سارة برنار في أمريكــا



يلتقي الشاب فيجارو بسيدة الكونت صدفة، بعد طول انقطاع في طرقات أشبيلية المظلمة، ويشكو كل منهما همه. الكونت يريد الزواج من فتاة تسكن المنزل المقابل.. يراها من النافذة ولكن لا يعلم عنها شيئا. وفيجارو ابن البلد الفقير الذكي المثقف لا يجد فرصته. ويسأل السيد تابعه السابق ماذا تعمل هذه الأيام ؟.. لقد طردت من عملي لأنهم يشكون في أمري، فأنا أكتب في الصحف، وأكتب المسرحيات والسادة يريدون تابعا مستكينا.. أنت منهم وأنت تعرفهم.. إنني أعمل الآن حلاقا. ويضحك السيد ويقول لفيجارو إن لديه عملا له، وهو تدبير الزواج من هذه الفتاة التي تسكن في المنزل المقابل. ويقول فيجارو إنه يعرف أمر هذا المنزل، والفتاة هي روزين.. يتيمة مسكينة واقعة في براثن عجوز، متصابٍ، تولي إنباتها وتربيتها وحينما أينعت يريد قطفها.. يريد الزواج منها. ويستطيع فيجارو بذكائه وحيله إنقاذ الفتاة وتزويجها من الكونت.. ولكن تبدأ مشكلة فيجارو نفسه، لقد أحب الفتاة سيزان تابعة السيدة روزين التي تزوجها الكونت ولكنه يعرف من حبيبته أن الكونت لا يهمد عن مطاردة الفتيات... لقد طمع السيد في حبيبة فيجارو، وبالتالي جاء دوره لينال نصيبا من ألاعيب فيجارو. جعل السيدة تقابل الكونت في ملابس خادمتها، فيطارحها الغرام، ثم يري الكونت الخادمة التي تلبس ملابس سيدتها تقابل «فيجارو» فيشك في زوجته. ويكشف فيجارو أمام الجميع اللعبة.. لعبة الذكاء، أو البطولة الفردية، في حل المشاكل... ويهمد الكونت. هذه هي مسرحية أو أوبرا «زواج فيجارو» أو «حلاق أشبيلية» التي كتبها «بومارشيه» قبيل الثورة الفرنسية إسقاطا من قصة تدور أحداثها في إسبانيا علي الوضع في فرنسا... ابن البلد الذي يحل المشاكل بالحيل والذكاء، والبطولة الفردية. وبثت إحدي محطات التليفزيون ذات مرة إعلانًا يعرض في مقدمته لمحة من هذه الأوبرا، ثم ينتقل إلي عرض لتصنيع سيارات الفيات الإيطالية، بصورة آلية تماما، دون تدخل من عمال، أو مهندسين، أو موظفين. وكأنه يقول إن هناك «فيجارو» جديدا في هذا العصر.. هو العلم.. هو شريحة السليكون، أو السر في التصنيع الآلي الكامل. شريحة السليكون المعدنية لها مواصفات علمية خاصة، لا يتعدي حجمها عقله الإصبع لكنها تستطيع أن تقوم مقام غرفة كاملة من أجهزة الكمبيوتر البدائي. ويقال إن لوح السليكون سيؤدي في المستقبل إلي الاستغناء الكامل عن رجال الرياضيات أو المحاسبين، والمراجعين وسعره غير مرتفع، تستطيع أن تحصل علي لوح به خمسة آلاف معلومة بدولار واحد. وعندما ظهر النول الآلي في القرن التاسع عشر أضرب العمال، بل قاموا بعمليات تخريب لهذه الشياطين التي التهمت أرزاقهم. وانتهي الأمر إلي المصالحة بين الإنسان والآلة. وفي العصر الحديث تحاول نقابات العمال أن تهيئ نفسها لمستقبل أسوأ من مستقبل النول الآلي. يقول اقتراح إن الدولة تستطيع أن تقدم معاشا مناسبا لكل صاحب خبرة كل حسب مستواه، ويقام لذلك صندوق خاص يمول من فارق الربح الهائل الذي ستحصل عليه الصناعة من استخدام لوح السليكون. وهذا معناه أن العمال سيصبحون عاطلين بالميراث من الدولة. وبالتالي سيصبح تعبير العمل اليدوي شرفا غير ملائم. وسيصبح من يريد عملا خاملا عليه بالدراسات العلمية أو العملية. وستصبح الدراسات النظرية اكثر إرهاقا. وسيهجر كما نأمل حاليا - ولكن في غير حينه - طلبة القسم الأدبي في الثانوية العامة، إلي القسم العلمي بحثا عن راحة البال.. وسيصبح.. وسيصبح.
ولكن للوح السليكون مهمة أخري اكثر خطورة. إنك تستطيع أن تزرعه في جسم الإنسان لصغر حجمه دون أن يدري. ويصبح بالتالي رقيبا عليه أينما سار أو قام أو نام، يسجل خطواته وأحاديثه وينقلها إلي جهاز استقبال. ولك أن تتصور أي الأنظمة ستسارع إلي الإكثار من إنتاج هذه الألواح السحرية... وما هي النتائج ؟ لوح السليكون كما قلت هو «فيجارو» هذا العصر. هو البطولة الفردية لهذا العصر. يحل المشاكل وحده، بذكائه وألاعيبه وحيله. الفارق أن حيل السليكون معدة ومهيأة لكل الاحتمالات، ورغم أنه من صنع الإنسان فإنه من الصعب علي الإنسان طعنه بالسيف، أو القضاء علي بطولته بقرار إداري، أو أمر اعتقال، أو محاكمة «ثورية». ولكن يمكن احتكاره وادي السليكون بولاية كاليفورنيا. أما فيجارو القديم فإنه إذا تجاوز حدوده من الطرافة والذكاء إلي الجدل والتحدي لسيده، فإنه يستطيع أن يلغيه بتوقيعه، أو يعجنه بحقده. وهذا ما دعا الإنسان لاكتشاف البطولة الجماعية في المنظومة الاشتراكية. فيجارو.. وفيجارو.. وفيجارو.. وهكذا. ولكن ماذا عن فيجارو الجديد؟ ماذا عن شريحة السليكون؟ لقد انتج فيجارو الكبير فيجارو الصغير، وصار الصغير كبيرا، بل أكبر، ووقف الابن يتحدي الأب. وكأننا عدنا إلي أيام البطولة الفردية. ولكنها ليست بطولة اللحم والعظم، إنما بطولة اللوح والسلك. ونعرف الممثلة «سارة برنار» Sarah, Bernhardt. قرأت مؤخرا تفاصيل رحلتها إلي أمريكا، حدث هذا منذ أكثر من قرن وربع بالضبط عام 1880. أي في زمان عبادة البطولة الفردية في السياسة والأدب والفن والاقتصاد.. و.. زمان بقايا الفيجارو وكتاب «كارليل» الأبطال، وتفسيره التاريخ بكل طوله وعرضه وعمقه علي أساس من البطولة الفردية. قصة سارة في أمريكا تجري في زمن تحولات مفصلية تحمل ملمحا مبكرا للنهج الأوروبي الهادئ الوقور، مفارقا وناقدا للنهج الأمريكي السطحي العجول. دعوة أمريكية يبدأ السيناريو كما جاء في مذكراتها عندما عرض عليها رجل أعمال يدعي جاريت Jarrett، مشروع رحلة فنية إلي أمريكا لتقديم عروضها المسرحية الشهيرة «باللغة الفرنسية». مقابل خمسة آلاف فرنك، بالإضافة إلي نصف دخل الحفلات الذي قدر بخمسة عشر ألف فرنك، مع ألف فرنك أسبوعيا لتكاليف الفنادق. ولها الحق في اختيار العروض والممثلين المشاركين. وتقبل سارة. فيبلغها رجل الأعمال ببقية التفاصيل قائلا: «ليس هذا كل شيء، لقد خصص لك قطار خاص لرحلاتك الفنية داخل أمريكا يشمل العديد من الغرف والملاحق مع صالون به بيانو خاص. ولك في هذا القطار أربعة أسرة، وأربعة طباخين لإعداد الطعام الخاص أثناء الرحلة». وقعت سارة العقد. وبدأت حملات الدعاية الأمريكية تتركز حول سارة برنار الممثلة، والشخصية، والإنسانة، والفاجرة، والعاهرة. وكنوع من الدعاية التقط الأمريكيون قصة «سارة» مع ذيل النمر. لقد صرحت سارة في لحظة من لحظات هذيانها الفني أنها تتمني أن تركب ذيل نمر في مؤخرتها. واستمرارا في الهذيان بالبطولة، أو الإعجاب بسارة أعلن طبيب أمريكي بشكل جاد انه يستطيع أن يركب لسارة ذيل نمر بعملية جراحية «زرع الأعضاء قبل الأوان». واشترك أحباء سارة وأصدقاؤها في الحوار وكان اشد ما يخشونه هو أن تفسد العملية الجراحية ظهر أو مؤخرة نجمتهم الفريدة. أما سارة فقد قالت: إن ذلك سيكون مسليا. أستطيع في بعض الأحيان أن أجره «الذيل» بهدوء ودلال تحت ثوبي. وعلي العكس فإنني أستطيع في لحظات الغضب أو الثورة أن ارفعه في فخر وتحدٍ، سيرتفع معه طرف ثوبي وكأنه سيف مشرع.
وأخذت سارة تناقش ماذا ستقدم من عروض. وكان التركيز علي دورها «غادة الكاميليا» La, dame, aux, camélias. بدأت الرحلة، واستغرقت اثني عشر يوما في البحر. وصحبت أو اختارت الشاب «انجلو» le, bel, angelo ليقوم معها بدور الفتي الأول في عروضها، وليقوم معها بدور العشيق في لحظات الراحة، وقضت الرحلة داخل غرفتها تدرس وتعيد أدوارها بالجدية التي جعلت منها الأسطورة الفريدة آنذاك. بدأت الدعاية في أمريكا بكتاب كان ينادي عليه الباعة ليل نهار«اقرأ قصص حب سارة برنار.. الجزء بـ 15 سنتًا». وتعرف أهل أمريكا علي سارة العاشقة قبل سارة سيدة المسرح. تردد أن لها أربعة أطفال من أربعة آباء. البابا «بيو» الرابع، ونابليون الثالث. وحلاق مجهول. ومحكوم عليه بالإعدام لاتهامه بقتل أبيه. وفي مؤتمر أثارت صحفية هذا الموضوع فقالت سارة: - إنه شيء عجيب، أليس ذلك أفضل مما يحدث في هذا البلد.. أربعة أزواج للمرأة دون أطفال! وظهر إعلان كبير يصور سارة في صورة هيكل عظمي كتب عليه «سارة عند وصولها أمريكا». وعلي الجانب الآخر يصورها في صورة ممتلئة كتب عليه «سارة بعد استخدامها منتجاتنا لمدة ستة أشهر» كان استقبالها عند الوصول استقبال الملوك والملكات. سفينتان محملتان بالصحفيين. وضجة عظيمة يختلط فيها نثر الزهور، بالأصوات، بعزف المرسيلييز، اللحن الوطني الفرنسي، بالعديد من الايدي تمتد تريد مصافحة سارة. ووابل من الأسئلة المختلطة المتداخلة.. هل تتشاءمين ؟ هل تتفاءلين؟ بكم تقدر مجوهراتك ؟ هل صحيح أنك لا تحفظين أدوارك إلا في حمام يغلي ؟.. هل.. هل.. وأغمي عليها، ولحقتها مساعدتها بزجاجة «اثير».. وأفاقت ولكن رائحة الاثير انتشرت في القاعة فكادت أن تفرغ معدتها، أبعدوا الصحفيين وقام «جاريه» منظم الجولة بتصفيتهم. أو اختيار خمسين منهم لتقابل كل واحد علي انفراد. و«جاريه» هذا أو ما أصبح رجل الأعمال في زمانه كان متشردا، اختلف ذات مرة مع مفاوض لأحد الممثلين فقال له «جاريه» أن هذه العين تستطيع أن تقرأ ما لا تصرح به. فأجابه المفاوض بأن أخرج مسدسه وأطلقه قائلا: إن عينك سيئة الرؤية لأنها لم تر هذا وجاءت الطلقة في صدغ جاريه. فاخرج بدوره مسدسه قائلا: هكذا يجب أن يكون الرد حتي ينتهي كل شيء. وأطلق مسدسه في جبهة غريمه وأرداه قتيلا. الدعاية والعروض تولي «جاريه» تنظيم الدعاية واستغلال الفرص. وإثارة خيال الجماهير المجنونة بالنجوم. كانت مرحلة تعرف إعلاميا بالصحافة الصفراء، أو الصحافة المعتمدة علي السؤال المفاجئ، والأفضل السؤال الجارح، والإجابة السريعة اللافتة للنظر، أو الخفيفة الظل، والأفضل الجارحة أيضا. كان اتجاه لا تزال بقاياه تثير إعجاب الناس بالبريق الخاطف في المسلسلات الفجة أو اللقاءات السخيفة، مع من يسمون بالنجوم والكواكب والأفلاك والمجرات بطريقة صاروخية استعراضية. وانبرت صحفية وطرحت سؤالا أو استعرضت كلمة طويلة جدا تتكون من ستين حرفا تريد بها إرباك سارة. وارتبكت سارة وتوقف العرض «الصحفي» الاستعراضي، وانبري صحفي متطوع وشرح لسارة معني الكلمة الطويلة، أو التساؤل.. هل أنت يهودية، كاثوليكية، بروتستانتية، إسلامية، بوذية، ملحدة، موحدة، أو مؤمنة بعدة آلهة ؟ وكل ما استطاعت أن تعلق به سارة هو: أهكذا ستسير الأمور في كل مدينة أزورها ؟ وأجاب رجل الأعمال: لا تنسي أن إجابتك توزع في الحال تلغرافيا في كل أنحاء أمريكا. وفي يوم دخلت سارة إلي المسرح فوجدت مجموعة من رجال في هيئة زرية يقفون استعدادا لتفتيش حقائبها. أفرغوها جميعا في همجية، واختلط الفراء، بالستان بالمخمل، بالدانتيل... وخرجوا. لقد كانوا رجال الجمارك جاءوا يراجعون محتويات حقائب سارة بعد دخولها، واشترت سارة خمسمائة متر من الشاش جمعت فيها محتويات الحقائب وألقتها في الزبالة. وكانت قصة أعجبت رجال الدعاية في أمريكا.
ووقف أحد رجال الدين وبدأ سلسلة من المواعظ أعلن فيها أن «هذه العاهرة الفرنسية جاءت إلي أمريكا لتقوض دعائم أخلاق اليانكي» أي الأمريكي. وأرسل إليه «جاريه» قائلا: «لقد اعتدت أن أنفق علي الدعاية في هذه المدينة 400 دولار، وبما انك قدمت لي هذه المرة الدعاية الواجبة فإنني أرسل لك 200 دولار لفقرائك»، وبدأت لحظات الجنون الجماهيري بعد أن قدمت سارة عروضها. قدمت في المرحلة الأولي 26 عرضا. وكانت الجماهير التي لم تشهدها علي المسرح تنتظرها في البرد أمام مدخل الفندق بالورود والهتاف والمارسيلييز، ولا تنصرف إلا عندما تخرج إليهم سارة وتطل عليهم من شرفتها فيرتفع هتافهم.. مساء الخير يا سارة. مساء الخير يا سارة. جنان. ارتفع اكثر بعد عرض مسرحيتي «فيدر» ثم «غادة الكاميليا». وظهرت في الأسواق ماركة «س. ب» سارة برنار... قفازات سارة برنار. مشابك كرفتات سارة برنار. نظارات سارة برنار.. وأشياء أخري ماركة «س.ب». وخرجت سارة ذات مرة من المسرح فوجدت خمسة آلاف شخص في انتظارها للتحية والهتاف. وتراجعت، وخرجت بدلا منها أختها بملابسها حتي ينصرف المجانين. في بدء جولة سارة بقطارها الخاص المزين بالورود والأعلام، اتجهت إلي مدينة بوسطن. توقف القطار عند قرية صغيرة اسمها «منلوبارك» Menlo-park في منتصف الليل، حيث كان يقيم «توماس اديسون». استضاف رجل الاختراع الأمريكي الشهير اشهر شخصيات العصر المسرحية. وقدم لها عرضا خاصا لمخترعاته، المصباح الكهربائي، وانبهرت. وبعد فتح الشهية قدم الطبق الأول. أمسك بكاس فضية وقربها من فمه قائلا: هالو. وأجاب صوت آخر خرج من كأس آخر: هالو. هكذا تروي سارة تجربتها مع جهاز التليفون. ثم جاء الاستعراض الكبير. قرب «اديسون» فمه من بوق وأطلق صوته بنشيد حزين، ثم أشار لبعض مساعديه فانطلقوا معه في غناء مرثية أمريكية معروفة لديهم باسم جثة «جون براون» John, Brownشs, bodyوحبست سارة الرغبة في الضحك. ولكن حينما وصل اديسون إلي المقطع الأخير قام وجماعته يرقصون رقصة وطنية.. وضحكت سارة ثم ابتلعت ضحكتها وتحولت إلي الاندهاش أو الذهول بعد أن سمعت صوت اديسون وأعوانه يتردد في الجهاز مسجلا كل ما دار. صدر الصوت «حادا، منغوما، مشروخا يذكر بصوت القراقوز».. وكان هذا استعراضا لجهاز الفونوجراف. واختلطت الأصوات بالأضواء في رأس سارة وداخت.. وغابت عن الوعي. السخافة الأمريكية أثناء استئناف الطريق إلي بوسطن بالسيارة فوجئت برجل يتعلق بالسيارة وتدفعه فيكاد أن يسقط، ثم يلتقط أنفاسه، ويلح في محادثتها. ويقول بفرنسية سليمة: متي تذهبين غدا لتركبي الحوت. ما هذا الجنون.. أي حوت. يجب أن تذهبي إليه غدا قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. إنه شيء عجيب. بل يجب أن تذهبي الليلة. وبعد قليل قفز رجل آخر إلي السيارة بملابس بهلوانية وجلس في صمت. وعند وصولهم الفندق فهمت القصة. الرجل الثاني هو هنري سميث، Henry Smith متخصص في صيد الأسماك، اصطاد آخر مرة حوتا ضخما.. سحبوه عدة أميال ووضعوه في الميناء، ينزف باستمرار من خطافين في جنبه، ويلح الرجل علي سارة لتشاهد أعجوبته قبل أن تستنفد دماءها وتموت. وتذهب سارة وتعتلي ظهر الحوت، ويلح عليها من جديد حتي تسحب من جسد الحوت إحدي صفائح فكه التي يصنع منها عادة مشدات السيدات. وتفعل سارة بعد تردد وخوف. بعد عدة أيام تلتقي بالرجل في مدينة «نيوهافن»، وتسأله عن سبب وجوده بالمدينة، وقبل أن تتلقي الرد تسمع ضجة قوية، وأصواتا موسيقية متنافرة عنيفة، وتطل من النافذة فتكاد أن تفقد الوعي. وجدت سيارة ضخمة مجللة بالسواد عليها إعلان ضخم جدا ملون، يعرض صورة سارة واقفة فوق ظهر الحوت، حوت ملئ بالحيوية والنشاط، وهي تنزع إحدي صفائح فكه. يقول الإعلان تعال لتشاهد الحوت الذي قامت سارة برنار بنزع صفائح فكه، لتصنع منها مشداتها وتقوم السيدة ليلي نويل بهذه الصناعة في مقرها في... وقام بعض الرجال المصاحبين للحملة الدعائية بتحريك أعلام بأيديهم، فتقرأ سارة في إحداها الحوت في حالة نضرة.. إنه حي. في داخل معدته 500 دولار من الملح. وكل يوم يتم تغيير الثلج الذي يرقد فيه بمائة دولار. التفتت سارة في عصبية إلي سميث وصفعته كفين، وتحركت صارخة معلنة أنها تريد العودة حالا إلي أوروبا.. لقد سخر الرجل منها، وأهان ذكاءها سخرية مهينة بادعاء أن حوته ميت، وسخرية مريرة باستغلال اسمها في الدعاية والمكسب. وبعد أن هدأت لم يرحمها الرجل. فقد كان يتبعها بسيارته السوداء، وحوته، وإعلانه وضجته أينما ذهبت تقدم عروضها.. وربح من ذلك الآلاف. وفي كل مرة كان يرسل إليها باقة ورد تحمل كلمة الود. وكادت تجن، وعرضت الكثير حتي تتخلص منه دون فائدة. ولم ينزعج كثيرا ممولو مسرحها وعروضها، ففي الأمر دعاية طريفة أسطورية تلهب خيال الجماهير المسعورة بالنجوم.
وتتعرض سارة لمحاولة سرقة فيها خيال أو افتعال. وتدخل مغامرة مع قطارها الخاص، وتنهي رحلتها بعد تقديم 156 عرضا خلال ستة اشهر، وتكون الحصيلة 000،766،2 فرنك، نصيب سارة منها 000،620 فرنك.
سارة برنار نموذج لنجومية القرن قبل الماضي. أو نغمة من العزف المنفرد التي ذهبت مع قفزات القرن العشرين والواحد والعشرين المتسارعة، لا تستمر سوي شهور وفي تكرار فج في أكثر من مكان.. لقد غابت النجوم الأرضية في عصر الكواكب الكونية.. ذهب فيجارو الهادئ الواثق وجاء عصر الجماهير القلقة المذهولة. ذهبت سارة برنار الأوروبية الوقورة وجاء السليكون الأمريكي العجول وعلي الجماهير في الغــرب أن تدبر أمـــرها مع البطـــل الجديد.
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة