جدل الطائفية والسياسة
أصبح من الواضح أن طغيان البعد الطائفي علي السياسة في معظم المجتمعات العربية، وتغلغل التشدد الديني في قضايا الفكر والعمل السياسي والحياة اليومية، هو الخطر الأكبر الذي يهدد بناء الأمة ويعوق جهود النهضة، ويجهض التحول إلي الديمقراطية، ويعيد إحياء النزعات القبلية والعشائرية بدرجة تقترب من النكوص إلي عصور الجاهلية الأولي.
فلم تعد الطائفية كما تُمارس اليوم في عدد من الدول العربية مجرد خلاف في المذهب أو الدين، ولكنها أضحت وسيلة وسببًا لتعميق الخلاف السياسي وتحويله إلي صراع شعبوي، لا يكتفي باختلاف زاوية الرؤية إلي مصالح المجتمع وأساليب معالجتها، بل يمكن أن يتجاوزه إلي تدمير النسيج الاجتماعي، ووضع بذور حرب أهلية، وتقسيمات عرقية، وإفقار كامل للهوية عندما تختزل في الولاء لطائفة بعينها. وهو ما بات يغري القوي الأجنبية بالتدخل لفرض إرادتها.
وربما كانت أولي المواجهات التي نشبت في المجتمع الإسلامي وبذرت بذور الطائفية التي نري مظاهرها الآن، ما وقع من انقسام بين أنصار علي وأنصار معاوية في معركتي الجمل ثم صفين، انبثقت منه حركة التشيع ثم حركة الخوارج. حيث بدأت مظاهر الانشطار والفرقة بين المسلمين، يصلي كل فريق منهم وراء قائده. وتفرع عنه الخلاف حول مبدأ الإمامة لدي الشيعة التي اعتبرت من أهم أركان الفقه الشيعي بعد ذلك، علي خلاف ما يعتقد به أهل السنة من أن الإمامة متروكة للشوري بين المسلمين.
وهكذا بدأت الطائفية في الأصل صراعًا علي السلطة نجم عن تعصب مذهبي سياسي، ارتدي عباءة الدين، وتطور إلي عصبية أدت إلي التعصب. وأدت في لحظات الاحتقان والتوتر إلي رفض التعايش مع الآخرين، وإنكار حقوقهم وإقصائهم بسبب الانتماء إلي مذهب ديني آخر. وقد يتخذ هذا الإقصاء شكل التهميش الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بدرجة قد تؤدي إلي الاضطهاد الطائفي والإخلال بالتوازن الاجتماعي، علي نحو يفتح الطريق إلي التدخل الخارجي.
وبعبارة أخري، فنحن بإزاء حلقة مفرغة من صراع علي السلطة تفضي إلي اختلافات مذهبية، تتحول إلي دفاع عن مصالح الطائفة التي تدين بمذهب معين تفجر صراعًا سياسيا، وقد يصل التعصب الطائفي إلي درجة تقديم الولاء للطائفة في الداخل والخارج علي مصلحة الوطن الأكبر، وتمييز طائفة من أبناء الوطن علي طائفة أخري.
ولا جدال في أن ظهور الطوائف في المجتمعات الإنسانية يعد أمرًا طبيعيا. ولكن البعد الطائفي عادة ما يظهر بقوة علي السطح في حالات القلق الاجتماعي والتحول السياسي، وانهيار الأوضاع الأمنية الداخلية، وغياب العدالة الاجتماعية، وهزيمة الفكر القومي والاستقواء بدول خارجية.
وعادة ما تكون المهمة الأولي في مرحلة النهوض بالأمة وبناء الديمقراطية أكثر تركيزًا علي تذويب الحواجز الطائفية، وبناء وحدات سياسية لا تقوم علي أساس طائفي أو قبلي، بل تقوم علي مبادئ تكرس رؤية موحدة للمصالح القومية، وبما يضمن حقوق المواطنة وتكافؤ الفرص بين أبناء الوطن الواحد، وعلمنة العلاقات الاجتماعية والسياسية.
ولكن لسوء الحظ جاء اندلاع الفرقة الطائفية في الوطن العربي حاليا إبان لحظة تاريخية حاسمة.. تشهد فيها المجتمعات العربية مرحلة متعثرة من الانتقال إلي الحداثة والتحول الاجتماعي والسياسي.. من مجتمعات قبلية وعشائرية إلي مجتمعات مدنية حديثة، ومن نظام يقوم علي حكم الفرد والاستبداد بالسلطة إلي مشاركة الشعوب في تقرير مصيرها ومحاسبة حكامها. ومن أنظمة أبوية ديكتاتورية إلي أنظمة سياسية ديمقراطية تقوم علي الاختيار الحر في إطار مؤسسات تشريعية وبرلمانية.
وقد يقال إن انفجار العنف الطائفي في العالم العربي، ما كان ليحدث بهذه الدرجة وعلي نطاق واسع، إلا بسبب أمريكا التي اصطنعت لأسباب ملفقة حرب العراق، ودخلت بعتادها وجنودها وأفكارها لتفرض أوضاعًا جديدة علي الشرق الأوسط، وتعيد صياغة مجتمعاته وتطهرها من بؤر الإرهاب والتخلف.. فأطلقت زلزالاً مدمرًا قلب العراق رأسًا علي عقب، وأشعل نيران التناحر والبغضاء بين طوائفه ومذهبياته. وبات يهدد جيران العراق من الدول العربية المتاخمة. وفتح الطريق أمام النفوذ الإيراني السياسي والمذهبي من أوسع الأبواب.
ولكن الواقع أن العراق عاش أكثر من 80 عامًا كدولة واحدة، من بينها أكثر من ثلاثين عامًا متصلة تحت حكم البعث الديكتاتوري.. إلا أن الانقسامات الطائفية في العراق لم تذب تمامًا في أي وقت من الأوقات، بل بقيت كامنة تحت السطح بين السنة والشيعة والأكراد، ووقعت مذابح ومآس محزنة. وهذا بالضبط ما استغله المحتل الأمريكي حين أراد أن يقسم العراق. فقد وجد مخططًا جاهزًا، وتاريخًا قديمًا، وبذرة مكنونة، وتقليدًا متبعًا، فوضع منذ بداية الاحتلال نصب عينيه الأساس لتقسيم العراق إلي دويلات طائفية. ومنذ تم إقرار الدستور العراقي تحت إشراف الاحتلال الأمريكي وضعت بذرة الاعتراف بالحكم الذاتي للأكراد وبنظام الفيدرالية الذي يسمح لبعض الأقاليم العراقية أن تتمتع بأوضاع إدارية غير خاضعة للحكم المركزي في بغداد.
ولا يماري أحد في أن المحتل الأمريكي عمل علي تأجيج الخلافات المذهبية وإثارة المنافسات والأحقاد بين الشيعة والسنة وإعطاء الأكراد وضعًا متميزًا في التركيبة العراقية. وجري تشكيل الحكومات وتوزيع الحقائب الوزارية والمؤسسات التشريعية علي أساس المحاصصة الطائفية، بل وتم تشكيل القوات العراقية والأجهزة الأمنية والاستخباراتية لتكون خاضعة للنفوذ الشيعي. ونتج عن ذلك أن «فرق الموت» التي شكلتها وزارة الداخلية العراقية بحجة مطاردة البعثيين من أنصار صدام ارتكبت مجازر بشعة ضد ألوف الأبرياء من السنة. وذلك بفضل الهيمنة الشيعية الكاملة للمجلس الأعلي للثورة الإسلامية برياسة عبدالعزيز الحكيم.
ومن المعروف أن الحكيم ارتبط بعلاقات وثيقة مع إيران، وأمضي فيها معظم سني حياته في المنفي تحت حكم صدام. وهو ما سمح للاستخبارات الإيرانية بأن يكون لها دور متصاعد في العراق. وقد وقعت عمليات قتل منظمة ضد شخصيات عراقية من الفنانين وأساتذة الجامعات والأدباء علي أساس هويتهم السنية.
ويذكر سيف الخياط في كتابه «قصة الشيعة في العراق» أن التحول الدراماتيكي في موقف السنة بدأ بعد أشهر قليلة من سقوط النظام. فقد درج التليفزيون العراقي علي إذاعة أذان الصلاة علي الطريقة السنية وحدها. ولكن في بادرة مفاجئة قام مدير شبكة الإعلام العراقي بعرض أذان الشيعة الذي يدعو إلي أحقية علي في الخلافة، بالتناوب مع أذان السنة. فكان ذلك تأكيدًا لمبدأ المحاصصة الطائفية حتي في الأذان، وذلك بدلاً من إذاعة الأذان علي شكل موعد فقط، تجنبًا لإحداث وقيعة لا مبرر لها بين الطائفتين، فقد بدأ أبناء السنة يلاحظون علامات تكريس السلطة للشيعة الجديدة. إيذانًا بنهاية استئثارهم بالحكم، مما أثار حفيظتهم وزرع بذرة البغضاء بين الطائفتين.
غير أن المشكلة الطائفية لا تأتي من الماضي وحده، بل تؤججها وتحركها تلك القوي الخارجية والسياسات الداخلية التي تخدم مصالح المحافظين الجدد في الولايات المتحدة وإسرائيل ومصالح المتطرفين والمتعصبين من كل الأديان والطوائف.
ولا يملك الذين يبرئون الولايات المتحدة من استغلال الطائفية لصالحها، ويلقون تبعاتها علي تاريخ طويل من المحن والفتن التي عاشها العرب، إلا أن يتابعوا ما يحدث الآن من محاولات أمريكية للوقيعة بين إيران والعرب تحت ادعاءات ودعايات تتسم بالمبالغة والتهويل من أخطار السلاح النووي الإيراني. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، ولكن الخطط التي تطرحها الدوائر الأمريكية حاليا للخروج من المستنقع العراقي، تذهب في بعضها إلي إطلاق يد الشيعة والتعاون معهم في إقرار الوضع الأمني في العراق ولو علي حساب السنة. وهو ما حدا بالسعودية طبقًا لروايات متداولة إلي إبلاغ الإدارة الأمريكية، أنها لن تضطر إلي السكوت علي ذلك، وأنها سوف تعمل في هذه الحالة علي تقديم الدعم المادي والمعنوي لمساندة السنة في أي حرب ضد الشيعة، ولو احتاج الأمر إلي خفض أسعار النفط عن مستواه الحالي إلي النصف عن طريق زيادة الإنتاج، بهدف الضغط علي إيران لوقف دعمها للشيعة العراقيين في حربهم ضد السنة.
وتذهب هذه الروايات التي يروجها الإعلام الأمريكي في إطار الحديث عن المخاوف الشديدة التي تشعر بها السعودية في حالة إذا ما سحبت أمريكا قواتها من العراق.. لدرجة أن أكثر من ثلاثين من علماء المسلمين في السعودية وجهوا نداء إلي المسلمين في أنحاء العالم لنصرة إخوانهم السنة في العراق، قبل أن ينفذ الشيعة مؤامرتهم مع «الصليبيين» لبسط نفوذهم وتهميش المسلمين السنة!!
وربما كان لهذه المخاوف السعودية ما يبررها، ولكنها لا تصل إلي درجة المطالبة ببقاء القوات الأمريكية في العراق، كما أن للسعودية تاريخًا طويلاً من التعاون والتفاهم الناجح مع إيران. والأقرب لمنطق الأمور، أن يسعي الطرفان لتفاهم مشترك لضمان مصالحهما وإرساء أسس نظام أمني إقليمي لمنطقة الخليج، ينأي بالشرق الأوسط كله عن الصراعات الدولية والمخططات الأمريكية، بدلاً من البحث عن تطمينات ووعود أمريكية للوقوف في وجه الهلال الشيعي.. إذ لن تتورع أمريكا عن أن تضرب بها عرض الحائط إذا تناقضت مع مصالحها.
ومن هنا لم يكن غريبًا أن تجد الدول المقربة من واشنطن نفسها محصورة بين بروز نفوذ إيران الإقليمي وانعكاساته في سوريا وحزب الله وحماس، وبين إسرائيل المدعومة أوروبيا وسط تخبط السياسات الأمريكية وجموحها في حماية تل أبيب. وأضحت بذلك دول الاعتدال العربية هي الحلقة الأضعف وسط مخاطر التجزئة والطموحات الطائفية أو العرقية المدعومة بميليشيات وعصابات مسلحة وجيوش صغيرة وليس استنادًا لنظم وحكومات شرعية.
وقد انعكس ذلك في الحالة اللبنانية، حيث التبس البعد الطائفي بالخلافات السياسية التباسًا شديدًا، أفضي إلي انقسام سياسي رأسي بين فريقين متقابلين، لكل منهما أحزابه ورموزه وطوائفه. بحيث يصعب القول بأن المواجهة الحاصلة في لبنان هي بين سنة خالصة يمثلهم رئيس الوزراء السنيورة وجماعة 14 آذار (مارس) ويتصدرهم سعد الحريري وبعض رموز السنة. وشيعة خالصة يمثلهم حزب الله بزعامة حسن نصر الله. ففي الفريق الأول ينضم جنبلاط وجانب من الموارنة من أسرة الجميل، وفي الفريق الثاني ينضم نبيه بري وتيار الوطني الحر بزعامة الجنرال عون وجماعة فرنجية ورموز سنية مثل كرامي وسليم الحص.
وقد تعقد الوضع في لبنان إلي درجة بات يصعب علي المراقب الموضوعي أن يفرز أطرافه، ولكن أكثر الآراء موضوعية تذهب إلي أن ما يجري في لبنان ليس إشكالاً مذهبيا بين سنة وشيعة، ولا بين مسيحيين ومسلمين، ولا بين محور إيراني سوري وأي محور آخر.. فتلك هي الصورة النمطية التي تريد واشنطن أن تروج لها في المنطقة، لأنها تخدم مصالح المحافظين الجدد في إعادة ترتيب الأوضاع، وخلق ظروف جديدة تسمح بمعالجة الصراع العربي الإسرائيلي، ولكنها في رأي ميشيل سماحة أستاذ العلوم السياسية ووزير الإعلام الأسبق عملية فرز حقيقية بين لبنانيين يخوضون معركة الاستقلال والسيادة في وجه إسرائيل علي الأرض اللبنانية، وفي وجه تدخل السفارات الأجنبية في إدارة الشأن اللبناني وبين إقطاع سياسي ومالي لزعماء يخفون إشكالاتهم السياسية وراء مذاهبهم، وخاصة بعد أن خرجت سوريا وانتهي تأثيرها من لبنان. علمًا بأن كثيرين ممن هم اليوم في السلطة كانوا قبلها من حلفاء سوريا وصنائعها (حديث جريدة الوفد 18/12).
هناك في واقع الأمر صراع علي النفوذ في المنطقة، وفي القلب منها لبنان، لكسر المقاومة التي تعطي الشرعية لأي نظام لدي شعبه. ولذلك يجري زرع معظم الفتن بأصابع خارجية، كالصراع بين السنة والشيعة، لشغل المنطقة عن صراعها الرئيسي في مواجهة إسرائيل بصراعات ثانوية. إذ طالما ظلت المقاومة عنيدة وصامدة كمقاومة حزب الله في لبنان، وحماس في فلسطين، فسوف تعجز إسرائيل والولايات المتحدة عن تحقيق النصر السياسي الذي سعت تل أبيب إلي تحقيقه بالعدوان علي لبنان لتجريدها من هويتها العربية والتخلص من حزب الله، ثم بنزع صفة اللاجئ عن ألوف اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وتوطينهم فيها لحل مشكلة اللاجئين، وتطبيق نفس المبدأ بعدها علي الدول التي استضافتهم منذ نكبة 1948 .
ولهذا السبب يزداد التركيز يومًا بعد يوم في الصحافة الغربية وفي كثير من الصحف الناطقة بلسان النظام العربي الموالي لأمريكا والمهادن لإسرائيل، علي تصوير ما يحدث في لبنان علي أنه صراع بين أنصار سوريا وإيران الذين يعملون لحساب الدور الإقليمي الإيراني من ناحية، وبين أنصار الاحتفاظ بلبنان داخل المعسكر الغربي الداعم للديمقراطية والحرية من ناحية أخري.. الفريق الأول في هذا التصوير الساذج يسعي إلي تشييع لبنان وتسييس الدين وإنقاذ سوريا من المحكمة الدولية والإطاحة بالحقوق المدنية والديمقراطية، وأما الفريق الثاني فهو الذي يريد إنقاذ لبنان من أن تتحول إلي دولة داخل الدولة، يجري عسكرتها علي يد ميليشيات حزب الله، وتحويلها إلي قاعدة للنفوذ الإيراني في المشرق والنفوذ السوري في المنطقة العربية.
إن الوقوع في دوامة الطائفية السياسية يكاد يعمي السياسيين والمفكرين العرب عن الرؤية العقلانية المجردة من هواجس الهوي الطائفي والغلو المذهبي. وتحت تأثير التضليل الإعلامي الأمريكي، وضرورات البحث عن مخرج من الورطة العراقية التي توشك أن تضع نهاية فادحة للنفوذ والمصالح الأمريكية، قد تهز الأرض تحت أقدام كثير من الأنظمة العربية، أصبح كثير منهم لا يبصر أمامه غير الخطر الشيعي والتمدد النووي الإيراني. بينما يتواري من أنظارهم الخطر التوسعي اليهودي والتفوق النووي الإسرائيلي المدعوم من الولايات المتحدة وما أحاقه بالعرب من كوارث.. وهم تحت وطأة هذا العمي الطائفي علي استعداد للتفاهم والتنازل والتقارب مع إسرائيل، دون أن يفكروا في الخيار الآخر الأكثر منطقية وواقعية بحكم الدين والتاريخ والدم وهو التفاهم مع الجار الإيراني، والاعتراف بمصالحه والتعامل مع هواجسه الأمنية في إطار منظومة إقليمية للأمن والتعاون السياسي والاقتصادي، علي غرار منظمة الأمن والتعاون الأوروبي. وإذا كانت بعض الدول العربية علي استعداد للتعامل والتعاون السلمي مع إسرائيل، أفلا تستطيع أن تتعامل وتتعاون مع إيران؟
لا يملك الذين يبرئون الولايات المتحدة من استغلال الطائفية لصالحها،
ويلقون تبعاتها علي تاريخ طويل من المحن والفتن التي عاشها العرب، إلا أن يتابعوا
ما يحدث الآن من محاولات أمريكية للوقيعة بين إيران والعرب تحت ادعاءات
ودعايات تتسم بالمبالغة والتهويل من أخطار السلاح النووي الإيراني.