«.. قـَالَ يـاوَيلَتَي أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغـُرَاب..»
سورة المائدة- الآية31
قبل أشهر قليلة، بثت وكالات الأنباء صورتين متزامنتين متناقضتين تناقض الشرق والغرب...
الصورة الأولي أظهرت الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد جالسا إلي منصة«المؤتمر العالمي لمراجعة الهولوكوست»، وسط كوكبة من المؤرخين الداعين إلي إعادة النظر في «أسطورة المحرقة النازية».
أما الصورة الثانية فكانت لكاتب أمريكي شاب من أصل يهودي يدعي جوناثان ليتل، راح ينفث دخان السيجارييو لأعلي، في غير مبالاة علي طريقة جان بول سارتر أمام عدسات المصورين، بعد أن فاز عمله الروائي الأول* «Les Bienveillantes» المترفقات» بأكبر جائزتين أدبيتين في فرنسا جائزة الأكاديمية الفرنسية وجائزة جونكور2006. وفي ظهر الصورة ترد ملحوظة قصيرة مفادها أن الرواية المكتوبة باللغة الفرنسية في تسعمائة صفحة من القطع الكبير، والتي وزعت في ستة أشهر حوالي ثمانمائة ألف نسخة، تصور لحظة بلحظة مأساة الـ «شواه» وهو الاسم العبري للإبادة النازية لليهود. الصورة الأولي احتفال للإنكار، أما الثانية فهي احتفاء بالذكري.
ولو كنتَ ممن يصدقون الصور، ويرون بعين الهوي، ويحكمون وفقا للجزء الظاهر من جبل الجليد علي صفحة الماء الوادع، فستحمد جهود أحمدي نجاد، حتي وإن كان مؤتمره العالمي محض مغازلة انتخابية، وستنفر في المقابل من المدعو جوناثان ليتل، لأنه أمريكي يحصد الجوائز الفرنسية، ولأنه يهودي يكتب عن الهولوكوست، ولكون اللغة التي يخاطبك بها وجهُه في الصورة تقلقك. ففي الصور القليلة التي جاد بها ليتل علي مصوريه، تبدو ابتسامته وكأنها محض تقلص في عضلات الوجنتين يصحبه ارتخاء في عضلات الشفتين، أما العينان فترسلان في جمودهما نظرة غامضة، كأنها نظرة اتهام، قد يسارع البعض إلي إدراجها في إطار الاستعلاء المهذب، ذلك الذي يصيب الشباب عادة حينما يأتيهم النجاح هائلا ومباغتا ومستحقا، قبل أن تشتعل في رأس الواحد منهم شعرة بيضاء.
لكن المظاهر ــ كما تعرف ــ خادعة.
فإن أردت الحقيقة، فاعلم أن النظرة الجامدة علي وجه ليتل هي تلك النظرة التي يعود بها غالبا الإغاثيون والصحفيون ــ إذا ما قدرت لهم العودة ــ من نقاط الحروب والنزاعات الساخنة. هي نظرة من اقترب ورأي، فأفزعته تجليات الطبيعة البشرية في أحط صورها،وأرهبته قسوة الجنون قبل أن تسلبه بسمة عينيه إلي الأبد. فقبل أن يكتب ليتل عن الإبادة أتيح له أن يطالعها وجها لوجه، في البوسنة وفي الشيشان وفي رواندا وفي الكونغو وفي سيراليون وفي أفغانستان، حيث عمل متطوعا لأكثر من سبع سنوات ضمن حركة «العمل من أجل مكافحة الجوع»الإغاثية.
نعم، المظاهر خادعة. وإن أردت الحقيقة، فاعلم أن رواية «المترفقات» تعمد إلي إعادة جرائم الإبادة النازية إلي أبعادها التاريخية والحضارية الحقيقية. فهي تسحب البساط من تحت كثير من الأقدام التي استمرأت دور الضحية وأرادت احتكاره لنفسها دون غيرها؛ وفي ذات الوقت، تمسك هذه الرواية القاسية بخطافات من حديد لتسحب بها، إلي داخل قفص الاتهام، أطرافا كانت تحلق بأجنحة البراءة فوق مسرح الجريمة. ذلك أن «المترفـقات» تعبث في غير ترفق بأيقونة الهولوكوست «المقدسة»،وتعيد تفسير العلاقة بين الضحية وجلادها من منظور إنساني عالمي يدين منظومة الحضارة الغربية الحديثة، المنفصلة عن القيمة، المستندة إلي العلمانية المادية المتطرفة. بل إن رواية ليتل تذهب،علي هامش مساءلة ميتافيزيقية كبري حول انزلاق الإنسان إلي الشر، إلي تحديد نقاط الالتقاء الفكري والبنيوي بين النازية والصهيونية، وتعرض فيما تعرض وسط دهاليز بيروقراطية الإبادة، لمحة مختلـَسة من أحد فصول التعاون السري بين النازيين والصهاينة. وهو ما لم يشر إليه أي ناقد غربي من قريب أو بعيد. فكلهم أرادوا اختزال هذه الرواية الملحمية الضخمة بهدف تحويلها إلي لبنة أخري من لبنات «ياد فاشيم»... فكانت محاولات القراءة المتصهينة المبتسرة، وكانت ردود أفعال القلق المكتوم،وكان الاحتفاء المفتعل الصاخب. ذلك أن بعض الهامات لا يصلح دفنها إلا وسط السحاب.
ثلاث إناث جسيمات، مجنحات، شعرهن دغل من الأفاعي، وعيونهن جمرات الجحيم، في يد كل منهن شعلة موقدة، وأصواتهن تبعث علي الجنون. أولئك هن ربات القصاص في الميثولوچيا الإغريقية، اللاتي ظهرن في تراجيديا إيسخيليوس525 ق.م.-456 ق.م. كأدوات للقدر في إرساء العدالة، يتربصن بمن يرتكبون جرائم ضد الضمير الإنساني، فيطاردنهم في كل مكان إلي أن يهلكنهم.ولشدة بأسهن، أطلق عليهن العامة اسم «المترفقات»، خوفا من بطشهن ودرءا للأذي.
هو إذن عنوان مقترَض من عالم الأسطورة ذلك الذي اختاره جوناثان ليتل لعمله الأدبي الأول، الذي ظل يفكر في موضوعه طوال اثنتي عشرة سنة، منذ أن حركت خياله صورة فوتوغرافية قديمة لما تبقي من جثمان «زويا كوسم ودميانسكايا»، المناضلة الروسية الشابة، التي اتخذتها الدعاية الستالينية أيقونة للحرب، بعد أن شنقها النازيون في مدينة «خاركوف»بأوكرانيا، وألقوا بها وسط الثلوج، حيث نهشتها الكلاب المستذئبة...
تناقض عميق حملته الصورة بين جمال الفتاة الرباني وبشاعة ما تصنعه يد الإنسان. تناقض حفلت به يوميات الإغاثي الأمريكي الشاب حين كانت مهامه تضطره للتعامل مع قتلة ومجرمين من عينة نيكولا كولييفيتش نائب رئيس جمهورية الصرب إبان أزمة البلقان، الذي كان يحفظ أشعار مسرحيات شكسبير، ويهوي الموسيقي الكلاسيكية والفنون الجميلة،ويمارس التطهير العرقي بمنتهي الهدوء والالتزام.
وعلي طريقة ستوديو الممثل، حيث تـُستعار التجربة الذاتية في التشخيص، وبعد عامين من البحث الوثائقي الدقيق في سجلات الأرشيف الضخم الذي أتيح إثر تفكك الاتحاد السوفيتي، وبعد تفقد التوبوجرافيا الواقعية للأحداث ما بين أوكرانيا وبولندا وبلاد القوقاز، كتب ليتل قصة الجنون النازي من منظور مركب، يحيط بكتابات راؤول هلبرج وكريستوفر براونينجوايان كرشو التاريخية،ويحاور فلسفة «اعتيادية الشر» الشهيرة المخيفة لعالمة الاجتماع حنا آران،ويفند فكرة دوستويفسكي حول «الجرائم العظيمة»،ويأسف لضياع المزاوجة الأثيرة لتولستوي مابين الحرب والسلام، ولا يعترف حتي بصراع قوي الخير والشر الخارقة داخل الإنسان علي طريقة نورمان ميلر. فبالرغم من كلاسيكيتها الظاهرة، وانحصار أحداثها ما بين عامي1941و1945، تبشر رواية «المترفقات»بحالة رفض المرجعيات التي تعيشها الحضارة الغربية اليوم.
«إخوتي البشر..»
في تسعمائة صفحة من القطع الكبير- كما أسلفنا-اختفت منها الفراغات البينية، وافتقر النص المطبوع عليها إلي التقسيم إلي فقرات،و صُفت الجمل الحوارية فيها الواحدة لصق الأخري علي نفس السطر، تعتقلك رواية «المترفقات»، بحيث لا ترتاح العين فوق مساحة بيضاء، أو يستسلم العقل لحظة للسكون. فالمبني علي قدر المعني،والمعني ارتجاع لمعتقل كبير، يتردد فيه صدي صوت بطل الحكاية، الجلاد الراوي «ماكسميليان آو»، المثقف العاشق للآداب والفلسفة والموسيقي، الحاصل علي شهادة الدكتوراه في القانون الدستوري والضابط النازي في قوات الصاعقة الـ «اس اس»، الذي شارك في كتائب الموت لتصفية أعداء الرايخ الثالث، وشارك في التنفيذ الممنهج لخطة «الحل النهائي» للمسألة اليهودية،وشهد الحرب علي الجبهة الشرقية،وأصابته رصاصة في رأسه في معركة «ستالينجراد»، رصاصة لم تقتله وإنما فتحت في أعماقه تساؤلات أخلاقية حول غائيات الحرب ومرجعيات القتلة، تساؤلات لم تمنعه عن الإشراف علي تحسين «القدرة الإنتاجية للمخزون البشري» في معسكرات الاعتقال، أو عن السعي إلي «ترشيد فاعلية سلسلة العمل» في معسكرات الإبادة، قبل أن يهرب إلي فرنسا بعد سقوط برلين، وبعد أن انحدر إلي أسفل درجات السلم الإنساني، حيثما فضاء العدم ولا قاع تحت القاع. ليجلس بعد خمسين عاما ليكتب مذكراته، في سبعة فصول، اختير لكل فصل منها اسم نسق موسيقي، وكأننا بصدد معزوفة «فاجنرية» تردد بين السطور إيقاعات رقصة الموت.
«إخوتي البشر، دعوني أقص عليكم كيف حدث ما حدث. لسنا بإخوتك، هكذا سيأتيني جوابكم، ولا نريد أن نعرف كيف حدث ما حدث، هكذا ستقولون... لكن الأمر يعنيكم: سترون بأنفسكم أن الأمر يعنيكم»1 ص11. بهذا الخطاب الذي يشير إلي رابطة الدم الأزلية بين البشر بقدر ما يذكـِّر بالدم الذي يلوث هذه الرابطة منذ الأزل، تبدأ الرواية. وها هو الراوي يعلن منذ البداية أن الحديث لن ينصب فقط علي «ما حدث»، بل سيمتد بظلاله إلي ما يحدث.
وعلي غرار فورست جامب في الفيلم الأمريكي الشهير، يشهد ماكس آو أهم الأحداث التاريخية التي تمر بها بلاده تحت الحرب العالمية الثانية، ويقابل أبرز الشخصيات السياسية والعسكرية التي تكونت منها العصابة النازية. وهو لن يكتفي بمقابلتهم ومصافحتهم مثلما فعل بطل فيلم روبرت زمكيس، وإنما سيعمل معهم وسيرسم لكل منهم بورتريه متحرك داخل سلسلة القيادة النازية، بملابسهم العسكرية البنية وخوذاتهم التي تحمل شارتي النسر والجمجمة. فها هو هنريش هملر مدير الجستابو والقائد الأعلي لقوات الصاعقة، بنظارته المستديرة وعينيه المتقاربتين، الذي يستبطن بهدأة بال الفلسفة المادية النفعية، وأدولف آيخمان التكنوقراطي ذو العقل الأداتي محدود الذكاء، الذي يفهم العامل الأخلاقي لـ «كانط»علي أنه دعوة لتحقيق حرية الإرادة الإنسانية من خلال إتباع الأوامر العليا والالتزام بحرفية التعليمات. وأيضا ها هو ألبرت شبير، وزير التسلح المراوغ،وها هما الشرس والقبيح: راينهارد هيدريتش رئيس المكتب المركزي لأمن الرايخ، وخليفته ذو الوجه المشوه ارنست كالتنبرونر، وها هو هانز فرانك الحاكم العسكري لبولندا،صاحب فكرة إنشاء حديقة انثروبولوجية ترفيهية لعرض نماذج حية من الشعوب المنقرضة، ورودولف هوس قائد معسكر أوشفيتز، شديد الانضباط الذي يكسو زوجته وأولاده بملابس المعتقلين المصادرة قبل تصفيتهم. وبالطبع لا يكتمل هذا «الكاستينج» الجهنمي من دون ظهور أدولف هتلر شخصيا، وخطبه الحماسية وخصلة شعره الحائرة فوق جبينه، ويديه المنفعلتين،وشاربه الصغير.
وتغري شخصية ماكس آو بالتحليل النفسي الفرويدي. فهو ابن لأب غائب، يكره أمه، ويرتبط في صباه بعلاقة غير طبيعية بأخته التوأم « أونا»،ويتعرض للتحرش في المدرسة الداخلية، ليصبح من ثم شاذا جنسيا. ومع انغماسه في أوحال الحرب، يكره آو النساء والرجال علي حد سواء ليتحول إلي آلة للقتل، يقتل بوعي وغير وعي، حتي أنه لا يذكر كيف ومتي قتل أمه وزوجها...
نعم، كان فرويد ليسعد بتحليل هذه الشخصية النموذجية للانحرافات السلوكية . لكن مفتاح الرواية ليس موجودا في علم النفس بقدر ما هو موجود في علم الاجتماع. فالرواية لا تقدم سلوكا فرديا لقاتل - أو حتي لمجموعة من القتلة- بقدر ما تفسر الإبادة من منظور مجتمعي، صار القتل وفقا له بمثابة غريزة أساسية، بعد أن تم تحييد حسه الأخلاقي، وتحويل كل فرد فيه إلي ترس صغير في آلة الفتك العظمي، وتجريد فعل كل فرد من بعده الإنساني. ففي مقدمته الشديدة الاقتحام، يكتب الراوي ماكس آو: «إن الآلة الإباديةللدولة مكونة من نفس نوعية أكوام الرمل الهش الذي تطحنه حبة ً حبة. فهذه الآلة موجودة لأن الجميع قد ارتضوا وجودها... ففي غياب رجال من نوعية هوسوآيخمانوجوجليدز وفيشينسكي، وأيضا في غياب محولي القطارات، وصناع الاسمنت، ومحاسبي الوزارات، يصبح ستالين أو هتلر مجرد قربة ممتلئة بالكراهية وبالإرهاب العاجز. فلقد صار من نافلة القول اليوم أن نذكر أن الغالبية العظمي لمنفذي إجراءات الإبادة لم يكونوا ساديين أو غير أسوياء. .. فالخطر الحقيقي إنما يكمن في الناس العاديين الذين تتكون منهم الدولة. الخطر الحقيقي علي الإنسان هو أنا وأنت» ص27- 28.
ويظل ماكس آو يردد: «أنا إنسان كغيري من البشر، أنا إنسان مثلكم تماما». ويقول: «لست شيطانا. فكل ما فعلته كانت وراءه ذرائع، وسواء كانت ذرائع صالحة أم طالحة، فهي في المحصلة ذرائع إنسانية. فالقاتل إنسان، تماما مثلما أن القتيل إنسان.وهذا هو المخيف»ص30.
لكن مهلا! فـ«الهر دكتور آو» ليس إنسانا عاديا، فهو مرآة مجتمع تطرف في اعتناق العلمانية الشاملة، وانزلق ولاؤه من الإيمان بمطلق ثابت متجاوز للمادة والتاريخ، إلي تقديس الفوهرروعبادة «الفولك»الشعب العضوي. ويعترف الراوي بهذا الانزلاق العقائدي المتدرج فيقول: « ..كانت المرجعية الأسمي التي بقيت طويلا في المخيلة هي فكرة الإله، ذلك الإله الخفي ذو الجبروت، ولقد انزلقت تلك المرجعية لتحتل الكيان المادي للملك، بصفته ممثلا للحق الإلهي؛ وعندما فقد الملك رأسه، انتقلت السيادة إلي الشعب أو إلي الأمة، واستندت إلي «عقد» متخـَيل، ليس له أساس تاريخي أو مادي، وعلي ذلك فهو مجرد مثل فكرة الإله. لكن الاشتراكية القومية الألمانية أرادت أن تثبت دعائم المرجعية في فكرة الشعب العضوي «الفولك»، وهو ما يعد حقيقة تاريخية، فالسيادة لـ «الفولك»، والفوهرر يعبر عن هذه السيادة أو يمثلها أو يجسدها. ومن هذه السيادة يستقي القانون... وليس مستغربا أن المناهضين القلائل الذين عارضوا النظام كانوا في الغالب من المؤمنين بالله، الذين احتفظوا بمرجعية أخلاقية مغايرة لمرجعيتنا، فكان أن تمكنوا من التفرقة بين الخير والشر تبعا لسند آخر غير الفوهرر..»ص544-545
وفي مجتمع كفر تماما بالإله، يفقد الشيطان وظيفته، وتنتفي أسباب وجوده، لأن الصراع بين الخير والشر يختفي. وبالفعل تنتهي رواية «المترفقات» بأن يقتل ماكس صديقه توماس، لاحظ معي الجناس اللفظي بين الاسمين «ماكس وتوماس» لاسيما أن اسم توماس يعني باللغة الآرامية القرين أو التوأم. توماس هو إذن قرين ماكس في رحلته الي الهاوية، هو ذلك «الساحر» الباسم المتأنق الذي يجيد فنون الإغواء، والذي يظهر دائما في الوقت المناسب في المكان المناسب لكي ينقذ بطل الرواية، بينما هو في الواقع يزيده انغماسا في الوحل. وتوماس هو بعد الشخص القادر علي الإتيان بالعجائب: فهو يصاب علي ميدان معركة ستالينجراد إصابة خطيرة في بطنه، حتي أن أحشاءه تخرج كاملة من الجرح الغائر، فيلملم أحشاءه بيده ويمشي بجوار صاحبه دون أن يفقده الألم ابتسامته. وفي مشهد آخر نراه يهادن طفلا مسلحا اسمه « آدم » بأن يتيح له إجراء مكالمة هاتفية مع هتلر شخصيا عبر هاتف مصنوع من علب الأغذية المحفوظة.
وفي المشهد الختامي للرواية، التي تنتهي في حديقة الحيوان، مثل رواية «عنبر مرضي السرطان» لسولچنيتسين، يمسك ماكس آو بقضيب حديدي ويهوي به فوق رأس الشيطان توماس هاوزر، فيرديه قتيلا، لينزع عنه زي عمال السخرة الفرنسيين وبطاقة الهوية الفرنسية المزورة ومبلغا كبيرا من المال، بها سيتمكن ماكس من الهرب عبر الحدود، وبها تجاوز جريمته كل الحدود. وهناك، وسط الحيوانات المحتضرة والميتة، وسط الجثث المتناثرة، وآثار الدمار، عثرت عليه ربات القصاص، المترفقات. فكان عقابه أن يحيا مابين وحدته الأبدية وألم الخزي والتذكر وحزنه الذي لن يبرد أبدا، هاربا من الأيام، مستترا برداء مسروق من الشيطان.
عن الضحية والجلاد:
حينما عـُرض مخطوط رواية «المترفقات» علي دار نشر «كالمان ليفي» الفرنسية المعروفة بتوجهاتها الصهيونية الصريحة، قوبل بالرفض. ولقد فسر مدير الدار جان إتيان كوهين ذلك القرار قائلا: «إن ذكري ضحايا اليهود قد طمست تماما في رواية ليتل بينما يعد إحياء تلك الذكري من صميم المهام التي نضطلع بها في مؤسستنا».
والحق أن السيد كوهين محق تماما فيما ارتآه. فيهود «المترفقات» كومبارس يكاد يكون صامتا في كثير من المشاهد المؤلمة التي يساقون فيها إلي القتل ضمن فئات أخري قمعها النظام النازي. فلقد اختار ليتل أن يحلل الإبادة النازية خارج الحدود التي فرضها الخطاب الغربي الصهيوني علي عملية إدراك تلك الحادثة، بحيث لا يفتعل التعاطف مع اليهود وحدهم، فهو لا يسعي لأن تكون روايته بكائية أخري من عينة «مذكرات آن فرانك». فالمذبحة الأولي التي تظهرها لنا الرواية مذبحة اقترفها اليهود في مدينة «لوتسك» بأوكرانيا قبل أن ينسحب منها الروس. ويشرح لنا ليتل، علي لسان ماكس الراوي، كيف كوَّن اليهود هناك جماعة وظيفية مثلت الذراع الضارب للحكم الستاليني للقضاء علي البولنديين ولاستغلال الفلاحين الأوكرانيين. وبسقوط تلك الأراضي السوفيتية في أيدي الألمان، يروي لنا ماكس كيف ترك الغزاة الباب مشرعا أمام ربات القصاص، ممثلة في الشعب الأوكراني، الذي راح ينتقم بجنون من اليهود في كل مكان، في انتفاضة محمومة تثأر لسنوات طويلة من القمع والبطش والاستغلال.
هذا ويرفض ليتل الرؤية الاختزالية التي تجعل من اليهود وحدهم ضحية للجرائم النازية، فيقول علي لسان الراوي:«أرجو ألا تفاجأوا كثيرا لكوني أعمد هكذا إلي التقليل من أهمية اللاسامية كسبب رئيسي لقتل اليهود: فلا تنسوا أن سياساتنا كانت تذهب لأبعد من ذلك... ففضلا عن اليهود، كنا قد انتهينا أيضا من تدمير كافة المعوقين جسديا وذهنيا من الألمان الميئوس من شفائهم، وكذلك من الغالبية العظمي للغجر، ومن ملايين من الروس والبولنديين»ص615. وفي مشهد حول رقعة الشطرنج بين مولر وآيخمان، حيث الوحشية الباردة المرشدة تتباري مع العقلية البيروقراطية العمياء، يدور الحديث عن «الحل الاجتماعي النهائي» لكل مشكلات الدولة النازية. فيشرح مولر كيف يزمع الجهاز المركزي لأمن الرايخ RSHA التخلص من المجرمين والمهمشين والمشردين ومدمني الخمر والشواذ جنسيا والعاهرات ومرضي السل ومرضي القلب إما بقتلهم أو بتعقيمهم حتي لا يتسببوا في إضعاف صفات الدم الآري النقي؛ حتي الجرحي الألمان في الحرب، عرف ماكس كيف كانوا يؤخذون من علي الجبهة إلي حافلات الغاز.وهو ما جعله يكتب: «إن تدمير قوم موسي بفعل جهودنا لم يكن نابعا تماما من الكراهية العمياء لليهود .. بل كان مرجعه بالأساس قبول راسخ ومقنن لمبدأ الالتجاء الي العنف بغية حل مختلف مشكلاتنا الاجتماعية. .. ولو أمعنا تدبر ذلك لأمكن لنا إدراك أن ذلك العزم، أو فلنقل تلك القدرة علي القبول بمقاربة جذرية للمشكلات إنما تولدت بفعل ما تجرعناه من هزائم في الحرب العالمية الأولي». ص616.
