فلسطين..الأمان فى العمق
يونية 2002
[ 1 ]
فى السبعينيات، جنحت سفينة مصرية فى شاطئ الإسكندرية، وتهشمت جوانبها، أيامها قال لى صديق عزيز كان من ربابنة السفن الكبيرة: "إن ربان السفينة الجانحة
المحـتــوي
[ 1 ]
فى السبعينيات، جنحت سفينة مصرية فى شاطئ الإسكندرية، وتهشمت جوانبها، أيامها قال لى صديق عزيز كان من ربابنة السفن الكبيرة: "إن ربان السفينة الجانحة أخطأ بالاقتراب من الشاطئ عندما اشتدت به الريح وعلا الموج، كان الأحرى به ألا يقترب من الشاطئ وأن يدخل بسفينته فى عرض البحر". سألته متعجبًا وكيف يكون عرض البحر الهائج آمن على السفينة من الشاطئ الأقل هياجًا، فأجابنى بأنه عندما يشتد الريح ويعلو الموج، فأمان السفينة فى العمق، إنها إن اقتربت من الشاطئ ضربتها الأمــواج على صخوره فتتكسر، أما فى العمق فهى كلها أمواج فى أمواج، إن ضربها موج تلقاها موج آخر وحملها.. وعندما تعصــف الريح ويثور الموج فالأمان فى العمق.
وعندما يصف القرآن الكريم فى سورة "هود" حادث الطوفان، نعرف أنه لما علا الماء وتفجرت به ينابيع الأرض وهطلت به أمطار السماء، وظل يعلو على الأرض ويعلو. هرب ابن نوح من الماء وظل يصعد ويصعد لئلا يصله الماء، حتى بلغ قمة الجبل، ولكن المياه علت وعلت حتى أدركته فكان من المغرقين، أما نبى الله نوح عليه السلام، فأدرك بالحكمة الربانية أن الأمان ليس فى الهرب ولكن فى المواجهـة، وأن الأمان لا على صخور الشواطئ، ولكنه فى عمق البحار الهائجة، وأن الأمان من الموج فى الموج نفسه، فلما بلعت الأرض ماءها وأقلعت السماء وغيض الماء، ساعتها فقط استوى نوح بسفينته على الجبل.
ونحن الآن، على هذه الأرض، منذ 11 سبتمبر 2001 بدأت الرعود الأمريكية، ومن 7 أكتوبر 2001 بدأ ضرب أفغانستان، ومن 28 مارس 2002 تصاعد الاجتياح الصهيونى الأمريكى لمدن فلسطين بالضفة الغربية.. فالعاصفة قوية والريح شديدة والموج هائج، وكل ذلك يتصاعد ويبلغ العراق حيث جبل الجودى الذى استوت عليه سفينة نوح، ومع ذلك فليس من بين ربابنة الدول العربية من أدرك حكمة نوح عليـه السلام، وليس منهم من ابتعـد عن صنيع ابن نوح، وما منهم إلا من جنـح بسفينته إلى صخور الشاطئ، هاربًا من الموج آويا إلى ما تتكسر عليه الضلوع.
ونحن نعرف من فنون إدارة الصراع أنه فى مرحلة التصاعد المتبادل بين طرفى الصراع، فإن من يقف أولاً يكون هو الهالك والمهزوم. إلا أن يكون "متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة"، أى إلا أن يكــون باقيــاً على عزم القتال موصــول الأعمــال به ولم يلق ســلاحه، ومـا من مرة فى الصراع العربى الصهيــونى الأمريكى بادرنا فيهــا بقبــول إلقــاء السلاح إلا ودارت علينا الدوائر.
ونحن يتعين علينا أن نستدعى الحكمة من شعر أبى الطيب المتنبى عندما يقول:
تفرست فى الآفات حتى تركتها
تقول أمات الموت أم ذعر الذعر
[ 2 ]
نحن هنا لا نتكلم عن العنف الحتمى، لكننا نتكلم عن وجوب المواجهة حتمًا بالطريقة المناسبة، وإن كان العنف هو الخيار المطروح والراجح الآن، وأنه هو السبيل الذى لابد من ولوجه فى الحالة الفلسطينية الراهنة والمعيشة، وإن السعى الصهيونى للضم القسرى للأراضى المحتلة والإبادة المقصودة للشعب الفلسطينى والتهجير المزمع بالقوة، كل ذلك لا يواجه إلا بالمقاومة العنيفة. وما كان يمكن لانتفاضة "أطفال الحجارة" فى 1987 إلا أن تتطور من طرفيها فى انتفاضة القدس فى 2000، فيصير الأطفال شبابًا وتصير الحجارة رصاصًا ومتفجرات.
وإسرائيل مجتمع استيطانى لايزال ينشأ ويتوسع، والمجتمعات الاستيطانية لا تنشأ بالحق إنما تنشأ بالقوة، والمعادلة التى تتبناها هي: القوة، ثم الأمر الواقع، ثم ما يدعى بعد ذلك من حقوق، وهكذا قامت الولايات المتحدة ذاتها، ولا يقابل ذلك إلا بالمَنعَة المادية أولاً، والمقاومة العنيفة أولاً أيضًا، ولا يجرى إقناع المعتدين عن طريق الحقوق وإنما عن طريق الإفشال المادى للسعى العدوانى العنيف، وإلا بأن القوة سترتد أضراراً مادية للمعتدين وإيجاعًا جسمانيا لهم، وأن المعتدى لن يحقق كسبًا بعدوانه، بل إن خسارته المادية والبشرية تفوق ما يعوِّل عليه من كسب.
ونحن لا نتنازع مع العدوان الإسرائيلى الأمريكى حول أرض غريبة عنا يطمع فيها كلانا، بمعنى أننا لسنا طرفًا فى صراع بين متنازعين، ولكننا نحن موضوع الصراع ذاته، نحن موضوعه وأحد طرفيه فى ذات الوقت، وهذا الوضع يعطينا مزية لا تكون لغيرنا قط، وهى مزية لا ينفد معينها، وما من بلد غلبه المعتدون على أمره وانتهى جهاده ضدهم إلا بردِّ الاعتداء. وقد تكسرت إمبراطوريات أمام هذا الصبر والتصميم. والصبر والمصابرة، وطول النفس يأتيان من أنه فى صراع الوجود وفى مجال الدفاع عن الذات، يمكن للجماعة أن تُغلب مرة ومرات، ولكنها مجتمعة ـ أو أيا من قواها منفردة ـ لا تملك أن تتنازل عن الحق فى الوجود الحاضر أو فى البقاء المستقبل، والأجيال تتوالى ولا يؤثر فى حقوقهم ما انضغطت به إرادة أسلافهم. ونلحظ الآن أن المعلقين يكتبون أن مسألة فلسطين هى أقدم مشكلة فى عالم اليوم، وهذا صحيح لأنه لا نهاية لمثل هذه المسائل إلا باسترداد الوجود لمن أُريد إفناؤهم أو إزاحتهم. وفلسطينيو الشتات وهم بضعة ملايين الآن، لايزال حقهم فى العودة إلى ديارهم قائمًا لديهم ولدينا جميعًا.
أما المعتدون فهم ليس لديهم هذا النوع من الحقوق طويل المدى، أو هذا النوع من الحقوق العابر للأجيال، إنهم فى الغالب يبحثون عن المنفعة وعن الربحية، والأمر يتعلق بحساب الربح والخسارة ومجالات القوة والهيمنة، بمعنى أن الأهداف هنا تتعلق بالكسب المادى واستغلال الثروات، أو تتعلق بالمواقع الإستراتيجية والعسكرية لضمان الانتشار وتأمين طرق المواصلات الدولية، أو تتعلق بالوجود السياسى فى مواقع الهيمنة، وعلى أى من هذه الأهداف فإنه إذا فسدت إمكانات تحقق الهدف بسبب جدية المقاومة واستمرارها وتحديها للأهداف المطلوب تحققها، إذا حدث ذلك يكون فشل المشروع.. وهنا نجد أن نوع المنافع التى كانت مرجوة هى منافع قصيرة المدى نسبيا وقابلة للتغيير والاستبدال، وأن عدم تحققها وظهور عدم إمكان ذلك يؤدى إلى استبدال غيرها بها وإلى تنحيتها، فيحمل المعتدى عصاه ويرحل.
وإذا كان يمكن القول بأنه لا مهرب من استخدام العنف عند مواجهة استعمار استيطانى قائم على كسب الأمر الواقع بالقوة أو يتوسل لذلك بإبادة أصحاب الحق