دولــة يهـوديـة... وديمقراطيــة!!
من الصعب تقصى أثر الديموقراطية الإسرائيلية تاريخياً بين الديموقراطية الداخلية فى المؤسسات الصهيونية وتعددية التيارات الفكرية فيها وبين الترتيبات القانونية من الإرث الانتدابى البريطانى فى هذه البلاد. ولاشك أن الديموقراطية الإسرائيلية قد تطورت خلال خمسين عاماً من خلال تفاعل عوامل اجتماعية وسياسية وقانونية، نذكر هنا منها على سبيل التقديم توسع الطبقة الوسطى وانحسار الاقتصاد الزراعى الاستيطانى ذى الطابع العسكري، وازدياد تأثير الثقافة الغربية ومحاكاتها، على سبيل أخذ مسافة من المنطقة العربية التى تعيش معها الدولة العبرية حالة حرب، على جمهور تعود أصول غالبيته إلى أوروبا الشرقية ودول عربية ويحمل تراثًا سياسيا غير ديموقراطي، وانفتاح النظام لاستيعاب آثار لجدلية الفصل بين السلطات، خاصةً استقلال القضاء، وتطور جدلية العلاقة بين الفرد والمجتمع المدنى والدولة... ولكن مهما فصّلنا بالأصول والمصادر من ناحية وديناميكية التطور من ناحية أخري، يبقى سياق تطور الديموقراطية الإسرائيلية هو السياق الصهيوني. الاتفاق على هدف الدولة كدولة اليهود، وكدولة يهودية تهدف إلى تجميع الهجرات الصهيونية، وما يترتب على ذلك هو أساس الديموقراطية الإسرائيلية. إنه أساس الانسجام الذى يعوض عن فقدان التاريخ الديموقراطى وفقدان البنية القومية، فهدف بناء الأمة والأدوات التى توفرها الدولة لذلك يخلق الوحدة والانسجام اللازمين لتحمل التعددية والديموقراطية، ويمنع تحولها إلى حرب أهلية طائفية الطابع مثلا. الصهيونية، وليس المواطنة، هى وعاء الديموقراطية الإسرائيلية، وهى عائق تطورها فى آن. إنها، فى ساعة الأزمات تحديدا، ديموقراطية داخل القبيلة إلى حد بعيد.
لا يمكن فصل يهودية الدولة العبرية إذاً عن ديموقراطيتها وذلك ليس لأن الموضوع تم نصه قانونياً. فمن الناحية القانونية لم يرد المصطلح المزدوج كتعريف لدولة إسرائيل إلا فى القوانين الأساسية الدستورية الطابع المتأخرة جداً. «قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته» من العام 1992 حيث ورد فى هدف القانون ما يلي: «بند 8أ: هدف هذا القانون الأساس هو الدفاع عن كرامة الإنسان وحريته من أجل تثبيت قيم دولة إسرائيل كدولة يهودية وديموقراطية فى قانون أساس». وأيضاً فى «قانون أساس: حرية العمل (أو اختيار المهنة)» من نفس العام 1992 حيث ورد فى هدف القانون «بند 2: هدف قانون الأساس هو الدفاع عن حرية اختيار العمل ومن أجل تثبيت قيم دولة إسرائيل كدولة يهودية وديموقراطية».
وقد يستغرب المرء حاجة المشرع الإسرائيلى المتأخرة لقوننة هذا التعريف الذى تحول بالتدريج إلى عبارة تكاد تكون مقدسة فى التشريع الإسرائيلي، هذا إضافة إلى جعل قبولها، «الاعتراف بها»، شرطاً لخوض الانتخابات البرلمانية. وهو نفس الاستغراب الذى لا بد أنه أصاب قادة دول أجنبية طلب منهم أن يؤكدوا أن إسرائيل دولة يهودية أثناء المفاوضات مع الفلسطينيين. فالفلسطينيون لا يطالبون أن تعترف بهم إسرائيل كدولة عربية. وطابع الدولة يحدده مواطنوها، شعبها، سكانها، وليس إعلانات قادة الدول الأخري. على كل حال لا شيء مستغربًا على العلاقة الإسرائيلية الأمريكية. فعندما رفض الفلسطينيون الطلب لأنه يعنى تخليهم العلنى عن حق العودة قبل بدء المفاوضات تبنت أمريكا المطلب لتبديد مخاوف إسرائيل. ولذلك جاء فى كلمة الرئيس الأمريكى بوش فى مؤتمر العقبة يوم 4 حزيران 2003 : «اليوم، أمريكا ملتزمة بقوة بأمن إسرائيل كدولة يهودية مفعمة بالحيوية».
لقد أقر قرار التقسيم قبل بوش يهودية دولة وعروبة أخرى فى فلسطين. وقرار التقسيم هو الأساس القانونى الدولى الذى استغلته إسرائيل لتعلن عن ذاتها كدولة مستقلة. وهى لا تكتفى بعد أكثر من نصف قرن على قيامها بالاعتراف بها كدولة ذات سيادة بل تطالب بالاعتراف بطابعها القومى أو الديني. ولكن المطلب، بل الشرط، الإسرائيلى الأخير ورد فى سياق النقاش فى الحكومة الإسرائيلية على ما يسمى بـ«خارطة الطريق». وقد قدمت لإسرائيل رسميا يوم 30 نيسان من العام 2003 وناقشتها الحكومة الإسرائيلية يوم 25 آيار ولم تقبل الحكومة هذه الخطة الأمريكية بل قبلت بـ«الخطوات المترتبة عن الخارطة» مشروطة بأربعة عشر شرطًا. وحتى هذا القرار جاء بأغلبية 12 ضد 7 وزراء. وجاء فى الشرط السادس: «المطالبة بتنازل فلسطينى عن كل ادعاء بحق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى داخل إسرائيل( يطلب من الفلسطينيين أن يعلنوا أن إسرائيل دولة يهودية فى إطار التصريحات الافتتاحية المطلوبة من الزعماء فى بداية خارطة الطريق)». لا شك إذا أن مطالبة إسرائيل الاعتراف بيهوديتها جاء على خلفية مطالبة الفلسطينيين بالتخلى عن حق العودة قبل التفاوض، وليس على خلفية النقاش حول قرار التقسيم إلى دولتين ولا على أساس النقاش الجارى بين المتدينين والعلمانيين حول يهودية الدولة، ولا على النقاش الذى أثاره التيار القومى الديموقراطى فى الداخل حول دولة المواطنين. ولكن منذ العقبة تم تدويل هذا النقاش ولا بد أن يتم التطرق فى المستقبل إلى هذه القضايا بما فيها قضية يهودية الدولة وعلاقتها بديموقراطيتها وبمواطنيها العرب الفلسطينيين الموجودين فيها ليس بفعل قانون العودة الصهيونى المعمم على جميع مواطنيها اليهود، إن كانوا مهاجرين أم لا ، وإنما بفعل كونهم سكان البلاد الذين بقوا فى وطنهم بعد تشريد غالبية شعبهم عام 1948.
ومن أجل توضيح الاستغراب من المطلب الإسرائيلى الذى يعكس ولا شك حمى حقيقية فى السياسة الداخلية الإسرائيلية كما سنري، فسوف ننظر إليه لنتناوله من ناحية اليمين الإسرائيلي. وسوف نتطرق إلى ما قاله ممثل الليكود دوف شيلانسكى الذى أصبح فيما بعد رئيسا للكنيست أثناء مناقشة تصحيح قانون أساس الكنيست وإدخال البند الذى يمنع كل قائمة لا تعترف بأن إسرائيل دولة الشعب اليهودى أو لا تعترف بديموقراطيتها أو تحرض للعنصرية من خوض انتخابات الكنيست: « سيدى الرئيس، يبدو لى أنه لا توجد دولة أخرى فى العالم يناقش برلمانها هل يمكِّن حزبا أو مجموعة أشخاص تنفى من الأساس كيان الدولة من المشاركة فى الانتخابات البرلمانية. لا يتخيل ذلك إنسان عاقل، ولا توجد حاجة لنقاش كهذا. عندنا يدور هذا النقاش. ربما لم نستوعب نحن بأنفسنا الانقلاب التاريخى الكبير ، لقد قامت دولة يهودية فى أرض إسرائيل.
الاستغراب يبدو فى البداية ساذجًا وعفويا، ويستنتج العقل السليم فعلا أن النقاش هو دليل على عدم ثقة بالنفس، وبيهودية الدولة، فنقاش كهذا غير وارد فى أى دولة أخرى فى العالم. ولكنه بالطبع يذكر الدول الأوروبية فقط وليس الأفريقية مثلا التى يدور فيها صراع دموى على السلطة فيها يتخذ شكل الصراع القبلى على كيانها نفسه أو يهدد هذا الكيان. إنه يطلب من النواب أن يفيقوا من الحلم الذى أصبح حقيقة. إنه يدعو بالحس الغريزى إلى رفض القانون لأنه يدل على عدم ثقة بالنفس على عدم تجذر الدولة. ولكن ما أن نحسب أننا أدركنا بالعقل السليم رد فعل غريزيا يحذر من انعدام الثقة بالنفس حتى يعود اليمينى الصهيونى إلى استخدام دهشته للاستغراب من مجرد وجود أحزاب كهذه. وفى النهاية لا يدعو فقط إلى تبنى البند بل يعدله ليصبح الشرط «الاعتراف بإسرائيل دولة الشعب اليهودى فى أرض إسرائيل». وسوف تزودنا النقاشات البرلمانية على هذا البند بمادة ثقافة سياسية ممتعة. ولكن يصح أولا إيراد لمحة قصيرة عن مناقشة البند، فقد بدأ البند فى القراءة الأولى باقتراح يتضمن عدم الاعتراف بدولة إسرائيل كما تنص على ذلك وثيقة الاستقلال. وأثناء تحضيره للقراءتين الثانية والثالثة فى لجنة القانون والدستور تم تعديله إلى «كل حزب ينفى إسرائيل كدولة الشعب اليهودى بأقواله وأفعاله» بشكل صريح. وعندما تم تعديل البند من جديد فى العام 2002 ليضاف إليه شرط عدم دعم الكفاح المسلح لدولة أو شعب ضد إسرائيل عدل البند من جديد ليصبح متوافقا مع القوانين الأساس التى سنت عام 1992، أى ليتضمن نفى إسرائيل كدولة يهودية ديموقراطية حجة للمنع قائمة من المشاركة فى الانتخابات. فى إطار هذا التصحيح أيضا تم توحيد اليهودية والديموقراطية فى بند بعد أن نص بند واحد على نفى دولة الشعب اليهودى وآخر على نفى الديموقراطية فى قانون عام 1985.
ومن الواضح أن المشرع فى حينه وجد حاجة لموازنة التوسع الديموقراطى الشكلى فى قضايا حقوق المواطن، الذى تجلى فى سن بند يحظر العنصرية فى قانون العقوبات وفى سن إضافة لقانون أساس الكنيست يمنع قائمة تحرض للعنصرية من خوض الانتخابات وذلك تحديدا بالتذكير بتعريف ماهية الدولة، أو قيم الدولة، كدولة الشعب اليهودي. وواضح أن الثقافة السياسية الصهيونية السائدة تستشعر خطر توسع تعريف مفهوم الديموقراطية فى القانونين الأساس المذكورين، قانون حرية وكرامة الإنسان، وقانون حرية العمل واختيار المهنة، وذلك لأن هذا التوسع فى النهاية قد يأتى على حساب أن الدولة دولة الشعب اليهودي، أو قد يؤدى فى تفسيراته إلى تفسير ديموقراطية الدولة بتناقض مع جوهرها أو هويتها أو صورتها، أى أن هنالك حسًا غريزيا لا يعبر عنه دائماً بشكل صريح، بوجود تناقض بين صهيونية الدولة وديموقراطيتها. وقد أصبح وجود هاتين الكلمتين شرطا لسن أى قانون أساس فى الكنيست. منذ أن قررت الجمعية التأسيسية عدم سن دستور وتحويل نفسها إلى الكنيست الأولى عام 1949، أصبح تشريع القوانين الأساس الذى تقوم به الكنيست عند الحاجة كما هو معروف تعبيرا عن عملية سن دستور تدريجية، إنها عمليا فصول فى الدستور.
وقد عبر مئير كهانا بشكل واضح عن هذا التناقض بين الديموقراطية واليهودية بقوله إن الدولة اليهودية لا يمكن أن تعنى إلا دولة شريعة. وفى خضم محاولة تنقية نفسه من كهانا عبر منعه من خوض انتخابات الكنيست نشأ التأكيد على إقصاء العنصرية وعلى الجمع بين يهودية الدولة وديموقراطيتها.
يرتكز قانون العودة الإسرائيلى على أن إسرائيل غايةً ومنطلقاً هى دولة الشعب اليهودي، هذا ما يؤكده قانون العودة عمليا وينطلق منه، ويصنعه فى الواقع. وكذلك حال وثيقة الاستقلال من قبله. وقد وافقت عليها المحكمة العليا كقاعدة دستورية للدولة عندما منعت حركة الأرض من خوض الانتخابات على لسان القاضى أجراناط: «ليست دولة إسرائيل دولة مستقلة ذات سيادة فحسب، وإنما أقيمت كدولة يهودية على أرض إسرائيل، لأن عملية إقامتها تمت أولا وقبل كل شيء بفعل حق الشعب اليهودى الطبيعى التاريخى أن يعيش مثل أى شعب مستقلا فى دولته ذات السيادة» والفقرة منسوخة تقريبا من وثيقة الاستقلال الإسرائيلية التى تحولت هنا إلى وثيقة ذات قيمة دستورية. وقد أكثر قضاة المحكمة الإسرائيلية العليا من الاستناد إلى هذا الاقتباس فى كل قضية يبحث فيها الموضوع قبل أن تشرع الكنيست عام 1985 لمفهوم دولة الشعب اليهودى مانعة الحزب الذى ينفيها فى أعماله أو أقواله ضمنا أو علنا من المشاركة فى الانتخابات النيابية قبل أن تتبنى الكنيست مفهوم الدولة اليهودية الديموقراطية كبند متكرر فى قوانينها الأساسية منذ العام 1992.
ومن بين الاستخدامات المختلفة والرائجة لهذا الاقتباس فى المحكمة العليا الإسرائيلية حتى وجدت الكنيست حاجة لتشريعه نعثر على كلام دقيق لدى قاضى المحكمة العليا دوف لفين فى قضية القائمة التقدمية للسلام. حيث كان القاضى لفين من بين قضاة الأقلية الذين صوتوا مع إبطال قرار لجنة الانتخابات المركزية بالسماح للقائمة التقدمية بخوض الانتخابات البرلمانية للعام 1988: جوهر الدولة هو أنها دولة يهودية ، نظام الحكم فيها هو نظام ديموقراطي.
وما زال بعض الديموقراطيين الليبراليين يحاول أن يستخدم مصطلح دولة الشعب اليهودى كمصطلح مغاير للدولة اليهودية، أى باعتبار أن الحديث هو عن دولة قومية، بمعنى أن دولة الشعب اليهودى هى فى الواقع nation state ، مثل أى دولة تعبر عن حق تقرير المصير والسيادة مع الإضافة أنها ديموقراطية. وهكذا يفسر البروفيسور آسا كشير أستاذ الفلسفة فى جامعة تل أبيب مفهوم دولة يهودية وديموقراطية: «فكرة أن دولة إسرائيل هى دولة اليهود وفكرة أن دولة إسرائيل ديموقراطية، هى أفكار مؤسسة لدولة إسرائيل. وأى تغيير جوهرى فى إحداها يؤدى إلى تغيير متطرف فى ماهية الدولة، وفى مكانتها الأخلاقية، وفى نسيج العلاقات بينها وبين مواطنيها، وبينها وبين الشعب اليهودي. ومن المفيد أن نذكر أن مصطلح «دولة اليهود» كان فى الماضى أكثر انتشارا من مصطلح «الدولة اليهودية». وأنا أفضل مصطلح «دولة اليهود» الذى يعبر عن العلاقة بين الدولة وبين مجموعة الناس اليهود، المفترض أن يجدوا فيها إمكانية التمتع بالحرية السياسية، بدون نير اضطهاد السلطة الأجنبية ، وبدون عبء إشكالية سلطة الأغلبية المغايرة. يدعو المصطلح «دولة يهودية» إلى تفسيرات تتعلق بجوهر محدد للدولة «يهودي» كما يدعي، وسبق أن أعطيت تفسيرات كهذه، وهى تفسيرات خطيرة من نواحٍ عدة. ويقصد كشير بالطبع رفض اعتبار يهودية الدولة جسرا لتفسيرات دينية تحكِّم الشريعة اليهودية فى حياة الناس بشكل أعمق كما تتعامل الأحزاب الدينية مع مفهوم «الدولة اليهودية». وهذا نقاش حول دور الشريعة والفصل بين الدين والدولة خاصة فيما يتعلق بحرية الفرد وقضايا الأحوال الشخصية يدور ولا ينتهى فى الحياة السياسية والتشريعية والقضائية الإسرائيلية.
ومن المفيد أن نراجع خطاب رئيس الحكومة الإسرائيلية الأول دافيد بن جوريون فى معرض تقديمه لقانون العودة من العام 1950:
«ولكن دولة إسرائيل تختلف عن بقية الدول فى عوامل إقامتها وفى أهداف إقامتها. لقد قامت قبل عامين فقط، ولكن جذورها مزروعة فى الماضى البعيد، وهى تنهل من ينابيع قديمة. نظامها ينحصر فى سكانها، ولكن أبوابها مشرعة لكل يهودى بما هو يهودي. ليست هذه الدولة يهودية من ناحية كون اليهود غالبية سكانها. إنها دولة اليهود حيثما كانوا، وهى لكل يهودى يريدها.... يوم 14 آيار 1948 لم تقم دولة جديدة من لا شيء، وإنما أعيد سابق عهد إلى مجده وذلك بعد 1813 سنة من هدم بدا أبدياً لاستقلال إسرائيل فى أيام باركوخبا والراب عكيفا. العوامل التى أقامت إسرائيل لم تكن الأعمال المباشرة القريبة التى سبقت إقامتها».
يقول بن جوريون أن دولة إسرائيل ليست دولة الغالبية اليهودية الموجودة فيها، ولا هى تعبير عن حقها بتقرير المصير إذا سلمنا بتشكلها القومى فى دولة، وإنما هى دولة اليهود أينما كانوا.
آسا كشير يؤكد أن دولة إسرائيل هى نتاج النشاط الصهيونى القومى الحديث فقط ويعتبر الدولة اليهودية «تتويجا للنشاط الصهيوني». دافيد بن جوريون العلمانى يؤكد أن هذا غير صحيح، وأن هذا غير كاف لفهم معنى أن إسرائيل هى دولة الشعب اليهودي، ولذلك يعيدنا دافيد بن جوريون 1813 سنة إلى الوراء للبحث عن مصادر الدولة. هنا يتضح أنه حتى بالنسبة لعلمانى مثل بن جوريون لا فرق حقيقة بين «دولة يهودية» و«دولة اليهود». لماذا؟ الأمر هنا مفهوم تماماً. لأن الصهيونية فى أوج علمانيتها لم تنجح إطلاقاً بوضع تعريف علمانى لليهودية يختلف عن تعريف الشريعة لهذا الانتماء أى الدين. اليهودى قومياً بنظر الصهيونية هو أيضاً اليهودى دينياً. ومن الذى يحدد اليهودى دينيا إن لم يكن المؤسسة الدينية فى نهاية الأمر؟ لقد اكثر البروفسور يشعياهو لايبوفتش من مهاجمة بن جوريون لأنه المسؤول عن عدم الفصل بين الدين والدولة فى إسرائيل لأنه برأى لايبوفتش أراد استخدام المؤسسة الدينية كأداة بيده. ولكن هذا التفسير لا يستنزف أسباب الظاهرة الغريبة بالنسبة لدولة حديثة، فكيف بالإمكان فصل الدين عن الدولة، أو فصل دولة اليهود عن يهودية الدولة؟ ما دامت اليهودية تقرر المواطنة عبر قانون العودة، وما دامت اليهودية لا تعنى رموز الدولة أو مصدرها التاريخى التراثى فحسب كما يرغب الليبراليون أن يعتقدوا، فليس بالإمكان فصل الدين عن الدولة.
الموضوع أساسى وحاسم ليس فقط من أجل تحديد طبيعة الجماعة القومية التى تعتبر إســـرائيل دولتـــها كدولـــة قوميـة بالمفهوم الصهيوني، وإنما أيضاً من ناحية حق المواطنة فيها. فقانون العــــودة من العام 1950 ينص بشكل واضح:
بند 1: من حق كل يهودى أن يهاجر إلى البلاد.
بند 4: يتم التعامل مع كل يهودى هاجر إلى البلاد قبل سريان مفعول هذا القانون، وكل يهودى ولد فى البلاد قبل سريان مفعوله أو بعده، كأنه هاجر إليها بموجب هذا القانون.
4(أ) حقوق اليهودى بموجب هذا القانون وحقوق المهاجر بموجب قانون المواطنة ( من العام 1952) وأيضاً الحقوق الممنوحة للمهاجر اليهودى بموجب كل تشريع آخر تمنح أيضاً لابن وحفيد اليهودى ولزوج ابن وحفيد اليهودي، ما عدا من كان يهودياً وغير دينه بإرادته.
4(ب) لغرض هذا القانون، اليهودى هو من ولد لأم يهودية او تهوّد وهو ليس تابعاً لديانة أخري.
ويعمم البند الثانى من قانون المواطنة من العام 1952 ليشمل كل من لهم حق العودة حتى لو ولدوا فى البلاد، هكذا تكون مواطنة اليهودى أيديولوجية نابعة من حق العودة فى حين أن مواطنة «غير اليهودي»، العربي، من سكان البلاد نابعة من اقامته فيها، أى أن تصادف وجوده المفارق فيها عند قيامها لهدف آخر هو قانون العودة الذى يشمل العائدين والمقيمين اليهود.
وقد تم إدخال البندين الأخيرين من قانون العودة المقتبسين أعلاه كتعديل لقانون العودة فى العام 1968 بعدما صوتت المحكمة العليا بأصوات خمسة ضد أربعة قضاة لإجبار وزير الداخلية على تسجيل أبناء لأم غير يهودية كيهود فى بند القومية فى بطاقة الهوية. وذلك لأن الأب يهودى والأولاد تربوا كيهود فى البلاد ويتكلمون العبرية وخدموا فى الجيش، رغم أنهم ليسوا يهودا بحكم الشريعة لأن الأم ليست يهودية. وقد طالبت المحكمة الكنيست بإلغاء بند القومية من الهوية بهدف إلغاء مثل هذا الإشكال الذى يمنع تسجيل أبناء يهودى ربوا كيهود ويخدمون فى الجيش لأنهم ليسوا يهودا حسب الشريعة. لم تحترم الكنيست طبعاً توجه المحكمة العليا وسنت فوراً تصحيحاً لقانون العودة يؤكد تعريفاً «لليهودي» يتطابق مع تعريف الدين كما رأينا أعلاه.
وطبعاً يكاد يتطابق تاريخ هذا السؤال مع تاريخ الدولة العبرية، وما زالت الصراعات حوله مستمرة ونتيجة لاستمرار فعل هذا التناقض، ومحاولة القوى الليبرالية الفصل بين قومية اليهودى ودينه فى الحالات الفردية، وتفهم المحكمة العليا واليمين الإسرائيلى العلمانى أيضًا لولاءات غير دينية محض مثل الخدمة فى الجيش وغيرها كأساس للمواطنة الإسرائيلية مع رفض الاعتراف رسميا بالهوية اليهودية المنفصلة عن الدين، ثم نشوب الصراع خاصة مع الجالية اليهودية الأمريكية حول التهويد، دخول الدين اليهودي، بموجب الإجراءات الإصلاحية أو المحافظة، قررت الكنيست فى العام 2002 إلغاء بند القومية من الهوية. ألغى البند لتجنب البت فى قومية الشخص، ولكن إلغاء البند لم ينه النقاش بل تكتم عليه.
ومن أهم ما قيل فيه ومن أمتع نقاشات المحكمة العليا حول هذا الموضوع ما دار حول قضية اوسفالد روفايزن الذى ولد لوالدين يهودين عام 1922 فى بولندا وتلقى فى صغره تعليماً يهودياً. وكاد يهاجر إلى فلسطين كصهيونى لولا احتلال النازيين بولندا واعتقاله من قبل الجستابو وبعد مغامراته الطويلة مع ملاحقة الألمان وصل أخيراً حتى تغيير ديانته إلى المسيحية فى دير اختبأ فيه، ثم أصبح راهباً فى العام 1945. وكان الرجل يصر دائماً أنه غير دينه فقط إلى المسيحية، ولكن فى وعيه القومى بقى يهودياً صهيونياً آملاً أن يهاجر إلى فلسطين كصهيونى ويخدم فى أحد الأديرة كراهب. وهكذا تمت هجرته إلى البلاد فى العام 1958، ولكن وزارة الداخلية ردت طلبه أن يتلقى شهادة مهاجر يهودى وأن يسجل كيهودى فى بطاقة الهوية، وجاء الرفض بناء على قرار الحكومة من يوم 20/7/1958 والقاضى أن يسجل كيهودى «كل من أعلن باستقامه أنه يهودي، وهو فى الوقت ذاته ليس تابعاً لديانة أخرى يسجل كيهودي».
وبعد مناقشة طويلة وممتعة للغاية رفضت المحكمة استئنافه على قرار وزير الداخلية بالأغلبية ، والسبب بسيط: لا يمكن أن يكون الشخص يهودياً من ناحية هويته القومية وابناً لديانة أخرى فى الوقت ذاته.
لم يبذل هرتسل العلمانى مؤلف كتاب «دولة اليهود: محاولة حديثة لحل المسألة اليهودية» (لاحظ! دولة اليهود وليس الدولة اليهودية) أى جهد لتعريف يهودية الدولة التى يقصرها على وجود أغلبية يهودية تعتبرها دولتها الوطنية، وهو لا يرمز حتى لمعنى يهوديتها، ولا يوجد فى كتابه هذا أى تفصيل لمعنى يهودية الدولة. كل ما فى الأمر أنه أراد دولة تشكل تعبيراً قومياً عن اليهود، فيها أغلبية لليهودية، وتحول اليهود إلى شعب كباقى الشعوب الأوروبية، كما يفهمها هو طبعاً.
لا يوجد أوضح من علمانية هرتسل واشمئزازه فى هذا الكتاب ذاته من المتدينين اليهود إلى درجة استعارة تعبيرات معادية للسامية، ولكنه لم ينجح وهو فى أوج علمانيته أن يخلق تعريفاً جديداً، أن يفتح مدخلاً جديداً لهذه القومية عدا مدخل الانتماء الديني. وقد أثارت علمانية هرتسل كما هو معروف حفيظة بل عداء المتدينين اليهود الذين رفضوا علمنة الدين اليهودى بتحويله إلى قومية حديثة وبالتالى إزالة خصوصية هذا الشعب، كشعب الله المختار الذى يقيم دولته مع قدوم المسيا المخلص. هرتسل يريده شعبًا كباقى الشعوب فى حين يريده المتدينون «شعب التوراة»، «شعب السبت»، وليس شعبا كباقى الشعوب. وبهذا المعنى فإن الدولة اليهودية بالنسبة لهم إذا كانت علمانية أصعب بكثير من دولة علمانية يقيمها الأغيار، فالأولى فقط تجسد نفيا مباشرًا وحقيقيا ليهودية الدولة كما ينبغى أن تكون.
اختلفت الأمور طبعا فيما بعد بدرجة كبيرة وأصبحت الأحزاب الدينية تحارب على إعطاء مضمون يهودى دينى لدولة كانت ضد جهد إقامتها وذلك فى دائرة تغذى ذاتها: حاجة الأحزاب الدينية إلى النفوذ السياسى تحتم طرح مهام سياسية بروح برنامجها، وطرح برنامج سياسى والتأثير بموجبه يتطلب نفوذًا سياسيا فى الدولة، وبالتالى تصرفًا على أساس الانتماء إلى الدولة الصهيونية. هذه الحلقة المفرغة تتحول إلى عملية صهينة الأحزاب الدينية تدريجيا وباستمرار. طبعا كان هنالك أصلا تيار أقلية بين المتدينين تبنى الصهيونية منذ البداية.
ولذلك أيضاً إذا عدنا إلى كلام بن جوريون فى قانون العودة نجد أن هذه اليهودية بنظره هى التى تقيم الدولة وليس العكس، وهى أساس القانون الإسرائيلى وأساس المواطنة وليس العكس: «قانون العودة من قوانين المصدر بالنسبة لإسرائيل. إنه يتضمن مهمة مركزية على دولتنا ، مهمة تجميع الجاليات من المهجر. يقرر هذا القانون أنه ليس الدولة هى التى تقرر ليهود الخارج حقهم بالاستقرار فيها، وإنما حق اليهودى بذلك مطبوعة فيه بما هو يهودي، فى حال قرر بإرادته أن ينضم إلى توطين البلاد».
هذا الحق إذاً سابق على القانون. وليس بامكان قانون إسرائيلى أن يلغيه، القانون الحالى هو تعبير عن حق اليهودى فى المهجر بما هو يهودى أن يستوطن فى فلسطين... بعد ذلك تبدأ الشعوذة الكلامية للتوفيق بين هذا «الحق» ومبدأ المساواة. فالمساواة برأيه فى الدولة ولكن هذا «الحق» سابق على الدولة (آخذاً بعين الاعتبار أن الرجل يتحدث عن قانون تسنه دولة هو رئيس حكومتها وهو يتحدث فى برلمانها. لا بد من اعتبار هذا الكلام نوعًا من الميتا فيزيقا السياسية أو السحر والشعوذة). « هذا الحق هو الذى بنى الدولة، ويكمن مصدره فى الرابط التاريخى الذى لم ينقطع بين الشعب والوطن». وقد أقر قانون الشعوب بهذا الحق فى الواقع...
والمقصود بالطبع وعد بلفور وتبنيه فى صك الانتداب. أما إذا كان المقصود من إقرار قانون الشعوب (القانون الدولي) بهذا الحق هو قرار التقسيم 181، فصحيح أن القرار المذكور يستخدم مصطلح «الدولة اليهودية» و«الدولة العربية» فى فلسطين، ولكنه يؤكد على مواطنة المقيمين فى كل دولة، ما داموا لم يتقدموا بطلب مواطنة فى الدولة الأخرى لأنها تعبر عنهم وطنياً. وبموجب قرار التقسيم لا فرق بين مواطنة العربى واليهودى فى الدولة اليهودية وكلاهما تشتق من إقامتهم فى المنطقة التى أقيمت فيها الدولة، لا بفعل «حق عودة» ولا بفعل رابط تاريخي، دينى أو غير ديني، لم يتوقف ... وكما هو معلوم لو لم يتم تشريد العرب من الدولة اليهودية طبقاً لخطة التهجير وهدم القرى العربية التى كان من المفترض أن تكون فى حدود الدولة اليهودية بموجب قرار التقسيم لشكل العرب ما يقارب 45% من سكان الدولة اليهودية. أما كيف تم توفيق ذلك مع تعريفها كيهودية، فلا يبدو أنه كانت هنالك حتى محاولة لتبرير ذلك، كان قرار إقامة الدولتين اليهودية والعربية سياسيا وليس أيديولوجيا أو فكريا ولكن لا يمكن تخيل دولة يهودية فى عصرنا نصف سكانها من الفلسطينيين.
وفى «وثيقة الاستقلال» تتناوب المصطلحات «دولة يهودية» و«دولة اليهود» عدة مرات. والوثيقة كما هو معروف ليست بمثابة قانون ولم يتم تبنيها كقانون، ولكن لها قيمة معيارية دستورية فى بنية الدولة القانونية كما أسلفنا. وتبدأ الوثيقة فى الفترة الأولى بالجمع بين الرابطة الدينية والحقوق السياسية والقومية جمعاً لا ينفصم: « فى أرض إسرائيل قام الشعب اليهودي، وفيها بلور شخصيته الروحية والدينية والسياسية، وفيها عاش حياة انبعاث سيادي. فيها أنتج نتاجاً ثقافياً ودينياً وإنسانياً وأورث العالم كتاب الكتب الأبدي. وبعد أن أبعد الشعب من بلاده بالقوة حافظ على عهده لها فى كل بلدان شتاته، ولم يتوقف عن الصلاة والأمل أن يعود إليها وأن يجد فيها حريته السياسية».
وتتطرق «وثيقة الاستقلال» إلى وعد بلفور وإلى صك الانتداب كاعتراف من قبل القانون الدولى بالرابط التاريخى «بين الشعب اليهودى وأرضه».
ثم تتطرق الوثيقة إلى كارثة يهود أوروبا وإلى حق العودة لليهود إلى دولة إسرائيل. أما الفقرة التى تستخدم لغة قومية حديثة ويستند إليها القوميون الليبراليون العلمانيون فتأتى بعد استخدام كافة الحجج الأخرى المذكورة أعلاه: «إنه حق الشعب اليهودى الطبيعى أن يكون مستقلاً فى دولته السيادية كأى شعب آخر. ولذلك، اجتمعنا نحن أعضاء مجلس الشعب، ممثلو اليشوف العبرى والحركة الصهيونية، فى يوم نهاية الانتداب البريطانى على أرض إسرائيل، وبشرعية حقنا الطبيعى والتاريخي، وعلى أساس قرار الهيئة العامة للأمم المتحدة، نعلن بهذا عن إقامة دولة يهودية فى أرض إسرائيل، هى دولة إسرائيل».
أما الفقرة التى تجمع بين يهودية الدولة وديموقراطيتها ويتم الاستناد إليها للجمع بينهما من جديد فى التشريع منها: « تكون إسرائيل مفتوحة للهجرة اليهودية ولجمع الشتات، وتهتم بتطوير البلاد لصالح سكانها جميعاً،وتقام على أسس الحرية والعدل والسلام بموجب رؤيا أنبياء إسرائيل. تقيم مساواة اجتماعية وسياسية بين كافة مواطنيها بدون تمييز فى الدين والعنصر والجنس. وتضمن حرية العبادة والضمير واللغة والتعليم والثقافة ، وتحافظ على الأماكن المقدسة لكافة الأديان، وتكون أمينة لميثاق الأمم المتحدة».
ولكن هذه الفقرة التى تبدو فيها إسرائيل دولة قومية تعبر عن حق تقرير المصير لشعبها ولكنها فى الوقت ذاته تمنح المساواة لكافة السكان جاءت بعد تأكيد الحقوق الدينية كحقوق سياسية، وحتى فى هذه الفقرة يؤكد مؤسسو الدولة الصهيونية على الهجرة اليهودية التى لا بد أن تفتح مسألة من هو اليهودي؟ إضافة إلى التأكيد على أن الحرية والعدل والمساواة بموجب رؤيا الأنبياء. ولكن بإمكان أى ليبرالى صهيونى أن يفصل بالطبع بين رؤية الأنبياء الأخلاقية الإنسانية العامة وبين بقية التوراة باعتبار كتابتهم تراثاً إنسانياً عاماً يختلف عن أسفار التوراة الأخرى مثل التكوين والملوك والقضاة الشديدة الخصوصية القبلية اليهودية والتى تؤكد تعاليم الشريعة.
دولة قانون:
لقد كانت يهودية الدولة هى الأداة التى جعلت بإمكان الدولة أن تسن القوانين الرامية إلى مصادرة أراضى العرب باعتبار أن الاستيطان اليهودى واستيعاب الهجرة هى قيم أساسية ولو تناقضت مع حقوق المواطنين غير اليهود، ومن ضمنها حقوق الملكية. كما أن يهودية الدولة كهدف وأساس قيامها جعل إسرائيل ترفض تطبيق حق عودة اللاجئين مع أنها رسميا وافقت على قرار التقسيم وإقامة دولة يهودية من المفترض أن ما يقارب نصف سكانها من العرب قبل أن تعمل على تهجيرهم، واحتلال أرض الدولة الفلسطينية أيضًا.
وما زال الحفاظ على يهودية الدولة يشكل أساسًا لجملة من التشريعات العنصرية، فبما أن إسرائيل دولة قانون كما بشر رئيس حكومتها اريئيل شارون الناس فى خطابه فى نفس مؤتمر العقبة الذى أكد فيه بوش التزام أمريكا بأمن إسرائيل كدولة يهودية، فقد أقر البرلمان الإسرائيلى يوم 18 حزيران 2003 بالقراءة الأولى اقتراح قانون «المواطنة والدخول إلى إسرائيل (مؤقت) 2003». وينص القانون بشكل عام على منع المواطنة أو الإقامة فى إسرائيل داخل الخط الأخضر عن أى من «قاطنى الضفة الغربية وقطاع غزة»، وينص على ذلك البند الأول من القانون وبالحرف الواحد «بغض النظر عما ينص عليه أى قانون آخر». أى أن اقتراح القانون الجديد والسارى المفعول لمدة سنة ينسف كافة قوانين المواطنة الإسرائيلية التى سبقته فيما يتعلق بسكان الضفة الغربية وقطاع غزة.
وقد بادرت الحكومة الإسرائيلية إلى تقديم هذا القانون للكنيست، وهو ينسف كافة القوانين السابقة والمتعلقة بمواطنة مجموعة بشرية بعينها هى الفلسطينيين، ولأنها «دولة قانون»، فهى لا يمكن أن تكتفى بالأنظمة الصادرة عن وزير الداخلية السابق ايلى يشاى يوم 12 آيار والتى منعت بأمر منه وبدون قانون عملية لم شمل العائلات، وجمدت معالجة طلبات لم شمل العائلات فى وزارة الداخلية الإسرائيلية فى حالة كون أحد الزوجين فلسطينى أو فلسطينية من الضفة الغربية وقطاع غزة حتى لو أقام الزوجان سويةً منذ سنوات وأنجبا أطفالاً.
والقانون يمنع أى لبس، ويعقِّد الاستئناف المؤجل والمتعثر إلى المحكمة العليا ضد أوامر وزير الداخلية إياها، فالمحكمة العليا غير الليبرالية أصلاً فيما يتعلق بقضايا الضفة والقطاع، لا تلغى قانوناً بنفس سهولة إلغاء أنظمة وزير، وخاصةً أن المحكمة العليا الإسرائيلية تواجه هجمة يمينية دينية شاملة فى البرلمان وعلى مستوى الرأى العام بحجة تدخلها «المبالغ فيه» فى عملية التشريع وسن القوانين.
ويسمح القانون الجديد فى بنده الثالث بالاستثناءات التالية:
1 ـ من حق وزير الداخلية، حسب الظرف، أن يمنح أحد سكان هذه المناطق إذناً بالإقامة فى إسرائيل أو التواجد فيها من أجل العمل أو العلاج الطبى لفترة محدودة أو لهدف مؤقت آخر لفترة متراكمة لا تزيد على ثلاثة أشهر.
2 ـ من حق وزير الداخلية أن يمنح مواطنة أو إذناً بالإقامة لأحد سكان هذه المناطق إذا اقتنع أنه يتماثل مع دولة إسرائيل وأهدافها، أو أنه أو أحد أبناء عائلته قد قاموا بعمل فعلى لتعزيز الأمن أو الاقتصاد أو هدف هام آخر للدولة، أو إذا كان منح المواطنة أو حق الإقامة ذا أهمية خاصة بالنسبة للدولة...
لم يكن الوضع جنة بالنسبة للم شمل العائلات الفلسطينية فى الداخل قبل سن القانون. فالعديد من النساء الفلسطينيات والرجال الفلسطينيين أقاموا مع أزواجهم أو زوجاتهم داخل الخط الأخضر دون هوية أو إقامة ودون تسجيل الأطفال لأن عملية لم الشمل ومنح الإقامة قانونياً قد تستغرق خمس سنوات أو ست سنوات، وقد لا تتم إطلاقاً.
وتتلخص القضية بالطبع بمنع زيادة عدد المواطنين العرب فى الداخل، والموضوع ديموجرافى متعلق بيهودية الدولة وليس شأنا أمنياً رغم أن مسوغات القانون التى طرحت أمنية. وقد اعتمدت الحجة الأمنية على حالة فردية واحدة لا غير وهى عملية مطعم «ماتسا» فى حيفا يوم 31 آذار 2003 والتى نفذها شاب يقيم فى الضفة الغربية ولكنه يحمل هوية إسرائيلية بفعل كون والدته مواطنة إسرائيلية.
ويسند العنصريون موقفهم شعبوياً أيضاً بالمبرر العنصرى المعروف والمسموع بكثرة فى الدول المتقدمة نسبياً قياساً بمحيطها والمعرضة للهجرة الوافدة. فالعرب برأيهم يرغبون بالسكن فى إسرائيل دون أى ولاء أو التزام تجاهها ويؤمونها لأسباب اقتصادية أو بغرض الحصول على خدمات غير قائمة لديهم مثل الخدمات الطبية المجانية وغيرها. والحقيقة أن هذا النمط من السلوك ليس فلسطينياً، وإنما هو نمط الهجرة من البلدان أو المناطق الفقيرة إلى المناطق الأكثر غني، بما فى ذلك من إسرائيل إلى دول أغني. وغالباً ما تدفقت الهجرة من المستعمرات أو المستعمرات سابقاً إلى الدول المستعمرة.
لا جديد هنا إطلاقاً. الجديد هو سن قانون يمنع منعاً باتاً حركة التنقل البشرية هذه حتى فى حالة الزواج وإقامة عائلة، والجديد فى قصر حرية الحركة أو حرية اختيار الزوج أو الزوجة على من ترغب الدولة بوجوده كاستثناء.
ولا تستطيع إسرائيل بالطبع أن تضبط بشكل استعمارى مناطق محتلة وتحتفظ بها كهامش فقير وتمنع هذه الحركة من المحيط الفقير إلى المركز الغنى بحجج عنصرية. نقول هذا حتى دون أن نحتاج للعودة إلى الروابط التاريخية والعائلات وروابط القرابة القائمة بين المواطنين العرب فى الداخل وسكان الضفة الغربية وقطاع غزة واللاجئين الفلسطينيين فى لبنان وسوريا. هذه الروابط التى قطعتها خطوط الهدنة عام 49.
تشير الحركة التشريعية المحمومة فى البرلمان الإسرائيلى مؤخراً إلى رغبة إسرائيلية غير ملجومة ولا حتى بدوافع الشكليات والحفاظ على السمعة الديموقراطية بغرض تأكيد يهودية الدولة وطابعها اليهودى وأغلبيتها اليهودية بالقانون. وقد دوّلت الدبلوماسية الإسرائيلية موضوع يهودية الدولة بطلبها أن تعترف الولايات المتحدة وأن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل كدولة يهودية، وأن تكتسب هذه العبارة شرعية دولية بالاتفاقيات والأعراف الدولية السائدة وبالتالى فى القانون الدولي. والموضوع موضوع نقاش وصراع هام يتعلق بحق العودة كما يتعلق بالمواطنين العرب فى الداخل ويتعلق إضافة لهذا كله بالعلاقة بين الدين والدولة فى إسرائيل. وتجرى محاولة تشريعية حثيثة لإعطاء معنى ومضمون قانونى داخلى ليهودية الدولة ولكونها دولة الشعب اليهودي. وتجرى حالياً إضافة لهذا كله محاولة جدية لإعداد دستور للدولة العبرية فى أسوأ مرحلة، مرحلة سيطرة اليمين على الكنيست وعلى لجنة القانون والدستور.
لقد قدم للكنيست الخامسة عشرة (السابقة) خمسة عشر قانونًا عنصريا يسعى إما إلى تكثيف تعريف دولة اليهود أو يهودية الدولة ويفرض على المواطن العربى قسم الولاء ليهوديتها أو يجبر النائب ليس فقط على الولاء للدولة وقوانينها وإنما لرموزها وعلمها ولنشيدها الوطني، كما اقترحت قوانين أساس تحصن رفض قانون حق العودة للفلسطينيين وأخرى تحدد مواطنة العرب فى الداخل. غالبية هذه القوانين مر فقط بالقراءة التمهيدية واتخذ طابعا إعلانيا وإعلاميا. ولكن النزعة واضحة تمام الوضوح، انها حمى التأكيد على يهودية الدولة ليس فقط ضد حق اللاجئين بالعودة إلى وطنهم وإنما أيضًا ضد أى محاولة لإحراج الصهيونية بتوسيع مفهوم المواطنة والحقوق إلى درجة المجاهرة بالمواقف العنصرية.
فى خضم النقاش على تصحيح قانون أساس الكنيست والموجه جزئيا على الأقل ضد كهانا الذى أحرج الأحزاب الصهيونية بمثابرته فى تفسير يهودية الدولة كنقيض للديموقراطية: «ولدت الصهيونية لكى تقيم دولة يهودية، ولذلك مرة بعد أخرى تكرر هذا الموتيف الوثيقة المسكينة، وثيقة الاستقلال. قام الشعب اليهودي، وفى النهاية نعلن عن إقامة دولة يهودية فى أرض إسرائيل
.
أيها اليهود، ما القصد، ما هو تفسير دولة يهودية؟ كل طفل يجيب: دولة يهودية هى دولة فيها أغلبية يهودية، فقط أغلبية يهودية تضمن لنا الاستقلال والسيادة، فقط أغلبية يهودية تضمن لنا أن نكون أصحاب هذا المكان، وأن نقرر مصير شعبنا. إذا لم تكن هنالك أغلبية يهودية لن تكون دولة يهودية، وإذا لم تكن دولة يهودية لن تكون صهيونية. ولكن الديموقراطية تقول العكس. بالنسبة للديموقراطية لا يوجد يهود وعرب، ولا غير يهود بالنسبة للديموقراطية يوجد فقط ناس، بشر. ولا يهمها يهود أو أغيار. إذاً يوجد تناقض يوجد حرب بين هذه المفاهيم. العرب سنة 1947 عارضوا إقرار التقسيم، لماذا؟ لأنهم أيدوا الديموقراطية، قالوا: هنالك أغلبية عربية فليتم الحسم حسب الأغلبية. اليهود الصهيونيون خافوا من الديموقراطية واختاروا تقسيم البلاد، لكى يقيموا دولة ذات أغلبية يهودية».
لم يكن العرب ديموقراطيين، ولكن مطلبهم كان أكثر ديموقراطية بلا شك من المطلب الصهيوني. والإشكال الذى يعبر عنه كهانا العنصرى فى حديثه ليس بهذه البساطة، فهنالك فرق بين أن يدير أمثاله مجتمعًا بموجب الشريعة اليهودية وبين أن يدار نفس هذا المجتمع بشكل ديموقراطي. ولكن خارج حدود هذا المجتمع الدوامة التى يعبر عنها كهانا بسيطة للغاية، وهى تعنى أن الدولة العبرية تجد نفسها إذا أرادت المحافظة على يهوديتها فى حالة تناقض مستمر مع الديموقراطية والقيم الكونية.
***
قرار التقسيم هو الأساس القانونى الدولى الذى استغلته إسرائيل لتعلن عن ذاتها كدولة مستقلة. وهى لا تكتفى بعد أكثر من نصف قرن على قيامها بالاعتراف بها كدولة ذات سيادة بل تطالب بالاعتراف بطابعها القومى أو الدينى
***
يقول بن جوريون أن دولة إسرائيل ليست دولة الغالبية اليهودية الموجودة فيها، ولا هى تعبير عن حقها بتقرير المصير إذا سلمنا بتشكلها القومى فى دولة، وإنما هى دولة اليهود أينما كانوا
***
يهودية الدولة كهدف وأساس قيامها جعل إسرائيل ترفض تطبيق حق عودة اللاجئين مع أنها رسميا وافقت على قرار التقسيم وإقامة دولة يهودية من المفترض أن ما يقارب نصف سكانها من العرب قبل أن تعمل على تهجيرهم
***
بالنسبة للديموقراطية لا يوجد يهود وعرب، ولا غير يهود بالنسبة للديموقراطية يوجد فقط ناس، بشر. ولا يهمها يهود أو أغيار.