مـــصــــــــــــر.......والإســــلاميون الجـــــــــدد
يونية 2004
مع انحسار المد الاستعماري الغربي في أواخر القرن العشرين، بدأت العلوم والدراسات الاجتماعية والإنسانية في الغرب في التحرر من تحيزاتها القديمة إزاء العالم
المحـتــوي
مع انحسار المد الاستعماري الغربي في أواخر القرن العشرين، بدأت العلوم والدراسات الاجتماعية والإنسانية في الغرب في التحرر من تحيزاتها القديمة إزاء العالم الثالث، سواء تلك التي تعود إلي التمركز حول الذات الأوروبية أو تلك التي لا تري تاريخ العالم وحضاراته إلا في سياق الحضارة الأوروبية والتاريخ الأوروبي. فلا يمكن فصل السياق التاريخي للدراسات الاجتماعية الغربية بأي حال عن التجربة الاستعمارية (الأوروبية)، ودور تلك الدراسات في المشروع الاستعماري. ولعل الأنثروبولوجية هي النموذج الأوضح علي دور تلك (الدراسات) في خدمة المشروعات والإدارات والممارسات الإستعمارية. ورغم ضآلة الدور الذي تلعبه دراسات الشرق الأوسط في الغرب في تشكيل السياسات الغربية (والأمريكية خصوصا) إزاء هذه المنطقة من العالم بسبب تجاهل مؤسسات صنع القرار لها واعتمادها توجهات صراعية ونافية في التعاطي مع العرب والمسلمين، إلا أن هذه الدراسات هي المثال الأكثر بروزا علي التحرر من التحيز باتجاه فهم موضوعي لتاريخ المنطقة وحضارتها وقضاياها. لذلك أصبحت أقسام دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة هدفا للمحافظين الجدد المسيطرين علي الإدارة والسياسة الأمريكية. فمع مطلع هذا العام، شن أكاديميون صهاينة كدانيال بايبس (الذي عينه الرئيس الأمريكي رئيسا لمعهد السلام في غيبة الكونجرس) ومارتن كريمر وأضرابهم هجوما متعدد الجبهات علي أقسام دراسات الشرق الأوسط في الجامعات الأمريكية ومن فيها من أكاديميين وباحثين، واتهموهم بالإخفاق والفشل والتبرير للأصوليين الإسلاميين، كما طعنوا في وطنيتهم بسبب عدم مشاركتهم في ما يسمي بالحرب علي الإرهاب، وبسبب تبنيهم لأفكار ومناهج تدرك خطورة وخطل تفكير ومقولات الاستشراق التقليدية. بل وصل الأمر إلي حد أن شهادات الأكاديميين الصهاينة أمام لجان الكونجرس الأمريكي تعرضت بالطعن والإسفاف لأطروحات المفكر الفلسطيني ــ الأمريكي الراحل إدوارد سعيد حول دور الاستشراق في بناء وتشكيل التحيزات الغربية إزاء الشرق، وهذه الأطروحات لقيت قبولا عاما في الأوساط الأكاديمية الغربية. بل إن تعديلا قانونيا (عرف بالمادة السادسة Article 6) في التشريعات ــ التي تنظم المنح الدراسية-قد ضيق كثيرا من الميزانيات المتاحة لتدريس اللغة العربية والدراسات الإسلامية في الجامعات وكذلك المنح المقدمة لطلاب هذه الدراسات.
مؤلف هذا الكتاب هو الدكتور ريموند وليم بيكر، وهو أستاذ العلوم السياسية في كلية ترينيتي وفي الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وأقام بها سنوات من حياته الأكاديمية. لم يأت هذا الكتاب خارج سياق موضوعه وزمانه؛ فمنذ أواخر عام 2002، تم إطلاق عدد من المبادرات الأمريكية والأوروبية للإصلاح الديمقراطي والاجتماعي والثقافي في الشرق الأوسط كان أهمها المشروع الأمريكي المعروف بمبادرة الشرق الأوسط «الكبير». انطلقت بعض هذه المبادرات من تفكير مفاده أن أحداث سبتمبر/أيلول 2001 وما وراءها من تطرف وعنف لدي بعض المسلمين هو نتاج لثقافة تعصب وانغلاق ورفض، لا تؤمن بقيم الحضارة العالمية المعاصرة من حوار وتسامح وقبول بالآخر وديمقراطية سياسية وتحرير للمرأة، وغيرها. غطت المبادرات الرسمية علي عدد من الجهود غير الرسمية لمؤسسات البحث ومراكز التفكير في أوروبا والولايات المتحدة، والتي قدمت بدورها مقاربات موازية لقضايا تعزيز الديمقراطية والمشاركة السياسية وتحرير الاقتصاد والمرأة. تناولت بعض تلك الجهود إصلاح الفكر والخطاب الإسلامي، بينما حاولت جهود أخري أن تتحاور مع «إسلاميين» يؤمنون بالتعددية السياسية والثقافية والتداول الديمقراطي علي السلطة والتسامح إزاء المرأة والأقليات ودور المجتمع المدني. دعت هذه المحاولات عددا من رموز التيار الإسلامي الإصلاحي غير مرة من أجل الحوار حول تلك القضايا وغيرها.
في المنهج
يأتي منهج هذا الكتاب علي عكس كل المقاربات «القمعية» التي لا تسمح للظواهر بالتحدث عن ذاتها أو الإفصاح عن مضامينها، بل هي في بعض جوانبها محاكاة للآخر البعيد، وقد تشي ــ أحيانا ــ بدوغما أيديولوجية. ينطلق المؤلف في تعاطيه مع الظواهر الإسلامية والعربية والمصرية من إدراك عميق لخصوصيات كل ظاهرة ومحاولة لاستكناه سياقات ومعاني تلك الظواهر. فبينما يوظف محمود إسماعيل أدوات التحليل الماركسي ــ خاصة مفهوم صراع الطبقات ــ في مشروعه الفكري لفهم الإسلام في أطوار النشوء والازدهار، يحلل سامي زبيدة العلاقة بين الإسلام والدولة والجماهير باستخدام أدوات التحليل السوسيولوجي، فيما يستخدم نصر حامد أبو زيد أدوات المنهج البنيوي كمفاهيم السياق والتأويل في مقاربة النص القرآني. وقد سبقهم محمد عابد الجابري الذي استخدم أدوات ميشيل فوكو في تحليل الخطاب العربي والإسلامي، ومحمد أركون الذي كان بمثابة صدمة ثقافية حين طبق المنهج ما بعد البنيوي والتفكيكي في التعامل مع الفكر الإسلامي في توقيت يكاد يكون معاصراً لديريدا نفسه وبطريقة تبسيطية ومباشرة في ذات الوقت.
يتجاوز المؤلف في سعيه لتقديم ظاهرة «الإسلاميين الجدد» بمنهجيته ورؤيته وبصيرته معظم تلك المحاولات القاصرة، فهو يسعي حثيثا إلي استنطاق هذه الظاهرة وقراءتها في مختلف سياقاتها التاريخية والثقافية والسياسية، وتحليلها علي أكثر من مستوي، وبدون التعسف الذي تشي به الدراسات الأكاديمية ذات الأجندة السياسية، أو تلك الدراسات المتمحورة حول ذات وتجربة المركز الغربي، أو غيرها من الدراسات التي تنطلق من نظريات أو مناهج بحث يراد تطبيقها علي كافة التجارب بصرف النظر عن محدوديتها أو قصورها أو عدم قدرتها علي التفسير.
وعندما يصف المؤلف كتابه في المقدمة بأنه «قصة» الإسلاميين الجدد، فإن ذلك يشير إلي أنه لا يتعامل مع موضوعه بصفته مجرد باحث في الأوراق يكتب عن الإسلام نتيجة تراكم معرفي أو معلوماتي أو لمجرد توافر المصادر والمراجع التي يعود إليها الباحثون في توثيق موضوعاتهم ومقولاتهم، بل إنه عاصر كثيراً من القصص والأحداث التي يتناولها بالسرد والتحليل. فالكتاب يتخذ شكلا سرديا يسّر للمؤلف عرض أفكار الإسلاميين الجدد من خلال