لم يكن أسبوع فك الارتباط الإسرائيلي عن غزة أكبر حملة عسكرية غير حربية يقوم بها الجيش منذ أن أقامه بن غوريون فحسب، بل كان أيضًا أكبر عرض «ريالتي تي. في.» في التاريخ منذ أن بدأ الناس بالتصرف والتحدث كأن هنالك كاميرا حاضرة طيلة الوقت كأمر طبيعي، فغيروا من لهجتهم، أصبحوا أكثر دراماتيكية وأكثر كلاشيهيةً كأنهم «بوستر» أو «ستيكر» أو «ساوند بايت» تسويقي متجول، ومنذ أن شاهد آخرون كيف عليهم أن يتصرفوا في حالة الغضب والحزن والفرح فتصرفوا بموجب صورتهم التي رأوها في الإعلام، فتم نسخ وتناسخ الناس في هندسة جنكولوجية ــ تلفزيونية أو للاختصار «جنزيونية».(سجل براءة اختراع)!!
في أسبوع دراما فك الارتباط مع الواقع وتوثيق الارتباط مع الصور عن الواقع، وفي تسلسل وقائع الدراما وفصولها من ملصقات المستوطنين إلي المواجهة المخرجة إخراجًا محرجًا بين المستوطنة والجندي المطأطئ الرأس ليس خجلا، بل لأن عليه حسب السيناريو أن يبدو خجلا ومتألما لما يفعل، وهي تصرخ بابنها بهستيريا: «عندما تكبر لا أريدك أن تكون مثل هذا الجندي بل أن تكون جنديا يدافع عن الوطن!»، والطفل الذي دربه المستوطنون أن يصرخ علي الجندي الذي يضبط أعصابه، ليس لأنه يجد صعوبة في ضبطها بل لأن عليه أن يبدو رابط الجحش، عذرا الجأش، فالحديث هو عن جنود رابطي الجأش، وهكذا يجب أن يتصرفوا فيعيدوا إنتاج صورتهم، وكون بعضهم قد صدقها لا يغير من كونها صورة. يصرخ الطفل ليحتار المشاهد بين الطفل البريء والجريء وبين الجندي الرابط الجأش، ليس لأن لا جأش له، بل لديه جؤوش. ولكن جهاده الأكبر علي وزن لغة منتجي الصور عندنا هو أن يربطه فيحكم ربطه: «هل غسلوا دماغك، لماذا لا تنظر في عيني؟» وفي هذه الحالة يكرر الطفل جملة علي أحد ملصقات حملة المستوطنين الموجهة للجنود من نوع «أخي أنظر في عيني!!»، هذا إضافة إلي: اللعب بالكلمات والصور المستوحاة من مكاتب الدعاية والتسويق من نوع صورة خلفية لجندي ينظر إلي مستوطنة وفي أسفلها جملة: «لكي لا تستوطن لك علي ضميرك»، وصورة طفلة زرقاء العينين مع نفس الجملة، يضاف إلي ذلك الدعاية الحكومية تحت شعارات عائلية تميز الأخوة أو الأخويات الهوليوودية علي الأقل، من نوع: « المهم ألا نفك ارتباطنا ببعض»، أو «لنعبر هذه المحنة سوية» أو «تساف بِيوس»، (أمر مصالحة) علي وزن «تساف جِيوس» (أمر تجنيد)، وهو ملصق ودعاية تلفزيونية حكومية بنفس نوع ولون خط الرسالة التي تصل للجندي عند دعوته للخدمة وقت الحرب.
يضاف إلي ذلك ملصقات بالبرتقالي علي السيارات من كافة الأنواع: «الشعب مع جوش قطيف»، «أين اختفي الخجل؟»، «اقتلاع المستوطنات انتصار للإرهاب»، ومقابلها بالأزرق: «تفكيك المستوطنات خيار الحياة»، «نخرج من غزة ونبدأ الكلام»، «ليعد الأبناء إلي حدودهم، نخرج من غزة ونحمي البيت»...وعنوان الحملة العسكرية الرسمي لتفكيك المستوطنات: «يد للأخوة»، وكلمة يد هنا هي اختصار عبري لمد يد المعونة.
ويضاف إلي هذا كله مقالات كبار الكتاب المعارضين للاستيطان في الصحف الإسرائيلية الثلاث المشاركين في الدراما الرخيصة، الذارفين دمعة مع العائلة، لأن العائلة كلها في حداد تضامنًا مع حداد أحد أفرادها. ولكي تجتاز العائلة المحنة بسلام لا تجوز الشماتة. ومقال خافير سولانا في هآرتس، بعد مقابلة جورج بوش...في فزعة دولية لشارون علي مستوي رأيه العام، مع وعود للإسرائيليين أن الكرة ستكون في الملعب الفلسطيني وأن الامتحان القادم هو امتحان الفلسطينيين.
ثم قبل الحملة بيوم خرجت الصحف عن طورها لأن المنافسة بينها علي أشدها ولأنها تريد أن تبيع: صورة جندية، جميلة، بعين من وضعها علي الأقل، ببلوزة تريكو عسكرية بسيطة وجريئة بالنسبة للباس العسكرية ولكنها تحمل كتاب التوراة مفتوحا وتقرأ بتمعن. طبعا ربما لا تري سطرًا واحدًا أثناء التصوير المهم أنها تبدو علمانية متحررة تقرأ التوراة في هذا اليوم. لا ندري ماذا نفعل بكمية الرخص الذي فاض علينا من ثنايا الصحف الحرة، إلي أن وردت صورة تحمل ألف معني من صحافة الجهة الأخري: صورة لا يمكنك أن تقشرها لكثرة طبقات القشور ولكثرة طبقات الوهم والعوالم الافتراضية المتضمنة فيها. قادة السلطة الفلسطينية في غزة يقصون شريطا( شريط فعلي، وقد حسبنا أن عادة الشريط والوسادة والمقص قد اختفت من الدنيا) يطلون برؤوسهم من فوق الشريط والمقص وحامله. تجمعوا وتصوروا لافتتاح مقر...مقر ماذا؟ مقر مركز البث الإعلامي المباشر الذي أعد خصيصًا لنقل أخبار فك الارتباط. علي الصفحة الأولي. هل أنت معي عزيزي القارئ؟ يتم افتتاح مركز إعلامي من النوع الذي يقام في بلدان مختلفة عند انعقاد قمة أو ألعاب رياضية دولية موسمية أو غيرها. ولكنه يفتتح هنا بمقص وشريط من قبل أعلي مستوي في السلطة كأنه صرح وطني أو منشأة صناعية أو ثفافية. وهو مقر للبث الإعلامي لتغطية الحدث. وللصورة هنا أكثر من مغزي. فمجمل ما قام به العرب هو رد فعل أو تفسير لخطوة شارون وذلك دون أن يسألهم أحد. ولم يهم شارون هل يحتفلون أم يحدون. قرروا اقتحام الدراما الإسرائيلية العالمية التي اخرجت وانتجت دون فلسطينيين ودون عرب بالاحتفالات. واختلفوا علي سبب الاحتفال، هل السبب هو انتصار المقاومة أم انتصار عملية السلام. واتفق العالم معهم أن هنالك سبباً للاحتفال وأن عليهم أن يقابلوا الحداد الإسرائيلي واحتفالاتهم هم بتزويد العالم بسبب أو بأسباب للاحتفال من نوع «ضرب بني الإرهاب التحتية». وتقرر الحكومة الإسرائيلية اليوم بناء الجدار حول معاليه ادوميم، ويقول الوزير العمالي رامون أن الإدارة الأمريكية تعارض بناءه ولكنها لن تفعل شيئا بعد فك الارتباط.
لم يسكب هذا الكم من القطر السكري الدبق علي صفحات الصحف في دولة حديثة علي ما اذكر، كما في هذه الايام في الصحف الاسرائيلية، ولم يتم استخدام هذا الكم من التعابير القومية المتعصبة من قبل اليمين واليسار حول حداد اليهود ومنع صراع الإخوة وحول حوار الاخوة.. حتي العرب في أسوأ شطحاتهم الرومانسية القومية لم يعبروا عن رغبتهم في إعادة إنتاج القبيلة علي هذا النحو.
وأنا لا أضيع هنا سطرًا واحدًا حول وصف البيوت والمنازل وعملية الاقتلاع، فالكذب والعهر هنا لا يستحقان حتي التعليق، ولو جاء الكذب من ايلي فيزل المنافق الابدي (نيويورك تايمز 21 اغسطس 2005). (اقترح في هذه المناسبة احتفاليا الغاء جائزة نوبل للسلام فهي خلافا لغيرها من جوائز نوبل جائزة نفاق لا أكثر ولا أقل). من المهم فقط ان نذكر أن الحديث هو عن مستعمرين ومستعمرات. واقدر أن المستعمرين في الجزائر قد بكوا بعد جيلين، وطوروا حبًا للإقليم الذي استعمروه. ورومانسية المستعمرين العنصريين معروفة في أفريقيا. ولكن هؤلاء خلف الاسلاك الشائكة، بممارساتهم في نفي المقيمين في المكان والرغبة بالحلول مكانهم لم يتصفوا بأي رومانسية لا شكلاً ولا مضمونًا. وقبعوا خلف الاسلاك الشائكة والجدران والبنادق. أما السكان من حولهم فكانوا بأنفسهم لاجئين اقتلعوا من بيوتهم في قري ومدن الساحل الجنوبي لفلسطين التي تبعد كيلومترات معدودة عن مخيماتهم. هؤلاء هم الذين اقتلعوا من بيوتهم، وتفكيك المستوطنات علي أهميته وضرورته لا يعوضهم عنها. ولكن الدراما التلفزيونية، بما في ذلك عربيا، طمست هذه الصورة. وحتي عندما قيل الكلام عن تغييب الفلسطينيين، وعن أن هذه المعركة التي يقوم التلفزيون بتصويرها ليست المعركة الحقيقية، فإن الصور قد تكلمت لغة أخري. لقد صور التلفزيون لعبة شارون ونقلها للعالم كأنها اللعبة الوحيدة في المدينة، ولم تغير بعض التعليقات في نقد هذه الصورة في الصورة المبثوثة ذاتها: صورة «الثمن الباهظ» الذي يدفعه المجتمع الاسرائيلي، المواجهة بين الجنود والمستوطنين والتعاطف مع الجنود الباكين علي مصير المستوطنين واضطرارهم أن يلبوا نداء الواجب، وصورة معاناة الجنود وضبط اعصابهم وانهيار هذه المجندة أو تلك بكاء اما من الحر أو من الكاميرات أو فعلا من منظر المستوطنات الباكيات أو النائحات أو العافرات السم بكل اتجاه.
وسياسيا فرزت الصورة كما خشينا وكأن الدنيا مقسومة بين خيارين أما شارون أو المستوطنين، والخشية أن يختار حتي العرب أحد المعسكرين للتعاطف...والخوف أن يحاول عربي إثارة الإعجاب بالادعاء أن قلبه يكاد يخونه وهو يشاهد الباكين علي رسمٍ درس. وعند العربي ضعف للبكاء علي الطلول منذ الأول الثانوي. والمصيبة أنه بدل أن تقاطع فضائية عربية وزارة الخارجية الاسرائيلية يحصل العكس. ولكثرة الطلب كان من ضمن من جهزتهم الخارجية الإسرائيلية للنطق في الفضائيات العربية شاب بدوي خدم في الجيش.
وفي خضم محاولتي تجنب رؤية هذا كله، ثم مراجعته قراءةً بعد أسبوع، وجدت نفسي مشدوهًا أمام اختفاء قعر المشهد الإعلامي تمامًا، بحيث لا يقف التدهور عند حدٍ، أو مستقر. انفخت القعر. انفزر القاع. انبعجت الارضية. ( لم انجر عزيزي القارئ وراء مزاج لا يعبر عنه الا بالعامية. فمع أن فخت تستخدم للسقوف وليس للقيعان، وفزر للأقمشة والجلود، إلا أنها جميعا مصطلحات عربية فصحي كما وردت في قاموس المحيط وفي تاج العروس). لم يبق لا قعر ولا قاع. وهكذا نقرأ (هآرتس 14 اغسطس آب) أن «المدافعين عن الرفق بالحيوان اجتمعوا مع مسؤولين حكوميين لتطبيق خطتهم بشأن إنقاذ الحيوانات البيتية التي سوف تترك في جوش قطيف». اسم المنظمة «نوح»، تيمنا كما يبدو بفلك نوح الذي بناه من خشب قطراني كما جاء في التوراة لإنقاذ زوج من كل دابة تدب علي وجه البسيطة، أو زاحف يزحف علي بطنه، أو ذي جناحين يطير في السماء قبل أن يأتي عليها الطوفان.
وحسب أقوال رئيسة المنظمة شيلي جلوزمان لصحيفة هآرتس فإن مكتب رئيس الحكومة قد تبني الخطة، وتابعت قائلة أن «هنالك مئات القطط وبضع عشرات من الكلاب يجب سحبها من القطاع وإلا فسوف تبقي دون ماء وطعام ومكان للعيش». المهم هنا أن كافة فئات الشعب ومؤسساته تساهم في هذا الجهد الوطني الكبير لـ«إنقاذ الاخوة». وكأن القطط والكلاب لا يجوز ان تعيش عيشة الكلاب والقطط في غزة المحررة. ومع ان النشيطة المذكورة لا تدرك عما تتحدث الا انني مضطر مع ذلك للقول أنه لا حدود للسماجة. وقد نشرت اسوشيتيد برس ( 18 اغسطس آب) نبأ عن منظمة أخري «شاي» ينتظر نشطاؤها من وزارة الأمن اذن دخول القطاع لإنقاذ الحيوانات. أما موقع منظمة «شاي» هذه فيصور نشيطات المنظمة مع الجنود والمجندات علي حاجز ايرز في صورة تاريخية قبل بدء حملتهم لإنقاذ الحيوانات التي سوف يتركها المستوطنون وراءهم.
ويوم 23 آب، أغسطس تعود هآرتس مرة أخري لتغطي أخبار منقذي الحيوانات المثاليين أولئك، توائم الجنود في عملية إعادة كائنات حية أخري إلي الوطن. وهذه المرة في الضفة الغربية في مستوطنة كديم. تزف لنا الصحيفة الليبرالية نبأ وصول السيدة افيتال فيرسكن الناطقة بلسان «جمعية رفاه القطط في إسرائيل » إلي كديم لإنقاذ القطط في مستوطنتي جاتيم وكاديم وقد عصرت هذه الخطوة النبيلة دموعًا من عيني المستوطنة مارتين اشجاري التي قالت إنها لم تعد تستطيع وحدها إطعام عشرين قطة تجمعت في ساحة بيتها. والمهم والأهم أن الناطقة المدربة علي النطق تقتبس الرمبام (رابي موشي بن ميمون) حكيم اليهودية وفيلسوفها الأول المعروف عربيا باسم موسي بن ميمون الذي كتب بالعربية والذي قال حسب المناضلة أعلاه أنه «لا فرق بين القسوة تجاه الحيوانات والقسوة تجاه البشر». وما زالت هنالك خمسون قطة في جانيم، ومائة إلي مائتين في كاديم، والمئات في جوش قطيف. وتحتاج المنظمة إلي نصف مليون شاقل لتأمين مأوي لها. وقد أصدرت منظمات الرفق بالحيوان نداءات طالبت فيها الجمهور بتبني الكلاب والقطط وأن تفسح مكانا لهؤلاء القادمين الجدد من المناطق التي تم الانسحاب منها. وعلي ذكر المساواة في القسوة، لا تقدم الكلاب طلبات لم شمل ولا تطالب القطط بتصاريح أو إقامة مؤقتة أو دائمة وذلك دون أن تثبت يهوديتها. وبقي أن نسأل لماذا لا يقيم العرب منظمات رفق بكلابهم وقططهم بحيث تصبح مناطقهم لائقة لسكن كلاب وقطط الأسياد، أو لكي تضاف منظمات جديدة إلي قائمة الجمعيات التي تجري حوارا مع المنظمات الجارة؟ الكرة في الملعب الفلسطيني لتقديم الجواب. علي كل حال عدم وجود مثل هذه الجمعيات حاليا وفر علينا بعض التراشق بالبيانات حول قدرتها ان ترفق بالحيوان لا أقل من زميلاتها الإسرائيليات، وأنها لا تفرق بين قطة وأخري خلافا للمنظمات الاسرائيلية.. انظروا أعزائي القراء إلي نصف الكأس الممتلئ إذ لم نضطر للمرور بهذه التجربة.
إزاء طوفان الإعلام والفضائيات الحالي وتهديده لإبادة كل ما ليس صورة ذات بعد واحد أو ظلا لصورة، أري ضرورة لفلك نوح جديد طراز 2005، وأن ندخل فيه زوجا من جمعيات الرفق بالإنسان وأن نختار زوجا علي الأقل من الصحفيين المستقيمين لكي نحافظ علي هذا الجنس من الطوفان أعلاه، وزوجا من المشاهدين الذين لا تنطلي عليهم الصور التليفزيونية الرائجة لإنقاذ هذا الجنس أيضًا، وزوجا ممن يرفضون قراءة مقال لخافير سولانا ويرفضون اعتبار جائزة نوبل للسلام مهمة ويرفضون المشاركة في حفلات استقبالهم، وزوجا ممن لا يقرأون كبار الكتاب وهم يكتبون مقالا كلفتهم بكتابته صحيفة عشية وقوع حدث كبير، وزوجا ممن لا يعتبرون المشاركة في حفل استقبال أمرًا مهمًا، وزوجًا من أصحاب المعد الحساسة الذين تثير فيهم تصريحات كوفي عنان في مدح شارون الرغبة بالتقيؤ، وزوجا ممن يعتبرون النفاق والكذب حتي لو كانت مدفوعة الأجر صفات سيئة، وزوجا ممن لا يعتبرون النجاح بأي ثمن قيمة، وناسًا طيبين آخرين.
لم يسكب هذا الكم من القطر
السكري الدبق علي صفحات الصحف
في دولة حديثة علي ما اذكر، كما في هذه الايام
في الصحف الاسرائيلية، ولم يتم استخدام هذا الكم
من التعابير القومية المتعصبة من قبل اليمين
واليسار حول حداد اليهود ومنع صراع
الإخوة وحول حوار الاخوة
صور التلفزيون لعبة شارون ونقلها
للعالم كأنها اللعبة الوحيدة في المدينــــة،
ولم تغير بعض التعليقات في نقد هذه الصـورة في
الصورة المبثوثة ذاتها: صورة «الثمن الباهظ»
الذي يدفعه المجتمع الاسرائيلي