الحاجز... شـــظايا روايـــــة فبراير 2004

عزمى بشارة

الجزء الاول: وجد في بلاد الحواجز «المحثوم» في تلك الأيام أتقنت ابنتي الكلام بشكل يثير الإعجاب. وتفعل كلمات الطفولة الأولي والجمل المركبة البكر فعل السحر

المحـتــوي

الجزء الاول: وجد في بلاد الحواجز «المحثوم» في تلك الأيام أتقنت ابنتي الكلام بشكل يثير الإعجاب. وتفعل كلمات الطفولة الأولي والجمل المركبة البكر فعل السحر في الأشياء التي يسميها الكلام فتصبح جميلة. وكلام الأطفال عصا سحرية ما إن تمس الأشياء حتي تتطاير النجوم الذهبية في أرجاء حياتنا المثقلة هنيهات قليلة، لنعود الي حالة ترقب في انتظار كلمة جديدة. وإذا طال الانتظار يبدأ الإلحاح ثم التوسل: «شو هدا ؟» نكرر السؤال برجاء أن تنطلق الأسماء لتبعث الحياة في المسميات وتصبح الأشياء العادية استثنائية وموضوع كلام. و«قوليلهم شو قلتيلي مبارح»، وكأنها تدرك إدماننا الجديد علي السحر فتعذبنا بنظرات تومئ إلينا بمزيد من التوسل، تتلوه ابتسامة تقلب التضرع والرجاء ضمًا وتقبيلاً وركضًا في أرجاء البيت: «يا بابا شو هالضحكة»، ويزحف وراءنا ابننا الذي لم يتقن الكلام بعد منفعلاً من الضوضاء، فأحمله هو الآخر راكضًا لاهثًا لاعنًا التدخين. ويبعدنا كلامها عن السياسة، فحديث الوالدين اندهاش من مصدر الكلام، وإعجاب بالتمييز بين الصفات وبين الحاضر والماضي، وانفعال من تألق ابنتهم وتساؤل، هل هو عادي يكبر في حب الأهل أم استثنائي يمنعنا الانفعال من إدراكه؟ وما كدت اقتنع أن ابنتنا قد ختمت الكلام ولم يبق أمامها إلا النثر والشعر والفقه وعلم الكلام حتي جاءتني من الحضانة: «وين كنت يا بابا؟»، «كنت علي المحثوم». شردت هنيهة: «المحثوم» بالثاء المخففة لفظ طفولي ملائكي للكلمة العبرية «محسوم» ومصدرها «حسام» أي سد الشارع، قطع الطريق، منع المرور، أوقف التدفق، منع الحركة. وتعني الكلمة الحاجز، ومنها الحواجز التي تقيمها قوات الاحتلال فتسد علي الناس في فلسطين المحتلة دروب الحياة. وقد أصر أهلنا في الضفة والقطاع علي إبقاء الكلمة عبرية فهم يلفظون «محسوم» للمفرد ويجمعونها بالعربية «محاسيم»!! وتمكث ابنتي يوميًا علي الحاجز من الوقت ما ينسيها الحضانة. فهي تذهب صباحًا إلي الحضانة، وهي تعدد «المِسْ فلانة والمِسْ فلانة»، ولكنها تعود إلينا من «المحثوم». «شو عملتي يا بابا عالمحسوم؟». «غنيت»، «شو غنيتي؟» وانطلقت فورًا بالغناء ترافقه نغمات صوتها العذب الذي يذيب الأشياء فتنساب جداول رقراقة تحيط بنا وحدنا واقفين علي قطعة الجنة الخاصة بنا بين المحاسيم: «سنة حِوْلة (حلوة) يا جميل». والجيم المصرية تؤكد أن الحضانة شهدت اليوم احتفالا بعيد ميلاد أحد الأطفال. وبعد أربعة شهور متساوية الطول ومتفاوتة العرض من عمرنا لم يعد الحاجز متوقعًا أو مألوفا، فمنذ الاجتياح أصبح الحاجز إعلان الوجود الطاغي لمن وضعه. الحاجز هو الفاصل، وهو الواصل بين العالمين. هو الحدود وهو المعبر. هو الألم وهو الأمل بالخروج. بات الحاجز يأخذ ذاته بجدية، فازدادت بين مركباته كمية الحديد والمواد الصلبة، كما ارتفع عدد الجنود وعبست ملامحهم. أصبحت له بنية. لم يعد مشكلاً من بقايا معدات الجيش: براميل، مكعبات أسمنت، قطع صخرية منوعة. وانتشرت حوله غرف أسمنتية أو حديدية زجاجية مركبة وتجهيزات خاصة بها، حتي اللون بات بنيًا ـ رماديًا أحاديًا، زالت زركشة البهدلة، وبات الحاجز عديم التعابير. وطال الانتظار علي الحاجز، ولكن في الوقت ذاته قلت شكوي المنتظرين، زادت معاناتهــم وزاد صبرهــم عليهــا، زاد جَلـَدهم لا لأن جِلدهم قد ازداد سماكة، بل لأن الحاجز بات سريع الانفعال لا يحتمل الشكوي، والخوف لا يسمح بالتــذمر. الحاجـز في مرحلة ما بعد الاجتيــاح «ما بينمزح معو»، لأن يده ترتج علي الزناد خفيفة، ولأنه أيضًا خائف. ولكن توازن الرعب علي الحاجز لا يغير من هوية القامع وهوية المقموع، هوية المسيطر والمسيطر عليه، هوية الآذن وهوية متوسل الإذن. لم يعد الواقع إلا حاجزًا ولا يوجد في الواقع توازن في الرعب، يوجد في الواقع رعبان لا توازن بينهما، خوفان لا تكافؤ بينهما. بات الحاجز شموليًا لا يكتفي بأقل من وقت الانسان كله، جهده كله، أعصابه كلها. حتي النهار قد يمضي وقته أمام الحاجز. الزمن ذاته ينتظر في المكان. رام الله أصبحت تبعد يوم سفر مثل كل شيء، يوم السفر يوم، و«يوم الطاحونة يوم»، كما قالوا. وقد ينتهي بغبار علي الملابس ولكن دون طحين. تعيش الناس في ظل الحاجز، سافرت أم لم تسافر، غادرت أم لم تغادر. وجوده طاغ علي كل شيء، يتخلل كل تفاصيل الحياة، يصبغ كل شيء بلونه. نفسية الناس مرتبطة بالخبر الوارد عن الحاجز، خططهم، مشاريعهم، لقمة العيش، القرار حول مكان السكن ومدرسة الأولاد ومكان العمل متعلقة بموقع كل شيء «أمام» الحاجز أم «خلفه»، كل الاعتبارات تبدأ بالحاجز، وكل الغايات يجب أن تبرر ذاتها بمنطقه، أن تشرح نفسها أمام عرشه. انتهي الدوام في الحضانة. وفي الشهور الأخيرة تعلمت ابنتنا النظافة إلي درجة أنها تختار ملابسها بعناية، وتسأل إذا «لابسه حلو ولا لأ؟» لتنتقل بغض النظر عن إجابتك لتسألك « بتعرف مين جبلي إياه؟». وقد اعتادت اخيرًا أن تقضي حاجاتها الطبيعية في مكان أطلقنا عليه كل يوم أسمًا إلي أن استقر لساننا، ولا أدري لماذا، علي اشتقاق إبداعي: «البوتا (الباء مخففه)» من البوت pot بالانجليزية أي الوعاء، ثم انتقلنا إلي «التواليت» الفرنسي. وصعدت ابنتنا درجة معنوية مع ارتفاعها عن الأرض علي مقعد التواليت لتعيَّر أخاها أنه فقط عندما يكبر سيحق له الجلوس علي ذلك العرش، ولو بجهد بالغ وبدون ارتياح. انتهي الدوام وابنتي في طريقها إلي البيت علي الحاجز. اتصلت قبل ساعتين وسمعتها تغني، وأخوها يلحن بصوته لحنًا لا علاقة له بما تغني، ولكنه لا يقصد الإزعاج. كلٌ يغني مواله، فقط واحد بكلمات والثاني بدون كلمات. اتصلت بعد ساعتين. ما زالوا علي الحاجز،ولكن العويل احتل مكان الغناء، أما اللحن فقد تحول إلي صراخ عصبي متقطع يتبعه «نق» من النوع المتكرر« هأ هأ هأ» تتبعها « بدي أروِّح» مكررة عشرات المرات، ومثلها «وين البيت؟». «وجد بدها تحكي معك» قالت أمها، لا أملا بالمساعدة الهاتفية اللاسلكية، وإنما لتقطع وتيرة «النق» لتلتقط أنفاسها أو تريح أذنها قليلا. انتهي النق علي التليفون وتحولت «وجد» إلي الكلام يرافقه

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions