير في فترة التسعينيات، وتزايد معها بالمثل استخدام إيقاعات الأغاني العربية الشائعة التي يتم تركيب كلمات إسلامية عليها، فأغنية لمطرب مثل عمرو دياب يقول مطلعها:«من كام سنة وأنا ميال ميال.. وفي حبك أنا مشغول البال» أصبحت تغني في الاحتفالات الإسلامية بنفس الإيقاع ولكن بكلمات أخري تقول «من كام سنة وأنا ديني الإسلام... وشريعتي أنا سنة وقرآن»!! بل وتحولت أغنية الأطفال الشعبية«بابا فين» إلي أغنية إسلامية تقول:«المسلم فين» وأعادت زهرة الأندلس غناء أغنية «علي دا العودة» وهي أغنية شامية مشهورة غنتها المطربة اللبنانية صباح بتوزيع جديد، بينما يتم الإعداد الآن لوضع أغنية المطربة الشابة شيرين «جرح تاني» في قالب إسلامي!.
في أغاني أو زفة الأفراح التقليدية، كانت تتم الإشادة بأسماء الشخصيات الهامة من الحضور أو أبناء الحي وأقارب العروسين، وقد اتبعت الأغاني الإسلامية، نفس التقليد ولكن تم محو هذه الأسماء كي يحل محلها أسماء الرموز الإسلامية الكبري :
«إحنا الإخوان..ما فينا جبان
إخوان البنا..الموت نتمني
منا الفرغلي..أبدا ما يولي
والتلمساني.. راجل رباني
والزعفراني.. من الجيل التاني»
والفرغلي - أو محمد فرغلي- قيادة تاريخية حكم عليها بالإعدام أيام عبد الناصر، وعمر التلمساني هو المرشد الثالث، أما إبراهيم الزعفراني فهو قيادة سكندرية وسيطة.
وهكذا بدأ نوع جديد من الغناء يتشكل علي جبهة النشيد الإسلامي والثقافة الجماهيرية، هذا النوع هو ما يطلق عليه اسم «الأغنية الشعبية الإسلامية»، ويستعير أسلوبه من أجندات مختلفة، بدءا من الأناشيد التقليدية، ومرورا بالجاز وحتي إعادة صياغة للبوب المصري أو الموسيقي الشبابية التي بدأت من جانبها تميل شيئا فشيئا إلي التدين.
وفي الوقت الذي تسيطر السياسة علي اهتمامات العالم كله أثناء الانتفاضة، نجد للأمر نكهة مختلفة عند فرق الأغاني الإسلامية؛ فالاهتمام بقضايا السياسة يتم في إطار ثقافة جماهيرية منفتحة. تنزع فيه السياسة من الأغنية لا باختفاء الموضوعات السياسية من عناوينها وكلماتها وإنما بتعميم الأسلوب الذي يتم به تناول السياسة، بمعني آخر؛ فإننا نعود من جديد إلي صورة من القومية العربية التي تحمل لمسة دينية للعالم أجمع، تمتزج فيها كل الإرهاصات، إلي الحد الذي يجعل فرقة عتيدة من فرق الإخوان المسلمين الغنائية مثل الجيل، تستعير لحن أغنية للمغنية اللبنانية جوليا بطرس المسيحية الأصل تحمل اسم «قاطع» لأنها تدعو إلي مقاطعة البضائع الإسرائيلية.
ومع تضاعف شعبية الأغنية-النشيد، الذي امتد خارج الدوائر الإسلامية بمعناها الحرفي، صار محتوي وموسيقي أغنياته اكثر عمومية، وبدأ مطربو «البوب» العرب «ينشدون»، فأعلن عمرو دياب عن نشـــــيده الصوفي الأول (يا رسول الله يا محمد)، وسجل محمد فؤاد أنشودته في المدح الديني مثل «الحق»، وسجل مصطفي قمر أول دعاء له يحمل اسم «الرحماء»، أمامحمد الحلو فقد غني أغنية «صرخة ميلاد» عن فلسطين التي احتلت أولوية كبيرة حتي خصص لها ألبوم كامل باسم «القدس تصرخ» ضم عددا من الأغنيات ذات الطابع الديني. كما صدر ألبوم متنوع (كوكتيل) يضم 12 أغنية دينية لكبار المطربين المصريين، مثل: محمد رشدي، وعلي الحجار، ومحمد ثروت، وهاني شاكر.
أما محمد منير أشهر نجوم الغناء المصريين فقد خصص ألبومه قبل الأخير «الأرض السلام» بأكمله للمدائح الصوفية مستلهما تراث كل من الطائفتين الشاذلية والميرغنية. وكلتاهما متأصلة في النوبة، بلده الأصلي، وكان ذلك الألبوم هو أيضا ما أتاح لمنير أن ينال شعبية واسعة في الغرب، إذ كان أول البوم يسجله هناك. فوضعته رسالة «الحوار الثقافي والدعوة لإسلام سلمي» في قلب الأحداث العالمية المتلاحقة والتي يمثل فيها الاهتمام بالإسلام قاسما مشتركا.
وبذلك تمت إعادة تشكيل النشيد في قلب حركة إسلامية سلفية لكنها في طور الانفتاح من جديد علي الثقافة المحيطة ممثلة في الغناء العربي، وصار النشيد (الإسلامي سابقا) متأصلا بقوة في الثقافة الجماهيرية التي تميل إلي التعددية أكثر من الإسلامية، حيث يحتل الإسلام مكانه بين الثقافات الشابة الأخري دون أن يلغيها كلية، ومرة أخري بدا أن امتداد الأسلمة يأتي علي حساب الإسلاميين، لأنه يبتعد عن السلفية المتخيلة، وعن السياسة من بعدها.
تظل «الأصولية الجديدة» من دون شك سواء في صورتها العسكرية أو السلمية هي الطريق الملكي للخروج عن الحركات القومية الإسلامية. فهي تقترح إسلاما عالميا، نموذجا صالحا للتطبيق في كل زمان ومكان لأنه لا يضرب بجذوره في مكان محدد، كما أنه يتكيف مع ظروف العولمة، بالتالي فهو يعارض الثقافات المحلية باسم عالمية المرجعية الدينية.
هناك عدة وسائل للخروج من الإسلام السياسي مع البقاء داخل إطار الإسلام، والانخراط في ديناميات العولمة. وربما تعد إعادة صياغة الأسلمة عبر الثقافة الجماهيرية إحدي هذه الوسائل. لقد أوضحت تلك النبذة القصيرة عن تاريخ النشيد الإسلامي سابقا كيف يمكن أن تستقل أجندة إسلامية استخدمها الإخوان المسلمون كأداة في المواجهة السياسية، عن إطار المنظومة السلفية؛ إذ إن فكرة الهواية والجمال تتعارضان ولا شك مع السلفية.
وتفرض الثقافة نفسها من جديد علي هوامش دينامية الأسلمة التي وقفت كثيرا ضدها، فالإسلام العالمي وأثيرته السلفية يتعارضان مع التقاليد المحلية بزعم ابتعادها عن حقائق الكتلة الفكرية المعروفة، في الوقت نفسه فإن هذه الثقافة ليست الثقافة التقليدية التي ترفضها السلفية، بل هي ثقافة شابة تحيا بإيقاع عصرها، فوجود الموسيقي العربية الكلاسيكية يكاد يكون منعدما في الاستخدامات المختلفة لفرق النشيد، إذ يتم الاعتماد علي عمرو دياب وشيرين.. ونجوم الغناء الشبابي العربي، ولكن دون أن تكون هناك نسخة إسلامية من أغاني أم كلثوم مثلا. هذه هي الثقافة الجماهيرية المعارضة للثقافة الكلاسيكية، أي الثقافات الفرعية للشباب الذين يتعايشون مع العولمة ويقبلون التعددية.
لقد أثبت النشيد قدرته علي إرساء قواعده من جديد في مختلف الثقافات الشابة.فهو في أمريكا مثلا يضرب بجذوره في موسيقي الهيب هوب، ويستخدمها كتعبير عن الاعتناق الجديد للدين، وكأحد عناصر ثقافة جديدة سوداء تعيد تشكيل نفسها حول الإسلام. وفي جنوب شرق آسيا يتلامس النشيد مع إرهاصات موسيقي العصر الجديد أو new age مع أسماء لفرق مثل «ريحان» و«قطر الندي»، وعلي أنغام موسيقي الأفلام الهندية يضع روما ايراما، مطرب الروك الإندونيسي السابق، كلمات دعوته. وفي هولندا فان فرقة الهدي التي كونها عدد من المهاجرين المغاربة قد استخدمت موسيقي الروك لتعبر بها عن نفسها. بينما ينطلق الراب الإسلامي في فرنسا من الضواحي علي يد الشعراء الأفريقيين الجدد علي سبيل المثال، وهم المدافعون القدامي عن الاتحاد بين المؤسسات الإسلامية في فرنسا والذين ابتعدوا اليوم عن أرضية السياسة الزلقة.
بعبارات أخري، فإن الثقافة التي ترسي دوافع الأسلمة في كل مكان، وفي كل الوقائع المحلية، تشهد هذه المرة، ليس علي فشل الإسلام السياسي، وإنما علي فشل العالمية السلفية التي تصف نفسها بأنها محاولة إرساء دعائم إسلام بلا وطن وبلا ارض علي حد تعبير الباحث الفرنسي اوليفييه روا.
(*) صدر بعد الدراسة لأول مرة فيديو كليب
إسلامي ( المعلم ) للمطرب البريطاني سامي
يوسف تبثه الفضائيات العربية والتلفزيون
المصري باستمرار).
بترتيب مع:
مجلة القرن العشرين «الفرنسية»
وهي فصلية محكمة عدد يونيو 2004
ترجمة: يسرا زهران