قــل لـى كيـف تنظـــر ..روايـة مـــن الأدب التــرگــــى الحـــديث



الإعلام كله اليوم، مكتوب ومرئى ومسموع وأثيرى، مليء بالتحليلات والدراسات والآراء عن التقارب والتضاد فى الماضى والحاضر ما بين الغرب والشرق، ما بين النظام العلمانى الغربى والنظام الدينى الإسلامى، ما بين الثقافة الغربية العملية والعلمية والثقافة الشرقية الروحية والشاعرية، وما بين التحرر والانطلاق والفردانية من جهة والتزمت والانغلاق والانصياع لإرادة فوق ـ فردية من جهة أخرى. كل هذه التضادات تضادات حدية، بعضها صحيح تاريخياً وبعضها مركب ومصنوع أو متخيل ومهول أمره لغايات سياسية غالبًا. ولكنها كلها تحدد علاقة الطرفين ـ أى الغرب والعالم الإسلامى ـ ببعضهما البعض وتضفى عليها نكهة مرة يزيدها مرارة كونها تطبق كل يوم على أرض الواقع فى التحالفات الدولية والعمليات العسكرية أو «التخريبية الإرهابية» والتفجيرات والاغتيالات والغارات الجوية والاعتقالات التى تنبع من قبول هذه التضادات الحدية كحقيقة تاريخية ومبدئية وكواقع معاش وحتمى، ولعلها كذلك. ولكن التاريخ، وعاء التجارب الإنسانية الواسع والدائم، لا يحب التضادات الحدية الثابتة بين الشعوب والأقوام والثقافات والحضارات، فهو يقوضها على أوهامها كلما شمخت راسخة متباهية، ويفت من اكتمال هيئتها كلما استمرأت ثباتها وديمومتها لكى يفتق حدودها ويجعل التشابه والتكامل والاندياح المتبادل بين الثقافات المختلفة، متحابة كانت أو متباغضة، معيار حركته وعلامة تدفقه وعنوان واقعه. فالثقافات تتعارف وتتقاطع وتتبادل التأثير باستمرار. ولعل هذه هى حقيقة التاريخ الأولية والدائمة التى تطغى عليها أى حقيقة أخرى. ولا يوجد أصلاً تضاد كامل بين الحضارات أو الثقافات فى التاريخ، اللهم إلا تلك التى لم تتعارف وتتقاطع بسبب من بعد المسافة واستحالة المواصلات، وبالتالى لا يمكنها أن تكون متضادة تعريفًا وواقعًا. أما تلك الحضارات التى تعارفت وتعايشت وتحاربت وتصالحت وتقاطعت وتبادلت المعرفة والسلع والناس والأفكار ـ والحضارتان الإسلامية والغربية على رأسها ـ فهى بحكم تقاطعها فى الزمان والمكان والعقائد لم تتمكن من المحافظة على وهم تضادها إلا فى اللحظات العويصة عندما كانت هويتها وكينونتها مهددتين بالذوبان والاختفاء، وحتى فى تلك اللحظات القصيرة لم يكن التضاد الحدى أكثر من وهم سطحى استعمله المؤججون العقائديون من ساسة ومنظِّرين وعسكريين فى كلا الطرفين للمحافظة على امتيازاتهم بسبب من كونهم قد ابتدأوا يصدقون رسالة النقاء العرقى والحضارى التى لفقوها أساسًا لأنها أسهل على التصديق أو لأنهم اقتفوا خطى مفكرين سياسيين أكثر منهم فاشية وانغلاقًا وعدوا شعوبهم بالنصر والسؤدد والسيطرة، وفى غالب الأحوال لم يجلبوا لها سوى الدمار والخراب وسوء السمعة. ولكنى اليوم لست بصدد تحليل تاريخى للعلاقة بين الشرق والغرب وإن كنت أود أن أتخذ من هذه العلاقة الطويلة ودائمة التغير والمتعثرة عمومًا مدخلاً لتقديم الرواية الرائعة للقاص التركى الأشهر أورهان باموك، «اسمى القرمزي» (My Name is Red) التى ظهرت طبعتها الأمريكية الأولى قبل أقل من شهر من هجمات الحادى عشر من أيلول على واشنطن ونيويورك، تلك الهجمات التى يبدو أنها عمقت من التضاد المستشرى ما بين الشرق