الحاجز... شـــظايا روايـــــة
الجزء الاول: وجد في بلاد الحواجز «المحثوم» في تلك الأيام أتقنت ابنتي الكلام بشكل يثير الإعجاب. وتفعل كلمات الطفولة الأولي والجمل المركبة البكر فعل السحر في الأشياء التي يسميها الكلام فتصبح جميلة. وكلام الأطفال عصا سحرية ما إن تمس الأشياء حتي تتطاير النجوم الذهبية في أرجاء حياتنا المثقلة هنيهات قليلة، لنعود الي حالة ترقب في انتظار كلمة جديدة. وإذا طال الانتظار يبدأ الإلحاح ثم التوسل: «شو هدا ؟» نكرر السؤال برجاء أن تنطلق الأسماء لتبعث الحياة في المسميات وتصبح الأشياء العادية استثنائية وموضوع كلام. و«قوليلهم شو قلتيلي مبارح»، وكأنها تدرك إدماننا الجديد علي السحر فتعذبنا بنظرات تومئ إلينا بمزيد من التوسل، تتلوه ابتسامة تقلب التضرع والرجاء ضمًا وتقبيلاً وركضًا في أرجاء البيت: «يا بابا شو هالضحكة»، ويزحف وراءنا ابننا الذي لم يتقن الكلام بعد منفعلاً من الضوضاء، فأحمله هو الآخر راكضًا لاهثًا لاعنًا التدخين.
ويبعدنا كلامها عن السياسة، فحديث الوالدين اندهاش من مصدر الكلام، وإعجاب بالتمييز بين الصفات وبين الحاضر والماضي، وانفعال من تألق ابنتهم وتساؤل، هل هو عادي يكبر في حب الأهل أم استثنائي يمنعنا الانفعال من إدراكه؟
وما كدت اقتنع أن ابنتنا قد ختمت الكلام ولم يبق أمامها إلا النثر والشعر والفقه وعلم الكلام حتي جاءتني من الحضانة: «وين كنت يا بابا؟»، «كنت علي المحثوم». شردت هنيهة: «المحثوم» بالثاء المخففة لفظ طفولي ملائكي للكلمة العبرية «محسوم» ومصدرها «حسام» أي سد الشارع، قطع الطريق، منع المرور، أوقف التدفق، منع الحركة. وتعني الكلمة الحاجز، ومنها الحواجز التي تقيمها قوات الاحتلال فتسد علي الناس في فلسطين المحتلة دروب الحياة. وقد أصر أهلنا في الضفة والقطاع علي إبقاء الكلمة عبرية فهم يلفظون «محسوم» للمفرد ويجمعونها بالعربية «محاسيم»!! وتمكث ابنتي يوميًا علي الحاجز من الوقت ما ينسيها الحضانة. فهي تذهب صباحًا إلي الحضانة، وهي تعدد «المِسْ فلانة والمِسْ فلانة»، ولكنها تعود إلينا من «المحثوم».
«شو عملتي يا بابا عالمحسوم؟». «غنيت»، «شو غنيتي؟» وانطلقت فورًا بالغناء ترافقه نغمات صوتها العذب الذي يذيب الأشياء فتنساب جداول رقراقة تحيط بنا وحدنا واقفين علي قطعة الجنة الخاصة بنا بين المحاسيم: «سنة حِوْلة (حلوة) يا جميل». والجيم المصرية تؤكد أن الحضانة شهدت اليوم احتفالا بعيد ميلاد أحد الأطفال.
وبعد أربعة شهور متساوية الطول ومتفاوتة العرض من عمرنا لم يعد الحاجز متوقعًا أو مألوفا، فمنذ الاجتياح أصبح الحاجز إعلان الوجود الطاغي لمن وضعه. الحاجز هو الفاصل، وهو الواصل بين العالمين. هو الحدود وهو المعبر. هو الألم وهو الأمل بالخروج. بات الحاجز يأخذ ذاته بجدية، فازدادت بين مركباته كمية الحديد والمواد الصلبة، كما ارتفع عدد الجنود وعبست ملامحهم. أصبحت له بنية. لم يعد مشكلاً من بقايا معدات الجيش: براميل، مكعبات أسمنت، قطع صخرية منوعة. وانتشرت حوله غرف أسمنتية أو حديدية زجاجية مركبة وتجهيزات خاصة بها، حتي اللون بات بنيًا ـ رماديًا أحاديًا، زالت زركشة البهدلة، وبات الحاجز عديم التعابير.
وطال الانتظار علي الحاجز، ولكن في الوقت ذاته قلت شكوي المنتظرين، زادت معاناتهــم وزاد صبرهــم عليهــا، زاد جَلـَدهم لا لأن جِلدهم قد ازداد سماكة، بل لأن الحاجز بات سريع الانفعال لا يحتمل الشكوي، والخوف لا يسمح بالتــذمر. الحاجـز في مرحلة ما بعد الاجتيــاح «ما بينمزح معو»، لأن يده ترتج علي الزناد خفيفة، ولأنه أيضًا خائف.
ولكن توازن الرعب علي الحاجز لا يغير من هوية القامع وهوية المقموع، هوية المسيطر والمسيطر عليه، هوية الآذن وهوية متوسل الإذن. لم يعد الواقع إلا حاجزًا ولا يوجد في الواقع توازن في الرعب، يوجد في الواقع رعبان لا توازن بينهما، خوفان لا تكافؤ بينهما.
بات الحاجز شموليًا لا يكتفي بأقل من وقت الانسان كله، جهده كله، أعصابه كلها. حتي النهار قد يمضي وقته أمام الحاجز. الزمن ذاته ينتظر في المكان. رام الله أصبحت تبعد يوم سفر مثل كل شيء، يوم السفر يوم، و«يوم الطاحونة يوم»، كما قالوا. وقد ينتهي بغبار علي الملابس ولكن دون طحين.
تعيش الناس في ظل الحاجز، سافرت أم لم تسافر، غادرت أم لم تغادر. وجوده طاغ علي كل شيء، يتخلل كل تفاصيل الحياة، يصبغ كل شيء بلونه. نفسية الناس مرتبطة بالخبر الوارد عن الحاجز، خططهم، مشاريعهم، لقمة العيش، القرار حول مكان السكن ومدرسة الأولاد ومكان العمل متعلقة بموقع كل شيء «أمام» الحاجز أم «خلفه»، كل الاعتبارات تبدأ بالحاجز، وكل الغايات يجب أن تبرر ذاتها بمنطقه، أن تشرح نفسها أمام عرشه.
انتهي الدوام في الحضانة. وفي الشهور الأخيرة تعلمت ابنتنا النظافة إلي درجة أنها تختار ملابسها بعناية، وتسأل إذا «لابسه حلو ولا لأ؟» لتنتقل بغض النظر عن إجابتك لتسألك « بتعرف مين جبلي إياه؟». وقد اعتادت اخيرًا أن تقضي حاجاتها الطبيعية في مكان أطلقنا عليه كل يوم أسمًا إلي أن استقر لساننا، ولا أدري لماذا، علي اشتقاق إبداعي: «البوتا (الباء مخففه)» من البوت pot بالانجليزية أي الوعاء، ثم انتقلنا إلي «التواليت» الفرنسي. وصعدت ابنتنا درجة معنوية مع ارتفاعها عن الأرض علي مقعد التواليت لتعيَّر أخاها أنه فقط عندما يكبر سيحق له الجلوس علي ذلك العرش، ولو بجهد بالغ وبدون ارتياح. انتهي الدوام وابنتي في طريقها إلي البيت علي الحاجز. اتصلت قبل ساعتين وسمعتها تغني، وأخوها يلحن بصوته لحنًا لا علاقة له بما تغني، ولكنه لا يقصد الإزعاج. كلٌ يغني مواله، فقط واحد بكلمات والثاني بدون كلمات.
اتصلت بعد ساعتين. ما زالوا علي الحاجز،ولكن العويل احتل مكان الغناء، أما اللحن فقد تحول إلي صراخ عصبي متقطع يتبعه «نق» من النوع المتكرر« هأ هأ هأ» تتبعها « بدي أروِّح» مكررة عشرات المرات، ومثلها «وين البيت؟». «وجد بدها تحكي معك» قالت أمها، لا أملا بالمساعدة الهاتفية اللاسلكية، وإنما لتقطع وتيرة «النق» لتلتقط أنفاسها أو تريح أذنها قليلا. انتهي النق علي التليفون وتحولت «وجد» إلي الكلام يرافقه البكاء، كأنها إنسانة بالغة انهارت دفعة واحدة « بابا في بيبي بدي أروح عالبيت». تأبي أ-ن تقضي حاجتها في ملابسها والحاجز يحول بينها وبين البيت. وتوسلاتنا ان تنهي الموضوع في السيارة، وأينما شاءت، لا تجدي، وقد بدأت تتألم، ولكنها لا تستطيع. وبدأنا نتابع الموضوع، ونعرف جيدًا كم مضي من الوقت، فكل خمس دقائق نعود للاتصال. «كم سيارة بعد؟»، «كيف بيفتشوا سيارة سيارة؟»، إلي أن وصلت وجد إلي البيت. وعندما دخلت بوابة عمارة الشقق الخارجية، «عملتها» في السيارة، ربما لأنها شعرت بالراحة أو الاسترخاء لأنها وصلت أخيرًا فلم تصبر حتي التواليت. غاب الحاجز.
لم نحتج إطلاقًا للمكابرة لنفكر: ماذا يفعل المريض أو الحامل التي تعاني آلام المخاض علي الحاجز؟ لم نتخيل. لسنا بحاجة للتخيل، والشعر مؤخرًا لا يزيدنا خيالاً. والإبداع والفن يصور الواقع ليستفيد منه لا ليغيره. وقد أقلعنا عنه منذ فترة إذ تجاوزه الواقع إبداعًا وصدقًا. جاءت أشباح المعاناة بذاتها متمشية علي الحاجز، إنها دائما هناك. في كل سيارة رجل وامرأة وأطفال وقصة، الف قصة وحكاية. بعضها يصرخ طلبا للمساعدة من المارة من الجنود، يستغيث، بعضها يتفتش بالسيارة التي تقف أمامه أو بالزوجة التي تجلس إلي جانبه أو بالأولاد علي المقعد الخلفي لتطلع الرجولة والكرامة عليهم بعد أن انسحبت من أمام الجنود، أو انسحقت علي الحاجز، أو قمعت ذاتيًا قبل أن تصله. بعضها يهمس، وبعضها يعاني بصمت، وبعضها يقص بـ«الطُوَش»، المشاجرات، التي يفتعلها علي الحاجز القصة الأكثر مأساوية قصة غياب الإحساس وانعدام الحساسية للذل.
في اليوم التالي قالت وجد علي طاولة الفطور فجأة « في بيبي». « ايه عال منيح، شو منعمل لما في بيبي؟». وقفت وعملتها أمامنا في ملابسها الداخلية، قبل ان تلبس والحمد لله، « البيت بعيد» قالت، وضحكت. هل ضحكت لتصالحنا قبل التوبيخ، أم ضحكت منـّا، أم أنها فعلاً تضحك من شيء ما يبدو لها مضحكًا، تعابير وجوهنا المندهشة، مثلاً.
حارة الحاجز:
مع مرور الزمن قامت في فلك المدينة أحياء زادت من هشاشة وسط البلد الذي بات ينوء تحت الحمل وتمزقه القوة الطاردة عن المركز. لقد اصبحت المدينة ممرًا لسكان هذه الأحياء في طريقهم وقد حُسِبت هذه الأحياء مجازًا علي القدس وأصبحت «غير قابلة للتفاوض» بلغة «العملية السلمية» الجارية أو بلغة «العملية السياسية» أو بلغة « العملية» كما اصبحت المفاوضات تكني في تلك البلاد. وكل ما يمسه اسم القدس حتي لو لم يكن له علاقة بها لأنه لم يكن ببساطة قائمًا في الماضي المقدس البعيد، أو لأنه كان قرية بعيدة عنها حتي الماضي القريب، يصبح بقدرة قادر وبفضل استخدام الدين في السياسة العلمانية مقدسًا. حتي انتشر في تلك الديار اعتقاد مفاده أن المقدس هو كل ما أُطلق عليه اسم القدس، أو العكس. ومن بين هذه الأحياء ما خطط له بعناية، شوارع واسعة، أرصفة، حدائق، بيوتها مبنية من حجارة مقدسية بيضاء ومسقوفة بقرميد أحمر.. في القدس وحدها يبدو الحجر الذي استخرج ودق من صخر الجبال غريبًا عن الجبال ذاتها. تبدو الأحياء أكثر شبهًا بـ«حقائق علي الأرض» منها بحارات: «فيه أكومبليه»، «عوفدوت بشيطح»، كما في لغة سياسيي تلك دولة الحاجز. يندر أن يري الإنسان السياسة مهندسة ومجسمة أسمنتيًا بثلاثة أبعاد وبدون حلقات وسطية أو جمل اعتراضية أو أقنعة، كما يراها في بلاد الاستيطان خلف الحواجز. ويستفاد من هذه التجربة أنه إذا ما جُسِّمت السياسة وهي في عجلة من أمرها وأمر صنَّاعها، ينتج مجسمًا قبيحًا للغاية.
وكأنها وجه الأحياء المخططة الآخر قامت، وفي الحقيقة تكومت أو تكدست، حارات عفوية عشوائية، هي النقيض المجرد للتخطيط. «بناء القرصنة»، تسمي هذه الظاهرة العربية بالعبرية. إنه البناء غير المخطط في بلد لا يخطط فيه لسكانه الأصليين إلا الرحيل، ولا يبقي فيه السكان الأصليين إلا عكس التخطيط.
لم تشق هنا الطرق وترسي البني التحتية لتتلوها الحدائق ثم البيوت، كأن الخاص يشتق من العام ويتبعه. هنا بنيت بيوت للسكن علي الشارع الرئيسي بين المدينتين، ثم بدأت بالتراجع عنه تدريجيًا بعدما هدم أصحاب الحاجز بعض البيوت. قامت البنايات ثم تحولت الفسحات بينها إلي شوارع. لم تقم حارة، ولم يقم حيز عام بل تجمع من البيوت لا يربطها رابط سوي الحاجة إلي المنزل. سلسلة من البني السكنية علي الطريق بين مدينتين لا تترك بينهما مجالاً لقطع أو تمييز، إلا حيث سيقطع الحاجز الاستمرارية عشوائيًا وبدون سبب ظاهر. في أسفل المباني حوانيت مشرعة أبوابها نحو الشارع الرئيسي، وكلما خوت بطونها فغرت أفواهها نحو المارة.
لم تحظ الشوارع المتفرعة بأسماء ولا أرقام. لم تجتمع هيئة لتسميتها خلافًا للأحياء التي خططها أصحاب الحواجز والتي يندمج في عملية استئراخها وتتريخها استقراء التاريخ المحلي. يسمي الشارع علي اسم أحد قادة الحركة التي أقامت دولة الحاجز أو علي اسم أو تاريخ «معركة من معارك أصحاب الحاجز»، خاصة تلك التي دارت رحاها لتحرير المدينة من سكانها.
ليس للحارة الجديدة بؤرة أو مركز ولا حيز عام تنسج فيه علاقات بين الناس، إنه شارع ممتد علي طول سبعة كيلومترات. خطر عبوره إلي الناحية الأخري خطر الموت لأن السيارات تتعامل معه كأنه شارع سريع بين مدينتين. إنه يصل بين الأحياء ولكنه يفصل جنبيه إلي حيين منفصلين. ولا ينتج الشارع حيزا عاما، وانما خطرا عاما. وأبرز ما في الشارع هو حوانيت البقالة، وهي الجواب لأبرز حاجيات الناس في ظل الحواجز، تستقبل السيارات علي أرصفتها للتزود بالطعام كما تتزود بالوقود في محطات الوقود. وتستخدم البقالة أيضًا للتأشير إلي مكان السكن: « بعد سوبرماركت فلان في دخلة حادة ع اليمين، انتبه لا تأتيها مسرعا من الشارع لأنها قد تفوتك، بعد السوبرماركت هدئ السرعة ثم بعد مائة متر عند حاوية النفايات المحروقة، يعني لونها أسود علي أخضر، خذ يمين ثم بعد أول دكان خضار اسمه الفردوس خذ يمين مرة أخري، انتبه لأول شارع ترابي، انتبه! لأن البعض يفيِّض مياها آسنة. هناك في هيك أربع بنايات لصق بعض، كل واحدة منها أربع طبقات، اسأل في محل معارض غرناطة أو فينيسيا، أو لا، معرض أريزونا لان ابنه يا سيدي بتعلم هناك انشالله يكون فالح مثل أبوه، اسأل أي منها عمارة أبو فلان..» وهكذا. لا يصل البريد هنا بالطبع فالبيت مكان سكن، البيت مكان للمبيت وليس عنوانًا. ولا توجد خدمات بلدية ولا شرطة مدنية. هنا يمكِّك جيب حرس الحدود باستمرار باحثًا عمن تسربوا بين البيوت ملتفين علي الحواجز قاصدين القدس لضربهم واعتقالهم أو لضربهم دون اعتقالهم، وقلما يعتقلون دون ضرب. الاعتقال دون ضرب هذه قضية قانون، والبلاد خلف الحواجز وبين الحواجز هي بلاد دون قانون. وقانون دولة الحاجز يخضع بعيدًا عنها لاجتهادات الجنود الإبداعية بين البيوت وفي ساحاتها الخلفية المعتمة.
لم يقم في هذه الأحياء مجتمع أهلي علي أنقاض القري التي حلت محلها، ولم تقم علاقة جيرة ثابتة بين الناس المستأجرين عند سكان القري الأصلية التي باتت أحياء في مدينة وبات سكانها مؤجري بيوت في القدس. وإنما تشبه العلاقة إلي حد بعيد في حالتها المتطورة اللقاء في السوبرماركت، واللقاء عند الحاجز في حالتها المتردية. كما تشبه العلاقة بين الملتقين في المطار أو في محطة القطارات المركزية، اللقاء عابر كما الناس عابرون في الطريق إلي مكان آخر.
اللقاء في المطار أو المحطة يكون أقل حميمية حتي لو جمعت أطراف اللقاء معرفة سابقة، فمدته مقررة سلفًا ترافقه عصبية انتظار الطائرة أو القطار أو الباص، أو عصبية انتظار مواصلة السير بعد انتهاء الحديث.
تفلت اللحظة من اللقاء لأن الهدف هو اللحظة التي تليها. ويفلت الزمان من قبضة المكان باستمرار في غفلة المكان عن اللحظة الحاضرة وهو يترقب اللحظة الآتية.
وكما في كل مكان أقيمت حواجز علي الشوارع الرئيسية التي تربط المدينة شمالها وجنوبها برام الله وبيت لحم علي الخط المسمي «كاف هتيفر». إنه بلغة أصحاب حواجز تلك البلاد خط التماس، مستعار من الخيط الذي يرتق الثوب، إنه الخط الذي يشير إلي الرتق أو الفتق أو إلي الرقعة في الثوب يصلحها ويؤكد وجودها في آن، إنه الوصلة بين قطعتي القماش أو الجلد الآدمي عند خياطة الجرح بعد عملية جراحية .
قام الحاجز في البداية بمعونة علب معدنية فارغة كبيرة لحفظ الأطعمة للبيع بالجملة، وضعت فيها حجارة، وفي بعضها أشعل في الليل فتيل مبلول بالمحروقات. وبمرور الزمن احتلت البراميل الفارغة المملوءة بالأسمنت محل معلبات الحجارة، ثم ما لبثت البراميل أن استبدلت بقواطع بيضاء وحمراء من البلاستيك المقوي الذي تستخدمه عادة دائرة الأشغال العامة في تلك البلاد لتغيير مسار السيارات للابتعاد عن ورشة تصليح الشارع. وما لبثت أن أصبحت أسمنتية مضافًا إليها مكعبات أسمنتية وقواطع حديدية تقطع الشارع إلي مسارين للتفتيش وصخور من كافة الأحجام.
في البداية وقف الجنود في العراء ثم ارتفع إلي جانبهم برج حديدي يحمل حاوي ماء من البلاستيك الأسود، وفي أسفله خيمة ميدانية ما لبثت أن احتلت مكانها غرفة أسمنتية جاهزة محجوبة عن الشارع بحواجر جاهزة من الباطون المسلح العاري القبيح. ومن حين لآخر تستخدم الصخور أو حاويات النفايات كمتمم اإبداعي للحاجز لإغلاق منافذ علي جنبي الشارع تحتجب عن نظر الجنود وقد تشكل منافذ للتسلل. وتؤدي أيضًا وظيفة منع سيارة من الالتفاف إلي الاتجاه المعاكس والعودة علي أعقابها من حيث أتت. إذا علق من علق علي الحاجز فلن يستطيع العودة بسبب الملل أو النرفزة مثلاً إلا بعد أن يتم فحصه، أو تمريره دون فحص. عليه أن ينتظر بصبر أو بدون صبر، الأمر سيان بنظر الحاجز. الصفيح والصخور والبراميل المملوءة بالأسمنت أو الحجارة تقطع الشارع طولاً وتمنعه من تغيير رأيه والعودة من حيث أتي. انعدام خط الرجعة، أو جسر العودة، إضافة للانتظار ذاته يجعل الانتظار واجمًا وعصبيًا محتقنًا منفذه الوحيد هو حاجزه.
بداية الحاجز عشوائية مثل الأحياء المحيطة به تفتقر إلي نظام ونظافة وهيبة الحدود، ولذلك يجب أن تفرض قسوة السلوك البشري الهيبة في عملية تعويض عن غيابها البنيوي وعن غياب القواعد المكتوبة. الحاجز يحجز الحركة ويقسم الفضاء، إلي «ما قبل الحاجز» و«ما بعد الحاجز»، أما الزمان فلا معني لتقسيمه لأن ما قبل الحاجز في الزمان ذاكرة. وأصبح الانسان يسكن إما «قبل الحاجز» أو «بعده»، «أمام الحاجز» أو «خلف الحاجز»، علي نفس الشارع الممتد. وطبعا يتذوت بعض القاطنين «قبله» أو «بعده» هذا التقسيم فيصر أنه يسكن في القدس لأنه «قبل الحاجز» في حين يسكن جاره في رام الله لأنه يسكن «بعد الحاجز».
ـ ياخي انتو قدس واللا رام الله؟
ـ لا احنا قدس وبالعلامة نمرة السيارة صفرا.
وفي ذلك إشارة للون لوحة رقم السيارة.
ـ لا النمرا مش مهمة، يعني قصدي ساكنين قبل الحاجز واللا بعده، هلأ إذا ساكنين بعدُه نمرة السيارة ما راح يخلولكو إياها صفرا، وكمان هوية القدس الزرقا رح يسحبوها منك، راح تخسرها، مثل ما بتخسر الجرينكارد إذا ما سكنت في أميركا. ولأنك سكنت بعد الحاجز يعني بالعبراني «نقلت مركز حياتك خارج القدس»، ما بصحلك إقامة دائمة في القدس، وشو هي بطاقة الهوية غير حق الإقامة الدائمة؟
ـ شو أميركا؟ شو أنا هاجرت لهون؟ هلأ أنا اللي نقلت مركز حياتي واللا هم، مين اللي أجا لعند مين؟ مين بعطي حق الإقامة لمين؟ بعدين مين قرر يحط الحاجز؟ شو أنا حطيتُه؟ يعني لو قربُه مترين كان صرت قدس. بعدين ليش هي هاي قدس؟ هادي قري منطقة القدس، وإسرائيل ضمتها للقدس وصارت أحياء: يعني بيت حنينيا، شعفاط، أبو ديس، العيزرية، الزعيم، التوري، المكبر. كلكو أحسن مني، كلكو صرتو قدس، وأنا مش قدس لأن الحاجز هيك قرر؟
ـ هلأ مش مهم، البلاد كلها احتلوها إذا هيك بدك تناقش، واجو عليها كمان إذا بدك. أنت المهم ما عدت قدس. مش قدس بس طالب إجار البيت بأسعار القدس. مش معقول، لازم عندك يكون الإجار أرخص، هذا بيت ضفة مش قدس.
ـ ما دمت هيك بتحكي لو قدس أنا ما كنت أجرتك، لأن الأجانب واقفين بالدور بدهم بيوت في القدس، وهدول بيدفعوا وخفيفين دم وما عندهم ولاد، كمان ما عندهم عزوة وعشيرة. وما راح يجيبولي رجال كل ما اختلفنا، وما في حدا «يلبس قميصهم» وما بدهم جاهة وتعويض كل ما صرخت علي ولد من ولادهم، الأجانب بدي أترجاهم ليلبسوا قميص عادي.
ـ هلأ الأجانب بالذات ما لازم يخافوا من الحاجز. شو يعني بدهم يعملوا معهم عالحاجز؟ واحنا اللي لازم أصحاب البيوت يتضمانوا معنا ويأجرونا في القدس.
ـ كيف يعني يتضامنوا ما فهمت؟
ـ يبدو أنك فعلا مش أجنبي. لو أجنبي كنت تضامنت، بس أنت القضية قضيتك مثل ما البيت بيتك، كيف بدك تتضامن والقضية قضيتك.. أنت صاحب القضية، وصحاب القضية غير ضحاياها، المفروض يربحوا منها مش يتضامنوا، صحيح والله نسيت، كيف نسيت ليش نسيت؟ فيه أعداء القضية وضحايا القضية وفي المتضامنين مع القضية وفي المتضامنين مع ضحايا القضية وفي كمان صحاب القضية اللي بيحافظوا عليها وفي المتضامنين مع صحاب القضية. وين رحت أنا؟ ما بديأسكن في هالبلد، بعدين في حدا بعقل وبسكن في بلد كل حجر فيها معتبر حاله مقدس، وماكل بحاله مقلب لأنه في مجانين بأميركا بدهم يشتروه، بلد مجــدوب وبجــــذب كل مجاديب الدنيا.
قبل أن يصبح وجود الحاجز طاغيًا أو شموليًا في المراحل التي تسمي« سيجر» بلغة أصحابه أو إغلاق، بمعني حصار، بالعربية مرت سنوات من الإغلاقات المتقطعة يتبعها تخفيف بموجب أسلوب بافلوف أو سكينر البدائي في تحديد ردود فعل كلب أو قرد التجارب علي المؤثرات وسلوكه المشروط بردود الفعل المذكورة. وهكذا توفر الوقت لنشوء أسلوب حياة وثقافة الحاجز في هذه المرحلة. لأن الحاجز صمد فترة تميزه عن «الحاجز الطيار» الذي ينصب لساعات، يوم أو نصف يوم، ويعد للمارة مفاجأة غير سارة في مكان غير معهود، ولكنه لا يلبث أن يختفي تاركًا وراءه ركب ومفاصل متألمة بعد أن أُجبرت علي الجثوّ إلي جانبه بانتظار فحص الهويات وأرقامها باللاسلكي، وسائقين يشتمون بعد أن اضطروا حتي إلي فك دولاب الاحتياط ناهيك عما فوقه أثناء التفتيش الدقيق. ويذكر طلبة الجامعة كيف ترك «الحاجز الطيار» وراءه شهيدين من الطلبة وستة أشهر من الإغلاق، قبل الانتفاضة المسماة أولي تشاؤمًا باستمرار الاحتلال وتفاؤلاً باستمرار الانتفاضات. وبحكم تعريفه كحاجز طيار يستفز الحاجز المفاجئ ردود الفعل عفوية وغاضبة، ومفاجئة بدورها حتي لأصحابها، وغير مقررة سلفًا. لأن الإنسان لا يدخله وهو مستعد نفسيًا حاسبًا تصرفاته خطوتين إلي الأمام ليحدد تصرفاته وردود فعله.
يمثل الحاجز « نقطة تحول» في الحيز العام. إنه ليس مكاناً بل حافة، تخوم، ونقطة عبور، نهاية، وبداية في نفس النقطة في الحيز العام، إنه شفا الانتقال. وإذا لم يتقن الإنسان المشي بتوازن قد يتحول إلي منحدر أو منزلق نحو الهاوية. فقد يصل المرء منه إلي الاعتقال بدل الوصول إلي العمل أو إلي البهدلة الجسدية المباشرة بدلاً من البيت.
عند نقطة الحاجز ينتهي حيز عام واحد ويبدأ حيز عام آخر. ليس الحاجز النظري مكاناً إذاً بل نقطة في المكان. ولكن الحاجز الفعلي هو مكان، وهو مكان متوسع باستمرار ليصبح هو بذاته حيزاً عاماً. يخلق الحيز العام المكان ويعيد إنتاجه علي صورته ومثاله. هكذا تتحول مفارق الطرق والأحياء المتاخمة للحاجز إلي محيطه، إلي هامش له مطبوع بطابعه. هنا ينتظر الناس بعضهم وينتظر الناس دورهم، هناك يقوم موقف سيارات، وتباع بضائع وتنتقل من شاحنة إلي أخري، هنا تنزل أمتعة وتجر العربات. هناك محطات ركاب، قلايات فلافل كدليل فلسطيني أصيل علي وجود ازدحام. وللازدحام في بلاد الحواجز رائحة سجائر وفلافل وكباب مشوي وصوت علب مشروبات غازية فارغة تتدحرج بين الأرجل. موقف لسيارات العمال الذين ذهبوا إلي أعمالهم مشيًا علي الأقدام قبل طلوع الشمس ولم يتبق خلفهم من دليل علي وجودهم إلا موقف سيارات بعضهم العتيقة وبعضهم الآخر الذي لم يسعفه الحظ ومازال علي الحاجز. إنه ينتظر من لديه واسطة ليـأخذه لعمل، أماكن للاختباء الفوري من الجنود، وأماكن للانفراد بالناس يجرهم إليها الجنود لتفتيشهم وضربهم بحرية بعيداً عن أعين الناس.
الحاجز هو حالة الوضع، حال الحالة. الحاجز ليس مكانًا حتي بالنسبة للجنود. إنه موضع يوضَعون فيه بحكم علاقتهم بالدولة، ينصبون عليه، يعينون ويرسلون إليه، إنه موقع للسيطرة والاستبداد. إنه موقع وتحصين. الموقع ـ التحصين الذي يشرف علي الحاجز يري من الخارج فقط. رؤيته ممكنة ودخوله مثل مسه محظور، إنه ليس حيزاً عاماً، إنه موقع يسيطر علي الحيز العام.