حين أصبحت الكنيسـة.. مصـرية
في يوم مشمس في شهر ديسمبر سنة 1945 في قرية جبل الطارف بالقرب من نجع حمادي كانت المصادفة حليفة الإنسانية في اكتشاف يعده البعض أهم اكتشاف أثري في القرن العشرين. في ذلك اليوم كان المزارع محمد علي السمان وأخوه أبو المجد ينقبان عن سباخ لتسميد الزراعة وإذ بهم يكتشفون وعاء من الفخار طوله أكثر من متر. أثار ذلك الاكتشاف الدهشة والأمل والخوف بين الأخوين. كان الخوف من أن يحتوي الوعاء علي عفريت أو روح شريرة ولكن الأمل كان يداعبهم في اكتشاف كنز يحل مشاكل الفقر والتي تعاني منها الأسرة بعد قتل عائلها.
لم يتردد الأخوان كثيراً ففتحوا الوعاء يحدوهم الأمل في كنز. فتح الوعاء ولم يخرج عفريت ولكن لم يكن هناك كنز أيضاً. كانت خيبة أملهم كبيرة حين اكتشفوا أن محتويات الوعاء عبارة عن بعض الكتب مكتوبة بلغة غير معروفة علي أوراق لم يروها من قبل. حمل الأخوان محتويات الوعاء مع بعض السباخ علي ظهر الجمل وعادوا إلي منزلهم يلعنان حظهما السيئ. ابتدأت والدتهما تستخدم بعض هذه الأوراق لتسهيل إشعال وقود الفرن لطهو الطعام وإنضاج الخبز.
لم ترغب العائلة في بقاء تلك الكتب في منزلهم لأنه كان عرضة للتفتيش في أي وقت لاتهام محمد في قتل قاتل والده ثأراً. أخذ محمد علي هذه الكتب إلي كاهن القرية الأب باسيليوس عبد المسيح وصرح للكاهن أن يأخذ أحد هذه الكتب علي أن يحفظ الباقي لديه كأمانة. وجدت بعض هذه الكتب طريقها للقاهرة وتسرب الخبر لتجار الآثار وكذلك لمصلحة الآثار. وقد وجد بعض هذه الكتب طريقه إلي الخارج، وقد استطاعت مصلحة الآثار والمتحف القبطي فيما بعد الحصول علي الكتب كافة حتي التي وجدت طريقها للخارج. وقد عرف أن هذه الكتب وعددها 13 مجلداً تحتوي علي أناجيل لم تكن معروفة من قبل مكتوبة علي أوراق البردي باللغة القبطية. وقد أطلق علي تلك الكتب فيما بعد مكتبة نجع حمادي.
لم يعرف العالم الكثير عن تفاصيل ذلك الاكتشاف حتي سبعينيات القرن الماضي حيث استطاعت هيئة اليونسكو مع هيئة الآثار المصرية تصوير الكتب كافة والتي تحتوي علي 52 كتيباً 41 منها لم يكن معروفاً من قبل وعدد صفحات الكتب المكتشفة 1152 صفحة. بعد التصوير أصبحت محتويات المكتبة متاحة للباحثين الذين نشروا آلاف الكتب والمقالات.
لقد سلطت مكتبة نجع حمادي الكثير من الأضواء علي المسيحية في قرونها الأولي. أهم محتويات تلك المكتبة: إنجيل توماس، إنجيل فيليب، إنجيل الحقيقة، إنجيل وليم، إنجيل المصريين، الكتاب السري ليوحنا، الكتاب السري لجيمز، حكمة المسيح، جمهورية أفلاطون، أصل العالم، وبعض رسائل تحمل اسم تلاميذ المسيح. كل هذه الأناجيل والكتابات المسيحية لم تعترف بها الكنيسة الأولي التي اعترفت فقط بأناجيل أربعة منذ أواخر القرن الثاني وتلك هي أناجيل مرقص، يوحنا، متي ولوقا. وكل تلك الأناجيل تحكي قصة حياة المسيح إلا أن هناك بعض الاختلافات المهمة بين تلك الأناجيل. وقد حاربت الكنيسة منذ أواخر القرن الثاني باقي الأناجيل وقد نجحت تماماً في إخفائها إلي أن عثرنا علي مكتبة نجع حمادي.
حوالي 90% من مكتبة نجع حمادي يعتبر كتباً أغنوسطية Gnostisism والكلمة أصلها يوناني تعني المعرفة ويعرفها قاموس المورد بأنها »مذهب بعض المسيحيين الذين اعتقدوا أن المادة شر وأن الخلاص يأتي عن طريق المعرفة الروحية«. أما القاموس العصري فيعرفها بأنها »مسيحيين يعتقدون بأن الخلاص بالمعرفة دون الإيمان«. والحقيقة أن تعريف الغنوسطية أمر صعب حيث إن هناك أيضاً غنوسطية يهودية وغنوسطية إسلامية (مثل آراء المعتزلة الخاصة بالتفسير) وكذلك غنوسطية معاصرة. ومن الممكن تعريف الغنوسطية التي نحن بصددها أنها حركة دينية مسيحية فلسفية عرفت في القرن الثاني الميلادي تعتمد علي التفسير الرمزي المستنير ولها جذور في الفلسفة القديمة لليونان وبلاد فارس والهند. وقد حاربت الكنيسة هذه الحركة وقضت عليها في أواخر القرن الرابع. من هنا كان اهتمام الباحثين بمكتبة نجع حمادي حيث إنها أضافت لمعلوماتنا الكثير عن المسيحية في قرونها الأولي وكيف استقرت الكنيسة إلي ما تمارسه الكنائس الآن خصوصاً الأرثوذكسية )وتعني التفكير المستقيم (والكاثوليكية (وتعني كنيسة جامعة).
كيف كانت المسيحية إذاً في مصر في قرونها الأولي؟ نحن نعلم من قديم أن أقباط مصر تركوا بصماتهم علي مفهوم المسيحية في العالم فمنهم خرج فلاسفة المسيحية الأوائل من مدرسة اللاهوت بالإسكندرية، ومنهم خرج رواد الرهبنة الأوائل والتي انتشرت بعد ذلك في العالم المسيحي. ومنهم من دافع ببطولة وتضحيات كثيرة عما اعتبره الإيمان الأرثوذكسي السليم. وإن كنت سأتعرض لهذا المقال بإيجاز شديد عن بعض المهم في مكتبة نجع حمادي إلا أنني سأهتم أكثر بتاريخ المسيحية في مصر حتي القرن الرابع حيث استقرت الكنيسة المصرية.
اختيار بعض الأناجيل دون الأخري
المفهوم السائد بين الأقباط أن المسيحية دخلت مصر علي يد القديس مرقص عام 43 حين زار الإسكندرية ورسم حنانيا كأول أسقف بمصر ليبشر بالمسيحية. ولكن غالباً ما تكون المسيحية قد دخلت مصر قبل ذلك التاريخ حيث إن العلاقات بين فلسطين والإسكندرية كانت قوية وسريعة وقد كان بالإسكندرية جالية يهودية كبيرة. وحنانيا هذا الذي رسمه القديس مرقص كان يهودياً قبل تحوله إلي المسيحية، وقد اعتبرت المسيحية في أوائل عهدها كمذهب يهودي. يذكر لنا التقليد الكنسي أيضاً أن القديس مرقص زار الإسكندرية للمرة الثانية ما بين عام 64وعام 68 وكان عدد المسيحيين قد زاد كثيراً وأصبحوا عرضة للاضطهاد. وفي خلال هذه الزيارة كتب القديس مرقص أحد الأناجيل الأربعة والذي يحمل اسمه وقد استشهد بعد ذلك بقليل علي أيدي الغوغاء بعد احتفال معبد السيرابيوم.Serapis وقد ظلت بقايا القديس بالإسكندرية حتي القرن الحادي عشر حين سرقها تجار فينسيون وأخذوها إلي فينسيا (مدينة البندقية بإيطاليا) وشيدوا بها كاتدرائية ضخمة مازالت موجودة وسميت فينسيا جمهورية القديس مرقص.
نحن لا نعلم الكثير عن المسيحية حتي أواخر القرن الثاني وإن كنا نعلم أن عدد المسيحيين قد زاد كثيراً ومع زيادة العدد زاد الاضطهاد . وكان الاعتقاد السائد بين كثيرين أن نهاية العالم قريبة وأن المسيح سيعود سريعاً لخلاص العالم. ومن الأسباب التي ساعدت المصريين علي الدخول في المسيحية بعض الشبه بينها وبين ديانات مصر القديمة والتي منها: مفهوم القيامة في الأموات ويوم الحساب، الثلاثي إيزيس وأزوريس وحورس، والولادة من عذراء. وقد استقطبت المسيحية الكثير من الفقراء الذين لم يجدوا أملاً في الخلاص من عذاب المعيشة تحت القهر الروماني الاقتصادي والسياسي كما يتضح ذلك من هجرة الكثير من المصريين إلي الصحراء للترهبن وسنعود إلي ذلك. ولم تكن زيادة عدد المسيحيين في مصر فقط بل كان في أغلب أنحاء الإمبراطورية الرومانية، مع زيادة عدد المسيحيين ابتدأت المسيحية تتبلور ومع ذلك التبلور ابتدأ يظهر للكنيسة كيان ورئاسات قوية وابتدأ يظهر الشقاق بظهور العديد من الأناجيل. في ذلك الوقت ظهر بمدينة ليون بفرنسا أسقف اسمه إيرانيوس Irenaeus حاول توحيد المسيحية وكان يخشي عليها من كثرة الآراء والأناجيل المتداولة. يعتقد بعض المتخصصين أن إيرانيوس كان المسئول عن تجميع أناجيل العهد الجديد كما نعرفها الآن. وقد أرجع إيرانيوس كتابة تلك الأناجيل إلي هؤلاء الذين تحمل أسماءهم وهم مرقص، متي، لوقا، يوحنا، إلا أن المتخصصين يرون أن الأناجيل الأربعة كتبت بمجهود جماعي ونسبت لهؤلاء بعد استشهادهم بسنين طويلة. فمثلاً إنجيل مرقص كتب ما بين سنة 70 و 80 أما باقي الأناجيل فقد كتبت ما بين سنة 90 و 110 من تقليد شفهي متوارث.
ونحن بهذا الصدد يجب أن نذكر أن العهد القديم وهو كتاب اليهود قد حفظ بالتقليد الشفوي لمدد طويلة وقد صاحب ذلك الكثير من التغير وعندما نسخ لأول مرة بعد مئات السنين تعرض بعد ذلك لكثير من التغير المتعمد وهناك خمسة تنقيحات معروفة للمتخصصين وأخيراً استقرت إلي النسخة المتداولة الآن بعد أكثر من ألف عام من خروج اليهود المزعوم من مصر. ويري المتخصصون أن هناك الكثير من التناقض في كتاب اليهود والتي لا مجال لها هنا. أما القرآن فقد ابتدأ تجميع ما هو مكتوب منذ حياة الرسول وقد جمعه زيد بن ثابت في عهد الخليفة أبو بكر الصديق ثم احتفظت بتلك النسخة، حفصة بنت عمر بن الخطاب. لم يكتب القرآن بالصورة التي نعرفها الآن إلا أثناء خلافة عثمان بن عفان. في ذلك الوقت أصبح للمسلمين إمبراطورية وابتدأ ظهور نسخ من القرآن مختلفة بعض الشيء وخصوصاً في اللهجة الكتابية. وقد كلف عثمان زيد بن ثابت وآخرين بإعادة كتابة القرآن من النسخة التي لدي حفصة علي أن تسودها لهجة قريش. ولم يكتب القرآن وفق تاريخ نزوله بل كتبت الآيات التنظيمية في الأول وتلتها آيات الدعوة. بعد الانتهاء من كتابة النسخة المتداولة للآن والتي عرفت بأنها نسخة عثمان، قرر عثمان إعدام باقي النسخ الموجودة وكانت آخر نسخة أعدمت هي نسخة حفصة والتي أعدمت فقط بعد وفاتها.
إيرانيوس الذي سبقت الإشارة إليه حارب باقي الأناجيل (الغنوسطية) لأسباب ستتضح بعد قليل. وقد كتب خمسة أجزاء للتشكيك في صدق تلك الأناجيل وهي:
The Destruction and Overthrow of Falsely So-Called Knowledge ولكننا لم نعرف أي شيء يذكر عن الأناجيل المرفوضة إلي أن اكتشفت مكتبة نجع حمادي. ومن أناجيل نجع حمادي المهمة إنجيل توماس والذي يقع في حوالي 15 صفحة ولم يحك قصة حياة المسيح كما في الأناجيل التي اعتبرت رسمية بل هو عبارة عن 119 قولاً من أقوال المسيح أو المنسوبة إليه. وتلك الأقوال بسيطة وجميلة ورغم بساطتها تحتمل العديد من التفسيرات وتكاد تكون خالية تماماً من الأساطير والمعجزات. وإن كانت ترجمة تلك الأناجيل خارج نطاق هذا المقال إلا أنني اخترت عشرة من الأقوال المنسوبة للمسيح في إنجيل توماس للعرض علي القارئ لإعطاء فكرة مبسطة عما تحتويه الأناجيل الغنوسطية. وقد ترجمتها من الإنجليزية مع بعض التصرف للحفاظ علي المعني:
1ـ المسيح قال: إذا قالوا لك المملكة في السماء فسيسبقك الطير وإذا قالوا لك إن المملكة في البحر فسيسبقك السمك. لكن المملكة داخل الإنسان وخارجه وإذا عرف الإنسان ذلك فسيفهم أن الناس أولاد الأب الذي يعيش وإن لم يعرف الإنسان ذلك سيعيش في فقر وسيكون هو الفقر.
2ـ الإنسان كالصياد الذي يطرح الشبكة في البحر ويسحبها مليئة بالسمك. الصياد الحكيم يكتشف السمك الكبير ويعيد السمك الصغير للبحر ويحتفظ بالسمك الكبير. من له أذن فليسمع 0
3ـ المسيح قال لتلاميذه: قارنوا بيني وبين آخرين وقولوا لي من أشابه؟
بطرس قال: أنت كرسول صادق.
ماثيو قال: أنت كفيلسوف حكيم.
توماس قال: سيدي فمي غير قادر أن يجد لك شبيهاً 0
المسيح قال: أنا لست سيدك، لأنك ارتويت فثملت من الينبوع الذي اعتنيت به0
4ـ سأل التلاميذ المسيح عن مملكة السماء؟ المسيح قال إنها كحبة الخردل التي هي أصغر الحبوب لكنها لو سقطت علي تربة جيدة ستنمو إلي نبات كبير يأوي طيور السماء.
5ـ سأل التلاميذ: أرشدنا إلي مكانتك التي يجب علينا التماسها؟
المسيح قال: من له أذن فليسمع، هناك نور داخل الإنسان يضيء العالم كله إن لم يضئ سيكون هناك ظلام.
6ـ المسيح قال: الكتبة والفريسيون أخذوا مفاتيح المعرفة وأخفوها فلم يدخلوا ولم يسمحوا للآخرين بالدخول أما أنتم فكونوا حكماء كالحيات ودعاء كالحمام.
7ـ سأل التلاميذ المسيح: من أنت لتقول لنا هذه الأقوال؟ المسيح قال: لم تفهموا من أنا مما أقول لقد أصبحتم كاليهود الذين أحبوا الشجرة ولكنهم كرهوا ثمارها أو أحبوا الثمار ولكنهم كرهوا الشجرة.
8ـ المسيح قال: إذا قدمت ما بداخلك، ما بداخلك سينقذك. إذا لم تقدم ما بداخلك، ما لم تقدمه سيهلكك.
9ـ المسيح قال: من أصبح غنياً (بالمعرفة (يجب أن يحكم ومن عنده القوة يجب أن يتنازل عنها0
10ـ من يتشرب مما أقول سيكون مثلي وأنا سأكون مثله وسيكتشف الغموض.
المسيح في إنجيل توماس يعتبر كمعلم روحاني وليس كإله، ومفهوم الجنة والنار والخلاص في الأناجيل الغنوسطية مفهوم رمزي وهناك خلاف آخر مهم بين ما وجد في تلك الأناجيل وما تعترف به الكنيسة من قيامة المسيح بعد الوفاة وصعوده بالجسد. فأناجيل نجع حمادي تعتبر أن القيامة في الأموات هي قيامة رمزية للخلاص وتعتبر أن التفسير الحرفي للقيامة هو إيمان الجهلة والضعفاء.
وقد استمر وجود الأناجيل الغنوسطية في مصر حتي عام 367 حين طلب البطريرك المصري اثناسيوس Athanasius في خطابه للرهبان بمناسبة عيد القيامة الخلاص من كل الأناجيل والكتابات التي لم تعترف بها الكنيسة. وربما كان ذلك العام هو نفسه الذي دفنت فيه مكتبة نجع حمادي لإخفائها. ولا أعتقد أنها مصادفة أن تكون قد دفنت بجوار أحد أديرة الأنبا باخوميوس القديمة. في ذلك الوقت أصبحت المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية وقد التحمت الكنيسة بالدولة وغالباً ما تكون الكنيسة قد استعملت القوة والعنف للخلاص من الأناجيل المخالفة والتي اعتبر اقتناؤها جريمة.
مدرسة الإسكندرية للاهوت
شهدت مسيحية مصر منذ أواخر القرن الثاني مولد مدرسة اللاهوت بالإسكندرية والتي بعد سنوات قليلة تألقت بفلسفة رائدة أثرت في مسيحية العالم. أول رئيس لتلك المدرسة ذاعت شهرته هو بننيوسPanaenus وكان ذلك سنة 180 ويقال إنه أسهم في تطوير اللغة القبطية وهي الهيروغليفية مكتوية بحروف يونانية بعد إضافة سبعة حروف إليها. وابتدأت المدرسة خلال تلك الفترة تتحول من مجرد كائن صغير لتعليم بعض قوانين المسيحية إلي مدرسة تدرس مواد أخري بجوار المسيحية. سنة 190 أرسل البطريرك المصري بنتيوس في مهمة إلي الهند وحل محله تلميذه كلمنتص Clements وهو يوناني الأصل وكان عليماً بالفلسفة اليونانية وطوعها لتفسير المسيحية وابتدأ حواراً مع فلاسفة مدرسة الإسكندرية، ومن أقواله الشهيرة: إن الجهل أسوأ من الخطيئة. وله ثلاثة كتب عن المسيحية بمفهوم مستنير وبعض كتاباته لم توافق عليها الكنيسة في أوقات لاحقة، مما أدي إلي اتهامه بالهرطقة.وقد اضطر كليمنتص لترك الإسكندرية سنة 202 لشدة الاضطهاد الروماني.
خلف كليمنتص تلميذه أوروحينوسOrigen (الاسم فرعوني مشتق من اسم حورس) وكان عمره يقارب العشرين.كان ذلك الشاب أسطورة خلال حياته فقد كانت عنده قدرة خارقة للعادة في تحصيل العلم وفي التفكير المستقبل وفي الكتابة.خلال رئاسته للمدرسة تقدم بها كثيراً وأصبحت ندا لمدرسة الإسكندرية الشهيرة والتي كان يحضر بعض محاضراتها. أصبحت المدرسة تدرس بالإضافة إلي المسيحية: اللغة، الموسيقي، الفلسفة اليونانية، علم الرياضة والطبيعة. أصبحت مدرسة اللاهوت ذات شهرة واسعة داخل وخارج مصر فقصدها الكثيرون في خارج مصر وأصبحوا فيما بعد رؤساء كنائس وكان أوروحينوس يحاضر كثيراً خارج مصر وقد كتب ما يقرب من600 كتاب بعضها يعتمد علي التفسير المجازي الذي وضع له أسساً وقواعد.وكان اوروحينوس رغم شهرته الواسعة إنساناً شديد التقشف وقد أثر ذلك في مسار الرهبنة فيما بعد فكان الكثير من الرهبان الأوائل متعلمين علي عكس ما أشيع بعد ذلك من أنهم رهبان أو نساك بسطاء. وقد لاقي أوروحينوس الكثير من المضايقات من البطريرك المصري الذي ضايقه أن ينال أوروحينوس تلك الشهرة الواسعة.سنة 233 طرد البطريرك المصري ديمتريوس Demetrius, أوروحينوس لأسباب يعتقد المؤرخون أنها شخصية و لكن لم يصدر ضده أي اتهام بالهرطقة حتي ذلك الوقت.ذهب أوروحينوس إلي مدينة صور بلبنان الحالية واستمر في الكتابة والتعليم إلي أن توفي عام254.نتيجة نبوغه في التفسير المجازي المستنير وعندما أصبحت الكنيسة ومؤسساتها محافظة والتحمت بالدولة أدين أوروحينوس بقرارات كنسية عديدة من الاسكندرية, القسطنطينية, وروما. وكان ذلك سنة 403 و553 أي بعد وفاته بحوالي150 إلي300 عام واتهم بالهرطقة ليس فقط من الكنيسة بل أيضاً من الإمبراطور جوستين Justinian سنة 543. بكل تلك الإدانات أصبحت كتابات أوروحينوس كافة محرمة من الكنيسة ومن الدولة مما أدي إلي اختفاء وتحريف الكثير من أعماله. ويعتبر بعض المؤرخين المعاصرين أن المسئولين عن إدانة أوروحينوس وأعماله قد خذلوا المسيحية وخدموا أعداءها. ويكفينا اليوم أن نعلم أن المتخصصين في الغرب اعتباراً من عام 1973 وحتي الآن يعقدون مؤتمرات دورية عن ذلك الفيلسوف المصري القديم والذي أصبحت كتاباته تخص الحاضر والمستقبل.
تولي رئاسة المدرسة بعد أوروحينوس خمسة من تلاميذه وإن كانوا دون مستواه إلا أنه كانت لهم مساهمات لا يستهان بها وقد أصبح بعضهم بطريرك الإسكندرية وكان آخر هؤلاء العظام ديديموسDidymus الضرير الذي توفي عام 398 وهو الذي ابتكر طريقة تمكن العميان من القراءة تشبه طريقة بريل Braille وإن سبقته بحوالي 1500 سنة. بعد ديديموس دخلت المدرسة في عالم النسيان واختفت بذلك مؤسسة مسيحية اعتمدت علي العلم والمعرفة وانتهت بذلك فترة تنويرية مهمة أعيد اكتشافها في العصور الحديثة.
من الصدف الغريبة أن يكون القرن الثاني وحتي القرن الرابع الميلادي والقرن الثاني وحتي القرن الرابع الهجري عصور تنوير في المسيحية والإسلام تعتمد علي العلم والعقل والفلسفة اليونانية للوصول لتفسيرات دينية مستنيرة. وكما كان رواد مدرسة اللاهوت بالإسكندرية مصدر إشعاع للتفسير المستنير كان فرسان المعتزلة مصدر إثراء للتفسير الإسلامي المستنير. كلاهما اعتمدوا علي التفسير المجازي ولم يقفوا عند ظواهر النصوص. وكما اتهم أوروحينوس وكليمنتص بالهرطقة فقد اتهم فرسان المعتزلة بالهرطقة وزج بهم في السجون بقوانين الدولة والتي كان آخرها التي سنها الخليفة العباسي القادر (381-423 هـ) وكان ذلك قمة المحنة في المفهوم الإسلامي والسياسي كما قال د. محمد عمارة أو كما قال المفكر الإسلامي الكبير أحمد أمين إن من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة والتي أصبحت أعمالهم محرمة واختفي الكثير منها. وكما يعاد اكتشاف أعمال مدرسة الإسكندرية يعاد اكتشاف أعمال المعتزلة0
المصريون رواد الرهبنة المسيحية
الرهبنة هي الانعزال عن العالم للتعبد والتأمل، وذلك الانعزال قد يأخذ عدة صور. هدف الرهبنة هو التجرد من الدنيا والالتحام بالخالق كما في الرهبنة المسيحية أو الصوفية في الإسلام أو بكل الكائنات وكما في الرهبنة البوذية أو بالطبيعة كما في بعض مذاهب الرهبنة الحديثة. والرهبنة البوذية سبقت الرهبنة المسيحية بحوالي 2000 عام وإن كان البعد عن العالم للتفكير والتعبد قد يكون قديماً قدم الإنسانية. الرهبنة المسيحية تعود لرائدها المصري أنطونيوس والمولود عام 251 في قرية قمن العروس بالجيزة 0 وعندما كان أنطونيوس في سن العشرين وبعد وفاة والديه بفترة قصيرة سمع كاهن الكنيسة يقرأ فقرة من الإنجيل تقول »إذا أردت أن تدخل ملكوت السماوات فاذهب وبع كل ما تملك وأعطه للفقراء واتبعني. نفذ أنطونيوس وصية الإنجيل حرفيا وذهب ليعيش وحيدا للتعبد بجوار المقابر0 كانت هذه بداية رحلة أنطونيوس في حياة الوحدة والرهبنة والتي استمرت لأكثر من ثمانين عاماً. عاش أولا بجوار المقابر المهجورة ثم انتقل ليعيش وحيدا في مبني روماني مهجور هو الآن دير الميمون بجوار بني سويف. كان أنطونيوس في وحدته قليل الأكل، قليل النوم، كثير الصلاة والتعبد. أصهرت تلك الحياة أنطونيوس وأصبح نقي الروح ذا احتياجات دنيوية قليلة. ابتدأ ذلك المسلك يجذب بعض راغبي النسك وكانوا كثيرين ومنتشرين في مصر. ابتدأ تجمع البعض بجوار أنطونيوس يفسد عليه حياة الوحدة فترك مكانه وذهب شرقا علي بعد30 كم من البحر الأحمر وعاش في مغارة علي جبل القلزم حتي توفي سنة 356 عن 105 سنوات.
تتبع بعض النساك انطونيوس في مكانه الجديد واعتبارا من سنة 305 ابتدأ يرشد المتجمعين حوله في حياة النسك والفضيلة ويعتبر هذا أول تجمع رهباني فيما يسمي الآن دير الأنبا أنطونيوس. لم يكن لهذا التجمع خواص ثابتة فأغلب المتجمعين كانوا يعيشون فرادي كل في مغارة علي الجبل يجمعهم وجود انطونيوس بينهم. ذاعت شهرة انطونيوس داخل مصر وخارجها واصبح إنساناً روحانياً يقصده الكثيرون0
كتبت سيرة القديس انطونيوس بعد وفاته بسنين قليلة بواسطة اثناسيوس البطريرك المصري والذي كان منفيا خارج مصر حوالي سنة 360 وكان اثناسيوس أحد تلاميذ انطونيوس. وفد ساعد كتاب سيرة أنطونيوس في انتشار الرهبنة خارج وداخل مصر.
لم يكتب أنطونيوس سوي سبع رسائل عن حياة النسك وقد كان الاعتقاد السائد أن أنطونيوس انسان بسيط غير متعلم إلا أن التحليل الحديث لتلك الرسائل أثبت أنه كان علي علم بفلسفة الإغريق وعلي الأقل ببعض كتابات أوروحينوس وأنه استخدمها في بعض رسائله. ولم تكن أعمال أوروحينوس قد أدينت بعد. والسؤال الواجب الآن هو: لماذا أحيطت سمعة انطونيوس بالبساطة وعدم العلم؟
والإجابة عن هذا السؤال سيستشفها القارئ مما سبق ومما سيأتي.
وإن كان أنطونيوس قد ابتدأ أول تجمع رهباني في القرن الرابع فقد شهد هذا القرن تجمعات رهبانية اخري مستقلة وابتدأت الرهبنة تنتظم داخل تجمعات رهبانية كبيرة وصل عدد رهبان بعضها لبضعة آلاف. وبمرور الوقت تغير الوجه البسيط للرهبنة والتي كانت في مهدها مستقلة عن الكنيسة إلي مؤسسة قوية مرتبطة بالكنيسة بل أصبحت جزءاً من الكنيسة. ومن الرهبان الذين تركوا بصماتهم علي الرهبنة في صعيد مصر باخوميوس وشنودة.
كان باخوميوس (ويعني بالمصرية القديمة نسر ) من منطقة طيبة وكان معاصرا لأنطونيوس. ابتكر القديس باخوميوس نظاماً جديداً ودقيقاً للرهبنة فرتب عملاً لكل راهب ونظم مواعيد ومناهج للصلاة ومواعيد ثابتة للطعام وعين أحد كبار الرهبان للإشراف علي الدير وعين مساعداً له. أصبحت أديرة القديس باخوميوس مؤسسة كبيرة جيدة النظام وقد أنشأ في حياته أحد عشر من الأديرة اثنان منها للراهبات. وقد رتب باخوميوس مكان إقامة الرهبان في قلايات (غرف صغيرة) فيسكن كل منها ثلاثة رهبان وقد حدد زياً معيناً للرهبان مازال يعمل به للآن0وقد رتب اجتماعات سنوية للرهبان لانتخاب المشرفين علي الدير وقد اهتم بالتعليم وعين طائفة لنسخ الكتب وأخري للزراعة وثالثة للمخازن ومسك الدفاتر والميزانية ومجموعة اخري للخدمة خارج الدير ومنهم من كان يساعد الفلاحين في مواسم الزراعة. توفي باخوميوس عام 346 عن 51 عاماً. وقد أثار النظام الباخومي انتباه العالم المسيحي والذي اقتبس الكثير منه في أديرة الغرب وخصوصا أديرة البندكتين .(Bendictine)
أما شنودة (الاسم أصله شنوتي وتعني بالمصرية القديمة ابن الله) فقد أسس ديراً كبيراً بجوار مدينة أخميم ويسمي بالدير الأبيض وقد اتبع نظام أديرة القديس باخوميوس وكان ذا شخصية قوية وجذابة وقد تجمع في الدير الأبيض في حياته 2200 راهب كما أسس ديراً للراهبات تجمع به حوالي 1800 راهبة. ومن مميزات شنودة أنه اهتم كثيرا بالتعليم وقام بتعليم الرهبان الأميين، وقد سن قوانين قبول الرهبان مازال يعمل ببعضها. وقد فتح شنودة الدير للأهالي مقدما لهم ما يحتاجونه من طعام وخدمات وامتد نطاق خدماته خارج الدير فقد كان الأهالي يلجأون إليه لحل بعض مشاكلهم0كان شنودة يخطب ويعظ في مناسبات عديدة وكثيرا ماكان يهاجم الظلم الواقع علي الفلاحين لحساب الأغنياء. وقد ترك ثروة ثقافية ضخمة ومازالت بعض عظاته تتلي في الكنائس . وكنيسة الدير الأبيض الأثرية مازالت حوائطها قائمة وهي تشابه المعابد الفرعونية وقد استخدم في بنائها كتلاً حجرية كبيرة أخذت من المعابد القديمة والتي دمر المسيحيون الكثير منها 0توفي شنودة سنة 451 عن حوالي مائة عام.
أما في الوجه البحري فقد كان هناك عدة نشاطات رهبانية في غرب الدلتا علي حدود الصحراء وفي وادي النطرون0كان أول هذه النشاطات في منطقة نتريا قرب جبل البرنوج حوالي 15كم غرب مدينة دمنهور وقد توحد في ذلك الجبل ناسك اسمه آمون سنة 315 وكان معاصراً للقديس أنطونيوس. وقد تجمع حول آمون بعض المتوحدين ولم يكن هذا التجمع في بدايته منتظماً إلا أنه بمرور الوقت اشتهر ومع زيادة عدد النساك التزم آمون ببعض النظام وكان بمثابة أب ومرشد روحي ولم يمض وقت طويل إلا وكانت منطقة نتريا تكتظ بالرهبان الذين وصل عددهم لبضعة آلاف0ولقرب جبل نتريا من الإسكندرية فكان الكثير من رهبانه متعلمين وعلي علم بتعاليم أوروحينوس وقد أثر ذلك في سلوك الرهبان العقلاني. وقد اجتذب هذا التجمع الرهباني بعض الأجانب الذين ترهبنوا هناك وأرخوا تلك الفترة. ابتدأت شمس نتريا تغيب منذ أواخر القرن الرابع حين ظهرت مشكلة تضخمت بين بعض الرهبان المستنيرين وبعض الرهبان البسطاء. وكانت المشكلة تتعلق بصورة الله ومشابهة الإنسان لتلك الصورة. ورأي المستنيرون منهم أنها مشابهة رمزية بينما رأي البسطاء أنها مشابهة فعلية. وقد تذبذب رأي البطريرك المصري تاوفيلس Theophilus (412-385 )حول هذه المشكلة مما نتج عنها استفحالها. وقد استخدم البطريرك العنف تساعده عساكر الدولة فنفي مئات من الرهبان وحرق بعض مساكنهم. ومن الأسباب التي أعطاها البطريرك لهذا العنف أن الرهبان المستنيرين قد تأثروا بتعاليم الفيلسوف أوروحينوس فجمع مجمعاً كنسياً سنة 403 وأدان أعمال أوروحينوس رغم أنه لم تكن هناك مشاكل مع تعاليم أوروحينوس قبل ذلك بل إن البطريرك كان علي علاقة طيبة مع رهبان نتريا وقد أرسل ابن أخيه ليترهبن بينهم والذي خلفه كبطريرك. بعد هذه الفترة الشائكة ابتدأ غروب شمس الرهبان المستنيرين وابتدأ عهد الرهبان البسطاء وعهد الأساطير.
ابتدأ تجمع رهباني آخر في منطقة تبعد 15كم غرب نتريا وسميت بالقلالي لانتشار قلالي الرهبان بها وكان هناك تجمع رهباني آخر في منطقة وادي النطرون وأصبحت تلك المنطقة تكتظ بالرهبان وأنشئ بها العديد من الأديرة مازال منها أربعة عامرة بالرهبان.أسس أديرة وادي النطرون مقار (اسم فرعوني معناه صادق الصوت (وكان معاصراً لأنطونيوس. ابتدأ مقار تجمعه الرهباني سنة 340 وكان مشابهاً لتجمع رهبان نتريا إلا أنه كان أكثر انعزالاً. لم يمض وقت طويل قبل أن يصل عدد الرهبان هناك لبضعة آلاف. وقد أسهمت الظروف في تشكيل النمط الرهباني في وادي النطرون.
ازدادت شهرة رهبان غرب الدلتا ووادي النطرون وأصبحت مزاراً للحجاج من داخل وخارج مصر وترهبن بها بعض ذوي النفوذ وابتدأت الهبات ترد إلي تلك المنطقة في وقت أصبحت فيه المسيحية الديانة الرسمية الوحيدة للإمبراطورية. أثار هذا النشاط قبائل البربر الذين يقطنون الصحراء ويتعيشون أحياناً من الهجوم علي أطراف الوادي للنهب خاصة في أوقات الحصاد. ابتدأ هؤلاء البربر يهاجمون أماكن الرهبان ويسلبون ما عندهم وأحياناً يقتلونهم، نتيجة لذلك ابتدأ الرهبان يحيطون مبانيهم بأسوار للحماية ازداد ارتفاعها وأصبحت الطراز المتبع حتي في المناطق التي لم يهاجم رهبانها.
وقد اشتهر بعض رهبان وادي النطرون بالروحانية العالية والنسك والبساطة والتاريخ الكنسي يذكر الكثير من أسماء الرهبان والكثير من الأساطير التي أصبحت جزءاً من التراث القبطي. وهكذا ازدهرت الرهبنة المصرية وأصبحت زيارة رهبانها مكملة لزيارة القدس وقد زارها في ذلك الزمان الكثير من الأجانب بعضهم ترك لنا مذكرات تستحق القراءة. وقد أثرت الرهبنة المصرية علي مسار الرهبنة خارج مصر فكان القرن الرابع ليس قرن انتشار الرهبنة في مصر فقط بل نقل نظام الرهبنة من مصر إلي العالم المسيحي ونحن نعرف علي الأقل عشرة من تلك الأديرة والتي أصبحت مراكز لانتشار الرهبنة في بلاد كثيرة.
الأرثوذكسية السليمة
في أوائل القرن الرابع ابتدأت المسيحية تشهد تغيرات واسعة منها ازدياد الاضطهاد خلال حكم الإمبراطور دقلديانوس Diocletian (283-305) وانتهاء الاضطهاد واعتراف الإمبراطورية بالمسيحية كأحد أديان الدولة حوالي سنة 312 خلال حكم قسطنطين. Constantine وشهد هذا القرن مشكلة دينية هزت العالم المسيحي واستمرت تهزه لحوالي نصف قرن. كانت مصر مصدر تلك المشكلة والتي عرفت فيما بعد باسم بدعة أريوس Arian والتي ابتدأت عام 319. كان أريوس كاهناً مشهور بالإسكندرية وكان ذا علم وله الكثير من المؤمنين بتعاليمه داخل مصر وخارجها. كانت تلك البدعة ببساطة تنادي بأن المسيح مخلوق ولا يساوي الأب (الله) في الجوهر. لم يوافق البطريرك المصري ألسكندروس ومعه آخرون علي تعاليم أريوس وقرر حرمانه بمجمع كنسي سنة 321.تصاعدت تلك المشكلة وتحولت إلي صراع بين أريوس ومؤيديه داخل وخارج مصر وبين رئاسة الكنيسة المصرية. كان بعض أصدقاء أريوس علي صلة بالإمبراطور قسطنطين الذي حاول أن يعيد أريوس للكنيسة المصرية إلا أن البطريرك المصري رفض ذلك. كان قسطنطين قد تحول إلي المسيحية حديثاً بمسرحية جميلة لا مكان لها هنا إلا أنه كان رجل دولة ذا رؤية وحاول تلافي أي انقسام في الكنيسة والتي كانت في طريقها لتكون إحدي مؤسسات الدولة القوية.. اقتنع الإمبراطور بضرورة عقد مؤتمر كنسي لتلافي تلك المشكلة المتصاعدة وحدد له الزمان والمكان. ولكن البطريرك المصري الذكي والقوي تسانده سمعة مدرسة اللاهوت السكندري أرسل خطابات تفصيلية تحكي وجهة نظره في هذا الصراع إلي حوالي 70 من رؤساء الكنائس خارج مصر.
عقد المؤتمر سنة 325 في مدينة نيقية يحفه الكرم الإمبراطوري ومركزه وكان قسطنطين رئيساً للمؤتمر إلا أنه لم يتدخل في قراراته. حضر هذا المؤتمر ويعد الأول من نوعه في العالم المسيحي الكثير من الأساقفة ورؤساء الكنائس. وقد ذهب ألسكندروس إلي المؤتمر تسانده مظاهرة من الأساقفة التابعين للكرسي البابوي وكان معه أيضاً سكرتيره الشاب الطموح والعنيد أثناسيوس. نوقش في هذا المؤتمر العديد من مشاكل الكنيسة إلا أن أهم ما كان يتعلق بأريوس وآرائه وقد ساد المؤتمر آراء البطريرك المصري وقرر المؤتمرون قانوناً سمي بقانون الإيمان والذي مازال يعمل به للآن في الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية. ويهمنا في هذا القانون الجزء الذي يقول «الأب والابن والروح القدس إله واحد» (عائلة الإله المقدسة اختراع فرعوني قديم). خسر أريوس هذه الجولة إلا أن المعركة لم تنته خصوصاً أن بعض مؤيديه كانوا قريبين من سلطة الدولة.
كان أثناسيوس سكرتير الكسندروس وشديد القرب منه وكان تحت رئاسة الكنيسة المصرية ما يقرب من مائة أسقف من مصر ومن بعض مدن شمال أفريقيا. وقد تعرف أثناسيوس علي الكثيرين من رؤساء الكنائس الأخري خلال مؤتمر نيقية. بعد وفاة الكسندروس عام 338 لم يكن من العسير علي أثناسيوس أن يخلفه في رئاسة الكنيسة وكان عمره حوالي الثلاثين عاماً إلا أنه كانت هناك بعض المشاكل في اختياره والتي لن أتعرض لها هنا.
لم تنته مشكلة أريوس بانتهاء مجمع نيقية بل ابتدأت سلسلة من المشاكل تدخل فيها الأباطرة الرومان لغرض قبول أريوس يساندهم فيها بعض رؤساء الكنائس إلا أن الكنيسة المصرية والتي كانت ذا نفوذ قوي رفضت أي تغير في قرار مجمع نيقية وكانت في ذلك الوقت تحت رئاسة أثناسيوس. وقد حارب أثناسيوس حرباً طويلة دفع ثمنها ومعه الشعب المصري. وفي رأيي أن أثناسيوس أصبح رمزاً مصرياً لمقاومة الرومان التف حوله المصريون ورفضوا أي بديل عنه ولا أعتقد أن أغلب الشعب المصري كان يستوعب المشكلة اللاهوتية. قرر الأباطرة الرومان وبعض المجامع الكنسية نفي أثناسيوس وتعيين بديل له من القسطنطينية وكان هناك شبه إجماع ضد تمسك أثناسيوس وقال له أحد أصدقائه «العالم كله ضدك يا أثناسيوس فقال أثناسيوس: وأثناسيوس ضد العالم».
نفي أثناسيوس أو طرد من منصبه سبع مرات لفترات مختلفة كان أطولها لمدة عشر سنين وكان يعود بعد كل مرة لمنصبه أقوي وأشد مما كان. كان مجموع سنوات النفي 18 عاماً وزاول مهام منصبه لمدة سبعة وعشرين عاماً في فترات متقطعة. حاولت المؤسسة الدينية في القسطنطينية والمتحالفة مع الإمبراطور فرض بطاركة آخرين علي المصريين بديلاً عن أثناسيوس ولكن المصريين رفضوا أي بديل للزعيم المصري والذي أصبح رمزاً لمقاومة التعسف الروماني. كانت بعض فترات النفي خارج مصر أما أغلبها فكان عبارة عن اختفاء أثناسيوس داخل مصر ولم يستطع الرومان وأصدقاؤهم بمصر العثور عليه.
لم يتزحزح أثناسيوس قيد أنملة عما اعتقد أنه الإيمان السليم ولولاه لتغير وجه المسيحية في العالم. ومن أهم أعمال أثناسيوس أنه وحد الكنيسة من الاضطرابات التي عاصرتها وكانت بدعة أريوس أهمها وكادت تشق الكنيسة. كما أنه ربط حركة الرهبنة بالكنيسة والتي كانت من قبله مستقلة عن الكنيسة. وقد ابتدأ في تعيين أساقفة ومطارنة من بين الرهبان وابتدأ البطاركة من بعده يعينون رؤساء الأديرة وأصبح التقليد المتبع للآن أن يختار البطريرك من بين الرهبان. وقد كتب أثناسيوس حوالي 45 رسالة وكتاباً كان أوسعها انتشاراً سيرة حياة القديس أنطونيوس المتداولة للآن وإن كانت محل نقاش من البعض. اعتباراً من عام 366 وحتي وفاة أثناسيوس عام 373 استقر في الكرسي البابوي واستقرت معه الكنيسة المصرية ولم تتغير كثيراً حتي الآن.
لم تكن المشاكل مع أثناسيوس لاهوتية فقط بل كان لها بعد سياسي مهم. كانت رئاسة الإمبراطورية الرومانية في القسطنطينية وفي روما بينما كانت الرئاسة الدينية في الإسكندرية ولم يكن ذلك أمراً مقبولاً في وقت التحمت فيه الكنيسة بالدولة وأصبحت إحدي مؤسساتها المهمة. ولم يكن مقبولاً من الحكام أن تكون رئاسة المؤسسة الدينية خارج العاصمة. لم تقبل الإسكندرية الخضوع أو التسليم وقد زاد من قوة الصراع نفوذ الكنيسة المصرية الذي لم يكن ممكناً تجاهله وقوة أثناسيوس والتفاف المصريين حوله. ولم يكن من الممكن لهذا الصراع أن ينتهي دون أن يسلم أحد الأطراف للآخر. ولهذا لم ينته الصراع. كانت هناك بعض فترات هدوء في المظهر فقط فقد انفجر الصراع مرة أخري عام 451. كان الصراع هذه المرة حول خلاف لاهوتي بسيط لن أتعرض له الآن. عقد مجمع كنسي في ذلك العام عرف باسم مجمع خلقدونيا انفصلت علي أثره الكنيسة المصرية ومعها السورية عن باقي الكنائس وسأنهي هذا المقال بما قاله المؤرخ الأمريكي ساويرس جوردن تعليقاً علي انفصال الكنيسة المصرية:
عندما ذهب المصريون إلي خلقدونيا كانوا فخورين بتاريخهم الفرعوني وكانوا علي حق بذلك وكانوا فخورين بآباء مدرسة وكنيسة الإسكندرية وكانوا علي حق في ذلك قالوا لأعضاء المؤتمر ما يعتقدون أنه الصواب وعندما رفض المؤتمر وجهة نظرهم خرجوا من المؤتمر وكانوا علي حق في ذلك أيضاً.
منذ عام 451 أصبحت الكنيسة المصرية كنيسة قومية مستقلة تعرضت لكثير من المشاكل ولكنها لم تغير هديتها المصرية وككنيسة لم تتغير كثيراً خلال 1500 عام.
المراجع
(1) The Nag Hammadi Library,James M. Robinson, General Editor, Harper & Row Publisher, 1977. (2) The Gnostic Gaspels, Elaine Pagels, Vintage Books,1998 . (3) The Roots of Egyptians Christianity, Birger A. Pearson and James E. Geohring, Editors, Fortress Press, 1986 (4) The Letters of St. Antony, Samuel Rubenson, Studies in Antiquity, 1990. (5) Athanasius and Asceticism, David Brakke, John Hopkins University Press, 1995 (6) الاب متي المسكين ، القديس أثناسيوس الرسولي، دير القديس أنبا مقار، الطبعة الثانية، سنة 2002.
أقباط مصر تركوا بصماتهم
علي مفهوم المسيحية في العـالم فمنهم
خـرج فلاسـفة المسيحية الأوائل من مدرسة
اللاهوت بالإسكندرية، ومنهم خرج رواد
الرهبنة الأوائل والتي انتشرت بعد
ذلك في العـالم المسيحي
أقباط مصر تركوا بصماتهم
علي مفهوم المسيحية في العـالم فمنهم
خـرج فلاسـفة المسيحية الأوائل من مدرسة
اللاهوت بالإسكندرية، ومنهم خرج رواد
الرهبنة الأوائل والتي انتشرت بعد
ذلك في العـالم المسيحي
من الأسباب التي سـاعدت المصريين
علي الدخول في المسيحية بعض الشبه بينها
وبين ديانات مصر القديمة والتي منها:مفهوم القيامة
في الأموات ويوم الحساب، الثلاثي إيزيس
وأزوريس وحورس، والولادة من عذراء
استمر وجود الأناجيل
الغنوسطية في مصر حتي عام 367
حين طلب البطريرك المصري اثناسيوس
في خطابه للرهبان بمناسبة عيد القيامة
الخلاص من كل الأناجيـل والكتابات
التي لم تعترف بها الكنيسة
ازدهرت الرهبنة المصـرية
وأصبحـت زيارة رهبانها مكملة لزيارة
القدس وقد زارها في ذلك الزمان الكثير
مـن الأجانب بعضهـم ترك لنـا
مذكـرات تستحق القـراءة
لم تقبل الإسكندرية الخضوع
أو التسليم وقد زاد من قـوة الصراع
نفوذ الكنيسة المصرية الذي لم يكن ممكنا
تجاهله وقـوة أثناسـيوس والتفاف
المصريين حوله