عندما كان باراك أوباما (طيب المحيا/ حسن النية) يتحدث، وإلى جواره محمود عباس عن دولة فلسطينية «قابلة للحياة»، لم يمكننى أن أقاوم إغراء النظر مليا فى الخارطة «الكاشفة» التى كان الأصدقاء فى «لوموند ديبلوماتيك» قد تفضلوا بإهدائها لى قبل أيام.
«دولة قابلة للحياة» .. كم هى الألفاظ خادعة، وكم هى مفعمة ــ فى الوقت ذاته ــ بالمعانى والدلالات. بالضبط كما هى الصورة التى التقطها مصور رويترز واخترناها للنشر مع المقال التالى ( ص 7)؛ طفلة تحمل بالونات الحلم والأمل... و«الهواء»، رسمها رسام مجهول على الجدار الخرسانى شاهق الارتفاع، الذى مزق به الإسرائيليون أوصال الضفة الغربية، متجاهلين القانون الدولي، ومستهزئين بقرار صدر من محكمة العدل الدولية. أو بالأحرى مطمئنين إلى أنه لن يكون من بين العرب «أصحاب القضية» وأصحاب النفس القصير من يتابعها، ويستخرج القرار من أضابير المحاكم مطالبا «وملحا» المجتمع الدولى بآلية التنفيذ.
«دولة قابلة للحياة».. كم هم بارعون أولئك الدبلوماسيون فى نحت ألفاظ جديدة. وكم هو متخم قاموس القضية الفلسطينية بالألفاظ والمصطلحات.
دولة «قابلة للحياة» ..!
تتعلق طفلة الحلم المرسومة على الجدار بالهواء، فى حين يبقى «الواقع» على الأرض؛ طفلةٌ اضطرتها مهانة الإذلال أن تمشى بها أمها ــ لا أعرف كم من الكيلومترات ــ حتى تجد منفذا تعبر منه إلى مدرستها أو بيتها أو جيرانها أو أقربائها على الجانب الآخر من الجدار. ليس ذلك فقط، بل ربما وعند وصولها إلى المنفذ / المعبر، لا يسمح لها مزاج الجندى الإسرائيلى «المراهق» بالعبور(!)
لا أعرف المرأة فى الصورة أسفل الجدار، ولكنى أعلم من تقارير منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية «لا غيرها» أن تلك رحلة يومية للكثيرات. واللواتى بالمناسبة ــ لم يشغلن أنفسهن يوما بالمؤتمرات والشعارات الغربية المطالبة «بتمكين المرأة» فى شرقنا العربي.
دولة «قابلة للحياة» ..!
أصدق هذا القادم «الجديد» هادئ الصوت الجالس فى واشنطن. والذى يبدو حتى هذه اللحظة وفيا لشعاره: Yes, We Can ولكنى أعلم أيضا أن الإسرائيليين استقبلوه «واقعيا» بالحرب على غزة، ثم باختيارهم اليمين ــ بل أقصى اليمين هذه المرة ــ لحكومتهم. ثم ألقوا فى وجهه القبعة فى نهاية المطاف حين تمسكوا بموقفهم «المراوغ» بشأن المستوطنات: «لن نسمح ببناء مستوطنات جديدة بدون ترخيص.. ولكننا سنسمح طبعا بالنمو الطبيعى لما هو موجود»(!) التصريح للمتحدث الرسمى للحكومة الإسرائيلية تعليقا على مفاوضات أوباما/ عباس. تقول الأرقام إن الكم الأكبر من المستوطنات تم بناؤه بعد أوسلو التى اتفق فيها على تجميد المستوطنات إلى أن يحين موعد مفاوضات الحل النهائي(!)
وتكشف خارطة Le Monde Diplomatique (أرجوكم تأملوها جيدا) مافعلته المستوطنات والجدار بالضفة الغربية لنهر الأردن (أرض الدولة الفلسطينية المفترضة و«القابلة للحياة»)
ييدو أننا أمام أكثر المشاهد عبثية فى تلك الدراما الشرق أوسطية التى لا تنتهي.
لأن لا أحد حقا يريد حلا لهذه القضية، فقد توافق الجميع على أن يتفقوا على الحل «المقبول إعلاميا»، رغم أنهم يعرفون جميعا أنه بات مستحيلا: «حل الدولتين».
على هامش المسألة، هناك من فكر.. وهناك من عبّر.. وهناك من«أضمر».. وهناك من كتب. وبدت فى الأفق أو فى «الضمائر» تلميحات «الخيارات البديلة»:
قبل أن ينقشع دخان الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، والتى يبدو أنها كانت تستهدف ضمن أهداف أخرى وضع أوراق جديدة على طاولة تسوية محتملة، كتب جون بولتون، السفير الأمريكى السابق لدى الأمم المتحدة فى الـ «واشنطن بوست» يدعو إلى إغلاق ملفّ الدولة الفلسطينية المستقلّـة، عبر «ضمّ غزة إلى مصر وإلحاق الضفّـة الغربية بالأردن». وكان روبرت كاجان الكاتب الأمريكى «الجمهوري» البارز أكثر وضوحا حين كتب عن «الخيار الأردني» معتبرا الأردن الوطن الطبيعى لملايين الفلسطينيين من سكانه، ولأنه يمثل الحلّ العملى لقضية اللاجئين الذين سيكون عليهم الاختيار بين التوطين الدائم، وبين الاستيطان فى الأراضى الفلسطينية شرق نهر الأردن. على الناحية الأخري، وتحت مظلة التأكيد على وحدة «الخطر المشترك» لتنامى السلام الراديكالى متمثلا فى إيران وحماس وحزب الله، (راجع التصريحات الإسرائيلية الأخيرة التى تشير إلى وقوف تل أبيب مع العرب المعتدلين فى خندق واحد ضد خطر مشترك) يجرى ترويج أفكار مثل أن تجربة الحكم الذاتى فى غزّة فشلت، وأن على المصريين تقديم يد العون، ربّـما عبر منح غزّة «التى يربط أهلها بالسيناويين أواصر عدة» أراضى مصرية إضافية أوحتى ضم القطاع برمّـته إلى مصر، بصفته محافظة من محافظاتها.
بغض النظر عن التفاصيل سيجد المتابع عن كثب ظلالا من هذه الأفكار فى تصريحات ومقالات لساسة اسرائيليين نافذين، كما سيجد نفسه مضطرا لقراءة برنامج نتنياهو فى ضوئها.
نتنياهو الذى يبدو أنه تنكر لشعار «الأرض مقابل السلام» الذى خدرنا ثلاثين عاما كاملة، دعا فى برنامجه الانتخابى إلى استبدال شعار «السّلام للنّهوض بالاقتصاد» فى الشرق الأوسط ليحل محله شعار «الاقتصاد للنّهوض بالسلام»، وهو يعنى بذلك ضرورة التوقّـف عن البحث عن اتفاقات سياسية لإقامة «دولة فلسطينية»، والعمل بدلا من ذلك على تحويل فلسطينيى الضفّـة إلى مستهلكين اقتصاديين. كيف؟ عبر إقامة مناطق صناعية فى بعض مناطق الضفّة المحاذية لإسرائيل، تستوعب اليد العاملة الفلسطينية، بإشراف مالى وتكنولوجى إسرائيلي.
ثم إن هناك ما هو أخطر: مشروع نتنياهو لضمّ أجزاء من الضفة إلى الأردن، والذى يذكرنا بالوثيقة التى جرى تسريبها قبل حوالى العام وعرفت باسم «وثيقة عوض الله - عريقات» والتى تتحدث مرة أخرى عن اتحاد كونفيدرالى يفترض أن يتكوّن من شرق الأردن وأجزاء من الضفة الغربية ويقوم بتوطين، ليس فقط لاجئى الضفة، بل أيضاً اللاجئين الفلسطينيين فى الشتات.
ربما يظل لافتا إلى أنه فى الوقت نفسه الذى يتجنب فيه رئيس الوزراء الإسرائيلى الحديث عن «خيار الدولتين»، يكتب رئيس الدولة شيمون بيريز مقالا فى الواشنطون بوست الأسبوع الماضى يؤكد فيه على «خيار الدولتين» معربا عن أسفه حيال الحديث المتصاعد فى دوائر فكرية أمريكية عدة عن «حل الدولة الديموقراطية ثنائية القومية» معتبرا أن هذا من شأنه أن «يقوض شرعية إسرائيل وحقها المعترف به عالميا فى الوجود كدولة يهودية مهيمنة فى أرض أجدادي».
ربما من الحكمة هنا (وهى ضالة كل مؤمن) أن نتذكر أن بيريز ــ الذى شارك فى صياغة سياسات بلاده معظم فترة وجودها ــ كرس حياته كلها تقريبا لتقويض فرص قيام دولة فلسطينية والتغاضى عن بناء أكثر من 430 مستعمرة بينما يقدم الدعم الشفوى لـ «عمليةالسلام». وأن خطة آلون لطرد السكان العرب من فلسطين كانت هى البرنامج الانتخابى لبيريز أثناء حملاته فى أعوام 1974 و1977 و1981 و1984 و1987، وهى التى صاغت سياسات إسرائيل الاستيطانية فى الفترة من 1967 إلى 1977. كما أنه عمل على جعل خطة آلون جزءا من اتفاقية كامب دافيد عام 1978 وتفاهمات أوسلو عام 1993.
وتبقى حقيقة أن حل الدولتين الذى يحاول بيريز تسويقه للجمهور والإدارة الأمريكية هو عبارة عن «دولة» فلسطينية على مساحة 76,6% من الضفة الغربية مقسمة إلى مناطق مغلقة، مع بقاء الغالبية العظمى من المستوطنات والمستعمرات البالغ عددها 430 أو يزيد فى مكانها تحت الهيمنة الإسرائيلية. وسوف تحصل إسرائيل على 13,3% أخرى بصورة مباشرة وتواصل احتلال الـ 10,1% الباقية لمدة تصل إلى ثلاثين عاما. وخلال تلك الفترة سوف تستمر إسرائيل فى بناء مستوطنات ومستعمرات جديدة وتوسيع الحالية. ولا تتضمن النسب المذكورة القدس الشرقية المقتطعة والمياه الإقليمية للبحر الميت. وفى الحقيقة أن عرض الـ 76% لا يقوم على 100% من المناطق المحتلة بل فقط على تلك المناطق التى كانت إسرائيل على استعداد لمناقشتها. وبالتالى فإن «الحل العادل والأخلاقي» الذى يفضله الرئيس بيريز سوف يصل إلى منح أقل قليلا من 16% من أرض فلسطين التاريخية إلى أولئك الذين طردوا من منازلهم وأراضيهم..
وبعد
1 ــ سيظل أوباما وفيا لما قال به من التزام بتسوية يراها تقوم على حل الدولتين.
2 ــ وسيظل الإسرائيليون المغترّون بقوتهم والخائفون على ضياع دولتهم أعجز عن اتخاذ القرار، وأقدر ــ كعادتهم دائما ــ على المراوغة. (أرجو ملاحظة أن استحقاقات أوسلو 3991 مازالت تراوح مكانها. وأن الدولة الفلسطينية التى وعدنا بها بوش قبل نهاية ولايته التى امتدت لفترتين لم تر النور أبدا).
3 ــ سيظل الرئيس عباس (المنتهية ولايته) يجوب البلدان الصديقة ليتحدث عن المبادرة العربية (التى لم تعد مطروحة على الطاولة كما هدد العرب أنفسهم) وعن إيقاف المستوطنات التى لم يتوقف (التوسع) فيها أبدا.
4 ــ و ستظل إسرائيل (على الأرض) فضلا عن التهويد الرسمى والمعلن للقدس، تعمل على اقتطاع الأرض شبرا شبرا، حتى لا تبقى هناك فى النهاية أرض صالحة لإقامة دولة «قابلة للحياة».
5 ــ و.. ستظل السيدة الفلسطينية فى رحلتها اليومية الطويلة المضنية «بمحاذاة الجدار» تبحث عن منفذ.
تقول الوقائع على الأرض (راجع الخارطة) أنه بعد أربعين عاما من الاستيطان السرطانى فى الضفة الغربية، أصبح التداخل السكانى فى الضفة الغربية أكثر استعصاء على فصل الشعبين. وأنه لا الواقع على الأرض، ولاحقائق السياسة، تجعل حل «الهدنة طوية الأمد» الذى يتحدث عنه خالد مشعل، ولا حل جماعة أوسلو «النظري» قابلين للتطبيق، وأنه أمام الخيارات «البديلة» التى أصبح الإسرائيليون يفكرون فيها، يبقى الخيار الحقيقى أمام العرب ــ إن كانت لديهم القدرة على النظر لأبعد من تحت أقدامهم ــ هو الانتقال الاستراتيجى إلى حل «الدولة الديموقراطية الواحدة»، من البحر إلى النهر. واستثمار الإرهاصات الفكرية التى بدأت تظهر فى دوائر أمريكية مختلفة. يشار فى ذلك ربما إلى تقرير ذى صلة للاستخبارات الأمريكية أشارت إليه كتابات أمريكية عديدة يحذر من أن بقاء اسرائيل فى صورتها الحالية، أى مابعد العشرين عاما القادمة، أمر مشكوك فيه. ويرى أهمية وضع حل الدولة «الواحدة» الديموقراطية النابذة للعنصرية قيد الاعتبار، على أساس أنه ربما يكون هذا هو السبيل لنزع فتيل التطرف من تلك المنطقة الملتهبة.
قبل ثلاثين سنة، اعتبر السادات «رحمه الله»، أن ليس بين العرب وإسرائيل غير «حاجز نفسي»، يمكن اجتيازه بجهد صادق من الطرفين.
وبعد ثلاثين سنة أصبح الحاجز «جدارا خرسانيا»، يتمترس خلفه الإسرائيليون متمسكين «بيهودية» دولتهم» شرطا للحوار مع جيرانهم «الأغيار». ويرسم عليه الفنانون طفلة تحلم بأن تطير لتعبر الجدار.