أســـــــلمة الديمقراطية!



طرحت قضية إدماج الإسلاميين أو بناء تيار إسلامي ديمقراطي قبل سنوات في دراسات قليلة استشعرت أهمية حسم هذا الملف كجزء من عملية إعادة ترتيب البيت السياسي العربي من الداخل. وقتها لم تأخذ القضية حقها من الاهتمام والجدل إلي أن عادت للظهور بقوة مؤخرا، والفارق أنها حين طرحت قبل عشر سنوات تقريبا كانت أقرب للتغريد خارج سرب كادت طيوره تلتئم في الدعوة إلي المواجهة مع الإسلاميين وليس دمجهم في النظام السياسي، وهو ما تغير مؤخرا مع تصاعد الحديث عن الإصلاح والتغيير في المنطقة العربية وحدوث ما يشبه التوافق أو الإجماع علي صعوبة- إن لم يكن استحالة الحديث عن مستقبل النظام السياسي العربي والمصري بخاصة دونما الحديث عن وضع الإسلاميين- أكبر القوي السياسية- في هذا النظام. حين بدأ الحديث يعلو في هذه القضية كان النقاش يدور - غالبا- حول إشكالية يمثلها سؤال يبدو- رغم تقليديته- استشراقيا بامتياز: هل يصلح الإسلاميون للدمج والاستيعاب داخل نظام ديمقراطي أم أن الجينات الإسلامية تحول دون ذلك؟. من هنا تأتي أهمية «إسلاميون وديمقراطيون: إشكاليات بناء تيار إسلامي ديمقراطي» الصادر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية عام 2005وضم عددا من الدراسات لباحثين مهتمين ومختصين بهذا الملف. لا تكمن الأهمية في المقاربات التي تضمنها فحسب وإنما أيضا من كونه تجاوز هذا السؤال المبدئي الاستشرافي واشتبك مع الإشكالية مباشرة معتبرا قضية الإدماج قضية أمر واقع؛ فدخل في التفاصيل واشتبك مع الإشكاليات النظرية وقدم تجارب عملية للإدماج. لكن الكتاب بمقارباته المختلفة يثير إشكالات أكثر مما يقدم من إجابات؛ وهي إشكالات تتعلق - بالأساس- بالمنهجية التي يمكن من خلالها مقاربة قضية دمج الإسلاميين في النظام السياسي..والتي يمكن أن يجمعها سؤال مركزي: في أي نظام يدمج الإسلاميون؟ وماذا يتبقي من «الإسلامية» بعد الدمج والدمقرطة؟. أول الإشكالات التي تلفت القارئ لهذا الكتاب والمتابع إجمالا لجدل الإسلاميين والديمقراطية تلك التي تتعلق بتحرير المصطلحات والمفاهيم التي تدور عليها مقاربات الكتاب: إسلاميون، إسلامية، ديمقراطية، دمج..حيث تبدو وكأنها محل اتفاق فتغيب تعريفات واضحة لهذه المفردات وهو ما تحتاجه قضية بالغة الأهمية كالتي يعالجها الكتاب..فلا نجد في الكتاب تعريفات واضحة ومحددة لمصطلحات مركزية في القضية وعلي رأسها مصطلح «الإسلاميون» وماصدقاتها أي تندرج تحتها من أفراد وتيارات وهيئات وجماعات، وكذلك «الإسلامية» وما تحيل إليه من دلالات ومعان، خاصة حين تطرح بمقابل مصطلحات أخري مختلفة مثل «العلمانية» أو «المدنية»..كما يغيب أيضا الوقوف علي التحولات التي طرأت في معاني ودلالات هذه المفردات في السنوات الأخيرة الماضية. وتبدو قضية التعريف مهمة في ضوء ما جري- مثلا- من تغير لدلالات «الإسلامية» عبر مراحل تاريخية مختلفة فقبل خمسة عشر عاما أو يزيد كان الحديث عن «الإسلامية» يأتي دوما في إطار الرؤية الكلية أو الرواية الكبري التي يطرحها الإسلاميون والتي تضم مجالا واسعا من المعاني والرموز والطقوس التي يتم فيها تسكين كل سكنات «الإسلامي» وحركاته، حيث