حول الدين والمعرفة
أبريل 2004
يقوم الفكر العقيدي علي مسلمات أولية، ولفظ «عقيدة» يرد من عَقَدَ عقدة، والعقدة هو ما تنضم أجزاؤه بعضها إلي بعض فتتماسك، والعقيدة هي ما انعقد في النفس
المحـتــوي
يقوم الفكر العقيدي علي مسلمات أولية، ولفظ «عقيدة» يرد من عَقَدَ عقدة، والعقدة هو ما تنضم أجزاؤه بعضها إلي بعض فتتماسك، والعقيدة هي ما انعقد في النفس أو العقل، أي ما تراصت أجزاء فكرته فصار بعضها يشد بعضًا ويوثقه، ونحن نسميها عقيدة لأن دليلها يدور في داخلها، وبعبارة أخري هي مسلَّمة، لأنها تحتضن دليلها في ذاتها وتستمده من ذاتها وتدور معه.
والفكر الفلسفي بعامة لا يخرج عن هذا الإطار، إلا أنه يطرح بدائل مستجدة أو مستحدثة أو يعرض للبدائل القائمة، وهو إما «يفترض» مسلمات جديدة أو يتحدث ويعرض للمسلمات القائمة. وهو في كل الأحوال ينشغل بما تنشغل به العقائد من حيث أصل الوجود أو صلة الإنسان بالكون وموضعه فيه وغير ذلك، وهو في النهاية يعرض «مسلمات» بديلة أو مقترحة.
والدين يعتمد علي الاعتقاد بوجود الذات الإلهية الغيبية، أي التي لا يمكن العلم بكنهها، ولكن يمكن إدراك آثارها مع الاعتقاد بأنها مطلقة القدرة ومطلقة القوة ومطلقة في تنزيهها عن الشبيه والمثيل، وأنها واجبة الطاعة والعبادة بالطريقة التي رسمها للبشر. والدين بذلك يرد من المطلق ليحكم النسبي ويأتي من الثابت ليحكم المتحرك ويأتي من الدائم ليحكم المؤقت.
وإن البعض من مفكري الإسلام يعرِّفون الدين بأنه وضع إلهي يرشد إلي الحق في الاعتقادات وإلي الخير في السلوك والمعاملات. ومن هنا ترد الصلة بين الدين بوصفه معتقدًا يتصل بالمطلق والثابت والدائم والمنزه، وبين الدين بوصفه حاكمًا لأوضاع الواقع المتغير والمتحول. ومن هنا أيضًا ترد مسألة صلة المعتقد بالمعرفة وكسبها، أي صلة المعتقد وتعاليمه بالتعامل مع الواقع.
ولا أريد أن أستطرد كثيرًا، ولكن فارقًا أساسيا هنا بين أصول الاعتقاد في المسيحية وأصولها في الإسلام، فالمسيحية حسبما تبلورت لدي المسيحيين في القرون الأولي التالية للسيد المسيح، صنع معتقدها علي نحو يقبل القسمة والتمييز بين الرؤية الاعتقادية وبين ممارسة الواقع ومعايشته.
وبهذه المكنة أمكن بعد ذلك زحزحة مجالات النشاط عن بعضها البعض علي ما يتابع من بعد في العصر الحديث في أوروبا، فوجد الدين، وبجواره ليس متصلاً به ولا متفرعًا عنه وُجِد النظر المعرفي الوضعي. وساعد علي ذلك أن السيد المسيح (لدي المسيحيين) لدي مسيحيي القرون التالية كان هو ذاته ذا الوضع الإلهي، وهو الكلمة، وقد رفع فلم يبق في الأرض.
أما في الإسلام فالتصور العقيدي مختلف، إن ما يقابل مسيح المسيحيين في إسلام المسلمين هو القرآن، لأن القرآن هو كلمة الله، وقد توفي رسول الله صلي الله عليه وسلم والقرآن باق علي الأرض، وهو لا ينظم المعتقد الإسلامي فقط من حيث صلة الإنسان بالله، ولكنه يحكم سلوك المسلم ومعاملاته، بما أورد من أحكام تشريعية وبما أحال إليه من أحاديث وسنن رسول الله التي بقيت بالرواية ثم بالتدوين.
ومن هنا ثارت مسألة كيف يمكن للنص الثابت الذي يشكل وضعًا إلهيا أن يحكم الواقع المتغير للبشر، وكيف يمكن للنص المحدد في إطار ألفاظه المعدودة أن يحكم الواقع المتنوع علي مدي الزمان. من هنا جاءت جهود التفسير لتضبط مناهج النظر المعرفي إلي الواقع المتغير وموقف الإنسان تجاه هذا الواقع المتغير، موقفه تجاهه من خلال النصوص الإيمانية الثابتة.
وكان ذلك مما شغل علم الفقه من أول قرون الإسلام، إذ انتشر الإسلام في الأمصار والأصقاع وصارت أحكامه واجبة التطبيق علي أقوام شتي وشعوب متعددة وبيئات متنوعة، وصار مطلوبًا أن تحل المشاكل المستجدة في هذا المجال، ثم لما تعددت حالات التطبيق وتكاثرت الحلول واختلفت أساليب التفسير، صار مطلوبًا أن تتحدد وتتعين مناهج للتفسير تضبط تلك الأساليب، وصار ذلك ما عرف بعلم «أصول الفقه».
ثم جاءت مسألة أخري هي حدود معرفة الإنسان في أي زمان ومكان، إن ما يعرفه تتولي مناهج أصول الفقه استخراج الأحكام بشأنه، ولكن ما هو الضابط النفسي والسلوكي الذي يضبط الحدود بين المعلوم والمجهول، وما كان أكثر المجاهيل التي تحيط بالإنسان علي مر قرون عديدة، وهنا ظهرت محاولات علم التصوف وممارساته للتمييز بين الأمر المدرك الذي يمكن للإرادة الإنسانية أن تدبر الشأن فيه، وبين غير المدرك وغير المعلوم الذي تكله الإرادة البشرية علي المعبود سبحانه.
وبالنسبة لأصول الفقه، فقد عني أول ما عني بإيضاح ما هي مصادر التشريع الإسلامي وأن مصدريه الأساسيين المجمع عليهما هما القرآن الكريم والسنة النبوية والركيزة الأساسية للتصديق بهما هي ركيزة إيمانية، ولكن علم أصول الفقه اقترب من هذا المجال الإيماني بمنهج عقلي يتعلق «بالثبوت» والثبوت مسألة معرفية، فقالوا إن القرآن الكريم ثابت بطريق «التواتر»، وعرَّفوا التواتر بأنه ما يقول به جماعة يستحيل اتفاقهم علي كذب، وهذا منهج عقلي أشد صرامة مما نقول به الآن عن «المعرفة الاجتماعية» التي تصل للفرد منا ويصدق بها بغير أن يختبر بنفسه أدلة صوابها وثبوتها، مكتفيا بأنها تنتقل إليه من مصادر شتي، مثل دوران الأرض حول نفسها ودورانها حول الشمس، ومثل وجود أية بلدة لم يرها الشخص بنفسه. ثم أجروا معايير التحقيق العقلي علي الأحاديث الشريفة التي لا تتوافر لثبوتها درجة التواتر، وهي من حيث الضبط والتحقيق أكثر صرامة في نسقها العقلي من أساليب تحقيق الوقائع التاريخية، وهنا نلحظ أن النصوص الأساسية هذه، وهي إيمانية في التصديق بها، فقد صارت عقلية في ثبوتها، وقد تخللها العقل من هذا الوجه المعرفي، ثم بدأ من هذا التخلل يفرض سلطانه علي ما يتلو هذين المصدرين من مصادر أخري ومن مجالات أعمال.
ومن المعروف أن النصوص محدودة، سواء نصوص القرآن الكريم أو نصوص السنة النبوية الشريفة، فظهرت مصادر أخري تالية، وفي غالبها نلمس دورًا ناميا وفعالاً للعقل في تفاعله مع الواقع المعيش.
فمثلاً «القياس» الذي قال به الإمام الشافعي منذ اثني عشر قرنًا وصار مهمًا وواسع التطبيق، هو يتعلق بإدراك وجه الشبه الفعال بين الظواهر التي وردت عنها أحكام في القرآن أو السنة، والظواهر التي لم ترد عنها أحكام فيهما، والمهم هنا هو المنهج المعرفي الذي وُضع لإدراك الشبه الفعال، وهو منهج يعمل الاستقراء لإدراك