المسلم والعربى بوجه خاص، والغرب التكنولوجى والعلمانى سياسياً وحقوقياً، وإن كان لايزال ثقافياً مسيحياً ـ يهودياً. لا أعلم بسبب من إقامتى فى الولايات المتحدة فيما لو كانت هذه الرواية قد ترجمت للعربية وإن كنت أرجو ذلك لأجل قراء العربية ولأجل تدفق الحوار الثقافى فى العالم الإسلامى وخارجه، هذا الحوار الذى تراجع الدور العربى فى قيادته وإذكائه تراجعًا كبيرًا فى العقدين الأخيرين، بحيث أصبحت الثقافة العربية هامشية فعلاً ليس فقط على الصعيد العالمى، وهذا هاجس كبير ولكنه مفهوم تاريخياً، ولكن أيضًا على الصعيد الإسلامى والآسيوى ـ الأفريقى والعالمثالتى، أى الدوائر الثقافية الثلاث التى تنتمى لها الثقافة العربية والتى يمكنها نظرياً أن تكون فى مركز العقد منها. أورهان باموك اليوم هو الروائى الأكثر شهرة فى تركيا وواحد من أكثر الروائيين شهرة فى أوروبا، التى يشعر هو نفسه بالانتماء الحضارى لها كما غالبية مواطنيه العلمانيين أكثر من انتمائه لتراث بلاده المسلم والإمبراطورى العثمانى وإن كان يشعر بالفخر تجاه إنجازات هذه الامبراطورية. وقد ترجمت كتبه الستة كلها إلى العديد من اللغات الأوروبية وهو ما يؤمن له الشهرة العالمية التى أصبحت فى عصرنا المعولم دليل التفوق الأوحد. وهو فى النصف الثانى من العقد الرابع من عمره ومن مواليد استنبول، المدينة التى تختزل فى موقعها وناسها وتاريخها كل العقد المتشابكة فى العلاقة ما بين الشرق والغرب على مر أكثر من ألفى سنة منذ أن كانت بيزنطة الإغريقية إلى أن أصبحت القسطنطينية البيزنطية المسيحية فاستنبول العثمانية المسلمة وفى المائة سنة الأخيرة مدينة عالمية، علمانية، تنام على البوسفور فوق حدود حضارية وسياسية فقدت أهميتها الاستراتيجية، وتنسج من ذكرياتها الامبراطورية العظيمة أحلامًا تهدهد فيها نفسها وتبعد عن مخيلتها هواجس المعاصرة، والهوية والانتماء والإسلام السياسى والعنجهية الأوروبية التى ترفض أن تنسى لها دورها كعاصمة العثمانيين الذين هددوا قلب أوروبا لأكثر من ثلاثة قرون وتضمها لاتحادها العلمانى القوى. وباموك ملتصق بمدينته، لا يطيق الابتعاد عنها لفترة طويلة كما صرح فى أكثر من محاضرة، وهو يقيم فى واحد من أكثر أحيائها تشبعًا بالماضى العالمى الذى طبع المدينة بطابعها المتميز، حى «جاشنكير» الذى يهرول نازلاً من «بيرا» الحى الأوروبى التقليدى خارج حدود العاصمة الامبراطورية، إلى البوسفور، عصب الحياة التجارية والفاصل التقليدى بين أوروبا وآسيا. ولعل تعلق باموك بمدينته هو أكثر العناصر تأثيرًا فى كتابته الروائية، فالمدينة هى خلفية سرده كله، وشوارعها وأزقتها وأحياؤها وممراتها المائية تشكل الأبطال الثابتين فى كل رواياته التاريخية والمعاصرة. ولعل خلفيته التعليمية كمعمار، وإن كان لم يعمل قط بالعمارة، قد جعلت من تعامله السردى مع المدينة أكثر وضوحًا ومادية بل وربما واقعية. وقد قورن باموك بالعديد من أعلام الرواية المعاصرين، فهو صنو مارسيل بروست فى حفره الدائم فى غياهب الذاكرة وآلامها. وهو تلميذ الروائيين الخياليين الواقعيين من أمريكا الجنوبية من بورخيس إلى جابرييل جارسيا ماركيز فى تحليقه من الواقع إلى الخيال بدون أى تردد أو تعجب أو توقف برهة لتغيير الإطار أو تهيئة القارئ. وهو معادل