الجزيرة: قناة تحـدّت العالم مايو 2006

محمد يوسف عدس

آخر ما كنت أظن أن أفعله هو أن أكتب عن الإعلام أو الفضائيات العربية بصفة خاصة، فقد أسقطت هذا الموضوع من دائرة اهتمامي بعد أن سقط من دائرة احترامي منذ فترة

المحـتــوي

آخر ما كنت أظن أن أفعله هو أن أكتب عن الإعلام أو الفضائيات العربية بصفة خاصة، فقد أسقطت هذا الموضوع من دائرة اهتمامي بعد أن سقط من دائرة احترامي منذ فترة طويلة. كنت في نفس الوقت أحسد أو بالأحري أغبط قطاعًا من الصحافة والإعلام الغربي خصوصًا الـ «بي بي سي».. وكنت في فترة من الزمن حريصًا علي متابعة ما تبثه القناة وما تنشره الصحف عن حرب البوسنة ثم حرب كوسوفا. لطالما كنت معجبًا بجرأة بعض الصحفيين الإنجليز والأمريكيين الذين غامروا بحياتهم في حرب البوسنة بحثًا عن الحقيقة ونشرها في العالم. ولازلت أذكر اسم الصحفي الأمريكي «جوتمان» الذي تمكن من الكشف عن معسكرات الإبادة الصربية للمسلمين وصور ضحاياهم، ورأينا هياكل آدمية جلدًا علي عظم، تتحرك خلف الأسلاك الشائكة كأنها أشباح من عالم آخر.. ولولا هؤلاء الصحفيين والمصورين الشجعان ما عرفنا حقيقة ما يدور في أعماق البوسنة المنكوبة. في نفس الوقت كنت أتحسر علي أنه لا يوجد صحفي عربي واحد لديه من الشجاعة والدربة والرجولة لكي يذهب إلي البوسنة وينقل إلينا أخبارها، ولا توجد مؤسسة صحفية أو إعلامية عربية واحدة لديها الجرأة والمبادرة ولا حتي الرغبة في معرفة حقيقة ما يجري هناك بنفسها. من أجل ذلك اقتنعت أو أقنعت نفسي بأنه لا شيء في هذا الإعلام العربي جدير بالاهتمام أو الاحترام.. وأنه لا أمل هناك. حتي جاء الغزو الأمريكي لأفغانستان وهبط علينا شيء اسمه «الجزيرة» من حيث لا ندري. فقد كانت كل صور الحرب تظهر علي شاشة الـ «بي بي سي» والـ «سي إن إن» وعليها شعار عربي في ركنها الأسفل باسم «الجزيرة».. فما معني هذا؟.. معناه أولاً أن الفضائيتين البريطانية والأمريكية علي شهرتهما وضخامتهما ليس لهما مراسلون في الحرب الأفغانية، وأن مصدرهما الوحيد للأخبار هو فضائية جديدة تصادف أنها عربية واسمها الجزيرة، وأنها سبقت وانفردت دون فضائيات العالم كله بتصوير وبث أخبار هذه الحرب، والمعني الثاني هو أن هذه الجزيرة موضع ثقة ملحوظة من الفضائيتين العالميتين المذكورتين وإلا ما بثتا عنها صورها وأخبارها. تعزز هذا الموقف عندي بعد لقاء جمعني بالصدفة مع أحد الوزراء المخضرمين، كنت قد عرفته والتقيت به كثيرًا في جامعة قطر خلال عقد الثمانينيات. أما المناسبة فكانت حفل عشاء في فرح ابن صديق آخر كان أستاذًا في كلية الهندسة بنفس الجامعة هو الدكتور شاهين، ثم أصبح اللورد شاهين بعد ذلك، ولهذا قصة أخري.. كنا ثمانية جمعنا لورد شاهين علي مائدة واحدة لعلنا نسترجع ذكريات طيبة في جامعة قطر.. كانوا أساتذة في كلية الهندسة فيما عدا واحد أصبح وزيرًا، وكنت في ذلك الوقت منتدبًا من منظمة اليونسكو للمساهمة في تصميم وتجهيز مكتبات جديدة لجامعة قطر ثم إدارتها بعد ذلك.. عهدي بالسيد الوزير أنه كان أكاديميا متميزًا له مؤلفات مرموقة ويتمتع بسمعة جيدة.. تطرقنا في الحديث إلي موضوعات شتي حتي طفت علي السطح سيرة قناة الجزيرة، فإذا به يشكك في نوايا القناة ومصادر تمويلها.
في الحقيقة كان هذا اللقاء نقطة تحول في اهتمامي بالجزيرة فبدأت أجمع عنها معلومات وأتابع في نفس الوقت برامجها وأساليب صحفييها في الحوار واختيار الشخصيات والموضوعات. وعدت أبحث عن أمر «قناة الجزيرة» في كل ما هو متاح من مصادر المعرفة.. وكانت حصيلتي المبدئية 140 مقالة في صحف أوروبية وأمريكية وثلاثة كتب باللغة الإنجليزية.. عجيب هذا الاهتمام العالمي بأمر قناة عربية في بلد لا يزيد عدد سكانه علي نصف مليون نسمة! هل يستطيع أحد أن يدلني علي مقالة واحدة ذات قيمة عن قنواتنا الفضائية الأخري. لقد عشت في بلاد كثيرة مثل بريطانيا واستراليا وبلاد أخري مثل الفلبين و«الواق واق» فلم أر تليفزيوناتهم تهتم في نشراتها الإخبارية بصاحبة الجلالة ولا صاحب المعالي رئيس الوزراء وهم يمارسون أنشطتهم الروتينية، لأن هذه لا تشكل خبراً يستحق الاهتمام، اللهم إلا في حالتين؛ أن يكون لقاءً بعد خصومة وقطيعة، أو ما يسمونه في مجلس العموم البريطاني «ساعة الأسئلة».. وما تشاهده في هذه الساعة عملية جلد حقيقية لرئيس الوزراء ومحاسبته من قبل المعارضة علي كل صغيرة وكبيرة. الجزيرة إذن ظاهرة فريدة في الإعلام العربي ولم أشعر بندم أو خيبة أمل أنني قضيت بضعة أشهر أقرأ وأقلب في الوثائق والكتب والمقالات بحثًا عن سر قوة هذه القناة. ربما أفضل ما قرأت في هذا المجال هو كتاب بعنوان: «الجزيرة ــ كيف تحدت قناة إخبارية عربية الغرب» مؤلفه «هيو مايلز» نشر سنة 2005م ويحتوي علي 438 صفحة،. والمؤلف صحفي إنجليزي يكتب مقالاً أسبوعيا لإحدي المجلات المتخصصة في بريطانيا، ولكنه يعمل في نفس الوقت في شبكة «سكاي نيوز» الإخبارية بلندن.. يقول عن وظيفته إنه كان يشاهد ويراقب القنوات المنافسة الأخري، ويرصد كل صورة تنطوي علي خبر مهم، ويتأكد أن سكاي نيوز لم تهمل أو تفتقد الحصول علي هذه الصورة الهامة. عندما بدأت الحرب الأمريكية علي العراق تغيرت نوبته في المراقبة فأصبحت 12 ساعة تبدأ الساعة السابعة مساء وتنتهي الساعة السابعة صباحًا، يسجل فيها صور الجزيرة لبثها في نشرات أخبار قناة «سكاي نيوز».. يقول مايلز: كانت مشاهدة هذه الصور علي مدار 12 ساعة متواصلة كل ليلة حتي الصباح عملية مرهقة خلفت طنينًا دائمًا في رأسي واستغرقت جهازي العصبي استغراقًا كاملاً، لدرجة أنني لم أعد قادرًا علي متابعة واجباتي الأخري في الكتابة للصحيفة التي كنت مرتبطًا بها.. فقد كان علي أن أكتب مقالاً أسبوعيا لمجلة «لندن ريفيو أوف بوكس» ولكنني كلما جلست للكتابة لا أري أمامي سوي صور الحرب في العراق.. كنت كمن يدور حول نفسه.. حتي النوم أصبح متعذرًا علي رغم طول السهر.. فإذا حل فجأة استلقيت كالمغشي عليه.. وعندئذ تهاجمني أحلام كالكوابيس منسوجة بصور ومشاهد الحرب التي رأيتها في الليلة السابقة. فلما علم رئيس التحرير بحالي اقترح علي أن أطرح الموضوع الأصلي وأن أكتب عن تجربتي في مشاهدة الحرب علي قناة الجزيرة. يقول مايلز: «هكذا بدأ اهتمامي ومنطلق بحثي حول

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions