من المحرقة إلي شوارع بيروت..ربـَّات القصاص!
أبريل 2007
«.. قـَالَ يـاوَيلَتَي أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغـُرَاب..»
سورة المائدة- الآية31
قبل أشهر قليلة، بثت وكالات الأنباء صورتين متزامنتين
المحـتــوي
«.. قـَالَ يـاوَيلَتَي أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغـُرَاب..»
سورة المائدة- الآية31
قبل أشهر قليلة، بثت وكالات الأنباء صورتين متزامنتين متناقضتين تناقض الشرق والغرب...
الصورة الأولي أظهرت الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد جالسا إلي منصة«المؤتمر العالمي لمراجعة الهولوكوست»، وسط كوكبة من المؤرخين الداعين إلي إعادة النظر في «أسطورة المحرقة النازية».
أما الصورة الثانية فكانت لكاتب أمريكي شاب من أصل يهودي يدعي جوناثان ليتل، راح ينفث دخان السيجارييو لأعلي، في غير مبالاة علي طريقة جان بول سارتر أمام عدسات المصورين، بعد أن فاز عمله الروائي الأول* «Les Bienveillantes» المترفقات» بأكبر جائزتين أدبيتين في فرنسا جائزة الأكاديمية الفرنسية وجائزة جونكور2006. وفي ظهر الصورة ترد ملحوظة قصيرة مفادها أن الرواية المكتوبة باللغة الفرنسية في تسعمائة صفحة من القطع الكبير، والتي وزعت في ستة أشهر حوالي ثمانمائة ألف نسخة، تصور لحظة بلحظة مأساة الـ «شواه» وهو الاسم العبري للإبادة النازية لليهود. الصورة الأولي احتفال للإنكار، أما الثانية فهي احتفاء بالذكري.
ولو كنتَ ممن يصدقون الصور، ويرون بعين الهوي، ويحكمون وفقا للجزء الظاهر من جبل الجليد علي صفحة الماء الوادع، فستحمد جهود أحمدي نجاد، حتي وإن كان مؤتمره العالمي محض مغازلة انتخابية، وستنفر في المقابل من المدعو جوناثان ليتل، لأنه أمريكي يحصد الجوائز الفرنسية، ولأنه يهودي يكتب عن الهولوكوست، ولكون اللغة التي يخاطبك بها وجهُه في الصورة تقلقك. ففي الصور القليلة التي جاد بها ليتل علي مصوريه، تبدو ابتسامته وكأنها محض تقلص في عضلات الوجنتين يصحبه ارتخاء في عضلات الشفتين، أما العينان فترسلان في جمودهما نظرة غامضة، كأنها نظرة اتهام، قد يسارع البعض إلي إدراجها في إطار الاستعلاء المهذب، ذلك الذي يصيب الشباب عادة حينما يأتيهم النجاح هائلا ومباغتا ومستحقا، قبل أن تشتعل في رأس الواحد منهم شعرة بيضاء.
لكن المظاهر ــ كما تعرف ــ خادعة.
فإن أردت الحقيقة، فاعلم أن النظرة الجامدة علي وجه ليتل هي تلك النظرة التي يعود بها غالبا الإغاثيون والصحفيون ــ إذا ما قدرت لهم العودة ــ من نقاط الحروب والنزاعات الساخنة. هي نظرة من اقترب ورأي، فأفزعته تجليات الطبيعة البشرية في أحط صورها،وأرهبته قسوة الجنون قبل أن تسلبه بسمة عينيه إلي الأبد. فقبل أن يكتب ليتل عن الإبادة أتيح له أن يطالعها وجها لوجه، في البوسنة وفي الشيشان وفي رواندا وفي الكونغو وفي سيراليون وفي أفغانستان، حيث عمل متطوعا لأكثر من سبع سنوات ضمن حركة «العمل من أجل مكافحة الجوع»الإغاثية.
نعم، المظاهر خادعة. وإن أردت الحقيقة، فاعلم أن رواية «المترفقات» تعمد إلي إعادة جرائم الإبادة النازية إلي أبعادها التاريخية والحضارية الحقيقية. فهي تسحب البساط من تحت كثير من الأقدام التي استمرأت دور الضحية وأرادت احتكاره لنفسها دون غيرها؛ وفي ذات الوقت، تمسك هذه الرواية القاسية بخطافات من حديد لتسحب بها، إلي داخل قفص الاتهام، أطرافا كانت تحلق بأجنحة البراءة فوق مسرح الجريمة. ذلك أن «المترفـقات» تعبث في غير ترفق بأيقونة الهولوكوست «المقدسة»،وتعيد تفسير العلاقة بين الضحية وجلادها من منظور إنساني عالمي يدين منظومة الحضارة الغربية الحديثة، المنفصلة عن القيمة، المستندة إلي العلمانية المادية المتطرفة. بل إن رواية ليتل تذهب،علي هامش مساءلة ميتافيزيقية كبري حول انزلاق الإنسان إلي الشر، إلي تحديد نقاط الالتقاء الفكري والبنيوي بين النازية والصهيونية، وتعرض فيما تعرض وسط دهاليز بيروقراطية الإبادة، لمحة مختلـَسة من أحد فصول التعاون السري بين النازيين والصهاينة. وهو ما لم يشر إليه أي ناقد غربي من قريب أو بعيد. فكلهم أرادوا اختزال هذه الرواية الملحمية الضخمة بهدف تحويلها إلي لبنة أخري من لبنات «ياد فاشيم»... فكانت محاولات القراءة المتصهينة المبتسرة، وكانت ردود أفعال القلق المكتوم،وكان الاحتفاء المفتعل الصاخب. ذلك أن بعض الهامات لا يصلح دفنها إلا وسط السحاب.
ثلاث إناث جسيمات، مجنحات، شعرهن دغل من الأفاعي، وعيونهن جمرات الجحيم، في يد كل منهن شعلة موقدة، وأصواتهن تبعث علي الجنون. أولئك هن ربات القصاص في الميثولوچيا الإغريقية، اللاتي ظهرن في تراجيديا إيسخيليوس525 ق.م.-456 ق.م. كأدوات للقدر في إرساء العدالة، يتربصن بمن يرتكبون جرائم ضد الضمير الإنساني، فيطاردنهم في كل مكان إلي أن يهلكنهم.ولشدة بأسهن، أطلق عليهن العامة اسم «المترفقات»، خوفا من بطشهن ودرءا للأذي.
هو إذن عنوان مقترَض من عالم الأسطورة ذلك الذي اختاره جوناثان ليتل لعمله الأدبي الأول، الذي ظل يفكر في موضوعه طوال اثنتي عشرة سنة، منذ أن حركت خياله صورة فوتوغرافية قديمة لما تبقي من جثمان «زويا كوسم ودميانسكايا»، المناضلة الروسية الشابة، التي اتخذتها الدعاية الستالينية أيقونة للحرب، بعد أن شنقها النازيون في مدينة «خاركوف»بأوكرانيا، وألقوا بها وسط الثلوج، حيث نهشتها الكلاب المستذئبة...
تناقض عميق حملته الصورة بين جمال الفتاة الرباني وبشاعة ما تصنعه يد الإنسان. تناقض حفلت به يوميات الإغاثي الأمريكي الشاب حين كانت مهامه تضطره للتعامل مع قتلة ومجرمين من عينة نيكولا كولييفيتش نائب رئيس جمهورية الصرب إبان أزمة البلقان، الذي كان يحفظ أشعار مسرحيات شكسبير، ويهوي الموسيقي الكلاسيكية والفنون الجميلة،ويمارس التطهير العرقي بمنتهي الهدوء والالتزام.
وعلي طريقة ستوديو الممثل، حيث تـُستعار التجربة الذاتية في التشخيص، وبعد عامين من البحث الوثائقي الدقيق في سجلات الأرشيف الضخم الذي أتيح إثر تفكك الاتحاد السوفيتي، وبعد تفقد التوبوجرافيا الواقعية للأحداث ما بين أوكرانيا وبولندا وبلاد القوقاز، كتب ليتل قصة الجنون النازي من منظور مركب، يحيط بكتابات راؤول هلبرج وكريستوفر براونينجوايان كرشو التاريخية،ويحاور فلسفة «اعتيادية الشر» الشهيرة المخيفة لعالمة الاجتماع