الروائى الإيطالى إيتالو كالفينو فى سبره لدروس التاريخ من خلال مرآة الحاضر، أو للروائى اللغوى الإيطالى الآخر، أمبيرتو أيكو، فى تماهيه مع واقع تاريخى بحيث ينسى القارئ نفسه فى سرده ويبدأ بالاستغراب عندما يرفع نظره عن الورقة وينظر حوله ليرى الضوء الكهربائى وغيره من علامات الحياة الحديثة التى تحيط به. ولكن أورهان باموك أيضًا نسيج وحده ونسيج موهبته الروائية المتميزة ونسيج مدينته ودولته وثقافتها المتأرجحة بين شرقها الماضى وغربها الحاضر، والمفروض فرضًا بقوة المؤسسة العسكرية الأتاتوركية والمستقبل المأمول فى أحضان الديمقراطيات الأوروبية المتحدة. وهو كقاص وروائى يعكس هذا الهاجس الحضارى فى كل ما يكتبه بطريقة فيها الكثير من الحنكة السردية والهم الإنسانى والحس النقدى المتوهج. ولكن رائعته الأخيرة «اسمى القرمزي» فاقت كل ما سبقها مما كتبه فى عمقها وغوصها المحفور فى التاريخ وفى حدسها المتواتر بالعلاقة الحدية بين الثقافتين الشرقية والغربية وفى تصويرها لتفاعل الناس والأحداث مع المتغيرات حولهم بما يمتص التضاد الحضارى إلى داخل حيواتهم نفسها وينقل السؤال ـ الهاجس ـ عن الهوية والتراث والعولمة من بُعده الثقافى إلى بُعده الوجودى والكيانى، أى يجعله سؤالاً إنسانيا. والرواية تبدو لأول وهلة كرواية بوليسية مشوقة ذات حبكة متمرسة وإن كانت أحداثها تحصل فى نهاية القرن السادس عشر فى استنبول طبعًا حاضرة السلطنة العثمانية بعد أن همدت همتها فى متابعة مشروعها التوسعى فى أوروبا وبدأت بالتعرف على حدود قوتها خاصة مقابل قوة أوروبا المناهضة التى هزمتها طلائعها فى معركة «لبيانتو» البحرية عام 1571. فالرواية باختصار هى قصة سلسلة من الجرائم تقع فى محترف الفن التابع للقصر السلطانى، قصر طوبقابى، ويبدو أنها متعلقة بتطور حصل فى المحترف عندما حاول فنان عجوز وسياسى داهية، يدعوه باموك ببساطة «إينيشتي» أى زوج الخالة، إدخال طرائق التصوير الغربية الحديثة على التقليد التصويرى الإسلامى الذى ورثه العثمانيون عن سابقيهم فى إيران وأناضوليا ووسط آسيا بعد أن شاهد بأم عينه اللوحات الواقعية التى كان فنانو البندقية ينجزونها خلال عصر النهضة المتأخر خلال زيارة دبلوماسية قام بها للجمهورية السامية. وهو قد جند لهذا الغرض أربعة فنانين ملحقين بالمحترف السلطانى لمساعدته فى مشروعه سرّاً، وهم كلهم أصحاب أسماء ملغزة، «الفراشة»، و«زيتون»، و«اللقلق»، والخطاط»، و«أنيق أفندي». هذا المشروع الفنى والثقافى الثورى هو عقدة الرواية الفكرية والحضارية الرئيسية. للرواية، كما للقصص التقليدية بطلان رئيسيان، رجل وامرأة، وتعبر قصة حبهما عبر أحداث الكتاب عبورًا هادئًا وتصبغه بالنهاية بصبغة رومانتيكية متأججة من دون كبير دراما. هذان البطلان هما «الأسود» ابن أخت «إينيشتي» وشكورة ابنته. وهما قطبا السرد، فالأحداث تدور حول افتراقهما والتقائهما وقبول الأسود بمساعدة إينيشتيه فى حل لغز الجرائم والمحافظة على المشروع الثورى الفنى الذى كرس إينيشتى نفسه له مقابل سماحه للأسود بالتزوج من محبوبته وابنة خالته. ولكن شكورة متزوجة ولها ابنان وزوجها المحارب الصنديد اختفى فى حملة عسكرية، وهى بالتالى فى وضع قانونى صعب، لا تعرف نفسها فيما لو كانت على عصمة رجل أم لا، بالإضافة