لكن ماكس يعلم جيدا أن هذا العنف العنصري الدامي الذي اتفقت عليه الأمة الألمانية خلف قائدها ليس انحرافا تنفرد به دون غيرها من القوي الاستعمارية الغربية. إذ يؤكد الراوي النازي قائلا: «من الخطأ الفادح أن نظن أن الحس الأخلاقي للقوي الغربية يختلف كثيرا عن حِسِّـنا ..» ص615 والأمثلة لا تنضب علي لسان ماكس: « لنذكر-كما يقول- عمليات الإبادة الهائلة التي قامت بها بلجيكا في الكونغو،وسياسة البتر المنظم التي انتهجتها هناك، أو لنذكر السياسة الأمريكية، الرائدة والنموذج الأول لنا، التي بشرت بفكرة خلق مجال حيوي عن طريق القتل والتهجير القسري، فنحن كثيرا ما ننسي أن أمريكا لم تكن حقا تلك «الأرض العذراء»، بيد أن الأمريكيين قد نجحوا حيثما أخفقنا نحن. وهذا هو ما يصنع كل الفرق. حتي الإنجليز، ..، فقد أتقنوا شيئا فشيئا كيفية اللعب بالعصا والجزرة علي التبادل، لكن علينا ألا ننسي أنهم لم يهملوا أبدا اللجوء إلي العصا، مثلما أتيح لنا أن نري ما حدث في مذبحة «أمريستار»،وعندما قصفت كابول، وغير ذلك من الحالات التي لا تُحصي بقدر ما تُنسي». ص543. ولا ينسي الراوي تذكير القارئ بممارسات الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وبالانتهاكات الأمريكية لحقوق الإنسان لضمان سلامة مصالحها الاقتصادية، أو للسيطرة علي بؤر النفوذ الشيوعي. كل تلك الأمثلة إنما يضربها الراوي لا للدفاع عن جرائم ألمانيا الهتلرية، وإنما ليقرر حقيقة أن الحقبة النازية لم تكن سوي بقعة أخري وسط بقع لا حصر لها علي ثوب الحضارة الغربية الملطخ بالدماء.
وعلي شفا خندق مقبرة جماعية، وقف ماكس ليطلق رصاصة الرحمة علي طفل صغير يتلوي من الألم، وعندما سقط الولد عند قدميه، فاتحا عينين زجاجيتين صوب السماء، تذكر ماكس مشهدا من طفولته، حين كان يلعب مع صديق له،وهما في مثل عمر هذا الولد، لعبة رعاة البقر والهنود الحمر...
وهنا، لنخرج قليلا عن النص لنتعرف علي رأي الكاتب في الصورة الحضارية لوطنه، الولايات المتحدة الأمريكية. إن جوناثان ليتل، الذي يحاول منذ سنوات الحصول علي الجنسية الفرنسية، لأنه يشعر«بالانتماء إلي النموذج الأوروبي»، ولأن جواز سفره الأمريكي لم يجلب له سوي المتاعب خلال أسفاره أثناء مهامه الإنسانية، لا يخفي انتقاداته بهذا الصدد. فالبلد الوحيد الذي يرفض ليتل الإقامة فيه، والذي يكره عاداته وعقليته وأخلاقياته ولوبيهاته وسياسته الخارجية ورئيسه، هو الولايات المتحدة. فهو ينتقد بشدة فضيحة سجن أبي غريب، ويصفها بأنها «اللحظة التي حررت التعذيب من القيود المفروضة عليه عالميا». وفي حوار لدورية «لا روفو ليتيرار» La Revue Littéraireيشرح ليتل كيف أتاحت له النظرة الجلية،التي يتمتع بها بطله ماكسميليان آو، فرصة فهم وتشريح كل أنواع الجلادين الذين كانوا من حوله داخل الرواية، ولكن هذا الفهم برأيه لن يغير في الأمر شيئا،فهو يقول: «إن مزيدا من الفهم لن يمنع الأمريكيين من ارتكاب الجرائم الجسيمة التي يرتكبونها- .. فهم لا يملكون فقط القوة العسكرية وإنما لديهم أيضا جيوش من المشرعين الذين تلقوا تعليما أرفع من تعليمي ويقبضون رواتب ضخمة، في مقابل أن يشرحوا للناس أن أعمال التعذيب والاعتقال والسجن المتعسف وغيرها إنما هي أعمال قانونية مشروعة... إن مزيدا من الفهم قد يفيد، لكن يأتي بعد ذلك دور العامل السياسي، فالعامل الاجتماعي الممثل في الجماهير. والجماهير لا تسلك بالضرورة الاتجاه السليم. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، صوتت الجماهير مرة ثانية لصالح بوش، إذ يبدو أنها تحبه كثيرا، وأنها تري فيه صورتها، مهما فعل. فهو متدين ومؤمن بالله،وليس في الإمكان أبدع مما كان. فما الذي يملكه المرء حيال ذلك؟ أنا، عن نفسي، اخترت ببساطة أن أرحل لأعيش في الخارج»عدد ديسمبر 2006.
لا غرابة إذن في أن يكون ألمان «المترفقات» ــ بخشونتهم وعتادهم الثقيل ــ يشبهون الي حد كبير الجنود الأمريكيين في العراق، أو تراهم أقرب شبها الي جنود جيش «الدفاع الإسرائيلي»؟
* «كلنا ألمان»، يجيب ليتل في حديث إذاعي.
* وفي الرواية تجيب «أونا»:« إن أسوأ ما يمكن أن يحدث هو أن اليهود.. لو عاشوا بعد هذه الأزمة، فسينسون معني كلمة يهودي، وسيسعون بكل قوتهم لأن يكونوا ألمان..».
* وفي تصريح لوكالة الأنباء الفرنسيةAFP ، يقول منوشهر متقي وزير خارجية إيران: «إن الذين يدّعون اليوم أنهم مناهضون للنازية، هم أنفسهم عنصريون واستعماريون، وما اقترفته أيديهم لا يختلف عن جرائم النازيين».
* و.. ملحوظة عابرة: الطريقة التي وصفها ليتل في الرواية لتصفية اليهود علي أيدي النازيين هي ذاتها الطريقة التي اتبعها اليهود بقيادة بنيامين بن اليعازر قائد وحدة شاكيد في الجيش الاسرائيلي لقتل الأسري المصريين عام 1967: الأسري في ملابسهم الداخلية يحفرون قبرهم بأيديهم، علي أن يكون القبر خندقًا متسعًا، ثم يصطف عشرة من الأسري علي حافة الخندق، وجوههم قِبـَل القبر، ومن ورائهم اثنين من القناصة، ثم تمر لحظات تُسمع فيها الشهادتان أو مناجاة للمسيحفي حالة أسرانا أو عبارات مبتورة من القادش أو نحيب في وصف ليتل، ومع هدير الطلقات يسقط القتلي في الحفرة، ثم يؤتي بعشرة آخرين، يصطفون علي الحافة، وجوههم قبل القبر،ولكن القبر هذه المرة لن يكون خاليا، ففيه يصطرخ السابقون وهم يعانون سكرات الموت، ثم يعود عواء الرشاشين. وهكذا دواليك. الفارق الوحيد بين النازيين والإسرائيليين هو أن الأوائل كانوا يتجشمون عناء إطلاق رصاصات الرحمة علي قتلاهم، إذ يصف ليتل كيف كان قائدهم يأمر الجنود أن ينزلوا الي الخندق ليخوضوا وسط الدماء والوحل والفضلات الآدمية لكي ينتهوا من مهمتهم بـ«نظافة». أما أسرانا- يا سادة يا كرام- فكانوا يدفنون أحياء.
ما بين النازية والصهيونية:
في مشهد أثار حنق النقاد، يحضر «ماكس آو» خطبة يلقيها هتلر، فتصور له عيناه أن الفوهرر يرتدي فوق ملابسه العسكرية زي حاخامات اليهود.فمن الأسباب الرئيسية التي تسوقها الرواية لتفسير «الهولوكوست» هو التماثل الفكري الواضح بين الألمان واليهود، وهو تماثل يتخطي فكرة التشابه الإنساني بين الضحية والجلاد ليأخذ شكل تطابق يظهر جليا بين أسس الاشتراكية القومية التي تبنتها الحركة النازية والملامح العقائدية العنصرية التي قامت عليها الحركة الصهيونية2. ففي لقاء «ماكس آو» مع الدكتور «ماندلبرود»، صديق جده وأحد أهم «الوسطاء» المسئولين عن تحويل أفكار أدولف هتلر إلي نتائج ملموسة، نقرأ علي لسان هذه الشخصية النازية المريبة هذا المونولوج: « هل تعلم أن مصطلح «الاشتراكية القومية» قد تم صكه في الأصل من قبل رجل يهودي، من رواد الصهيونية، يدعي موسي هس؟ عليك بقراءة كتابه يوما ما، «روما والقدس »، وستري بنفسك. فهو كتاب مفيد للغاية.والأمر ليس مجرد مصادفة عابرة: فأي شيء أقرب إلي فكرة القومية العضوية من الصهيونية؟ فهم مثلنا يعرفون أنه ما من سبيل لوجود الشعب العضوي والدم النقي من دون وجود الأرض، لذلك رأوا وجوب إيصال اليهود إلي الأرض الموعودة، اريتس يسرائيل المطهرة من كل الأعراق الأخري.وبالطبع، تلك كلها أفكار يهودية قديمة. فاليهود هم حقا الاشتراكيون القوميون الأوائل، .. فكل أفكارنا الكبري جاءتنا من اليهود، وعلينا أن نتحلي بقدر من البصيرة لكي نعترف بذلك:ولتذكر مثلا فكرة الأرض بوصفها وعد واستيفاء، ومفهوم الشعب المختار من بين كل الشعوب، وكذلك مفهوم نقاء الدم. .. وعلي ذلك، فاليهود هم من بين كل أعدائنا الأسوأ والأخطر، فهم وحدهم من يستحقون منا عناء الكراهية. لأنهم وحدهم منافسونا الحقيقيون.... فما من مكان علي هذه الأرض إلا لشعب مختار واحد، مـُقدر له أن يسيطر علي الشعوب الأخري..»ص420 -421
غير أن جوناثان ليتل لم يكتف بنثر فكرة التشابه بين الألمان واليهود عبر صفحات الرواية، بل جعل من بين شخصياتها أحد زعماء الحركة الصهيونية الذين تعاونوا مع النازيين لتهجير عدد من يهود المجر إلي فلسطين،وهو رودولف كاستنر1906-19573. وفي «المترفقات»، يظهر كاستنر كشاب متأنق يعامل آيخمان بندية، ويتعاون مع الألمان في صفقة سميت «الدم مقابل البضائع»، قضت في الظاهر بمقايضة عشرة آلاف شاحنة مجهزة للجنود الألمان في مقابل إخلاء سبيل مليون يهودي . وهنا يعلق الراوي تعليقا مهما، إذ يقول: «و كأن بضع شاحنات كان يمكنها أن تغير مسار الحرب.وكم من الشاحنات أو الدبابات أو الطائرات كان باستطاعة مليون يهودي أن يصنعوها لو أننا يوما كان لدينا مليون يهودي داخل المعسكرات؟ » ص731.
وتتكاثف فكرة التماثل النازي- الصهيوني، حتي تظهر في ذلك التماهي الذي رصده الراوي بين شخصيتي آيخمان النازي المتطرف وكاستنر الصهيوني الحاد، إذ يقول: «كان آيخمان مأخوذا ببرود كاستنر وبصرامته الأيديولوجية،وكان يري أن كاستنر لو كان ألمانيا لصار ضابطا ممتازا في شرطة أمن الدولة، وهو ما كان في رأيه أعظم إطراء ممكن. ولقد قال لي آيخمان يوما: « إن كاستنر يفكر مثلنا تماما .فهو لا يكترث إلا للقدرة البيولوجية لعِـرقه، وهو مستعد للتضحية بكل العجائز لكي ينقذ الشباب،والأقوياء، والنساء الخصيبات. إنه يفكر في مستقبل عِـرقه. ولقد قلت له: «أنا، لو كنت يهوديا، لكنت اخترت أن أكون صهيونيا، وصهيونيا متشددا، مثلك يا كاستنر» . » ص733.
ومن حكمة المقادير، التي شاءت أن تكرس هذا التطابق النازي الصهيوني، أن جاءت نهاية آيخمان كنهاية كاستنر. فالأول أعدمته إسرائيل عام 1960 بعد أن اختطفته مخابراتها من الأرجنتين حيث كان ملجأه بعد الحرب،والثاني دبرت اغتياله عناصر في الحزب الحاكم الإسرائيلي بعد أن كاد تورطه في صفقات مشبوهة مع النازيين أن يفضح أسماءً مهمة في الوكالة اليهودية فوضته في هذا التعاون ثم قتلته عام 1957 .
وفي لقاء إذاعي أجراه جاك لوازو مع الكاتب علي قناة «فيفر إف إم»4، تطرق جوناثان ليتل إلي ذكر اتفاقات سرية بين يهود الهاجاناه والحكومة النازية أثناء عمليات إبادة يهود شرق أوروبا،وشرح كيف سرت هذه الاتفاقات وفق آليات شديدة التعقيد، عبر دهاليز خلفية، فضمنت للصهاينة الحصول علي قروض ضخمة من الحكومة النازية في مقابل غض الطرف عن الممتلكات التي كانت تـُصادر من يهود أوروبا قبل تصفيتهم. كانت تلك- كما يؤكد ليتل في الحديث نفسه- وسيلة لإجبار اليهود علي الهجرة إلي فلسطين. فما من دولة كانت لتقبل توطين يهودي مجرد من كل ما يملك إلا الدولة الصهيونية التي مثلتها في ذلك الوقت الوكالة اليهودية. فمن أتي «الأرض الموعودة» من يهود أوروبا كان يهنأ بقروض النازيين، أما من رفضوا الهجرة فلقد واجهوا مصيرهم المعروف، قربانا وثنيا لقيام الدولة العبرية الوليدة.
هكذا تتراءي النازية والصهيونية في الرواية كوجهين لعملة واحدة: عملة الحداثة الدارونية النيتشوية التي يعرفها باقتدار الدكتور عبد الوهاب المسيري كاتبا: «حينما تسود النسبية ويتحرر العالم من القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، تظهر قيمة واحدة قادرة علي حسم الأمور، وهي القوة! ولذا فنحن نسمي الحداثة المنفصلة عن القيمة بأنها الحداثة الدارونية. ونحن نذهب إلي أن كلا من الصهيونية والنازية هما تعبير عن هذه الحداثة. »5
وفي فقرة بديعة من الرواية، في ليلة أطل فيها «ماكس آو» علي الهوة السحيقة التي تشرف عليها بلاده، والتي توشك أن تقع فيها الإنسانية جمعاء، يري ماكس في منامه نباتا شيطانيا بالغ التوحش يلتهم الأرض بما عليها من كافة مظاهر الحياة والتاريخ والحضارة، لاحظ معي المغزي الحداثي للصورة التمثيلية التي تشير إلي انسحاق الذات الإنسانية في عالم نـُزعت عنه القداسة. وعندما يصحو ماكس من سباته يتراءي له العالم وكأنه غابة الذئاب التي بشر بها توماس هوبز، حيث «الجميع ضد الجميع»، فينخرط في هذا المونولوج الداخلي: «..هذا هو قانون الحياة، فنحن أقوي من الأحياء الأخري، وبمَـلكنا أن نتحكم في حياتها ومماتها كيفما شئنا، فالبقر والدجاج وسنابل القمح إنما وجدت علي الأرض لمنفعتنا، ومن الطبيعي أن نتصرف -نحن البشر- فيما بيننا باتباع نفس النهج،ومن الطبيعي أن ترغب كل طائفة بشرية في إبادة من ينازعونها الأرض والماء والهواء، فلم إذن نعامل اليهود أفضل مما نعامل البقر أو بكتيريا كوخ، طالما كان ذلك في استطاعتنا، ولو أصبح ذلك في استطاعة اليهود فسيفعلون بنا،أو بغيرنا، نفس الشيء، ليضمنوا بقاءهم، إن هو إلا القانون الساري علي كل الأشياء، قانون الحرب المستدامة، حرب الجميع ضد الجميع، أعلم أن تلك الفكرة ليست جديدة،وأنها محض تكرار للداروينية البيولوجية أو الاجتماعية، لكن في تلك الليلة،وأنا أكابد الحمي، صفعتني صحة هذه الفكرة أكثر من أي وقت مضي، ..، فتحت وطأة هذا التدافع لا قيمة لتلك الحواجز الهشة التي يقيمها البشر في محاولة لتنظيم الحياة العامة، كالقوانين،والعدالة،والأخلاق،والآداب، فمع أقل إحساس بالخوف، أو مع أبسط نزعة غريزية تتهاوي تلك الحواجز وكأنها سد من قش، ولكن عندئذ علي الذين بادروا بالعدوان ألا يعولوا علي أن يحترم الآخرون العدالة والقوانين، إذا ما جاء دورهم للرد،وداهمني شعور بالخوف، لأننا كنا في طريقنا إلي خسارة الحرب.» ص.742-743 التأكيد علي العبارة للكاتبة.
وسقطت برلين.
فكان انتقام ربات القصاص مروعا.وهنا صفحات لا يمكن أن يكتبها إلا من عاين الحرب وخبرها، فعرف ساحات المدن المنكوبة، وشهد المشانق المعلقة في لوحات الإعلان وأعمدة الكهرباء والكباري والأشجار وباحات المنازل، ورأي الأشلاء المتناثرة بين الأنقاض، أو مر بجوار الجثث الطافية فوق مياه الصرف الصحي التي أغرقت الشوارع بفعل القصف، فهاله تحرك أوصالها العائمة بفعل الموجات التي يحدثها مرور السيارات علي صفحة الماء، وشهد تماثيل الزعماء وهي تنكس وتـُسحل في الطرقات هل تذكرون تمثال صدام؟. وبينما برلين المنهزمة جاثية وسط حرائقها وموتاها وعمائرها المهدمة، وتحت قنابل اللهبو الفسفور، عـُلقت لافتات جوبلز الدعائية: «شكرا للفوهرر علي كل ما قدمه للشعب الألماني»، هدية مقدمة بمناسبة عيد ميلاد هتلر! هل تذكرون دعايات الصَحـّاف؟. وبمناسبة ذكري ميلاد لينين أيضا، راح الروس يكثفون القصف علي المدن الألمانية إلي أن سُـويت بالتراب. هنا صفحات إبداعية تتخطي الزمان والمكان.
في لبنان
لكن المدهش، هو أن جوناثان ليتل قد أعرض عن كل مظاهر الاحتفاء الإعلامي، فلم يحضر مراسم تسليم الجائزتين ولم يظهر في أية مقابلة تلفزيونية، وحين اختارته مجلة «لوفيجارو ماجازين» رجل العام2006، ظهر علي غلافها وقد أشاح بوجهه متجنبا النظر إلي العدسة، فهو إنسان لا يعبأ بالبُهرج والأضواء، ويعلم إلي ذلك ما تحمله عيناه من قلق واتهام. وحين سألته صحيفة «لوموند» عن تفسيره الشخصي للنجاح الذي حققته الرواية في فرنسا، أجاب قائلا:«فلننتظر لنري كيف سيتم تلقي الكتاب في إسرائيل، وفي الولايات المتحدة، وفي ألمانيا..».
وبينما الندوات الإذاعية والتلفزيونية تكثف سحائب الجدل حول الكاتب والكتاب، حمل جوناثان ليتل حقيبته الصغيرة وطار إلي لبنان.
الهدف المعلن للزيارة كان حضور مهرجان « تواصل مع الكتاب» ليقدم ليتل روايته للجمهور اللبناني، ولكن هل يعبأ ليتل بالمهرجانات؟
منذ 1982، حلم جوناثان ليتل بالمجيء الي لبنان، ليشاهد الحرب التي راحت تمزق أوصاله، وتزرع العداوة بين إخوة فرقاء، ليكتب عنها بمثل ما كتب المراسل مايكل هر عن فيتنام لمجلة اسكواير. فلقد انجذب جوناثان منذ طفولته لأدب الحرب، لاسيما وأن والده هو روبرت ليتل مراسل مجلة نيوزويك في موسكو والروائي الشهير بنجاحاته الأدبية الكبيرة التي تدور في عالم الحرب الباردة. لكن ليتل الابن كان يعلم جيدا أن النجاح الأدبي لا يعرف التوريث، لأن النجاح الأدبي ذو طابع ديمقراطي، يستند بالضرورة إلي شرعية الموهبة وقوامه الأخلاقي هو قبول الجماهير. فأراد الفتي أن يصنع أسطورته بنفسه.
وفي2007، راح جوناثان ليتل يجوب ساحات بيروت المشرفة علي الهاوية، مرتديا معطفا جلديا أسود طويل، يطيل النظر الي الصور العملاقة للرئيس رفيق الحريري وجبران تويني وسمير قصير وبيير الجميل. يزور فندق ألكسندر الذي اتخذه آرييل شارون مقرا عاما للقيادة أثناء الغزو الإسرائيلي في 82، بل ويسأل عن رقم الغرفة التي كان ينزل بها. وفي المساء، يسير ليتل وسط حشود المعارضة المعتصمة في ساحة الشهداء ويسجل هتافاتها الغاضبة ضد حكومة السنيورة،وينصت الي تكبيرات الرجال التي تهز الأرض تحت الأقدام.وفي الصباح الباكر، خرج ليتل من الفندق كأنه شبح، وراح يجوب المدن اللبنانية: صور وصيدا وبعلبكوبيبلوس، وارتقي الجبل حيث أشجار الأرز والمسيحيون وحصينة سمير جعجع ومقابر الفينيقيين وسط الصخور.
ولكن، هل أبصر جوناثان ليتل ربات القصاص التي تجوب لبنان في كل مكان شاهرة شعلاتها الموقدة تطلب العدالة والحقيقة؟ لا أحد يعلم. لكنه قد سجل كل ما رآه وسمعه وتكشف له في مفكرة صغيرة يحتفظ بها في جيبه. ويبدو- مما تشير إليه كل القرائن- أن «للمترفقات» جزءا آخر، يحكي الصراع العربي الإسرائيلي.ويبدو أن قدرنا أن نستورد حتي من يقصون مأساتنا. ليكن ذلك إذن. ولكن هل سيستمسك ليتل هذه المرة بحياده الإكلينيكي وضميره الحي الذي نما واستعظم بمعايشة مآسي البشر وشرور المجتمعات؟ هل سيفلح في وصف مذابح دير ياسين واللد والرملة وصابرا وشاتيلا وقانا الأولي والثانية وجنين وعين الحلوة وغيرها مثلما برع في تصوير أوشفيتز وسوبيبور وتربلينكا وكلمنووبلزك ؟ أم تراه سيعجز هذه المرة عن رؤية أبعاد مأساة « فلسطينية الكلمات والصمت..فلسطينية الصوت.. فلسطينية الميلاد والموت»؟
الإجابة في علم الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله.
الهوامش:
1 الاقتباسات من الرواية من ترجمة الكاتبة.
2 انظر الدراسة القيمة والوافية بهذا الشأن، للأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري: «النازية والصهيونية الأصول الفكرية المشتركة والتماثل البنيوي، والنازية والصهيونية العلاقة الفعلية، ومعاهدة الهعفراهالترانسفير»، في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، الموسوعة الموجزة، القاهرة، دار الشروق، 2005، ج. 1، ص.197 إلي 205 .
3 انظر الترجمة الكاملة لرودولف كاستنر في المرجع السابق ص 211 .
4 أجري اللقاء بتاريخ 11نوفمبر2006، ويمكن سماع اللقاء كاملا علي العنوان الإلكتروني:
http://bloghandicap.fr/fichiers%2audio/novembre/littell.mp3
5 عبد الوهاب المسيري، دراسات معرفية في الحداثة الغربية، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، يناير 2006، ص247 .
قبل أن يكتب ليتل عن
الإبادة أتيح له أن يطالعها وجها
لوجه،في البوسنة وفي الشيشان وفي رواندا
وفي الكونغو وفي سيراليون
وفي أفغانستان،
يظل ماكس آو يردد:«أنا إنسان
كغيري من البشر، أنا إنسان مثلكم تماما».
ويقول:«لست شيطانا.فكل ما فعلته كانت وراءه
ذرائع، وسواء كانت ذرائع صالحةأم طالحة،
فهي في المحصلة ذرائع إنسانية.
في مجتمع كفر تماما بالإله،
يفقد الشيطان وظيفته، وتنتفي أسباب
وجوده، لأن الصراع بين الخير والشر يختفي.
وبالفعل تنتهي رواية «المترفقات»
بأن يقتل ماكس صديقه توماس