الأنفلــونزا الكبـري أخـطـــــر ســلاح دمـار شـامل
أغسطس 2004
القصة الملحمية للوباء الأكثر فتكا في التاريخ
قبل أيام، أعلن علماء أمريكيون وصينيون أن سلالة «مخيفة» من الفيروس المسبب لمرض «أنفلونزا الطيور» القاتل
المحـتــوي
القصة الملحمية للوباء الأكثر فتكا في التاريخ
قبل أيام، أعلن علماء أمريكيون وصينيون أن سلالة «مخيفة» من الفيروس المسبب لمرض «أنفلونزا الطيور» القاتل للإنسان، تمر حاليا بطفرة ويمكن أن تتفشي بين البشر ما لم يتم السيطرة عليها حيث ظهرت إصابة بين «البط» ويجب التحرك الفعلي لمنع انتقالها إلي الدجاج. وفي اليوم الأول من يوليو «تموز» هذا العام أعلن في فيتنام أن نحو 4500 دجاجة نفقت «خلال الأشهر الثلاثة الماضية» بسبب وباء أنفلونزا الطيور. وهذا المقال يلخص القصة الملحمية التي كتبها جون باري عن هذا الوباء، عندما تفشي ما بين عامي 1918 و 1919 واستحق أن يوصف بأنه الوباء الأكثر فتكًا في التاريخ.
(المحرر)
[ 1 ]
رواية «جون باري» عن وباء الأنفلونزا الذي تفشي ما بين عامي 1918 و 1919. وقتل من البشر أكثر مما قتلتهم بنادق وحراب الحرب العالمية الأولي، رواية رائعة مفعمة بالحياة زاخرة بالمعلومات ويتعين أن تثير اهتمامًا غير عادي في عام ظهور نوع فتاك من «أنفلونزا الطيور» ينتقل إلي البشر ويتفشي في شرق آسيا وقد يكون علي وشك اجتياح العالم علي نطاق واسع كما فعل سلفه «وباء 1918». في ذلك العام، لم يكن أحد يعرف سبب الوباء، الأمر الذي أدي إلي فشل جهود إيجاد الدواء. أما اليوم فإن المشتغلين بالطب، وكذلك هيئات الصحة العامة، في وضع استعداد أفضل كثيرًا عما كان عليه الحال عام 1918. إنهم يعرفون الآن طرق تحصين الإنسان ضد فيروس الأنفلونزا. رغم ذلك، ومع كل الخبرات والمهارات المتراكمة، يظل الشك قائمًا في قدرة المؤسسة العلاجية المعاصرة علي تقديم المصل الضروري، في التوقيت الصحيح، وبالقدر الكافي، لإحباط زحف أمراض وموت مشابه لما حدث قبل 86 عامًا.
يروي «باري» قصة الوباء في فصول تبحر عبر أزمنة بعيدة وقريبة، وتفاصيل مثيرة لذكريات بداية تفشي الأنفلونزا في ولايات أمريكية. يتعرض للمحاولات المعملية والجهود الحثيثة، وإن فشلت، لمجموعة من الأطباء الأمريكيين سعت إلي العثور علي الجرثومة المسببة للمرض، بهدف إيجاد المصل المضاد للوباء الذي خمد في نهاية المطاف وانحسر نتيجة عوامل خاصة بالدورة الطبيعية للجرثومة وتطورها، والعلاقة الأزلية ما بين الكائنات الحية والبيئة وارتفاع مستويات المقاومة داخل خلايا الدم عند الإنسان، والتغير المهم المفاجئ للمورثات، والذي يجرد الفيروس من خاصيته المميتة.
خمد الوباء لأسباب لم تكن مفهومة زمن تفشيه، ودون أي تدخل طبي يعترض عملية التفاعل الطبيعي بين الفيروس الطفيلي وجسم الإنسان. لكن رواية «باري» تستفيد من الاكتشافات العلمية اللاحقة، وتستند إلي فهمه المتجدد المثير للإعجاب والذي يضفي تفردًا و«هيبة» علي الصور التي يرسمها ل «ديناميكية» العدوي والوباء، ووظيفة الفيروس ومحاولة الأطباء ومسئولي الصحة العامة مواجهة الخراب والتعامل مع الموقف. يرصد «باري» الأخطاء ويبدي تقديره ل «الجهد» ويعيد بناء دورة العدوي وطبيعة الوباء في ضوء مستويات الفهم العلمي الحالية، ويقول إنه احتاج لكي ينجز كتاب «الإنفلونزا الكبري» إلي 7 سنوات، وهي ضعف الفترة التي توقعها لإنجازه، وإن بعض أسباب «التأخير» تعود إلي توسعه في فصول الكتاب عندما قرر دراسة الأوضاع المؤسفة لصناعة الدواء الأمريكية قبل العام 1918 كي يتوصل إلي فهم أفضل للموقف الذي كان علي العلماء والأطباء مواجهته عندما تفشي وباء الإنفلونزا في ذلك العام. ويشير باري إلي سبب آخر يكمن في صعوبة الحصول علي مادة مفيدة عن الوباء ويقول: «كان من السهل تتبع حكايات الموت. لكن اهتمامي الأكبر انصب علي حكايات أولئك الذين حاولوا ممارسة بعض سيطرة علي الأحداث. وكل من فعل ذلك كان في عجلة من أمره، وفي حالة ارتباك شديدة إلي درجة أن أحدًا لم ينتبه إلي ضرورة تدوين الأحداث وحفظها في سجلات».
السجلات هي بلا شك أول ما ينهار تحت وطأة تفشي الوباء. وظني إن عاملاً آخر له تأثيره في هذا السياق ويتمثل في وجود أسباب خاصة تدفع الذين نجوا من الوباء إلي قمع ذكريات معاناتهم. وهذا العامل يفسر في اعتقادي ندرة الأرقام في الذاكرتين العامة والخاصة عن وباء إنفلونزا عام 1918، رغم ضخامة الإحصاء الذي سجل حوالي 675 ألف حالة وفاة في الولايات المتحدة، وما بين 20 إلي 50 مليون حالة حول العالم، معظمها في الأسابيع الاثني عشر الأخيرة لعام 1918. إن كل من عاش تلك الأسابيع الأخيرة، وإلي أن دار الوباء دورته، خاض تجربة الخوف من الموت أو من السقوط مريضًا، أو عاني معاناة حادة مع المرض. لقد كنت من هؤلاء الناجين لكنني لا أتذكر شيئًا إذ كان عمري وقتها 13 شهرًا عندما سقطت أمي صريعة المرض في شيكاغو. كانت حاملاً في شقيقتي التي وضعتها في الرابع عشر من ديسمبر 1918، قبل موعد ولادتها بأسابيع. أصبت، ووالدي، بالأنفلونزا، وكان والدي خريجًا جامعيا مفلسًا وجد نفسه، وأمي، وحيدان في مدينة مشلولة وبلا أقرباء أو عون خارجي. لم يسجل والدي معاناتهما في كتاب. ولم أسمعهما يتحدثان فيما بعد عما تبقي لديهما من ذكريات. بدت التجربة الأكثر رعبًا في حياتهما وكأنها تعرضت لمحو ذاتي منظم لكي يبقي ما جري بالفعل، وصراعهما من أجل البقاء، مجهولاً بالنسبة لي. لكنني علمت من كتاب «باري» أن وباء الإنفلونزا كان أقل فتكًا في شيكاغو مع حلول شهر ديسمبر عام 1918، عما كان عليه بداية تفشيه داخل معسكرات الجيش بالساحل الشرقي والمدن القريبة. «أصيب الشرق والجنوب بالوباء مبكرًا وبقوة أعنف من تلك التي أصابت الساحل الغربي.. وفي وسط البلاد كانت المعاناة قليلة». وهذا يفسر لي نجاة والدتي، وكذلك شقيقتي، رغم أن الأشهر الستة الأولي من عمرها كانت محفوفة بالمخاطر. وعندما لجأت أسرتي خلال الصيف إلي مسقط رأس أبي في مزرعته بكندا، أنقذت الشمس المشرقة، ورعاية جدتي، أمي وشقيقتي من أهوال شهر ديسمبر. انزوت الأهوال بعيدًا في زوايا النسيان وبقيت النهايات السعيدة تعاد وتروي دون ذكر لتفاصيل آلام الوحدة والخوف واليأس والمعاناة.
لدي كل من عاني وشفي من وباء الأنفلونزا ذكريات مشابهة مقموعة. ويري «باري» أن كتاب الصحافة والدراما في العشرينيات