لوضعها العائلى المعقد حيث إن شقيق زوجها الصغير والعربيد مغرم بها حتى الجنون. فوق ذلك كله، شكورة امرأة واعية ومثقفة وصاحبة رأى وتدبير. وهى مطلعة بشكل ما على مشروع أبيها الثقافى ومهتمة بإنجاحه أيضًا، وهى بالتالى جزء من الحبكة، ولكن الفنانين الآخرين الذين اختارهم إينيشتى، والذين تهددهم سلسلة الجرائم الغامضة التى ابتدأت بمقتل خطاطهم «أنيق» أفندى، ليسوا بنفس درجة حماس الأسود أو شكورة لمشروع إينيشتى، بل إن بعضهم معادٍ له لأسباب أيديولوجية. وهناك أيضًا السلطان مراد الثالث راعى المشروع (حكم 1574ـ1595)، الذى لا يريد له أن يعرف قبل الأوان، بل ربما ألا يعرف إطلاقًا، لكى يتجنب ردود فعل القوى المحافظة المتمثلة برئيس المحترف، «عثمان» المتعلق بأساليب القدماء، ومجموعة تابعة لواعظ متصوف من شرق الأناضول ـ موئل الحركات المحافظة فى التاريخ العثمانى والحاضر التركى ـ تهدد بمعاقبة كل من يتبع المستورد الأوروبى ويترك التقليد الإسلامى فى الرسم وغيره. هذه القوى تتصارع فيما بينها، كل ضمن مجاله، لتخلق مستويات الحبكة المختلفة فى الرواية، ولكى تسمح لباموك بعرض آرائه فى الاختلاف والتضاد والتقارب بين الحضارتين الغربية الأوروبية والشرقية الإسلامية، وهو ما يفعله عمومًا بحنكة ودراية. ولكن باموك بالتأكيد ليس روائيا تقليدياَ. وإطار روايته بالتأكيد ليس إطارًا تقليدياً بل هو مبدع ومجدد إلى أقصى حد. بداية هناك الأصوات المتعددة لرواة الرواية والذين قسمت القصة على أساس تبادلهم مهمة السرد إلى تسعة وخمسين فصلاً. هؤلاء الرواة ليسوا فقط الأبطال الواقعيين الذين أدرجنا أسماءهم، مع الأسود وشكورة كشخصيات مركزية، ولكن مخيلة باموك الجامحة تدخل إلى مهمة السرد رواة ما اعتدنا سماع أصواتهم فى القصص. فهناك فى فاتحة الكتاب فصل يقشعر له القارئ، حيث إن الراوى هى جثة «أنيق» أفندى بعد مقتله التى تتنطع بقصة قتله كما أحس بها المجنى عليه لا كما رآها، والتى تبدو مهمومة لكيف سيراها الناس مهشمة الجمجمة ومجرحة الأطراف. وهناك بعد ذلك القاتل الذى لن نعرفه حتى نهاية الرواية، ومن هو أكثر منه بشاعة أو إثارة للخوف بالشكل المجرد، إذ أن كلاّ من «الموت» و«الشيطان» يعتليان خشبة السرد ويقدمان فصلاً خاصًا بكل منهما. وبعد ذلك هناك أيضًا كلب وحصان وقطعة نقد، لكل منهم فصله، بالإضافة إلى اللون القرمزى أو الأحمر التى استقت الرواية اسمها منه «اسمى القرمزي»، بما أن كل فصل عنوانه: «أنا الشيطان»، «أنا قطعة نقد» وهلم جرا. ولكن هذه الشخصيات الخيالية أساسًا أو غير الناطقة على أقل تقدير لا تظهر فى الرواية من منطلق واقعها، مهما كان هذا الواقع بعيدًا عن الصياغة التشخيصية، وإنما تظهر من خلال كونها تمثيلاً لهويتها فى لوحة أو فى منمنمة ما يستعملها بعض أشخاص الرواية. أى أن هؤلاء الأبطال الإضافيين ليسوا شخصيات قائمة فى فراغ الرواية الواقعى، وإنما تمثيل فنى لواقعهم مبنى على مصطلحات الفن التصويرى الذى كان يتجاذبه تياران خلال زمن الرواية على ما بناه باموك: التيار التجديدى الواقعى المتأثر بالابتكارات التصويرية الأوروبية والتيار التقليدى المحافظ الذى يعتمد على طرق وأساليب طورت عبر قرون طويلة واكتسبت بذلك شبه قداسة يكثفها باموك بأن يسمى المنظور التقليدى للتصوير الإسلامى، منظور الله، أى أن الفن يسعى لتمثيل العالم كما يراه الله لا كما يراه عبد الله، وهو ما سعت إليه المدارس التصويرية الأوروبية كافة منذ عصر النهضة. ويزيد باموك فى مقارنته الترميزية لأساليب الرؤية والتصوير بين الحضارتين بأن يقترح أن الهدف الأعلى والمرجو للمصورين المسلمين فى المحترف العثمانى وفى التاريخ المتخيل هو أن يصابوا بالعمى لكى يتجنبوا التسميم البصرى الذى تخلفه رؤيتهم للعالم وللأشياء بدلاً من تخيلها كما وعتها بصيرتهم من رسوم الأولين، أى من التقليد، أو من الوحى الربانى، على حين أن الرؤية والتمعن ومقاربة الواقع المنظور هى الأهداف الأساسية للتصوير الغربى الناهض. هنا بيت القصيد فى مشرع باموك نفسه، فهذا القاص العلمانى سياسيا والمبدع والمفكر عميق التفكير قرر استعمال هذه الثنائية المتضادة لمقاربة هاجسه الأصلى: كيف يمكن للثقافة التركية المعاصرة أن تنفض العطالة التاريخية الموروثة عن نفسها وتلتحق بالغرب المتقدم من دون أن تفقد أصالتها العظيمة المتمثلة بالإنجازات المتميزة للسلطنة العثمانية ومن دون أن تقطع التواصل مع ماضيها قطعًا باترًا؟ هذا السؤال الذى لازال يشغل بال المنظرين والمجددين النهضويين فى العديد من بلاد العالم الثالث يكتسب حدة خاصة فى تركيا بعد مرور ثمانين عامًا على مشروع كمال أتاتورك التحديثى الذى حاول تدمير كل ما هو عثمانى أو إسلامى، من اللغة إلى المعتقد فالكتابة والمظهر واللباس، وحاول حرق المراحل والقفز على الحواجز وإجبار الأتراك رغمًا عن أنفسهم بالتمثيل بالحضارة الأوروبية، وفشل مع ذلك فى الخروج من قمقم التقاليد وفى الدخول فى آفاق الحداثة الرحيبة كما اشتهى وتمنى لأنه فشل فى فهم الدرس الأول للتاريخ: الناس أبناء تجربتهم ونضالهم وصيرورتهم هم، لا نضال ونظرة وتجربة وصيرورة غيرهم. ثم أتى جيل باموك ليلملم الأشلاء وليعيد صياغة المشروع صياغة جديدة وحساسة ومتماشية مع واقعها وتاريخها، وإن كانت المعوقات الاقتصادية والعسكرتارية والجيوسياسية مازالت تضع العصى فى عجلة هذا المشروع. ويبدو أن باموك قد اعتمد هذه المراجعة كخلفية نقدية لعمله الروائى. وبرأيى أنه نجح فى إدماجها بالرواية من جهة وفى معالجتها نظرياً ونقدياً عبر معالجته المتعمقة والمتفلسفة أحيانًا لمسألة التمثيل التصويرى فى الشرق والغرب التى ينثرها فى مقاطع طويلة خلال الرواية تقدم نظرة شخصية ومتفردة لتاريخ الفن التصويرى الإسلامى، وإن كان أحيانًا يشط فى التنظير وينسى أنه فى خضم رواية تتسارع أحداثها مما يتطلب منه تركيز اهتمامه على السرد. لم يقدم الفن الإسلامى للثقافة العالمية تعبيرًا أكثر دقة ولطفًا وطرافة مما يسمى تجاوزًا المنمنمات. تلك اللوحات التصويرية الصغيرة والمسطحة شكلاً وتشكيلاً والمليئة بالألوان الفاقعة التى لا تتقاطع أو تختلط على سطح اللوحة أبدًا، والتى تمثل عمومًا مواضيع محددة اقتبس معظمها من ملاحم الشعر الفارسى الوسيط، وإن كان بعضها يمثل وقائع تاريخية حقيقية. هذا الفن الذى اندفع فوارًا فى القرون بين الرابع عشر والسابع عشر ليخلق تراثًا تعبيريا متفردًا وفذًا يدين بوجوده أصلاً لنمو فئة ذواقة مرفهة رعت مبدعيه واقتنت إبداعهم فى ظل الإمبراطوريات الكبيرة التى شهدها العالم الإسلامى فى فترة ما قبل الحداثة كالمغول والعثمانيين والصفويين. ولكن هذا الفن كان مختلفًا بشكل جذرى عن معاصره الأوروبى فيما يتعلق بطرق التمثيل ودوافعه ونتائجه. فهو لا يروم تمثيل الواقع ولا يسعى لمحاكاة الطبيعة بل ولا يهمه دقة الشبه بين التمثيل والأصل، على عكس الفن التصويرى الأوروبى الذى كان فى تلك الفترة يطور المنظور والظل ودقائق الشبه لكى يصل بالتمثيل إلى أبعد مدى واقعى وطبيعى ممكن. هذا الاختلاف هو عصب النقاشات العديدة فى الرواية وموئل تساؤلات باموك عن إمكانية الموافقة بين الأصالة والحداثة بشقيهما الإسلامى والغربى اللذين يبدو أنهما قد تجمدا اليوم كرمزين على التضاد المطلق الذى لا يمكنه التلاقى. ولعل هذا الفشل الثقافى المحتمل هو السبب الرئيسى وراء نجاح باموك فى سرده: فحرقته وسخريته وتوجسه كلها مشاعر قوية تضفى على الرواية بعدها الإنسانى والعالمى. ويبقى هناك ما هو أكثر تلاعبًا وسحرًا فى مقاربة باموك للرواية، فالفقرة الأخيرة فى الكتاب تختزل فى أسطرها الثمانية كل معانى القص، وبشكل خاص القص التاريخى. فالأم شكورة تخبرنا أنها أعطت لابنها أورهان، الذى يتميز بمنطقيته فى كل الأمور، كل الوثائق التى فى حوزتها عن قصتها وقصة الأسود على أمل أن يتمكن من صياغتها وتقديمها، مع أنها مقتنعة بأن هذه القصة عصية على التقديم. أى أن شكورة هنا تمنحنا الدليل على أن القصة ذات أساس حقيقى مدعم بالوثائق اللازمة، ككل كتابة تاريخية حقة. ولكنها لا تقف هنا، بل إنها تكمل لكى تضيف البعد الثانى والأهم للقص، الذى يبعده عن الحقيقة ببرودتها وحديتها ويقربه من الخيال بتحرره وسعيه وراء الجمال، أى البعد المتخيل أو البعد الموضوع الذى لا يمت للحقيقة بصلة والذى لا يتطلب إثباتًا أكثر من تأثيره على عواطف ومدارك القارئ. فشكورة التى جمعت فى شخصيتها فى الكتاب بين الجموح العاطفى والأعصاب الهادئة والنظرة الثاقبة تحذرنا نحن القراء من أن نؤخذ بسرد أورهان الذى يقدم لنا نسخًا متخيلة عن حقيقة الأسود وشكورة وشوكت، لأن أورهان على قول أمه فى سبيل الوصول إلى قصة مقنعة ومشهية لن يتوانى عن استعمال أى كذبة ممكنة. ولا أظن أن هناك سبكًا أجمل من هذه الفقرة لماهية القص، أو أن هناك تلاعبًا أكثر حذقًا من تلاعب الكاتب هنا بين دوره هو، أى أورهان باموك، كقاص، ودور أورهان، الشخصية القصصية فى تقديم القصة كلها لنا وجعلنا نستسلم لعالمها بافتتان. قورن باموك بالعديد من أعـــلام الرواية المعاصرين، فهو صنو مارسيل بروست فى حفـــــره الدائم فى غياهـــب الذاكرة وآلامهــــا. وهو تلميذ الروائيين الخياليين الواقعيين من أمريكا الجنوبيــــــة مـــن بورخيــــــس إلى جابرييــــــــل جارســـيا ماركيز فى تحليقـــه من الواقــــع إلى الخيـــال بدون أى تـــردد My name is Red «اسمى القرمزي» Orhan Pamuk Erdag M . goknon (Translator) Knopf, 2001, 384 pp. هذه القوى تتصارع فيما بينها، كل ضمــن مجـاله، لتخـــلق مســــــتويات الحبكــة المختلفــة فى الـــرواية، ولكى تســــمح لباموك بعرض آرائه فى الاختــــلاف والتضــــاد والتقــارب بين الحضــارتين الغربيــة الأوروبيــة والشـــرقية الإسـلامية، وهــــــو ما يفعـله عمـــــومًا بحنكــــــة ودرايــة
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة