الكــوربوريشـــــن



من الصعب أن نتخيل العالم بدون وسائل المواصلات الحديثة، بدون الصناعات العديدة التي تنتج آلاف السلع ويستخدمها الملايين من البشر، بدون السينما والتليفزيون والكومبيوتر، وبدون الأجهزة الطبية والعقاقير، أو حتي بدون مطاعم الوجبات السريعة. لقد ساهمت «الكوربوريشن» في كل ذلك، وأكثر من ذلك بكثير. لقد ذهب البعض إلي القول بأن «الكوربوريشن» هي أهم اختراع في العصور الحديثة. هذا هو الوجه الوردي «للكوربوريشن»، ولكن كل ربح وراءه خسارة، وكل إنجاز يصحبه ضياع . الوجه الآخر «للكوربوريشن» هو موضوع هذا المقال. ما أعنيه «بالكوربوريشن» هو الشركات الكبري التي لها أسهم تُتداول في بورصة الأوراق المالية وتخضع لقوانين معقدة. هناك أنواع أخري كثيرة من «الكوربوريشن» ولكن هذا لا يعنينا في هذا المقال. بعض هذه «الكوربوريشن» لديها ميزانيات وتأثير أكبر من الكثير من دول العالم. العديد من هذه الشركات تدير أعمالاً وتملك شركات أخري في عديد من بلاد العالم، وهذا يختلف عن العولمة والتي تعني أساسًا تسهيل عمل تلك «الكوربوريشن» في العالم وإسقاط الحواجز المعيقة لذلك. مسئولية أصحاب «الكوربوريشن» أو مديريها تجاه الشركة مسئولية محدودة، فمثلاً قد تُفلِس الشركة لسبب أو لآخر، ولكن الأملاك الخاصة لأصحابها أو المسئولين عنها لا تُمَس. في هذا المقال سأستخدم «الكوربوريشن» أو «الشركة» ليؤديا نفس المعني، رغم ما في ذلك من تجاوز. لقد أصبحت تلك الشركات تتحكم فيما نأكل ونشرب ونلبس، ما نقرأ من أخبار، ما نشاهد علي شاشات التليفزيون وفي السينما، وباختصار أصبحت تلك الشركات تؤثر في العديد من أنشطة الإنسان في كل مكان. ولم يكن ذلك التأثير كله جيدًا، بل إن العديد منه لم يكن ضرورياً، بل حتي إن بعضه ذو أضرار جسيمة . لقد خلق البعض هذه «الكوربوريشن». لويس برانديس Lewis Brandis سنة 1933 وهو أحد قُضاة المحكمة الدستورية العليا بأمريكا شبَّه «الكوربوريشن» بالوحش «فرانكشتين» الذي خلقه أحد العلماء وانتهي الأمر بالمخلوق إلي قتل خالقه . لقد خُلِقَت «الكوربوريشن» الحديثة في أحضان النظام الرأسمالي والصناعي منذ حوالي 150 سنة وتحولت بمرور الزمن - رغم العديد من منافعها- إلي وحش يدمر البيئة ويستنزف العديد من الموارد الطبيعية ويكاثِر العديد من الأمراض المستعصية ويزيد من ثراء قلة ومن فقر الكثيرين. هذا ما كان عناه «لويس برانديس» سنة 1933، أما الآن فالوضع قد يكون أسوأ - وإن أصبح هناك دراية أكثر بما يحدث - وهناك اتجاه لتحسين مسار ذلك «الوحش» وترويضه ليخدِم دون أن يسْتَخدِم. في هذا المقال سنستعرض كيف بدأت هذه الشركات، كيف استخدمت النظام الديمقراطي لصالحها لتحقيق الربح وغالبًا دون سواه، بعض الأضرار التي سببتها تلك الشركات، كيف حاربها البعض بغرض ترويضها، ما هو دور تلك الشركات في الدول الفقيرة، كيف أثَّرَت الكوربوريشن علي الإعلام، وأخيرًا كيف أثَّرَت الكوربوريشن علي الاقتصاد . تنشأ «الكوربوريشن» نتيجة عقد بين مجموعة أشخاص وبين الحكومة لمزاولة أعمال معينة في حدود معينة وتخضع لأحكام الحكومة. أُنشِئت «الكوربوريشن» في القرن الثامن عشر لأجل المنفعة العامة مثل إقامة الطرق والكباري وشق القنوات ولم تنشأ لغرض الربح . بدأ الترخيص «للكوربوريشن» التي تعمل بغرض الربح بعد ذلك. مشاريع إنشاء وتشغيل السكك الحديدية في إنجلترا وأمريكا في منتصف القرن التاسع عشر كانت من أوائل «الكوربوريشن» التي أُنشِئَت بغرض الربح. كانت السكك الحديدية تخضع لأحكام الحكومة فيما تتقاضاه نظير خدماتها، ولم يكن ذلك محل رضا أصحابها رغم ما كانت تحققه من أرباح. بدأ أصحاب السكك الحديدية يلجئون للقضاء للتحرر من قيود الحكومة. وقد قال «توماس جيفرسون» أحد واضعي الدستور ورئيس أمريكا : «أتمني أن تُسحق هذه «الكوربوريشن» أثناء ولادتها. إنها تتحدي قانون الدولة». بعد الحرب الأهلية لتحرير العبيد في منتصف القرن التاسع عشر، والتي لم تكن بعض الولايات راضية عنها، أُضيف بندٌ للدستور الأمريكي ليكفل حقوق الإنسان المقصود هنا بإشارة حقوق الإنسان أي العبيد المحررين، البند المضاف هو البند رقم 14 بذلك يمنع تشريع أي قانون يحد من حرية الإنسان والتي أصبح يكفلها الدستور للجميع. حتي ذلك الوقت كانت صفة «الكوربوريشن» القانونية صفة غير شخصية - وإن كان لها كيانٌ قانوني. استغل المحامون الإضافة رقم 14 وطالبوا أن تحصل «الكوربوريشن» علي الصفة الشخصية الاعتبارية، حيث إنها تبيع وتشتري وتدفع ضرائب كأي إنسان. خلال سنين قليلة تمكنوا من تحقيق بعض من ذلك، بذلك تمكنت السكك الحديدية مثلاً من أن تتقاضي ما تراه مناسبًا نظير خدماتها دون أية مضايقة من مُشرِّعي الولايات. استغل الإضافة رقم 14 في أوائل عهدها 1890-1910 19 من السود و288 من الشركات الكبري. ما زالت الصفة الشخصية «للكوربوريشن» محل نقاش وعرض علي القضاء، حيث إنه إذا كان «للكوربوريشن» صفة شخصية فهل يعطيها هذا الحق في أن تدفع الملايين للمرشح الذي تريده أو بالأحري الذي تشتريه؟ وإذا كان لها صفة شخصية لماذا لا يفلس أصحابها أو المسئولون عنها إذا أفلست الشركة كما يحدث للأشخاص؟ سنة 1907 منع الكونجرس «الكوربوريشن» من تمويل الحملات الانتخابية؛ إلا إنه كانت هناك ــ ولا تزال ــ طرق كثيرة للتلاعب بذلك. ورغم إعطاء الصفة الشخصية الأعتبارية «للكوربوريشن» فمازال من حق الولاية أن تلغي قرار إنشاء «الكوربوريشن» أو أن تحولها للمحكمة أو أن تحوِّلها لقطاع عام، أحيانًا يحدث ذلك، ولكن غالبًا مع الشركات الصغيرة والتي ترتكب مخالفات قانونية جسيمة. كبرت الشركات وترعرعت وطرحت الأسهم في الأسواق وساهم فيها الكثير من صغار المستثمرين ومتوسطو الدخل. أصبح «للكوربوريشن» الكثير من النفوذ السياسي وأزاحت عن طريقها بعض المشاكل وجعلت آخرين - أو العالم أجمع - يتولونها! مثل تلوث البيئة وانتشار أمراض السرطان وأمراض ضعف المناعة وأشياء أخري من هذا القبيل، فالهدف الأول - والأخير في أحيان كثيرة - كان - وغالبا لايزال - هو الربح المادي. وحيث إن الهدف الأول لتلك الشركات هو تحقيق الربح، ارتكب بعض رؤساء الشركات أعمالاً قد تكون قانونية ولكنها غير أخلاقية يظهر بعضها أحيانًا علي السطح مثل المكافآت الفلكية التي يحصل عليها البعض، أو فصل أعداد كبيرة من العاملين، أو قد يرتكب بعضهم أعمالاً غير قانونية بل تدخل في نطاق النصب والاحتيال والتزوير مثل ما حدث مؤخراً مع شركة إنرون للطاقة والتي أفلست بين يوم وليلة رغم حجمها الهائل. في بداية حياة «الكوربوريشن» تداركت إنجلترا مدي إمكانية فساد هذه المؤسسات حين انهارت بعض الشركات ومن ضمنها الشركة الكبيرة South Sea Company فمنعت منح تراخيص للكوربوريشن ما بين عامي 1720 و1770 وقد قال الاقتصادي والعالِم الشهير في ذلك الوقت «آدم سميث» : «إن تصميم «الكوربوريشن» يؤدي إلي الفساد»، وقد حذر في كتابه الشهير ثروات الأمم من أن رؤساء الشركات لا يمكن أن يوثق بهم لما لديهم من نفوذ. بدأت إنجلترا تمنح تراخيص «الكوربوريشن» مرة أخري تحت ضغط ذوي النفوذ. إذا نظرنا باختصار شديد إلي بعض الأعمال الضارة التي زاولتها أو تسببت فيها بعض الشركات الكبري في أمريكا مثلاً نجد أنه فيما بين عامي 1888 و1908 قُدِّرَ عددُ الموتي في حوادث الصناعة بحوالي 000،700 قتيل؛ أي بمعدل 100 عامل في اليوم في زمنٍ لم يكن فيه للعمال نقابات أو أية قوة تذكر. إذا نظرنا لبعض الشركات الأمريكية المعاصرة نجد أن شركات التبغ أضافت مواد كيميائية إلي السجائر لتزيد من إدمان المدخنين رغم علم الشركات أن التدخين يسبِّب سرطان الرئة، وقد تمكنت تلك الشركات من إخفاء ذلك عن العامة وعن الكونجرس الأمريكي لمدة طويلة إلي أن قام بعض العاملين بالشركة بإفشاء السر. دفعت شركات السجائر تعويضات هائلة نتيجة تضليل الناس ولكنها لم تدفع أي تعويض لمن هم خارج أمريكا. إن مصاريف علاج السرطان باهظة ولا يقدر عليها الفقراء داخل أو خارج أمريكا. شركات الكيماويات تسبب العديد من المشاكل الصحية وخصوصًا أمراض السرطان وتدهور المناعة وولادة أطفال مشوهين أو معاقين عقليا، بالإضافة إلي تلويث البيئة. المبيدات التي تستخدم في الزراعة والهرمونات التي تُعطي للمواشي أو الدواجن للتسمين أو لزيادة إنتاج الألبان ينتقل جزءٌ منها للإنسان مُسبِّبَا العديد من الأمراض. أمراض السرطان والتي تعود للتدخين وللكيماويات التي صنعها الإنسان تصيب حوالي 35% من البشر، هذا خلاف 15% من الرجال يصابون بسرطان البروستاتا نتيجة كِبَر السن. النباتات المُعدَّلة وراثيا تسارع الشركات بتسويقها دون معرفة تأثيرها علي المدي الطويل، وفي أمريكا لا يعلَن عن وجودها في قائمة المحتويات وحاش لله أن يذكَر ذلك في الدول النامية! أما في أوروبا وكندا وبعض الدول الأخري فالقانون يلزِم المنتج بإعلان وجود المواد المُعدَّلَة وراثيا للمستهلك رغم معارضة أمريكا الشديدة لذلك. أما البذور المُعدَّلَة وراثيا، فحتي تُمنَع الشركة المنتجة من استخدامها مرة ثانية يضاف إليها ما يسمَّي «جين الانتحار» والذي يجعل البذور تنتج محصولاً مرة واحدة. بذلك يصبح المزارع معتمدًا علي الشركات المنتجة ليزيد ربحها ويقل ربح المُزارِع. إذا انتقل «جين الانتحار» أو بعض الجينات الأخري المضافة إلي نباتات أخري عن طريق حبوب اللقاح التي ينقلها الهواء قد تسبب كارثة فظيعة لبعض المحاصيل. شركات الأدوية تحقق أرباحًا عالية، ومع ذلك فبعض الأدوية لا يستطيع محدودو الدخل شراءها، ولا يهم تلك الشركات أن تبتكر وتنتج أدويةً خاصة بالبلاد الفقيرة ؛ حيث إن ذلك لن يكون مربحًا، هذا بالإضافة إلي الإعلان المباشر للمستهلك عن بعض الأدوية والتي تمارس شركاتها المنتجة ضغطاً علي الأطباء لوصفها للمرضي. العالم المتقدم ينفق حوالي 400 بليون دولار علي الإعلان للتأثير علي القوة الشرائية. لقد أصبحت شركات الإعلانات شيئًا من الصعب الاستغناء عنه خصوصا بالنسبة للمنتجات الجديدة. أما شركات الوجبات السريعة مثل ماكدونالد وما علي شاكلتها فبالإضافة إلي استخدامها مواد غذائية مُعدَّلَة وراثيا وبها هرمونات ضارة، فإن ما تقدمه من مأكولات يعد غير صحي ويسبب السمنة المفرطة وما يتبعها من أمراض، وهوما يعَد من أبرز المشاكل الصحية التي تواجه المجتمع الأمريكي والمجتمعات الأخري التي يكثر بها ذلك النوع من المطاعم. هذه بعض الأمثلة لما يحدث في بعض الشركات بغرض الربح السريع. هناك آلاف المقالات والكتب والأفلام التسجيلية عن هذا الموضوع . لقد حذَّرَ ثلاثةٌ من أفضل أساتذة التجارة ومفكريها في بيان مشترك عام 2002 «R. Simon» من هارفارد، «H.Mintzberg» من McGill، و«K. Basu» من أكسفورد من أن النظام الرأسمالي يواجه أزمة اقتصادية تهدد بتدمير نظام التجارة ذاته. إن رؤساء الشركات لا يأبهون سوي بتحقيق أقصي ربح ممكن . ورغم الربح الهائل الذي تحققه بعض الشركات- خصوصًا في أمريكا- فإن سُدس أطفال أمريكا يعدُّون فقراء، 26% من القوي العاملة تحقق دخولاً ضئيلة، تجعلهم يعيشون علي خط الفقر أو بالقرب منه، و30% من الأمريكيين لا تتعدي ممتلكاتهم أكثر من 10000 دولار، بينما قلة قليلة تتمتع بثراء يصعب تصديقه. إن متوسط دخل رؤساء أكبر 23 شركة ما بين عامي 1999 و2001 هو 20 مليون دولار في العام لكل منهم.«Lawrence Ellison» رئيس شركة Oracle كان دخله في عام 2001 حوالي 706 ملايين دولار أي بمعدل 2 مليون دولار في اليوم. والغريب حقا أنه حتي عندما يفشل رئيس الشركة في مقابلة ما هو متوقع من تحقيق أرباح ويضطر إلي الاستقالة، فإن بعضهم يحصل علي مكافآت خيالية. رئيس شركة Home Depot وهي شركة لأدوات البناء، ورئيس شركة فايزر للأدوية حصل كلاهما علي حوالي 200 مليون دولار نظير تقديم استقالاتهم!! هذا هو الحال في أغني بلد في العالم وأقواها، ولك أن تتخيل باقي العالم وأغلبه فقير! هذا نظام لا يمكن أن يستمر. الرئيس إبراهام لنكولن 1809-1865، والذي خاض الحرب الأهلية ليحرر العبيد، قال قبل اغتياله بفترة قصيرة : « لقد تُوِّجَت مجهودات الكوربوريشن، تزامن ذلك مع فساد بعض المناصب الكبري بالحكومة، سوف تحاول قوة المال أن تسيطر علي الناس حتي يتجمع المال في أيادٍ قليلة لينتهي الأمر بتدمير الجمهورية». لقد قال الرئيس الأمريكي «راذرفورد هايس» - Rutherford Hayes 1822-1893 : «لم تعد هذه الحكومة من الشعب بالشعب للشعب، لقد أصبحت حكومة الكوربوريشن بالكوربوريشن للكوربوريشن. لقد حذر الرئيس «دوايت آيزنهاور» في خطاب انتهاء مدة رئاسته 1959 من سيطرة الشركات الكبري المنتجة للسلاح وبسط نفوذها علي الحكومة! تلك الشركات هي نفسها التي تنتج الطائرات والعربات التي يستخدمها المدنيون مبيعات شركات الأسلحة تُقدَّر بحوالي 400 بليون دولار، أمريكا وحدها تُصدِّر ما يقرُب من نصف الأسلِحة المباعة في الأسواق العالمية . كيف تحصل الكوربوريشن علي هذه القوة الهائلة والتي لا يستطيع حتي بعض الرؤساء حيالها شيئًا؟ وهل هذا معقول؟ لقد قال الكاتب الأمريكي الشهير «مارك توين» 1835- 1910 « إن أمريكا لديها أفضل كونجرس يشتريه المال». أعتقد أن هذه هي الإجابة. إن هناك خللاً كبيرًا في النظام الديمقراطي الأمريكي. إن نظام الانتخابات والذي يموِّلهُ ماديا أصحاب المصالح ويتحكم فيه الإعلام بدرجة كبيرة -والذي تملكه أيضًا الشركات الكبري - هو أُسُّ البلاء. إن 96% من الأمريكيين لا يساهمون في تمويل الانتخابات. فإذا علمنا أنهُ في عام 2000 صرف المُرشَّحُون حوالي 3 بلايين دولار علي الحملات الانتخابية، فلك أن تتخيل من دفع هذه المبالغ وما تأثير ذلك علي النظام الديمقراطي. إن رؤية رؤساء أمريكا المعاصرين تكاد تماثل رؤية رؤساء «الكوربوريشن». ويرجِعنا ذلك إلي ما قاله الرئيس الأمريكي راذرفورد : «لقد أصبحت حكومة الكوربوريشن بالكوربوريشن للكوربوريشن». أصبحت «الكوربوريشن» هي الكاهن الأكبر، أما الإله فهو الدولار - كما قال الشاعر «أحمد فؤاد نجم» . إن 70% من الأمريكيين يعتقدون أن «الكوربوريشن» تسيطر علي أوجه عديدة من حياتهم، وأن رؤساء الشركات يحصلون علي أكثر مما يستحقون ويزاولون سلطتهم علي الحكومة، ولذلك فإن ثقة الأمريكيين في الكونجرس ضعيفة للغاية. لا أعتقد أن الأمريكيين يختلفون في كراهيتهم «للكوربوريشن» عن باقي شعوب العالم، بل قد يكونون أكثر كراهيةً لها لأنهم أكثر دراية بها، يبدو أن القيادات السياسية - ليس في أمريكا فقط، بل في كثير من بلاد العالم- لم تعُد قادرة علي أكثر من انتقاد القيادات المعارضة . في أوائل الثلاثينيات كان النظام الرأسمالي مهدداً من الداخل، فكان الانهيار الاقتصادي . لجأ الرئيس «فرانكلين روزفلت» Franklin Rooseveltإلي الحد من نفوذ «الكوربوريشن» وأصدر قوانين لحماية العمال وإعفاء المزارعين من بعض الديون، وتولت الحكومة بعض الإنشاءات لتشغيل العمال بنفسها بدلاً من «الكوربوريشن» وأصبح هناك شفافية في أداء الحكومة بعد أن كانت هناك كما قال «روزفلت» « أيادٍ خفية تتلاعب بالاقتصاد». وافق بعض الرأسماليين علي برنامج «روزفلت»، والذي سُمِّي صفقة جديدة « New Deal» ولكن البعض الآخر لم يكن راضيا، ودبروا مؤامرة للخلاص من «روزفلت» ولأن هذه القصة قد يصعب علي الكثيرين تصديقها - ومن ضمنهم الأمريكيون - فإنني سأذكرها باختصار شديد، وهي منشورة في مرجع رقم 1 ص 85-95 : كان بعضُ الرأسماليين معجبين بالنظام الفاشي في إيطاليا والنازي في ألمانيا. لقد أعطت تلك النظم حرية كبيرة للشركات، ومنها IBM وجنرال موتورز، وقد حققت تلك الشركات أرباحاً كبيرة. حاول البعض من كبار رجال الصناعة والمال استمالة جنرال متقاعد اسمه «سميدلي بتلر» Smedley D. Butler ، وكان ذا شهرة واسعة وعلي اتصال بكثير من العسكريين ؛ ليساعدهم في الخلاص من «روزفلت». من بين من تورطوا في هذه المؤامرة رئيس بورصة نيويورك، ورؤساء شركات مورجان ترست، جود يير، دوبونت، حديد بيت لحم، وآخرون . طُلِبَ من «بِتلر» أن يجهز نصف مليون عسكري وكان هناك حوالي 300 مليون دولار جاهزة لتلك العملية. إلا أن «بتلر» لم يكن الشخص الذي يقبل الاشتراك في مؤامرة من هذا النوع. كان «بتلر» قد دخل حروبًا عديدة وحاز الكثير من التقدير، ولكنه اكتشف أنه كان يخوض تلك الحروب لصالح بعض الشركات وبيوت المال . قال «بتلر» : « لقد دخلت المكسيك لصالح شركات البترول، والدومينيكان لصالح شركات السكر، وهاييتي وكوبا ونيكاراجوا لصالح البنوك، وهندوراس لصالح شركة الفواكه الأمريكية» . قال الجنرال بتلر : « لقد اغتصبت ستًا من دول أمريكا اللاتينية لصالح رجال بورصة المال، أما الصين فقد دخلتها لصالح شركات الغاز». في 13 فبراير سنة 1935 كشف «بتلر» عن المؤامرة للكونجرس. هذا ما حاول بعض الرأسماليين عمله ولكنهم لم يوفَّقُوا. لقد أوضح الجنرال «بتلر» دور الجيش الأمريكي في خدمة الشركات الأمريكية، ومازال هذا يحدث للآن. قبل انتقال السلطة ؟ من جيش الاحتلال الأمريكي إلي الحكومة العراقية، قام «بريمر» الحاكم الأمريكي للعراق كان قبل ذلك مدير Kissinger &Associates .. فرض حوالي 100 قرار علي الحكومة العراقية لضمان التحكم في جميع مفاصل الحياة الاقتصادية العراقية لصالح الشركات الأمريكية . استمر «روزفلت» في سياسته الإصلاحية، ولقي قبولاً كبيراً من الأمريكيين وتخطت أمريكا الانهيار الاقتصادي. استمرت بعض قرارات تلك الفترة إلي أن جاءت «مارجريت تاتشر» في إنجلترا عام 1979 و«رونالد ريجان» في أمريكا عام 1980 ليزيلا العديد من العقبات من أمام «الكوربوريشن» لتندمج العديد من الشركات ولتقل المنافسة، ليحقق بعضها أرباحاً خيالية ويختفي البعض الآخر تحت راية «تحرير الاقتصاد». بعد سقوط الحواجز من طريق «الكوربوريشن» بدأت الشركات تنظر لأفضل أماكن التسويق والعمل. من بعض العوامل التي تؤثر في ذلك رخص العمالة، وتوافر الكوادر الفنية، والميزات المادية من ضرائب، وأسعار الأراضي، وسهولة التخلص من نفايات المصانع ومدي الالتزام بقوانين البيئة، المناخ، ووجود نقابات للعمال أو عدمه، والاستقرار السياسي. شركة BMW للسيارات أرادت بناء مصنع جديد فبحثت في 250 موقعاً في 10 بلاد، استقرت الشركة علي ولاية شمال كارولينا بأمريكا. الولاية من ناحيتها أخلت 1000 فدان بتكلفة قدرها 37 مليون دولار من المال العام وأجَّرَتها للشركة بدولار واحد في العام، بالإضافة إلي تحمُّل مصاريف تدريب العمال والموظفين. مكسب الولاية يعود من الضرائب التي تُحَصَّل من الشركة والعاملين بها. هذا ما يحدث إذا اختيرت الشركة في دولةٍ متقدمة، أما إذا اختيرت في إحدي الدول النامية فالأمر يختلف. بعض الشركات الأمريكية انتقلت للعمل قرب الحدود المكسيكية ومنها جنرال إليكتريك، فورد، RCA وهاني ويل . استخدمت تلك الشركات حوالي نصف مليون عامل مكسيكي. كان أجر العامل في بعض هذه الشركات في أمريكا هو 16 دولار في الساعة، أما في المكسيك فأصبح أجر العامل 6،1 دولار في الساعة، كانت مساكن العمال متواضعة للغاية وكان بعضها خالياً من المياه الصالحة للشرب ودورات المياه، واعتبرت الشركة ذلك ليس من مسئوليتها. ولم تكن المكسيك ملتزمة بقوانين البيئة كأمريكا. كانت بعض الشركات تستخدم أطفالاً في بعض الأعمال وهو ما لا يسمح به القانون الأمريكي أو الدولي . قررت شركة فورد في المكسيك أن تفصل 400،3 عامل، وأن تُخفِض رواتب باقي العمال بنسبة 45%، فثار العمال. أرسلت الحكومة عساكرها ليطلقوا الرصاص بطريقة عشوائية علي الثائرين، وهكذا أصبحت وظيفة الحكومة حماية الشركات بدلاً من حماية شعوبها. إذا نظرنا إلي السلفادور والدومنكان مثلاً نجد أن عمالة القميص تتكلف 3 سنت حوالي 18 قرشًا ويباع للمستهلك الأمريكي بحوالي 15 دولارًا ويصنع في 6.6 دقيقة. الجاكت يتكلف 74 سنتًا ويباع للمستهلك بمبلغ 178 دولارًا. النمو السريع في البلاد الفقيرة يؤدي إلي تحسين المطارات والطرق ومكيفات الهواء ووسائل التصدير. هذا النوع من التقدم يتم لخدمة التصدير الذي يعود بالعُملة الصعبة والتي تنعكس في المحلات الكبيرة والأزياء الحديثة والفنادق والمطاعم الفاخرة التي تخدم القلة المقتدرة. التفاوت الكبير في توزيع الثروة - وخصوصًا في الدول الفقيرة - يؤدي إلي الانحلال، والذي يظهر بعض أعراضه في الهجرة العشوائية وانتشار الدعارة. يقدر عدد من يتعيشون من الدعارة من الأطفال فقط في كلٍّ من تايلاند وسيريلانكا والفليبين بحوالي نصف مليون طفل بعضهم يموِّل عائلاتهم. يعتقد العديد من السياسيين والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، منظمة التجارة العالمية، منظمة التعريفة الجمركية والتجارة، وبعض الاقتصاديين والشركات الكبري أن التنمية الاقتصادية هي المفتاح لحل مشاكل الفقر. بعض من يعارض هذا الرأي لا يعتد بهم كثيرًا. ولكن هناك حدوداً للتنمية الاقتصادية. التنمية الاقتصادية مهمة إذا أنتجت سلعًا ذات فائدة حقيقية، وإن لم تعمد إلي استنزاف مواردنا الطبيعية. الحقيقة أن مُعدَّل النُمو GDP أي مُعدَّل سريان المال في الاقتصاد لا يأخذ في الاعتبار أيا من ذلك، حيث إن معدل النمو قد يزاد دون أن يؤثِّر ذلك علي الفقراء. في كتاب Common Good وجد المؤلفان H. Daly & J. Copp أنه بين عامي 1969 و1986، وبعد الأخذ في الاعتبار الزيادات التي أدت إلي زيادة حقيقية في تحسين المعيشة، أنه لم تحدث زيادة حقيقية في دخل الأمريكيين، بل إن الدخل الحقيقي لأغلب الأمريكيين قد قلّ . مرجع رقم 4 صفحة 46. ومن ناحية أخري وجدت منظمة الأمم المتحدة للتنمية أنهُ ليس بالضرورة أن ينعكس تحسُّن الاقتصاد علي احتياجات الإنسان الضرورية، فمثلاً نسبة الأُمية في سيريلانكا أقل من المملكة السعودية رغم أن معدل الدخل في السعودية أكبر من سيريلانكا 15 مرة . ومعدلات الوفيات في البرازيل أربعة أضعاف تلك التي في جامايكا. لقد قال الاقتصادي البريطاني «R. Butler» عام 1954: «إنه بزيادة سنوية قدرها 3% سيتضاعف الاقتصاد خلال 30 عامًا». وفي عام 1989 حاول «R. Douthwaite» أن يدرس كيف أدت مضاعفة الدخل إلي تحسين أحوال الناس؟ ووجد أن كل المؤشرات الاجتماعية قد انحدرت : الأمراض زادت، الجرائم زادت، البطالة زادت، ونسب الطلاق زادت أيضاً، رغم العديد من مظاهر التقدم التكنولوجي . وينطبق هذا علي أغلب بلاد العالم. إن مجرد النظر إلي معدل النمو الاقتصادي لا يعكس بالضرورة واقع معيشة الناس واحتياجاتهم المعيشية من مياه صالحة للشرب، صرف صحي، معدَّلات استهلاك الأطعمة، مستوي التعليم والصحة العامة . ولكن معدل النمو قد يعكس مدي توفيق «الكوربوريشن» في التجارة والصناعة وتحقيق الأرباح. لقد تعرَّض «جلال أمين» في كتابه خرافة التقدم والتأخر لبعضٍ مما تحاول الدول الغنية فرضه علي الدول الفقيرة بحجة التنمية. هناك مشاريع كثيرة لتحسين أحوال الفقراء، ليس بالضرورة عن طريق العمالة لدي الشركات الكبري، لقد كرَّمت لجنة نوبل هذا العام الاقتصادي «محمد يونس» لتبنِّيه مشروعًا لمساعدة النساء عن طريق منحهم قروضًا بسيطة مصحوبة ببعض المساعدات التكنولوجية . بدأ المشروع في بنجلاديش، بعد عشر سنوات أعانت تلك المشاريع 7،2 مليون عائلة في 22 بلداً. هناك مشاريع أخري مشابهة تتبناها مؤسسات مختلفة. «الكوربوريشن» لن تُحسِّن حال الفقراء؛ فهذا ليس من ضمن أهدافها. أهم ما يؤثر في قيمة «الكوربوريشن» هو أرباح الشركة الحقيقية والمستقبلية . إذا انخفضت قيمة الأسهم كثيرًا تبدأ الشركات الأقوي في الاستيلاء علي الشركات الضعيفة بالاتفاق أو بشراء قدر من الأسهم يكفل ذلك . إنها حرب ضَرُوس يستولي فيها القوي علي الضعيف . لهذا لا تستطيع بعض الشركات أن تخطط للمستقبل البعيد لأن هذا مُكلِّف ويؤثِّر علي أرباح الشركة والتي تُعلَن كل ثلاثة أشهر. وهنا يجب أن نلاحظ أن الشركات في الماضي كان مؤسسوها يمتلكون جزءاً كبيراً من أسهمها، وكان في إمكانهم أن يخططوا للمستقبل.أما الآن فأغلب الشركات تُدَار بكوادر فنية نَمَت في أحضان تلك الشركات، وهؤلاء لا يملكون من أسهم الشركة ما يجعلهم ذوي نفوذ قوي . إن قوتهم تعود إلي ما يحققونه من أرباح، ورواتبهم ومكافآتهم تعتمد علي ذلك، وبقاءهم كرؤساء للشركة غالبًا لا يزيد كثيرًا علي خمس سنوات. نتيجة عدم قدرة العديد من الشركات علي التخطيط ينتهي الأمر بذوبانها في شركات أخري. عادةً ما يكون ذلك مصحوبًا بالاستغناء عن بعض أو كثير من العاملين. في العقدين السابقين أصبحنا نسمع عن شركاتٍ تذوب في كيانات أخري أو تختفي تمامًا كما اختفت شركتا بان أميريكان و TWA وقد كانتا من أكبر شركات الطيران في العالم. ومن الطبيعي أن يعاني من ذلك كثيرٌ من العاملين. نتيجة ضعف بعض الشركات الأمريكية تلجأ بعض تلك الشركات إلي الاستغناء عن كثير من العاملين فيما يسمي بالتصغير Down Sizing لأن ذلك يزيد مما يبدو ربحاً فورياً للشركة. ولا يعتبر ذلك في نظر البورصة دليلاً علي فشل الشركة بل علي العكس تزداد قيمة الأسهم. في عام 1996 قررت شركة التليفونات AT&T أن تفصل 000،40 من العاملين فزادت قيمة الأسهم وارتفعت قيمة أسهم رئيس الشركة إلي 45 مليون دولار، وكان راتبه السنوي خمسة ملايين دولار. أمثلة أخري من هذا القبيل أصبحت جزءًا من النشرات الإخبارية، أي أنها أصبحت شيئًا عاديا في المجتمع الأمريكي رغم أن الشعب الأمريكي لا يتقبله. هــــذه هي الديمقراطية الأمريكية. يجب أن نلفت النظر هنا إلي أن بعض «الكوربوريشن» الأمريكية بدأت تفقد قدرتها علي الابتكار والجرأة في تمويل مشروعات كبيرة - عكس نظيرتيها الأوروبية واليابانية. حتي عام 1969 كانت أمريكا تملك 81% من أكبر 50 شركة في العالم، عام 1974 أصبحت تملك 57%، وفي عام 1993 أصبحت تملك 36% فقط . يتضح هذا أيضًا من مبيعات أوروبا واليابان التي تزداد، بينما مبيعات أمريكا تنكمش، ومع ذلك فمُرتَّب ومكافآت رؤساء الشركات الأمريكية أعلي بكثير من نظرائهم في أوروبا واليابان، بل وتستمر في الزيادة. في تقرير لمجلة Business Week كان راتب رئيس الشركة في المتوسط هو 1،9 مليون دولار عام 1990 ثم قفز إلي 6،10 مليون دولار عام 1998 . في نفس الفترة تضاعفت قيمة الشركة مرة واحدة، ولم تزد أجور العاملين الحقيقية. وهناك مشكلة أخري في «الكوربوريشن» الأمريكية. ذلك أن العديد من رؤساء الشركات يكون