مـــصــــــــــــر.......والإســــلاميون الجـــــــــدد
مع انحسار المد الاستعماري الغربي في أواخر القرن العشرين، بدأت العلوم والدراسات الاجتماعية والإنسانية في الغرب في التحرر من تحيزاتها القديمة إزاء العالم الثالث، سواء تلك التي تعود إلي التمركز حول الذات الأوروبية أو تلك التي لا تري تاريخ العالم وحضاراته إلا في سياق الحضارة الأوروبية والتاريخ الأوروبي. فلا يمكن فصل السياق التاريخي للدراسات الاجتماعية الغربية بأي حال عن التجربة الاستعمارية (الأوروبية)، ودور تلك الدراسات في المشروع الاستعماري. ولعل الأنثروبولوجية هي النموذج الأوضح علي دور تلك (الدراسات) في خدمة المشروعات والإدارات والممارسات الإستعمارية. ورغم ضآلة الدور الذي تلعبه دراسات الشرق الأوسط في الغرب في تشكيل السياسات الغربية (والأمريكية خصوصا) إزاء هذه المنطقة من العالم بسبب تجاهل مؤسسات صنع القرار لها واعتمادها توجهات صراعية ونافية في التعاطي مع العرب والمسلمين، إلا أن هذه الدراسات هي المثال الأكثر بروزا علي التحرر من التحيز باتجاه فهم موضوعي لتاريخ المنطقة وحضارتها وقضاياها. لذلك أصبحت أقسام دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة هدفا للمحافظين الجدد المسيطرين علي الإدارة والسياسة الأمريكية. فمع مطلع هذا العام، شن أكاديميون صهاينة كدانيال بايبس (الذي عينه الرئيس الأمريكي رئيسا لمعهد السلام في غيبة الكونجرس) ومارتن كريمر وأضرابهم هجوما متعدد الجبهات علي أقسام دراسات الشرق الأوسط في الجامعات الأمريكية ومن فيها من أكاديميين وباحثين، واتهموهم بالإخفاق والفشل والتبرير للأصوليين الإسلاميين، كما طعنوا في وطنيتهم بسبب عدم مشاركتهم في ما يسمي بالحرب علي الإرهاب، وبسبب تبنيهم لأفكار ومناهج تدرك خطورة وخطل تفكير ومقولات الاستشراق التقليدية. بل وصل الأمر إلي حد أن شهادات الأكاديميين الصهاينة أمام لجان الكونجرس الأمريكي تعرضت بالطعن والإسفاف لأطروحات المفكر الفلسطيني ــ الأمريكي الراحل إدوارد سعيد حول دور الاستشراق في بناء وتشكيل التحيزات الغربية إزاء الشرق، وهذه الأطروحات لقيت قبولا عاما في الأوساط الأكاديمية الغربية. بل إن تعديلا قانونيا (عرف بالمادة السادسة Article 6) في التشريعات ــ التي تنظم المنح الدراسية-قد ضيق كثيرا من الميزانيات المتاحة لتدريس اللغة العربية والدراسات الإسلامية في الجامعات وكذلك المنح المقدمة لطلاب هذه الدراسات.
مؤلف هذا الكتاب هو الدكتور ريموند وليم بيكر، وهو أستاذ العلوم السياسية في كلية ترينيتي وفي الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وأقام بها سنوات من حياته الأكاديمية. لم يأت هذا الكتاب خارج سياق موضوعه وزمانه؛ فمنذ أواخر عام 2002، تم إطلاق عدد من المبادرات الأمريكية والأوروبية للإصلاح الديمقراطي والاجتماعي والثقافي في الشرق الأوسط كان أهمها المشروع الأمريكي المعروف بمبادرة الشرق الأوسط «الكبير». انطلقت بعض هذه المبادرات من تفكير مفاده أن أحداث سبتمبر/أيلول 2001 وما وراءها من تطرف وعنف لدي بعض المسلمين هو نتاج لثقافة تعصب وانغلاق ورفض، لا تؤمن بقيم الحضارة العالمية المعاصرة من حوار وتسامح وقبول بالآخر وديمقراطية سياسية وتحرير للمرأة، وغيرها. غطت المبادرات الرسمية علي عدد من الجهود غير الرسمية لمؤسسات البحث ومراكز التفكير في أوروبا والولايات المتحدة، والتي قدمت بدورها مقاربات موازية لقضايا تعزيز الديمقراطية والمشاركة السياسية وتحرير الاقتصاد والمرأة. تناولت بعض تلك الجهود إصلاح الفكر والخطاب الإسلامي، بينما حاولت جهود أخري أن تتحاور مع «إسلاميين» يؤمنون بالتعددية السياسية والثقافية والتداول الديمقراطي علي السلطة والتسامح إزاء المرأة والأقليات ودور المجتمع المدني. دعت هذه المحاولات عددا من رموز التيار الإسلامي الإصلاحي غير مرة من أجل الحوار حول تلك القضايا وغيرها.
في المنهج
يأتي منهج هذا الكتاب علي عكس كل المقاربات «القمعية» التي لا تسمح للظواهر بالتحدث عن ذاتها أو الإفصاح عن مضامينها، بل هي في بعض جوانبها محاكاة للآخر البعيد، وقد تشي ــ أحيانا ــ بدوغما أيديولوجية. ينطلق المؤلف في تعاطيه مع الظواهر الإسلامية والعربية والمصرية من إدراك عميق لخصوصيات كل ظاهرة ومحاولة لاستكناه سياقات ومعاني تلك الظواهر. فبينما يوظف محمود إسماعيل أدوات التحليل الماركسي ــ خاصة مفهوم صراع الطبقات ــ في مشروعه الفكري لفهم الإسلام في أطوار النشوء والازدهار، يحلل سامي زبيدة العلاقة بين الإسلام والدولة والجماهير باستخدام أدوات التحليل السوسيولوجي، فيما يستخدم نصر حامد أبو زيد أدوات المنهج البنيوي كمفاهيم السياق والتأويل في مقاربة النص القرآني. وقد سبقهم محمد عابد الجابري الذي استخدم أدوات ميشيل فوكو في تحليل الخطاب العربي والإسلامي، ومحمد أركون الذي كان بمثابة صدمة ثقافية حين طبق المنهج ما بعد البنيوي والتفكيكي في التعامل مع الفكر الإسلامي في توقيت يكاد يكون معاصراً لديريدا نفسه وبطريقة تبسيطية ومباشرة في ذات الوقت.
يتجاوز المؤلف في سعيه لتقديم ظاهرة «الإسلاميين الجدد» بمنهجيته ورؤيته وبصيرته معظم تلك المحاولات القاصرة، فهو يسعي حثيثا إلي استنطاق هذه الظاهرة وقراءتها في مختلف سياقاتها التاريخية والثقافية والسياسية، وتحليلها علي أكثر من مستوي، وبدون التعسف الذي تشي به الدراسات الأكاديمية ذات الأجندة السياسية، أو تلك الدراسات المتمحورة حول ذات وتجربة المركز الغربي، أو غيرها من الدراسات التي تنطلق من نظريات أو مناهج بحث يراد تطبيقها علي كافة التجارب بصرف النظر عن محدوديتها أو قصورها أو عدم قدرتها علي التفسير.
وعندما يصف المؤلف كتابه في المقدمة بأنه «قصة» الإسلاميين الجدد، فإن ذلك يشير إلي أنه لا يتعامل مع موضوعه بصفته مجرد باحث في الأوراق يكتب عن الإسلام نتيجة تراكم معرفي أو معلوماتي أو لمجرد توافر المصادر والمراجع التي يعود إليها الباحثون في توثيق موضوعاتهم ومقولاتهم، بل إنه عاصر كثيراً من القصص والأحداث التي يتناولها بالسرد والتحليل. فالكتاب يتخذ شكلا سرديا يسّر للمؤلف عرض أفكار الإسلاميين الجدد من خلال سجالاتهم ونقاشاتهم مع ممثلي التيارات السياسية والفكرية الأخري. وفي هذا أيضاً نلمح إصرار هذا الأستاذ الأمريكي علي الخروج علي المناهج الغربية التقليدية ليقترب من المناهج العربية والإسلامية في دراسة الظواهر الحضارية والتاريخية، وذلك من ناحية إبراز سلطة النص ومحاولة استنطاقه واستكشاف مختلف سياقات وآليات إنتاجه. تفصح هذه الطريقة في البحث والتأليف عن نقلة نوعية في المناهج والأدوات رافقت تلك النقلة الكمية في الكتابة عن الإسلام منذ بداية الثمانينيات الماضية، وهي تعبير آخر عن انحسار الإمبريالية الأكاديمية. المفارقة أن هذه النقلة النوعية في المنهج والأدوات لدي الباحثين الغربيين لم تجد طريقها بعد إلي مؤلفات وأعمال الكثير من الباحثين والأكاديميين العرب.
أسلوب العرض
يتخذ المؤلف من الحوارات والنقاشات التي خاضها الإسلاميون الجدد ــ مع التيارات الفكرية والسياسية المصرية الأخري ــ ساحة أو منصة لسرد أو عرض أفكار ورؤية الإسلاميين الجدد في مصر في مختلف القضايا. فهذه الأفكار ــ كما يؤكد ــ تظهر خلال الحوارات والنقاشات التي يشتبك فيها الإسلاميون الجدد مع بقية التيارات الفكرية والسياسية في مصر. فإذا أردنا رسم أو تحديد الموقع الفكري للإسلاميين الجدد فسوف نجده في المناظرات التي تدور بينهم وبين ممثلي أقوي تيارين في الساحة الفكرية والسياسية المصرية، وهما تيار العلمانية وتيار التطرف (الديني). وقلما تجد المؤلف يستخدم مصطلح «الأصولية» في كتابه، ولا حتي مصطلح «العلمانية» في محاولة واعية منه لعدم اختزال مضامين المذاهب الفكرية في الأشخاص أو التيارات السياسية، ولتجنب الخوض في جدالات نظرية، يمكن أن تذهب به بعيداً عن واقع الحالة الفكرية وتسلمه إلي عزلة فكرية مجردة. فمن الجلي أن الدكتور بيكر يفضل بدلاً من ذلك أن يقدم صورة حية عن المناظرات الفعلية التي جرت بين الإسلاميين الجدد مع كل من العلمانيين والمتطرفين. وحتي عندما قام بتصوير هذه المناظرات فإنه قلما سمح لنفسه بالخروج عن سياق ما حدث فعلياً خلال هذه المناظرات، ليتحول نحو مناقشة مجردة لوجهة النظر المذهبية لكل فريق. بل حاول بشكل يدعو للتقدير أن يلتزم بنص العبارات والكلمات وتسلسل ورودها خلال المناظرة. ورغم أن الكاتب قد حرص في تصويره للمناظرات والحوارات التي قدمها علي تجنب التحيزات التي قد تصدر عن صلاته الشخصية الطيبة مع كثير من الإسلاميين الجدد، ورغم أنه قد يتوافق -أحيانا علي الأقل- مع موقف الإسلاميين الجدد بشكل شخصي، إذ تشيع بين سطور الكتاب لمسة من المحبة الشخصية للموضوع بصورة لا تخطئها العين. ومن الواضح أن الكاتب قد تابع بنفسه الكثير من المناظرات والحوارات التي صورها في كتابه، مما فرض عليه عبئاً كبيراً في مسألة التوثيق والاسترجاع. ولذا فقد جاءت استشهاداته واقتباساته من أقوال شخصيات الكتاب في كثير من الأحيان خلواً من التوثيق التقليدي.
يخلو تصوير المناظرات والحوارات بين الإسلاميين الجدد وممثلي بقية التيارات الفكرية والسياسية من الملل أو الإرهاق الذهني. فقد وفق المؤلف لأسلوب سلس لا يمله القارئ، من ناحية. كما تجنب التعمق الزائد عن الحد والذي قد يفضي بالقارئ العادي إلي الإرهاق الذهني. ويخلو متن الكتاب تماما من الهوامش أو الحواشي، وهو ما يدل علي إصرار الكاتب علي اتباع أسلوب السرد القصصي الحر ورفض تقنيات التحليل العلمي (التقليدية) بشكل متعمد.
لا يخفي المؤلف أن اهتمامه بدراسة مصر يأتي نتيجة إدراكه لأهميتها ومحوريتها في العالم العربي والإسلامي معاً. فهي من أكثر الدول العربية تحديثاً، فضلاً عن كونها ملتقي لكثير من الحضارات المختلفة التي تعاقبت عليها عبر العصور. فأفواج الزوار التي تأتي إلي مصر في العصر الحالي؛ والحملات العسكرية التي نزلت إليها في العصور السابقة قد أدت إلي نشوء عملية احتكاك وتفاعل بين المصريين والآخر الأجنبي. كانت هذه الاحتكاكات هي السبب الرئيسي في ظهور عدد من التيارات الفكرية والسياسية المهمة التي هبت للدفاع عن الهوية الإسلامية والقومية لمصر. فمنذ الحملة الفرنسية والمفكرون المصريون تشغلهم قضية الاحتكاك مع الآخر بشكل قلما تجده في أي دولة أخري. وعلي صفحات الجرائد المصرية تجد أخبار الآخر تطغي علي أخبار المحليات. لذا فإن دراسة تطور الحركات الإسلامية في مصر هي بمثابة استشراف لمستقبل الحركات الإسلامية في عالم تسوده ظاهرة العولمة. وذلك علي عكس ما يجده الباحث من دراسة الإٍسلام في أي منطقة أخري كأفغانستان مثلاً. فدراسة الإسلام في مصر تمنح الباحث فرصة جيدة للإجابة عن السؤال الهام التالي: ما هي محصلات تفاعل الإسلام مع المسائل الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يفرزها النظام العالمي الجديد؟.
خارطة الكتاب
ينقسم الكتاب إلي مقدمة وثلاثة أبواب رئيسية،هي:
1 ـ الثقافة، وهو يتناول رؤية الإسلاميين الجدد في مبحثين رئيسيين حول إصلاح التعليم وتبني الفنون.
2 ـ المجتمع، وهو يتناول وجهة نظر الإسلاميين الجدد في مبحثين حول بناء المجتمع (المسألة الاجتماعية) وصياغة نظام اقتصادي (المسألة الاقتصادية).
3 ـ السياسة، وهو يتناول وجهات نظر الإسلاميين الجدد في مبحثين حول النضال من أجل تجديد إسلامي (في الممارسة السياسية الداخلية مع التركيز علي الأحزاب والديمقراطية والحقوق والحريات المدنية)، والتعاطي مع العالم (أي الممارسة السياسية الدولية من ناحية قضايا الهوية القومية والإسلامية والاستجابة للهيمنة الغربية والأمريكية).
صدّر الدكتور بيكر بداية كل باب من هذه الثلاثة بصفحة فكاهية وضع فيها طرفة قصيرة ساخرة عن حالة كل من الثقافة والمجتمع والسياسة في مصر. فافتتح بداية باب الثقافة بطرفة للكاتب أحمد بهجت عن تدني الحالة الثقافية في مصر إلي الاقتصار علي الثقافة الشعبية التي تركز علي الراقصات والفنانات أكثر مما تركز علي المفكرين والمصلحين.
وصدر بداية باب المجتمع بوصف مقالة ساخرة كتبها «جلال أمين» عن نبوءاته لحالة المجتمع المصري في العام 2040، حيث لاحظ كيف أن انتشار الحجاب بين الفتيات المصريات في السبعينيات سرعان ما جر وراءه انتشار النقاب، حيث تأثرت الفتيات واقتدين ببعضهن في ذلك. ومن هنا تخيل جلال أمين أنه في عام 2010 بدأ الرجال أيضاً يفكرون في تغطية أجسادهم دفعاً للإغراء واقتداء بالنساء فقرروا لبس الحجاب الرجالي، الذي ما لبث أن جر وراءه النقاب الرجالي، حتي أصبحت القاهرة بحلول عام 2040 عبارة عن خيام متحركة. فقد تغيرت طريقة اللباس بينما لم يتغير أي شيء آخر في أذهان الناس.
وصدر باب السياسة بوصف مقال للدكتورة منار الشوربجي تتكلم فيه عن ظهور ما تصفه بحزب جديد هو حزب الصابون، الذي يجوب مندوبوه الأحياء الشعبية باحثين عن مواطنين يحتفظون بأكياس فارغة لإحدي ماركات الصابون ليمنحوهم عنها جوائز من ذهب. فهي تري أن هذا الحزب يمنح أتباعه الأمل في الحصول علي جوائز ذهبية. وهذا ما تفشل غالبية الأحزاب الأخري في منحه للناس.
من هم الإسلاميون الجدد؟
الإسلاميون الجدد الذين يحددهم الكاتب هم: أستاذ القانون/ أحمد كمال أبو المجد ــ الكاتب والصحفي/ فهمي هويدي ــ المحامي/ محمد سليم العوا ــ الشيخ/ محمد الغزالي ــ المستشار/ طارق البشري ــ الشيخ/ يوسف القرضاوي. شكل هؤلاء الإسلاميون تيارا فكريا جديدا تميز بوسطيته، وبأنه امتداد حقيقي للتيار الإسلامي الأوسع. وتنطلق هذه المجموعة من رؤية إيجابية تستند إلي أكثر التقاليد الإسلامية رسوخا علي مستوي الفكر والممارسة بدلا من التفكير المتخندق في المخاوف. وقد حرص الكاتب علي وضع صورة فوتوغرافية لكل منهم في الكتاب في الصفحات التي يتكلم فيها عنهم وعن سجالاتهم ومناظراتهم مع بقية التيارات الفكرية في مصر. وهو يؤكد أن كل واحد من هؤلاء يتمتع بشهرة طيبة للغاية في العالم العربي والإسلامي، مما يعني أنهم يقدمون ما يشبه القدوة لجيل قادم إن لم يكن للجيل الحالي من المسلمين في المنطقة العربية. أعلن الإسلاميون الجدد عن صياغة اتجاههم في بيان أصدروه في بداية الثمانينات، وتداوله المثقفون آنذاك بشكل واسع. وبسبب الظروف غير المواتية، لم يجد ذلك البيان طريقه إلي النشر إلا عام 1991 بواسطة مؤلفه الرئيسي الدكتور أحمد كمال أبوالمجد، فقيه القانون الدستوري المعروف دوليا. أثار البيان (كتاب «رؤية إسلامية معاصرة») مناقشات وأصداء واسعة.
وكمثال علي شخصية ومنهج تفكير الإسلاميين الجدد، يذكر المؤلف قصة اعتداء المتطرفين الإسلاميين علي الكاتب الروائي الكبير نجيب محفوظ، وكيف أن الإسلاميين الجدد سارعوا وبقوة إلي إدانة المتطرفين الذين ارتكبوا ذلك الاعتداء. وقد سارع الشيخ محمد الغزالي إلي زيارة نجيب محفوظ في المستشفي للاطمئنان عليه، واعتبر الاعتداء «جريمة ضد الإسلام»، رغم أن أنه ذاته كان قد انتقد رواية نجيب محفوظ «أولاد حارتنا» التي كانت الدافع وراء اعتداء المتطرفين. من ناحيته، يري المؤلف أن جذور مثل هذا التطرف تكمن في قصور النظام التعليمي ومؤسساته من مدارس وجامعات عن مواكبة حركة التربية والتعليم في العالم أو تأهيل الخريجين للحصول علي فرص عمل جيدة. ويكشف المؤلف عن سعي العلمانيين المتطرفين لقمع منهج الاعتدال الذي يدعو له الوسطيون عن طريق تصنيفهم أو اعتبارهم في نفس السياق مع المتطرفين. وحيث أن مثل هذه المشكلات الاجتماعية لا يمكن حلها بين ليلة وضحاها، يقترح الإسلاميون الجدد مشاركة الناس بدعم المدارس والمستشفيات والانضمام إلي جهد جمعي في إصلاح المجتمع. كما يرفضون التأويلات الضيقة التي تهمش دور المرأة في المجتمع، وينتقدون «الدراويش» الذين يركزون علي العبادات الفردية ويغفلون المجتمع. وبسبب الارتباط بين الدراويش والصوفية، لا يخفي موقفهم النقدي من التصوف (في عهود انحطاطه علي الأقل).
وعلي مدي صفحات الكتاب الممتدة، يبين المؤلف، وبإعجاب واضح، كيف يجادل الإسلاميون الجدد من أجل تأويل عقلاني معاصر للقرآن الكريم رافضين الدروشة وكل ما يمكن اعتباره غير عقلاني بالنسبة للعقل المعاصر. ورغم أن موقفهم النقدي من الدروشة والاقتصار علي العبادات الفردية والسلبية إزاء قضايا إصلاح المجتمع له ما يبرره، إلا أن حاجة العالم المادي الاستهلاكي المعاصر إلي التصوف الحقيقي لا زالت قائمة. ولعل إقبال بعض الغربيين علي الإسلام من باب التصوف والروحانيات دليل علي ذلك.
ويعارض الإسلاميون الجدد أولئك الذين يسلمون بالوجود العسكري الأمريكي في العالم الإسلامي، كما يخالفون الذين يدعمون بشكل مطلق كافة أشكال المقاومة لذلك الوجود العسكري. بل تتسم مناقشتهم لهذه القضايا بالعمق والحنكة، وعلي نفس المستوي الذي يقدمه معلقون سياسيون من أمثال نعوم تشومسكي. لكن موقفهم لا يقبل التوسط عندما يتعلق الأمر بالقدس؛ فالقدس بالنسبة لهم ليست مجرد مدينة في بلاد تدعي فلسطين، بل إن فلسطين هي بلاد في مدينة تدعي القدس. وتتوازن الرؤية أكثر لدي فهمي هويدي الذي يقول أنه إذا كان التخلي عن القدس من الخطورة بمكان، فإن التخلي عن حق العودة هو أخطر من ذلك.
الإسلاميون الجدد والعلمانيون
ترصد مقدمة الدكتور بيكر السجال الذي دار بين المفكر المصري السيد ياسين ومؤلف الكتاب (الدكتور أبوالمجد) علي صفحات جريدة الأهرام. نوه السيد ياسين بأن الإسلاميين الجدد (وعلي العكس من غيرهم) لا يدعون أنهم الناطقون باسم الإسلام وأنهم يقدمون أفكارهم علي أنها ببساطة وجهة نظر قائمة ومطروحة للنقاش؛ لكنه لم ير شيئا «جديدا» أو حتي «إسلاميا» بشكل خاص في الكتاب؛ كما عاب السيد ياسين علي مؤلفي الكتاب (البيان) ثلاث نقاط أساسية غالباً ما تثار لدي انتقاد الإسلاميين المعتدلين، وهي:
ــ السكوت علي العنف الصادر عن بعض الجماعات الإسلامية المتشددة، وعدم إدانته، والسلبية في مواجهته.
ــ النزعة الانتقائية والتوفيقية التي تسود أفكار الإسلاميين الجدد؛ ذلك أنهم كثيراً ما يبدو أنهم يحاولون التوفيق أو التقريب بين اتجاهات متناقضة أو متعارضة.
ــ الإخفاق في بلورة نظرية متكاملة للأمن القومي المصري تصلح للتعامل مع عالم اليوم الذي يتسم بالتعقيد والإضطراب وتشابك المصالح وتشوش التحالفات.
رد الدكتور أبو المجد علي الانتقادات بأن البيان هو نداء من أجل الإنقاذ، وأسف لأن السيد ياسين أخفق في الاستجابة للطرح الذي يقدمه هذا البرنامج المعتدل مفضلا القيام بهجوم جديد علي المتطرفين. وأكد أن السيد ياسين يعرف عن مؤلفي البيان موقفهم الرافض للعنف. وهنا يري بيكر أن هذا السجال المشحون بين الكاتبين يفصح عن القضايا الرئيسة للتدافع حول الإسلام بين المسلمين العلمانيين والمعتدلين والمتطرفين العنفيين. استقطب السجال علي الفور انتباه الطبقة السياسية في مصر.
يبدو أن مأزق المتطرفين العنفيين هو تركيزهم علي الغاية دون الوسيلة. فالغاية التي يسعون إليها من إرساء القيم الإسلامية في المجتمع غاية نبيلة، ولكنهم فشلوا في اختيار الوسيلة المناسبة للوصول إليها. وهنا يختلف الإسلاميون الجدد عن غيرهم من التيارات الفكرية في مصر. فالإسلاميون الجدد يركزون علي الغاية والوسيلة معاً، ولا يضحون بإحداهما في سبيل الأخري. فهم علي خلاف المتطرفين العنفيين، يرون أن وسيلة العنف لا تتلاءم مع رقي الغاية التي يسعون إليها والتي هي إرساء القيم الإسلامية في المجتمع. كذلك لا يري الإسلاميون الجدد إعطاء اليد العليا للوسيلة علي حساب الغاية، مثلما يفعل العلمانيون، الذين يركزون علي طبيعة الوسائل (سلمية وعقلانية)، ويغفلون عن الغايات والقيم الإسلامية الأساسية التي يجب أن يقوم عليها المجتمع وتؤدي إليها الوسائل.
من ناحية أخري، يري بيكر أن ظاهرة الإسلاميين الجدد قد جاءت تعبيراً عن إخفاق أو جمود جماعة الإخوان المسلمين عند مرحلة لا تتلاءم مع متطلبات العمل والتغيير السياسي المعاصر. ورغم أن الإسلاميين الجدد يدينون بالكثير لجماعة «الإخوان المسلمون»، وكثيراً ما يعبرون عن تعاطفهم مع أفكار حسن البنا (مؤسس الجماعة)، إلا أنهم يرفضون إستراتيجية الحركة في تغليب التوجهات الشعبوية (التعبوية) علي النزعات العقلانية. فالإسلاميون الجدد يرفضون الشعارات الشعبوية شكلاً وموضوعاً. لدرجة أنهم لا يقبلون الشعار الأكثر شهرة (الإسلام هو الحل)، ليس لما يحمله من مضمون ولكن لما يعبر عنه من قطعية وحصرية.
مناظرات الإسلاميين الجدد
يعرض الكتاب لإحدي أهم المناظرات بين الإسلاميين الجدد والعلمانيين، وهي مناظرة الشيخ محمد الغزالي والكاتب المصري فرج فودة ضمن فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1992. وليس خفياً علي الكثيرين ما دار في هذه المناظرة، إلا أن المؤلف في عرضه للمناظرة عمد إلي تصوير مشاعر الجماهير التي حضرت المناظرة، ورد فعل الشيخ محمد الغزالي إزاءها. فقد شرع الحضور يهتفون ببعض الشعارات الإسلامية تعبيراً منهم عن رفض موقف فرج فودة، إلا أن الشيخ الغزالي طلب منهم التوقف عن الهتاف، ليسود المناظرة جو من الموضوعية بدلاً من أن تسيطر عليها الروح الغوغائية. وبذلك يلمح الكاتب إلي حقيقة مفادها أن الإسلاميين الجدد يتمتعون بقدر لا بأس به من تأييد الجماهير، لكنهم لا ينساقون وراء ذلك، بل يعمدون إلي كبح جماح الجماهير عندما تسيطر عليهم النزعات الديماجوجية التي تجعلهم يحيدون عن قواعد الحوار الموضوعي مع الآخر المختلف، وقد يتبنون موقفاً لاعقلانياً يقدم الانفعال علي الإقناع. وقد ساد الكتاب كثير من تفاصيل ما حدث خلال مناظرات الإسلاميين، وكان أكثرها يبرز موقف الإسلاميين الجدد علي أنه «وسط» بين موقف الجماهير وموقف المعارضين لهم. وهو في ذلك يقدم للقارئ ــ ربما بشكل غير مباشر ــ انطباعات أو صور من ملامحها:
ــ أن الجماهير أكثر تشدداً فيما يخص المسائل الدينية من الإسلاميين الجدد، وهذا يؤكد علي وجود قدر من الاختلاف بين وجهة نظر الجماهير ووجهة نظر الإسلاميين الجدد، وخاصة فيما يتعلق بأسلوب وروح الحوار. (يذكرنا هذا بثنائية التقليد الإسلامي التي طرحها إرنست جلنر في دراساته الأنثروبولوجية منذ عقدين وهي تتكون من التقليد العلمي أو النخبوي الذي يمثله العلماء والمفكرون المسلمون عبر التاريخ الإسلامي، وتقليد التدين الشعبي الذي يمثله العامة بمختــــلف فئاتهم.) وعلي ذلك فالإسلاميون الجـــــدد ليســــــوا قــــــادة شـــــعبويين ــ ككثيـــــر من رجال الدين ــ ولكنهم مصلحون؛ وهم لا يمارســــــون الخطـــــابة، بل يمارسون الإقناع.
ــ أن الإسلاميين الجدد يقومون بتهدئة الجماهير بدفعها إلي العقلانية والحوار ونبذ العنف.
ــ أن الإسلاميين الجدد ينبذون وسائل اســــــتثارة الجماهيــر والغوغاء التي يبرع فيها بعض من يعملون تحت مسمي الإسلام.
لا يذكر المؤلف هذه الانطباعات صراحة، ولكنه يضمنها حكاياته عن سير المناظرات والحوارات بين الإسلاميين الجدد والتيارات الفكرية الأخري. وهذا يؤكد علي اختياره الحاسم لأسلوب القص والسرد المنبسط الذي تتسلل عبره الانطباعات بشكل غفوي وطبيعي، وذلك عوضاً عن الأسلوب الأكاديمي الذي يستخدم التحليل الواعي.
لم تسفر مناظرة محمد الغزالي وفرج فودة عن خروج طرف منتصر وآخر يجر أذيال الهزيمة، إلا أن أهم ما في الأمر هو أن الجماهير استمعت إلي وجهتي النظر المختلفتين بصدد الإسلام والسياسة، والدين والعلمانية. وبهذا هدأ الحماس الشعبوي وبدأت روح الموضوعية والحوار تسري بين الناس. وهذا في حد ذاته إنجاز كبير، وهو ما يؤكد عليه المؤلف. ورغم أنه يفيض كثيراً في سرد تفاصيل الحوار بين الإسلاميين الجدد والمفكرين الآخرين، إلا أننا نلحظ من وراء ذلك كله أنه لا يقصد مجرد تدوين أو توثيق ما حدث بقدر ما يقصد إلي التأكيد علي روح الحوار والموضوعية التي يتسم بها الإسلاميون الجدد، والتي يبدي إعجابه الشديد بها، ويري فيها ــ وليس في أفكارهم ذاتها بالضرورة ــ التجديد الأصيل الذي يحسب لهم. فما يراه ريموند بيكر في الإسلاميين الجــــــدد هو وسطيتهم واعتدالهم واعتمادهم لغة الحوار بدلاً من العنف، الذي يظـــن الغرب أنه قرين الإسلام. ونلمـــــس في كتابه رغبــــــة صــادقة في تصحيح صورة الإسلام والإسلاميين لدي الغرب.
الوسطية الإسلامية
يؤكد المؤلف علي أن أفكار الإسلاميين الجدد تنبع من اتخاذهم موقفاً وسطاً بين الإسلاميين المتشددين والعلمانيين. فهم يتخذون الوسطية مذهباً لهم، يعينهم علي تحديد مواقفهم بدقة؛ لكن هذا يتم بالطبع مع التزام مسبق بمبادئ الإسلام. والوسطية كحركة وفكر ترفض كلا من التطرف الإسلامي والعلماني، وتقدم الإسلام في سياق حديث هو بدوره مفارق لرؤية التقليديين. ففيما يتعلق بالدعوة إلي تطبيق الشريعة الإسلامية يؤكد الدكتور بيكر علي رأي الدكتور أبوالمجد من أن القوانين المصرية الوضعية تتفق في كثير من نصوصها وروحها مع الشريعة الإٍسلامية. وأن دعوة بعض المتشددين الإسلاميين لإلغائها واستبدالها بالشريعة الإٍسلامية لا لزوم لها. فقد يكون هناك حاجة لتعديل بعض نصوص القوانين «الوضعية» المصرية، ولكن يجب أن يتم ذلك تدريجياً وبشكل ديمقراطي في ظل المؤسسات والظروف الحالية، دون حاجة إلي زعزعة استقرار المجتمع والمؤسسات التشريعية.
كذلك يوفق الإسلاميون الجدد بين قيم الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية. وهم في ذلك يتبعون فكر الإمام محمد عبده في محاولته للتوفيق بين «الإسلام والمدنية». فهم يدعون العالم الإسلامي إلي الاستفادة من منجزات الحضارة الغربية فيما يتعلق بقيم حقوق الإنسان والديمقراطية والتفكير العلمي التي طورها الغرب عن أصل تلقاه من الحضارة الإسلامية. فمثلا لم يجد الشيخ محمد الغزالي غضاضة في كتابه «جدد حياتك» من الاقتباس من أفكار «ديل كارنيجي» والإعجاب بها صراحة.
وعلي العكس من التيارات الإسلامية المتشددة التي «تفرعت» عن فكر سيد قطب، والتي تدعو إلي تكفير مؤسسات الدولة وتحض أتباعها علي مقاطعة (الجاهلية) من بنوك وقطاعات السياحة وبعض مظاهر العصر، فإن الإسلاميين الجدد يحضون علي الأخذ بأسباب الحضارة المعاصرة، لكن مع عدم الوقوف منها موقف التقليد التام، بل مع تطويرها وتوجيهها لما فيه مصلحة المجتمع الإسلامي.
هكذا يري المؤلف أن الإسلاميين الجدد باتجاههم الوسطي يختلفون كثيراً سواء في تفكيرهم ووسائلهم واستراتيجياتهم عن ما يعتقده الغرب عن الإسلاميين الذين يرفضون الحوار ولا يعرفون سوي العنف بديلا.
البديل عن العنف
يبدو أن معرض القاهرة الدولي للكتاب في العام 1992 كان المناسبة التي خرج فيها الاتجاه الإسلامي الجديد عن صمته فأعلن عن وجوده للجماهير في المجال العام وبشكل مكثف. وفي هذا يستشهد المؤلف بآراء الدكتور أبوالمجد في كلمته التي شارك بها في هذا المعرض حول أولئك الذين يخلطون بين الإسلام وموجة التطرف التي شهدتها مصرفي عقد الثمانينيات وبداية التسعينيات، ويبخسون التيار الإسلامي المعتدل حقه كثيراً. فليست الساحة الإسلامية مقصورة علي المتطرفين الذين يسيئون لصورة الإسلام وقيمه الحضارية، بل إن بديل الوسطية الإسلامية موجود علي الساحة وبشكل متزايد يصعب إنكاره. فليس التطرف سوي الوجه الغاضب لمجموعات من شباب المسلمين الذين ضلوا طريقهم إلي التغيير والإصلاح بلجوئهم إلي التكفير والعنف. ومن هؤلاء يذكر حالة المتطرف التائب عادل عبد الباقي، 33 سنة، الذي انخرط في عدد الجماعات الإسلامية المتطرفة لمدة 16 سنة، مارس خلالها أشكال مختلفة من العنف ضد المجتمع المصري، حتي تم اعتقاله، وظهر علي شاشة التليفزيون المصري، في مارس/آذار 1994، ليجهر بتوبته، ويحذر الشباب من الوقوع في مصيدة التطرف التي اكتوي بنارها. وفي حديثه التليفزيوني ندد عادل عبد الباقي بممارسات المتطرفين وأفكارهم، التي هي ليست من الإٍسلام في شيء.
وعندما سئل عادل عبدالباقي عن أفضل وسيلة للقضاء علي خطر التطرف، أوضح أن هناك نوعين من المتطرفين: النوع الأول يشمل ذوي الأذهان الضعيفة والنوايا الحسنة، وهؤلاء يتسمون بضعف التفكير وليس بضعف النفوس، فنفوسهم بريئة ولكن أفكارهم المغلوطة قادتهم إلي العنف. والنوع الثاني يشمل ذوي النفوس الخبيثة والأفكار الملتوية وهؤلاء ينخرطون في الجماعات المتطرفة حبا في ممارسة العنف والتسلط والتكسب باسم الإسلام. قد تكون أفضل طريقة للتعامل مع النوع الأخير هي العنف المضاد من قبل الدولة؛ أما النوع الأول فهو لا يحتاج إلا إلي تصحيح أفكاره، وذلك عن طريق تطوير برامج ومناهج التربية والتعليم واستخدام لغة الحوار. وتلك بالضبط هي الوسائل التي يدعو الإسلاميون الجدد إلي اعتمادها في عملية الإحياء الإسلامي.
لقي كتاب «إسلام بلا خوف» قبولا حسنا لدي القراء الغربيين في الشهور الأولي لصدوره. فمن بين مئات الكتب الصادرة عن الإسلام والمتوافرة لدي شركات توزيع الكتب علي شبكة الإنترنت الدولية، حظي هذا الكتاب بمكان بين الكتب الأربعين الأكثر مبيعا. ولعل بساطة العرض وسهولة اللغة والنمط السردي القصصي الشيق الذي غلب علي فصوله وموضوعاته دور مهم في إتاحته للجمهور العريض من قراء الإنجليزية بسهولة ويسر. ولعل للتوقيت دلالته أيضا؛ فبعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001، والحملة الهائلة التي روجت لها دوائر ومؤسسات ووسائل إعلام غربية عديدة ضد الإسلام والمسلمين والحضارة الإسلامية، كانت الساحة في أمس الحاجة إلي مثل هذا الكتاب. ومن عوامل نجاح هذا الكتاب قيام دار نشر عريقة هي مطبعة جامعة هارفرد باختياره وتقديمه لقراء الإنكليزية، كإسهام معرفي لا جدال في قيمته وأثره.
غير أن هذه السهولة واليسر في أسلوب الكتاب وطريقة عرضه لم تكن بلا ثمن. فتوجه المؤلف نحو القارئ غير المتخصص، وانصرافه عن المصطلحات المركبة التي تميز مختلف مدارس الفكر الإسلامي، وتجنبه الخوض في الأصول الفكرية والفقهية لتيار الوسطية وهي راسخة في التقليد الإسلامي أدي إلي شخصنة الأفكار والاجتهادات وربطها بشخصيات الإسلاميين الجدد بدلا من أصولها الأكاديمية والمذهبية. ويخشي أن يكون ذلك أيضا سببا لزهد المختصين (بالدراسات العربية والإسلامية) في الكتاب، فهم يتوقعون تأصيلا أوسع للأفكار والآراء وإطارا تنظيريا مركبا لتفسير الظواهر وتحليل الحركات الاجتماعية والتيارات الفكرية.
وفي كل الأحوال، يقدم الكتاب قراءة ثقافية واجتماعية وسياسية هامة لمصر المعاصرة، وخارطة لمختلف تياراتها واتجاهاتها الثقافية والسياسية، وعرضا لأهم قضايا الصراع حول روح الإسلام ومصر بين المسلمين العلمانيين والمعتدلين والمتطرفين. وإن كان لسائل أن يسأل في أعقاب أحداث سبتمبر/أيلول 2001: هل هناك مسلمون معتدلون؟ وهل يتوافق الإسلام مع العالم المعاصر؟ فإن ريموند وليام بيكر قد أجاب علي هذه الأسئلة وغيرها بجدارة.
دراســـــــــة تطـــــور الحــــركات الإسلامية فـــــي مصـــــــــــــــــــر هي بمثابة اســــتشراف لمسـتقبل الحـــــركات الإســــــــــــــلاميـــــة في عــــــالم تســـــــــــوده ظاهـــــرة العـــــــــــــولمــــــــــــــة عــلي مــــدي صفحات الكتاب الممتدة، يبين المؤلف، وبإعجاب واضح، كيف يجـــــــــادل الإسلاميون الجدد مــن أجـــــــل تأويل عقلاني معاصر للقرآن الكريم رافضين الدروشة وكل ما يمكـن اعتباره غير عقلاني النســـــــبــة للعقل المعاصر