افتتاحيات.. تحــــولات المــــدن
أمكنة
تعنى بثقافة المكان
الكتاب التاسع
نوفمبر 2008
من قبل كنا نرصد التحول عبر تلك الانتقالات الحساسة من جيل لجيل، من مرحلة عمرية لأخري، اختلاف موضات الشعر والملابس، ارتفاع الأسعار. كان الانتقال يستغرق
من قبل كنا نرصد التحول عبر تلك الانتقالات الحساسة من جيل لجيل، من مرحلة عمرية لأخري، اختلاف موضات الشعر والملابس، ارتفاع الأسعار. كان الانتقال يستغرق وقتًا، كمرحلة وسيطة يتداخل فيها القديم والجديد. أما الآن فالفجوات ضاقت بين أزمنة التحول هذه، تحت ضغط كثافة الإنتاج والتقدم التكنولوجى الرهيب، وغياب أى نظام فكرى أو حياتى متماسك يقاوم نظام السوق.
ربما كان الحنين إلى الماضى هو أحد منتوجات هذا النوع من التحول الهادي، أما الآن، مع تسارع التحولات التى تحدث على كافة الأصعدة، والمتذبذبة كشاشة البورصة، أصبح الحنين غير مؤثر، ولا يبعث فى النفس هذا العزاء المشبع، لأنه فقد الطريق لهذا الزمن الجميل! وكذلك لا يبعث تلك الحسرة التى يبرق خلالها الماضى بكل شحناته، وكثافته وثقله العاطفى كصورة بالأبيض والأسود. أصبح هذا الماضى بعيدًا لا يطاله حنين. لا يمكن التنبؤ بما سيكون عليه دور الحنين فى الأجيال القادمة.
أمام هذا التسارع فى التحولات، لن يساع عمر الفرد، مهما طال، إلا ليشهد على لحظة، سرعان ما تنقلب، لن تمنحه اليقين أو تثبت إيمانه، بل حولته إلى متفرج أعزل. بلا ذنب أصبحنا محرومين من نعمة التنقل بمرح عبر الأزمنة، الماضي، الحاضر، المستقبل. أعتقد أن أجيال أبنائنا وأجدادنا، عاشوا وماتوا وهم غير مهانين فى أعماقهم، أو مصدومين فى حياتهم وما حصلوه منها. كان المجتمع لازال محتفظًا بمفاجآته تحت جلده. أما نحن فنعيش الصدمة منذ البداية، لحـظة بلحظة، كبث مباشر لا ينقطع. ليست صدمة التحولات السريعة فقط، ولكن هذا الجو الخانق الذى صاحبها، من فساد وتعصب واستغلال وتسلط، وتحلل للنسيج الاجتماعي، بدون أى مكاسب تعوض هذه التضحيات الإجبارية، جزء من هذا الخطأ يقع علينا، لأننا لم نسهر على «فرديتنا». ولم نحافظ عليها، وأهدرنا مسئوليتنا أمام أنفسنا، فى سبيل العيش وسط هذه الموجات من العزاء الجماعي.
لم يعد هناك مستقبل، كالذى حلمنا به من قبل، كلحظة انتقال نوعى وجنى لثمار الرحلة، أصبح المستقبل هو هذا الحاضر الثقيل الذى نعيشه الآن، بعد أن ضاقت المسافة بيننا وبينه. لقد ساد الشعور بأن ليس هناك نقلة نوعية ستخطوها الإنسانية، وأن العالم سيسير على ما هو عليه حتى النهاية. لقد تجرأنا على المستقبل أكثر مما يجب، وكذلك حملناه أكثر مما يحتمل. أصبح المستقبل سلعة عادية لا جدد فيها ولا جاذبية. المستقبل الذى كان من أهم خصائصه أن يظل مؤجلاً ومختزنًا لحلم ما، لطموح ما، لغاية ما.
ربما المدينة، وهى المكان المثالى لمعاينة ورصد التحولات، لم تعد ذلك الفضاء العاقل أو حتى الشاعري، لقد كان أملنا أن تقوم المدينة بتنظيم تلك العزلات المتجاورة وتخلق منها وعيا جديدًا. ولكن «مدينتنا» ساهمت بشكل حاسم فى تأكيد هذه العزلات، بسوء التنظيم، بصلف الأسوار العالية لمدنها المغلقة، بحزن عشوائياتها، بتراكم الثروة والسلطة فى ناحية، وانعدامها فى الناحية الأخري، وأخيرًا يتأجج الصراع العشوائى بين كل الأطراف من أجل السيطرة على هذا الفضاء المديني. لقد تكاثرت العوائق، التى تعوق السير والاتصال، داخل المدن، بحيث أصبحنا نعيش ونتنقل بين أكثر من مدينة، وهذه الحالة هى فى النهاية نقض لكل لحظات التحرر، ولتلك السماء الموحدة، التى عاشتها أو وعدتنا بها «مدينتنا» القديمة.
إرث المدينة والمدنية يعاد تقسيمهما الآن على أسس جديدة.
ربما نعيش الآن لحظة فاصلة فى عمر «مدينتنا»، وربما نكون على أبواب مدينة جديدة، ليس لها علاقة بالمدينة القديمة، سوى تناثر الشكوى والحزن والغضب فى أرجائها.
فى فيلم «بين القصرين» المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ المسماة بنفس الاسم، يتلقى الأخوان نبأ وفاة سعد زغلول ليلاً، عبر صوت بائع الجرائد، بينما هما يتحدثان على سطح البيت. عندها يطلب الأخ الأكبر، والذى يقوم بدوره عبدالمنعم إبراهيم، من أخيه الأصغر، والذى يقوم بدوره نور الشريف، المصدوم والذاهل من وقع الصدمة؛ يطلب منه بمواساة أن يذهب لينام، لأن أمامه فى الغد يوم طويل. ما يفرق هذا الغد عن باقى الأيام، أن شبح الموت يحلق عليه. أشعر أننا مازلنا نعيش فى نهار طويل كهذا حتى الآن، شبيه لذلك النهار، هناك موت منتظر أو موت قد حدث بالفعل. أو هكذا نشعر فى لحـظة التحول الحادة.
أجيال مر عمرها وهى مستيقظة.
نحاول فى هذا العدد من المجلة أن نرصد تحولات المدن، ونثبت قيمة التذكر، حتى لا ننسي، ونوثق ما يحدث، أو ما حدث بالفعل فى نهارنا الطويل هذا.