اهتمامهم الأول بالشئون المالية والقانونية، وقليل منهم لهم اهتمامات بشئون الإنتاج. أهم مركز بعد رئيس الشركة الأمريكية هو رئيس الشئون المالية والمهتم بقيمة الأسهم وبورصة المال، وكذلك المكافآت والعلاوات . إذا قارنَّا ذلك باليابان نجد أن أهم مركز بعد رئيس الشركة هو لشئون الأفراد والاهتمام بشئون العاملين. أما في ألمانيا فأهم مركز بعد رئيس الشركة هو للإدارة الفنية التي تبني وتُطوِّر المصانع. الإعلام الذي تملكه الدولة أو الذي تسيطر عليه الشركات الكبري أصبح يمثِّل من يملكه أكثر من أن يقدِّم أخباراً حقيقية تهم الناس وتكون غير منحازة . فإذا نظرنا إلي أمريكا مثلاً نجد أنهُ في عام 1946 كان 80 % من المؤسسات الصحفية يكاد أصحابها أن يكونوا مستقلين، أما الآن فأصبحت 80% من الصحافة تملكها شركات كبري. أما شركات التليفزيون فأصبح يملك أغلبها شركة جنرال إليكتريك أو شركة ديزني Disney . إن رؤساء شركات الإعلام يحققون دخولاً فلكية والإعلام الغني ماديا يتبعه فقر الديمقراطية. شركة فوكس FOX مثلاً والتي يملكها «روبرت موردوش» Rupert Murdoch تملك العديد من محطات الراديو والتليفزيون في بلاد عديدة، خلاف الصحف والمجلات . «موردوش» له اتجاه سياسي يميني قوي ينعكس فيما تبثه وتنشره شركاته الإعلامية . عندما حاول بعض مخرجي البرامج من العاملين في فوكس أن يعرضوا فيلماً تسجيليا عن أضرار استخدام الهرمونات التي تزيد من إدرار المواشي للألبان والذي تنتجه شركة «مونسانتو» تحت اسم Posilac، لم تسمح الشركة بعرض الفيلم تحت ضغط من مونسانتو. انتهي الأمر بفصل المخرج وفصل كل من رفض الإذعان لقرار فوكس Fox بعدم العرض. لم تعرِض الفيلم أية محطة تليفزيون، رغم أن العديد من البلاد الأوروبية ترفض استخدام هذه الهرمونات لما تسببه من أضرار للإنسان. رغم قوة الشركات الكبري وتأييد العديد من الحكومات لمطالبها، إلا أنه هناك مقاومة تتماسك وتقوي بمرور الزمن في عديد من الدول - سيان الغنية أو الفقيرة - وإن كانت تلك المقاومة تبدو غالبًا في صورة مظاهرات سلمية تتجه للعنف أحيانًا إلا أنها وسيلة ديمقراطية لإبداء الرأي لا يستهين بها المسئولون وتزيد وعي عامة الناس. ينتج عن هذه المظاهرات أيضًا تكوين جمعيات غير حكومية، وهذا في غاية الأهمية. لقد كان الناس يلجئون للحكومة في الماضي لتخفيف حدة معاناتهم، أما الآن فيصر رجال الأعمال وبعض الاقتصاديين أنه لا دخل للحكومة فيما يختص بالصناعة والتجارة. فإذا كان الحال كذلك فلابد للمنظمات غير الحكومية أن تكتسب قوة للضغط علي المسئولين. هناك أمثلة عديدة ناجحة لمقاومة سيطرة الكوربوريشن منها بعض الهيئات الحكومية، مئات الجمعيات والمؤسسات التي تراقب وتقاضي تلك الشركات. ما بين عام 1999 وحتي عام 2001 كان هناك 24 قضية كبيرة ضد شركة جنرال إليكتريك كلفت الشركة أكثر من 500 مليون دولار . هناك قضايا مماثلة ضد كل الشركات الأمريكية الكبيرة تقريبًا وإن كان أشهرها قضايا شركات التبغ والتي سبق الإشارة إليها. في بوليفيا كانت شبكة المياه متآكلة ويلزم تجديدها، تحت ضغط من البنك الدولي خصخصت الحكومة شركة المياه للحصول علي قرض لتجديد شبكة المياه. بيعت شركة القطاع العام لشركة باكتل الأمريكية. رفعت الشركة الجديدة سعر المياه ثلاثة أضعاف وتحت ضغط من الشركة أصدرت الحكومة قرارات بمنع الناس من تجميع مياه الأمطار أو استخدام مياه البحيرات والأنهار!! بدأت الجماهير معارضة منظمة تحت قيادة واحد منهم اسمه «أوسكار أوليفيرا» التفَّ حوله حوالي مائة ألف مواطن، وطالبوا الشركة بمغادرة بوليفيا بعد مواجهات عديدة مع القوات الحكومية راح ضحاياها البعض، اضطرت الشركة لمغادرة بوليفيا وسقطت الحكومة التي تورطت مع الشركة. قال «أوسكار» : «إن الناس شعروا بقوتهم وقدرتهم علي اتخاذ القرار. إن قدرة الجماهيرعلي اتخاذ القرار هي الديمقراطية» . أعيدت شركة المياه للقطاع العام، وكُوِّنَ مجلسُ إدارةٍ جديد به ممثلون من المسئولين ونقابات العمال. الهند تعطينا مثالاً آخر لمقاومة الشركات الكبري : تحاول «مونسانتو»، والتي تملك 70-100% من سوق البذور المُعدَّلَة وراثيا أن تغزو السوق الهندية، الفلاح الهندي الفقير غير قادر علي دفع ما تطلبه الشركة . لقد انتحر بعض الفلاحين الهنود لعدم قدرتهم علي دفع الديون . نظَّمَ بعض الهنود جمعيات غير حكومية لمقاومة مونسانتو. كانت المقاومة فعَّالة، واستطاعت أن توقف أحيانًا نشاط الشركة بالهند. أوقفت الهند استعمال بذور القطن المُعدَّل وراثيا وبعض بذور الغذاء. إن قانون براءة الاختراع يمنع إعادة تشكيل الحياة، ولكن الحكومة الأمريكية لا تعترف بذلك لصالح الشركات. إن ضغط الحكومة الأمريكية لصالح مونسانتو لا يحتمله البعض، لقد قال بوش «إن من يقف في طريق البذور المُعدَّلة وراثيا يقف عقبةً في طريق القضية العظمي لإنهاء الجوع»!! رغم الضغط الأمريكي إلا أن بعض الدول تعارض - ولأسباب جيدة- ولا تستخدم الأغذية المُعدَّلَة وراثيا. من ضمن هذه الدول كل الدول الغنية وبعض الدول الفقيرة مثل البرازيل، زامبيا، الهند والمكسيك. قد تكون البذور المُعدَّلة وراثيا ذات فائدة جليلة، ولكن يجب ألاَّ تُترَك في أيدي الشركات التي تسعي للربح السريع دون تقديرٍ لما قد يحدث في المستقبل. قد تضطر الكوربوريشن لدفع تعويضات نتيجة ما تسببه من اضرار. شركة PG&E الأمريكية دفعت 333 مليون دولار تعويضًا إلي 634 عائلة تقطن بجوار الشركة التي لوثت المياه الجوفية بمادة كروميم 6 وهي أحد منتجات الشركة. أما في الدول الفقيرة فإنها قصة أخري، شركة مونسانتو استخدمت المبيد Orange Green والذي تسبب عنه حوالي 50000 ولادة مشوهة و100000 حالة سرطان. دفعت الشركة لحكومة فيتنام 80 مليون دولار فقط!! أعتقد أن ذلك لا يحتاج لتعليق. نتيجة الشعور العام بعدم الثقة في الشركات الكبري بدأت بعض الشركات تحاول أن تُحسِّن من صورتها العامة. شركة التبغ ABT قررت أن تنشيء المركز الدولي للمسئولية الاجتماعية للشركات بتكلفة قدرها 7 ملايين دولار. شركة شل أعلنت أنه يجب علي الشركات أن تلتزم بمعاهدة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. شركة الغاز البريطانية B.P أعلنت وجوب الالتزام ببروتوكول كيوتو للأمم المتحدة للإقلال من الغازات التي سببت ثقب الأوزون .وهناك أمثلة أخري كثيرة من هذا القبيل؛ فالشركات تحاول بطرق مختلفة أن تُحسِّن من صورتها، ولكن هدف الشركة الأول من ذلك هو تحقيق الربح. بعض الشركات قد تكون جادة في محاولتها للإصلاح - وهذه أعتقد أنها قِلَّة، أمَّا الأغلبية فينطبق عليها المثل الشعبي «تحلف لي أصدَّقك، أشوف أمورك استعجب»! أعتقد أن النظام الشيوعي فشل لعدم مرونة النظام للتغيير. ولقد اعتقد البعض أن النظام الرأسمالي نجح بسبب فشل النظام الشيوعي، ولكن في رأيي أن النظام الرأسمالي أيضًا قد فشل، خصوصًا في أمريكا، ولكن لوجود بعض المرونة وبعض الديمقراطية فإنه مستمرٌ لفترة أطول. ولكن ما لم يتطور النظام الأمريكي للتغلب علي مشكلة الرأسمالية الأساسية وهي الجشع فإنه سوف يدمر نفسه . إننا في حاجة إلي ثورة أخري لإصلاح العديد من مشاكل الثورة الصناعية، ثورة سلمية تبث روحًا جديدة في نفوس البشر وعقولهم. ثورة تعتمد علي ديمقراطية مستنيرة لا تستغلها الشركات الكبري . لقد قال «جبران خليل جبران» في كتاب «النبي» : «إن الأرض تؤتيكم ثمارها فتكفيكم الحاجة، لو عرفتم كيف تملئون منها أيديكم. فإن أنتم تبادلتم نعمها نلتم الرخاء، وطابت بذلك نفوسكم، فإن لم يجرِ بينكم التبادل بالحب والعدل الرفيق شرهت منكم نفوسٌ وجاعت أُخري».
المراجع 1 - Colossus, 'When the Corporation Changed America', Edited by Jack Beatty Broadway Books. 2001. 2 - 'When the Corporation Rule The World', David C. Kurten, Kumarian Press, 2001. 3 - 'How Corporations Hurts Us All, Dann Butts, Trafford Publishing, 2003.
كبرت الشركات وترعرعت وطرحت الأسهم في الأسواق وساهم فيها الكثير من صغار المستثمرين ومتوسطو الدخل.أصبح «للكوربوريشن»الكثير من النفوذ السياسي
دفعت شركات السجائر تعويضات هائلة نتيجة تضليل الناس ولكنها لم تدفع أي تعويض لمن هم خارج أمريكا.إن مصاريف علاج السرطان باهظة ولا يقدر عليها الفقراء داخل أو خارج أمريكا.
قال الرئيس الأمريكي «راذرفورد هايس» -Rutherford Hayes«لم تعد هذه الحكومة من الشعب بالشعب للشعب، لقد أصبحت حكومة الكوربوريشن بالكوربوريشن للكوربوريشن.
70% من الأمريكيين يعتقدون أن «الكوربوريشن»تسيطر علي أوجه عديدة من حياتهم، وأن رؤساء الشركات يحصلون علي أكثر مما يستحقون ويزاولون سلطتهم علي الحكومة
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة