عــــلي ضـفـــــاف «نهــــر البـــارد»
أيا ماكانت الأصابعُ المختفية علي شاطئ غزة، أو تلك المنغمسة في «نهر البارد».
وسواء كانت تستكملُ مسلسل زرع «ألغام الفتنة» تحت كل شبر في هذه المنطقة. أو تعكسُ مابات واقعا من خلط بين العقيدة «في ثباتها» والسياسة «في تغيرها» والسلاح «في جموحه». أو كانت تبحث عن دور بدا أنه تاه تحت ركام الانفجارات، ووسط تعقيدات التحالفات.. والمتغيرات.
ومهما كان قصدُ المذَكِّرين و«المُلحين» بأن شرارة الحرب الأهلية ــ التي يقف لبنان دائما علي أبوابها ــ تأتي بها الرياحُ عادة «إقليمية أو دولية» من أزقة «المخيمات» الفلسطينية المزدحمة بالقهر والفقر .. والسياسة.
وأيًا ماكان الثمن الذي يدفعه هؤلاء أو أولئك «الجيـــران» الطيبـــون» الذين لا ناقة لهم ــ ربما ــ ولا جمل،
تبقي ــ وإن نسينا أو تجاهلنا ــ في خلفية المشهد دائما قصة «المخيمات» .. وساكنيها؛ الذين هم، مهما يكن أمر السياسة أو الحرب، «بشرٌ» من لحم ودم.. لهم آباءٌ وأبناء، وأحلامٌ وآمال.. وذكريات. وأن هذه المخيمات كانت بالتعريف «بديلا مؤقتا». إلا أن هذا «المؤقت» طال ليأكل من عمر «البشر» ستين عاما كاملة، لتبقي ــ وإن ازدحمت روزنامتها بواقعات الميلاد والموت ــ فراغات في الجغرافيا ولكنها ــ لولا الأمل ــ بلا أفق في التاريخ.
قبل أيام فقط من التهاب «نهر البارد» كنت أشاهد ــ علي الهواء مباشرة ــ جلسة استماع «مطولة» خصصها الكونجرس الأمريكي لموضوع كان عنوانه علي الشاشة لافتًا: «قضية اللاجئين اليهود والفلسطينيين».
في الأسبوع ذاته، وفي مدينة «البتراء» الأردنية، وأمام حشد من النوبليين الحالمين بالسلام، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود أولمرت يكرر دعوته إلي القادة العرب الاثنين والعشرين للحضور إلي القدس لعرض مبادرتهم علي الإسرائيليين مُذَكِّرًا بالثوابت الإسرائيلية: «حل قضية اللاجئين الفلسطينيين لن يكون أبدا ــ بالعودة ــ إلي إسرائيل».
قد لايكون ثمة من رابط «اتفاقي» بين تصريح أولمرت «شرق الأردن» وبين جلسة الاستماع الأمريكية، ولكنها ــ أيضا ــ في أجواء مبادرةٍ تمهدُ لرسم خريطة طريق حل «نهائي»، ليست أبدا «مصادفة التوقيت». فقضية اللاجئين المزمنة تبقي إحدي أهم القضايا ــ إن لم تكن أهمها علي الإطلاق ــ التي تقف أمام المشروع الأمريكي/الإسرائيلي لإنهاء أزمة الشرق الأوسط «بالطريقة التي يريدون»، كما أنها بحكم عوامل ضاغطة مفهومة حتي علي أصحاب الحقوق أنفسهم تبقي المسألة المؤهلة لجر الأقدام المتعَبة خطوة أولي علي طريق تنازلاتٍ قد لاينتبهُ الكثيرون ــ غافلين أو عامدين ــ إلي مداه.
نعرف جميعا ــ وإن أنسانا تعبُ الأيام وطمعُ المصالح ــ كيف بدأت قصة «المخيمات» التراجيدية الطويلة. ورغم أن الدراسات الموثقة لنور مصالحة و وليد الخالدي و سلمان أبو سته قد يكون فيها الكفاية، إلا أنني قد أنصح البعض هنا ــ منعا لتشكيكٍ أو اتهام بالتحيز ــ أن يرجعوا إلي كتابات مؤرخين إسرائيليين مثـــل Benny Morris و Tom Segev و Norman Finkelstein أو حتي Meron Benvenisti الذي عمل ــ فعليا ــ في جهاز الاحتلال الإسرائيلي وكان نائبا لرئيس بلدية القدس. وخاصة الكتاب الأخير لأستاذ التاريخ والعلوم السياسية بجامعة حيفا Ilan Pappe الذي حمل عنوانا واضحا The Ethnic Cleansing of
Palestine وهو الكتاب الذي أثار عليه عاصفة دفعته قبل أيام فقط إلي قرار بمغادرة إسرائيل ليقيم في بريطانيا
ليتمكن من مواصلة كتابة تاريخ بلاده في «مؤسسة أكاديمية أكثر انفتاحا ونزاهة» مشيرا إلي أن «المجتمع الإسرائيلي مجتمع عنصري وانعزالي وعاجز عن فهم تاريخه وعن الاعتراف بجرائمه..».
ذكرتني وقائع جلسة الاستماع الأمريكية، وكان أحد المتحدثين أمامها شبل تلحمي الأستاذ بجامعة ميريلاند، بتقرير ديموجرافي يفيد بأن عدد السكان الفلسطينيين في فلسطين التاريخية في نهاية عام 2003 بلغ أربعة ملايين و600 ألف ، منهم 7،3 مليون في الضفة والقطاع و900 ألف داخل ما يسمي الخط الأخضر فلسطينيو 48 بينما عدد اليهود هو 5 ملايين و100 ألف. وأن عدد الفلسطينيين في عام 2005 وصل إلي 1،5 مليون فلسطيني مقابل 3،5 مليون يهودي، أما بحلول عام 2010 فمن المتوقع أن يصبحَ الفلسطينيون أغلبية 2،6 مليون في مقابل 2،5 مليون يهودي وهو المعدل الذي يعني استمراره أن يصل عدد الفلسطينيين في عام 2020 إلي 2،8 مليون مقابل 4،6 مليون يهودي.
ويحكي تاريخ اليهود القريب كم كان مسكونا دائما بالديموجرافيا. ويحكي كيف شغل هاجس «المسألة الفلسطينية» فكر الصهيونية منذ نشأت قبل قرن من الزمان، بالضبط كما شغلت «المسألة اليهودية» ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية. ومع التسليم باختلافات في السياق والدوافع، إلا أن المذابح والطرد والترحيل القسري ظلت الأساليب الأقرب، أو الأسهل، أو التي لامفر من اللجوء إليها !
«نريد فلسطينا بدون عرب .. أرضا بلا شعب» هكذا كان مبدأ لجنة الترانسفير في الأربعينيات. وأيامها أوضح زئيف جابوتنسكي في نوفمبر 1939 : «ليس هناك خيار..يجب أن يخلي العربُ المكان لليهود..».
في عام 1947 كما نعلم جميعًا صدر قرار التقسيم الشهير عن الأمم المتحدة. وبغض النظر عن تفاصيل كثيرة، بعضها للأسف نسيناه، كان معني القرار «ديموجرافيا» أننا أمام دولتين: دولة يهودية علي 54%، من مساحة فلسطين، لمن يملكون 5% فقط منها، ونصف سكانها عرب، ودولة عربية علي مساحة 46% لمن يملكون 95%
ويحكي لنا المؤرخون الإسرائيليون انظر القائمة أعلاه كيف كان علي قادة الدولة الناشئة تصحيح الخلل الديموجرافي. بالاعتماد الرسمي لسياسة «الترويع» التي كانت قد بدأت فعلاً في ظل صمت أو تواطؤ من سلطات الانتداب البريطانية. وعرفت القري الفلسطينية «البسيطة» المذابح المنظمة المتوالية التي تولت مسؤوليتها في ذلك الوقت المنظمات العسكرية التي أنشأها وقادها مناحيم بيجين وإسحاق شامير.
لم تكن حرب 1948 قد بدأت بعد، وهي الحرب التي يُلقي الإسرائيليون عليها مسؤولية نشأة مشكلة اللاجئين، حين أخذت خطة «دالت» الصهيونية طريقها للتطبيق نشرها وليد الخالدي، وفصلها بنفنيستي في كتابه The Buried History of the Holy Land وتقضي الخطة التي وضعها بن جوريون بأن يقوم جيش من الصهاينة يصل عدده إلي 65 ألفا من الجنود المدربين، بتدمير المجتمع العربي في فلسطين، بحيث تبقي لليهود «أرضا بلا شعب» مع الإبقاء علي القوات في القري المحتلة لمنع أية محاولات لعودة أهلها إليها.
وفي كتابه يحكي بنفنيستي المؤرخ الإسرائيلي لا غيره كيف جرت مذبحة دير ياسين علي بعد خمسة كيلومترات فقط من مكتب المندوب السامي البريطاني. وكيف شهد بعينيه عندما عُرض الناجون من المذبحة بملابسهم الرثة وحالهم البائسة في شاحنات تطوف بشوارع القدس الغربية ليتفرج عليهم اليهود ويشتموهم ويحقروهم ويبصقوا عليهم، في مشهد من أفظع مشاهد بربرية العصور الوسطي. كما يصفه سلمان أبو سته الذي ناقش ماكتبه بنفنيستي تفصيلاً في «وجهات نظر» قبل سنوات آخذا عليه تجاهله لما فعله رابين في اللد والرملة بعد احتلالهما؛ حين أخرج سكانهما في قافلة من ستين ألفا في عز الصيف اللاهب رمضان/يوليو 1948 ومن يتوقف لشرب ماء يُطلق عليه الرصاص. ولكم أن تتصوروا «المشهد» الذي حُفر في التاريخ «فلسطينيًا» بامتياز؛ تساقط المتاع علي جانبي الطريق، ثم تساقط الأطفال ثم الشيوخ... كم مرة خرجت قوافل الفلسطينيين علي مدي الستين عاما. «لاجئين إلي المخيم.. ولاجئين من المخيم».
هل ابتعدت بنا رواياتُ التاريخ، وأتربة الوثائق والأوراق القديمة عن رائحةِ الدماء البريئة الطازجة لبنانية أو فلسطينية في «نهر البارد»..؟
قبل ستة أعوام كاملة كان محمد حسنين هيكل يكتب لهذه المجلة ــ علي حلقات ــ قراءته المتعمقة للوثائق الإسرائيلية. ثم كان أن اندلعت انتفاضة الأقصي، وتداعت الأحداث متلاحقة ومتسارعة. وبدا ــ حسب وصفه ــ «أن أجواء المنطقة قد دهمها وهجُ حريق حاول بعضُهم إطفاءه بخراطيم دم. ثم جرب غيرُهم إنقاذ عواقبه بمؤتمرات «إسعاف» هرولت علي عجل. تجربُ طبًا ينقصُه العلم وتنقصُه الوسائل، وفي بعض الأحيان تنقصُه الإرادة»
وأذكر أنني وقتها أكتوبر 2000 كنت قد سألته إذا كان ينوي الكتابة عما يجري من صدام بين «الحقوق» و«الحقائق»..؟ وكان ضمن رده يومها، والذي سجله في ملاحظة علي هامش مقاله: «إن قراءة الوثائق، وضمنها الوثائق الإسرائيلية تظل في تقديري ــ إذا توافرت لها الشروط ــ أكثر اتصالا بالحقيقة مما يجري الآن علي مسرح الحوادث. ومعظمه تداعيات لأسباب نسيناها أو آثرنا أن ننساها. وظني ــ والكلام مازال للأستاذ ــ أن قراءة الوثائق هذه اللحظة عودة إلي أصول الصراع أعتبرها الآن لازمة. فالفروع فيما أخشي ألهتنا عن الجذور. وخليط الأصوات والألوان وتضارب الصور أنسانا جميعًا أن هناك أسسًا وقواعدَ محددة وحاكمة. وأن العودة إلي هذه الأسس والقواعد مطلوبة. والوعي بها حيوي، وإلا تواضع المعني وتنازلت القيمة...».
أتذكر «ملاحظة الأستاذ» عن أهمية العودة إلي الأصول والأسباب، وأنا أشاهد صور قوافل الهاربين من «جحيم نهر البارد».. وطوابير المشيعين يوميا في غزة.
وأتذكر الحكايات القديمة الموجعة «المقبورة» تفاصيلها بين صفحات الكتب، والمدفونة ذكرياتها في صدور أجيال أتعبتها الأوهام والسنون، وضيعتها «خرائط الطرق». والتي ــ رغم أنها أصل كل ماجري ــ بدا للأسف أنها بعيدة عن حسابات أولئك الساسة المنصتين باهتمام في جلسات الاستماع الأمريكية. ونرجو ألا تكون بعيدة أيضًا عن «عقلانية» أولئك المتأهبين للجلوس علي طاولة مفاوضات؛ يراد لها أن تلتئم علي عجل «لتقر» حلا ينهي للأبد كل حق في المطالبة بحق ثابت أو أرض ضاعت.
هل بعيدٌ كل ذلك عما كشف عنه أخيرا «أليستر كروك» رجل الاستخبارات البريطانية السابق المَعني بملف الشرق الأوسط من تفاصيل دقيقة لخطة «اليوت ابرامز» نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي التي خصص لها 86 مليون دولار أمريكي، وتفاهم فيها مع أطراف محلية. وهي الخطة التي تستهدف إقصاء حماس، التي أصبحت «بعد أن ذهب عرفات» العقبة الباقية علي الطريق؟
رغم كل شيء، قد لا يستطيع أحدُنا أن يثبتَ بالدليل القاطع أو أن يعرفَ علي وجه اليقين لونَ الأصابع المختفية في رمال غزة أو في نهر البارد. ولكن يبقي الثابت أن هناك بشرًا يدفعون الثمن.
أرجوكم لا تهتموا فقط بقراءة مابين السطور. اقرأوا التاريخ.. وأيضا اقرأوا الصور.