لابد - بحسب إسلامي هذه الحقبة - أن تكون كل أفعاله وأقواله وحركاته وسكناته ضمن رؤية شاملة للكون والحياة تتجسد- عند الإخوان مثلا- في الخطوات الست التي حددها الإمام الشهيد حسن البنا (تبدأ من بناء الفرد فالأسرة المسلمة فالمجتمع المسلم فالدولة الإسلامية وتنتهي بإقامة الخلافة وأستاذية العالم). ضمن هذه الرؤية الشاملة أو الرواية «الإسلامية» الكبري كانت تنتظم حركة الإسلاميين بدءا من النضال السياسي حتي العمل الاجتماعي بل وشئون الحياة الخاصة..فلم يك مقبولا لدي الإسلامي أن يأتي من الأفعال ما لا يمكن أن يسكن في هذه الرواية الكبري بما في ذلك شئونه الخاصة من التعليم والعمل إلي الحب والزواج! غير أن دراسات حديثة لـ «الإسلاميين» و«الإسلامية» تقول أن الواقع الحالي اختلف كثيرا عما كان عليه الحال قبل عقد ونصف أو عقدين من الزمن..فلقد تحول معني «الإسلامية» أو ضاق عما كان عليه زمن الرواية الكبري فتقلص المجال التداولي لها لدي إسلاميي هذه اللحظة ليعني أنه كل ما هو مفيد وممتع ولكن غير محرم..وأتصور أنه من المفيد تبني منظور اجتماعي أنثربولوجي في دراسة هذه القضية - الإسلاميون والدمج في النظام الديمقراطي- وأنه لابد من تكامل المدخل الاجتماعي مع المداخل السياسية والثقافية في دراسة ماذا تعني الإسلامية. ما قيل بشأن الإسلاميين والإسلامية يمكن أن يمتد كذلك إلي متعلقاتها من مفاهيم وأفكار وتصورات وعلي رأسها «الدولة» و«الدولة الإسلامية»..فدائما ما كان هناك التباس لدي الإسلاميين في تصور مفهوم الدولة وهو التباس كان يجري فيه إسقاط المثال التاريخي- الدولة الأموية أو العباسية أو دولة بني فلان..- علي مثال الدولة الحديثة دون وعي بمفهوم الدولة الحديثة التي هي أكثر تعقيدا مما يتصوره الإسلاميون خاصة في قضية المرجعية؛ فالدولة الحديثة مرجعية ذاتها ولها إطلاقية لم تكن للدولة في مرحلة ما قبل ظهور الدولة الحديثة..وهي أيضا دولة مطلقة في ذاتها تطرح اطلاقيتها في اتجاه الدين نفسه، ويؤرخ البعض بتأسيس الدولة الحديثة لعلمنة السياسة نفسها. لا تتوقف المقاربات الداعية لبناء تيار إسلامي ديمقراطي كثيرا عند طبيعة وشكل النظام السياسي الذي يمكن أن يدمج فيه الإسلاميون..ويبدو من الاتجاه العام لهذه المقاربات - علي الأقل في هذا الكتاب- أنه يتبني فكرة الدمج الاستيعابي حيث لابد لدمج الإسلاميين أن يمر عبر بوابة النظم السياسية التي نعيشها والتي تتبني النموذج الديمقراطي الليبرالي العلماني- أيا كان تطبيقها واقعيا- وكأن العلمانية أصبحت شرطا للإدماج دونما أي إشارة إلي أفق جديد أو إمكانية لإعادة تأسيس نظام سياسي جديد ليس بالضرورة علي النموذج الديمقراطي الليبرالي الغربي، فالمفارقة أن الحديث كله يناقش كيف يتغير الإسلاميون ليحلوا مندمجين في النظام السياسي القائم دونما أي حديث عن تغيرات يمكن أن تطال النظام السياسي نفسه لكي يشهد ولادة تيار إسلامي ديمقراطي بداخله...ويبدو أنه في غالب المقاربات لا نجد حديثا واضحا عن الدولة أو النظام السياسي الذي نبحث في دمج الإسلاميين داخلها، ثم إن هناك غيابا للصيغــــة التي يمكــــن أن يحصل الإسلاميون من خلالها علي وضع سياسي قانوني داخل النظام السياسي. المفارقة أن هذا التصور للدمج كما يتبناه الكتاب وكتابات أخري يلاقي إعجابا وتثمينا من التيار الإسلامي السياسي السلمي الذي ربما انحاز لفكرة الدمج أكثر من تقديره لمتطلبات هذا الدمج ومآلاته، فهو يرحب بإفساح مساحة قانونية للعمل السياسي دون النظر إلي الأرضية التي يجري عليها العمل نفسه أي النظام السياسي الذي سيدمجون فيه. في بحثه يقارن عمرو الشوبكي بين التجربة التركية والتجربة المصرية في دمج الإسلاميين منحازا - بالطبع - إلي النموذج التركي..وفي معرض تفسيره لنجاح هذا النموذج في مقابل فشل التجربة في مصر يسرد عقبات مصرية حالت دون دمج الإسلاميين كان أهمها أن مصر لم تنجز التحول العلماني كاملا وهو ما يتمثل في استمرار الإطار الإسلامي ووجود مؤسسة دينية فعالة وتشبث إســـــلامـــي مصر بفكرة «الإسلامية» التي يراها إحدي العقبات الأساسية في طريق الدمج الذي لن يتحقق إلا حين تنجز مصر التحول العلماني الكامل. أتصور أن هذا الكلام يجعلنا في حاجة إلي إعادة تعريف «الإسلامية» وكذا «العلمانية» خشية أن يكون هناك نوع من سوء الفهم لما تعنيه العلمانية..كما أننا سنجد أنفسنا بحاجة - أيضا - إلي استحضار التنظير الغربي في قضية العلاقة بين الدين والعلمانية خاصة في ظل الحضور الإسلامي الواسع في فضاء السياسة والعمل العام عموما والذي يمكن أن نلاحظ فيه وجود مقاربتين علي طرفي النقيض واحدة تتحدث عن ما بعد العلمانية أو نهاية الدولة العلمانية مستحضرة خبرة التجربة الأمريكية وتجارب أخري تصاعد فيها الدين في الحيز السياسي، ومقاربة أخري تتحدث عن تأكيد الحضور العلماني وأن الحضور الديني في السياسة يأتي دائما علي أرضية العلمانية وليس علي حسابها. أيا كان موقفنا من قضية العلاقة بين الدين والدولة والعلمانية فنحن بإزاء قوة دينية إسلامية في العملية السياسية بحاجة إلي أن تقدم تعريفها للعلمانية بشكل يرسم حدود العلاقة بينها وبين «الإسلامية» خاصة في ضوء ما جري من تحولات تبدو مهمة في نظرة الإسلاميين للدولة المنشودة فبعد أن كان الحديث عن «دولة إسلامية» صار هناك «دولة المسلمين» ثم «الدولة الآذنة» بالإسلام ثم «الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية»..وانتهاء بدولة مدنية ديمقراطية. التوقف عند تصور الإسلاميين للدولة والنظام السياسي يبدو مهما في ضوء ما جري من تحولات في هذا التصور يجعله في - حالة ما يمكن أن نسميه بالتيار الديمقراطي داخل الحركة الإسلامية- أقرب ما يكون إلي طرح النموذج الديمقراطي الليبرالي بل وأحيانا النيوليبرالي! مع غياب لأي أفق جديد يعطي تمايزا للديمقراطيين الإسلاميين عن غيرهم..بل وغياب لأي استفادة من منجز غربي في هذا السياق- سياق التحول الديمقراطي- حتي فيما يتعلق بقضية العدل الاجتماعي. التدقيق في رؤي التيار الإسلامي الديمقراطي سواء من خلال حزب العدالة والتنمية المغربي أو الإخوان الديمقراطيين في مصر سيكشف عن انتفاء أي فروق كبيرة بين ما يطرحونه وبين نموذج الديمقراطية العلمانية ذي الميول الليبرالية وبالذات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، هذا الملمح واضح في تجربة العدالة والتنمية خاصة في المساحة الاقتصادية حيث الحديث عن الحرية المطلقة للسوق والمنافسة المفتوحة وانسحاب الدولة الكامل من الاقتصاد لحساب قوي المجتمع..كمحاور أساسية لمشروعه «الإسلامي»!. قد لا يفضل الإسلاميون الديمقراطيون في مصر مقارنتهم بالعدالة والتنمية ويحيلون - باستمرار - إلي الخصوصية المصرية أو التركية..لكن الواقع يقول أنه بصرف النظر عن كثافة حضور الشعارات والجدل العقائدي في الحالة الإسلامية المصرية عنها في نظيرتها التركية فإن هناك تقاربا بين إسلاميي البلدين في المسألة الاقتصادية والاجتماعية حيث تكاد تتطابق رؤيتهم مع النموذج الليبرالي، ويبقي الحديث عن الخصوصية غائما غير محدد.. وفي حديث «الإسلاميين الديمقراطيين» لا تكاد تظهر الروح الدينية الإسلامية إلا في البعد الأخلاقي الذي لا يصلح معيارا للحديث عن شكل مغاير في طرح الدولة يقدمه الإسلاميون. دراسة الإسلاميين الديمقراطيين تحيل الأذهان إلي استدعاء تجربة اليمين المسيحي في الولايات المتحدة..حيث النموذج النبوليبرالي في غطاءات أخلاقية دينية.. وكأنما يعطي الإسلاميون لبشارة فرانسيس فوكوياما بنهاية البشرية إلي النموذج الليبرالي صك اعتراف حيث انتهت إليها كل الطرق بما فيها طريق الإسلامي الديمقراطي!. ما سبق يجرنا إلي قضية بالغة الأهمية تتعلق بديناميات تحول الإسلاميين نحو الديمقراطية وما يتصل بهذه القضية من إدماج الإسلاميين في النظام الديمقراطي فهو يأتي في سياق السعي إلي تجاوز وضعية الحصار والمنع الذي ضربته الأنظمة العربية علي الحركة الإسلامية ومن ثم فهو متأثر بملابسات هذه الحالة فيأتي الطريق الديمقراطي طريقا وحلا وحيدا للخروج من هذا المنع، وفيه يعيد الإسلاميون الديمقراطيون تحت الضغط العلماني إنتاج تجربة التوبة التي خاضها نظراؤهم الجهاديون تحت الضغط الأمني؛ توبة ليس عن العنف وإنما عن التأخر في تلبية نداء الديمقراطية... فتأتي مقارباتهم للديمقراطية استجابات جزئية لاستجوابات- في الغالب إعلامية ثم سياسية بدرجة أقل- تلاحقهم أينما حلوا عن الموقف من الأقباط والأقليات الدينية أو المرأة أو الغرب أو حرية الرأي والإبداع..وغيرها من أسئلة وهواجس اللحظة الراهنة. يتجاوب الإسلاميون الديمقراطيون مضطرين- تحت وابل من القصف العلماني السلطوي -مع أسئلة الديمقراطية، لكن تعاطيهم يغلب عليه منطق التعامل بالقطعة وليست بناء عن رؤية كلية أو كاملة، وهو تعاط اضطراري يبدأ أصحابه بالإقرار مبدئيا بالمنطق الديمقراطي ثم لا يلبثون أن يخضعوا لقوة هذا المنطق دون أن يعطيهم الإيقاع المتسارع للعمل السياسي الفرصة لبلورة رؤية «إسلامية» كاملة..وليس مجرد اجتزاءات لا تخلو من الارتجال والبرجماتية والتلفيق أحيانا حيث تختلط النظرة للديمقراطية كآليات مع النظرة إليها كنظام للمشاركة السياسية، أو كمبادئ أو كفلسفة ونسق فكري كامل. إن طريقة الخضوع ومنطق التائبين الذي يتعاطي به الإسلاميون الديمقراطيون مع الديمقراطية له سوءات كثيرة أقلها أنه يقطع الطريق علي تفاعل خلاق كان يتم من دون قسر أو إرهاب فكري داخل جماعات إسلامية - كالإخوان- مع المسألة الديمقراطية..يمكن ان نضرب مثالا علي هذا التفاعل الذي من شأنه توطين جملة من المفاهيم والممارسات الديمقراطية بالمجمع الانتخابي في تنظيم الإخوان المسلمين...فبإزاء مشكل ديني يتعلق بحساسية المؤمن من أن يتنافس علي السلطة أو يسعي إليها مزكيا نفسه علي الآخرين (هناك حديث شريف نصه: نحن لا نوليها من طلبها، إضافة إلي قوله تعالي«ولا تزكوا أنفسكم») انتهي الإخوان إلي اعتماد فكرة المجمع الانتخابي ففي مستويات تنظيمية محددة - مثل انتخابات مجلس الشوري ومكتب الإرشاد- يكون الجميع مرشحا للمنصب والجميع من نفس المستوي التنظيمي له حق التصويت، وفي مستويات أخري تكون يختار المرشح من قبل مجمع وليس بقراره الفردي..وهو ما يلجأ إليه التنظيم في اختيار من يترشح للانتخابات البرلمانية. إنها مقاربة- علي بساطتها - تكشف عن قدرة علي توطين الديمقراطية في بيئة تنظيم إسلامي وتقديم فهم معاصر يفكك المضادات التي تحول دون تقبلها أو استقرارها في بيئة إسلامية..وهو ما يتم داخل هذه التنظيمات بشكل أكثر وعيا ونضجا ومن دون إكراهات معارك النخب السياسية وحروبها....وأتصور أنه لو توفرت بيئة هادئة للإسلاميين وتراجعت النزعة البرجماتية لديهم لأمكنهم تقديم مقاربات أكثر تميزا في توطين الديمقراطية بدلا من «أسلمتها» علي طريقة وجبات الفاست فود..التي يحل فيها «مؤمن» بدلا من «هامبورجر»!. يمكننا أيضا التوقف أيضا عند موقف الإسلاميين من الرفض الكامل للديمقراطية إلي القبول بها دونما أي تحفظ أو - علي الأقل- نظر إلي سلم القيم الإسلامية الحاكمة، فالحرية التي هي مركز المنظومة الديمقراطية الليبرالية ليست هي بالضرورة جوهر المنظومة الإسلامية التي تقر بالحرية دون أن تجعل منها جوهرا للممارسة السياسية، بل تطرح بإزائها قيمة العدل جوهرا، كما أن مفهوم الحرية في منظومة القيم يحيلنا إلي حرية معان ودلالات أخـــــري تختلف مـــع مــــا تمثـله في الرؤية الغربيـــــة التي تري الإنسان مركزا للكون وتتعامل معه كمرجعية مطلقة.. إدراك هذه الفروقات يبدو مهما ليس علي المستوي المعرفي فحسب وإنما علي مستوي الوعي بطبيعة المجتمعات العربية والإسلامية؛ التي دائما ما كان العدل فيها هو المقابل للاستبداد وليست الحرية...وكذلك في إمكانية إرساء نظام للمشاركة السياسية لا يختلف فحسب مع النظام الليبرالي وإنما يتجنب المشكلات التي يعانيها وفي مقدمتها تحول الانتخابات إلي صناعة لها محترفون وأباطرة زيادة نفوذ هيمنة رأس المال والإعلام وتوسع مافيا هذه صناعة الانتخابات التي بدأت في الانتشار والرواج في بلاد أصبح موسم الانتخابات فيها كموسم الحصاد من شدة ما اجتمع من فقر وجهل...إضافة إلي عدم جدارتها في أن تعطي تمثيلا حقيقيا للجماهير (هناك مقاربات أخري تركز علي فكرة الكتل الانتخابية: نقابات ومهن وحرف واتحادات وروابط أكثر تمثيلا لمكونات المجتمع الحقيقية) وفي حديث الإسلاميبن الديمقراطيين تغيب قضية بالغة الأهمية تلك التي تتعلق بالذي يمكن أن يقدمه الإسلام/ الإسلاميون للديمقراطية رغم أنها أهم ما يمكن أن ينجزه الإسلاميون في قضية التحول الديمقراطي في العالم العربي. فلكي نتحدث عن إبداع للإسلاميين في هذه المساحة فلابد أن نتحدث ماذا ستستفيد الديمقراطية من الإسلاميين؟ من خلال متابعة ورصد لجملة من تصريحات وأحاديث لقيادات حركية إسلامية وخاصة ما يطرحه عبد المنعم أبو الفتوح القيادي البارز في حركة الإخوان تبدو فكرة الحماية الدينية للديمقراطية وللآليات والإجراءات المتصلة بها هي الإضافة الأهم للإسلاميين في قضية التحول الديمقراطي؛ فهي حماية تحول دون الانقلاب عليها أو تفريغها من مضمونها أو التحايل عليها عبر تزوير الانتخابات أو شراء الأصوات أو التزييف والخداع عبر الماكينات الإعلامية الجبارة. إن من شأن اهتمام الإسلاميين بهذه المساحة أن يوفر نوعا من الحماية الدينيــــة لعمليـــــة التحول الديمقراطي لا تســـــرع فحســـــب منــــــه بل وتمنـــع آثاره الجانبــــية التي يمكن أن نجدها في العالم الغربي؛ إذ يصير التزوير والتزييف والدعاية بالباطل وشراء الأصوات باطلا وحراما يعاقب فاعله والمحرض عليه في الآخرة ويلاحقه الخزي والشعور بالذنب قبل العقاب القانوني في الدنيا.. يمكن أن نثمّن في ذلك الشعار الانتخابي (ولا تكتموا الشهادة) الذي رفعه الإخوان المسلمون في انتخابات عام 2000،(ومن أسف أنه غاب في انتخابات 2005) وهو يؤكد فكرة أن الحضور والتصويت لاختيار ممثلي الأمة- وحسنا فعل حين لم يذكرهم بالاسم- هي شهادة أمام الله عز وجل ويأثم تاركها: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه)...وهناك الطرح الذي قدمه عبد المنعم أبو الفتوح الذي يذهب إلي تحريم التربيطات الانتخابية وكل ما من شأنه تضليل الناخب عن الحقائق التي يجب أن يعلمها في المرشحين وفي مجمل العملية الانتخابية بما يؤثر في اتجاهات تصويته.. إن اهتمام الإسلاميين بهذه المساحة في قضية الديمقراطية وتعميق مقارباتهم فيها يمكن أن يعد مساحة تميز وإضافة في طريق توطين الديمقراطية في بيئة وثقافة إسلامية. إن نظرة لمجمل مشهد تحول الإسلاميين نحو الديمقراطية لتؤكد أن الإسلاميين صاروا في موضع المفعول به وأن اللعبة الديمقراطية استوعبتهم وفرضت منطقها عليهم وأنهم بدلا من أسلمتها باغتتهم، وليس من عبارة كاشفة في هذا الصدد أفضل مما ذكره الباحث الفرنسي جان ماركو في بحثه ضمن الكتاب من أن ما حدث في التجربة التركية يوضح أن هؤلاء الإسلاميين الذين أرادوا تغيير الجمهورية العلمانية هم الذين تغيروا في نهاية الأمر بفعل الجمهورية العلمانية!. وما لم يحدد الإسلاميون ويدققوا فيما سبق سيتأكد - لي علي الأقل- أننا بصدد تكرار تجارب الأحزاب المسيحية في أوروبا..وأننا بصدد الوقوع في مكر التاريخ إذ بدلا من أن نبني الدولة الحديثة ونستوعبها إذا بها هي التي تفعل...العبرة واضحة في نموذج العدالة والتنمية..وبدرجة أقل لدي الإخوان الديمقراطيين في مصر.

الحديث كله يناقش كيف يتغير الإسلاميون ليحلوا مندمجين في النظام السياسي القائم دونما أي حديث عن تغيرات يمكن أن تطال النظام السياسي نفسه لكي يشهد ولادة تيار إسلامي ديمقراطي بداخله

بعد أن كان الحديث عن «دولة إسلامية» صار هناك «دولة المسلمين» ثم «الدولة الآذنة» بالإسلام ثم «الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية» ..وانتهاء بدولة مدنية ديمقراطية.
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة