افتتاحيات.. لماذا أنشر؟
مجلة الآداب
بيروت: العدد 12 ديسمبر 2008 ــ السنة 56
أنشر لأننى لا أعْرف مهنةً أخرى أعيشُ منها بشرف وكرامة غير التعليم الذى أكرهُه.
أنشر لأن أبى وأمى أورثانى كميات هائلة من الكتب والمجلات. وأورثانى معها
أنشر لأننى لا أعْرف مهنةً أخرى أعيشُ منها بشرف وكرامة غير التعليم الذى أكرهُه.
أنشر لأن أبى وأمى أورثانى كميات هائلة من الكتب والمجلات. وأورثانى معها مستودعاً رطباً ورفوفاً صدئة وصناديق ونستون ومارلبورو مليئة وفارغة. ولا يخلو الأمرُ أيضاً من بضعة صراصير وفئران اقتاتت على وجودية سارتر وإباحية مورافيا وكولن ويلسون زمنًا طويلاً.
أنشر لأننى أعجزُ عن الكتابة أحيانًا، أو لأننى أقرأ مادة تعبر عما كنتُ سأقوله بنفسى فإذا بها تقوله بجمال أكبر أو قوة إقناع أعظم.
أنشر لأنى أبلغُ أحيانًا قمة التشاؤم من الوضع العربي، أو لأننى أحلق أحيانًا عند ذروة التفاؤل والحالة الأخيرة لا تتعدى الهنيهات.
أنشر وأكتب لأننى مازلتُ أومن بدورٍ للكلمة فى مواجهة أعداء الحرية، كالعسكر ورأس المال والناطقين باسم الله. وبكلام آخر: أنشر كى أُسهم فى «نشر عرض» القامعين والمنافقين وتجار المرأة والوطن والدين.
أنشر، طولاً وعرضاً، من بيروت إلى أستراليا، ومن العربية إلى اليابانية، كى لا يصدق اللبنانيون أن بلدهم هو صانع الحضارة يعنى السيفيليزاسيون الأوحد، وخاتم أنبيائها، ومحطم أرقامها القياسية، أو كى لا يتوهموا أن العالم بأسره منقسم إلى معسكرين: 14 آذار و8 آذار.
أنشر وأترجم لأن الآداب الأخرى التى أنشرها وأترجمها تُثْرى لغتى العربية، التى لا أرى لى وطنًا ولا حياة خارجها.
أنشر وأكتب كى تعرف ابنتاى الصغيرتان أن العربية لم تتحول بعدُ إلى ديناصور منقرض على شاشات حاسوبهما الصغير، وأن ثمة كتبًا لاتزال تصدر فعلاً بلغات غير «الإنجليش» و«الفرانسيه».
أنشر كى أسهم فى ألا تبقى هذه المهنةُ النبيلةُ فى يد ناشرين، كثيرٌ منهم خَدَمُ سلاطين، وتجارٌ بلا قلب ولا رسالة، وقراصنة جشعون، ومزورون نصابون، ومذهبيون، وطائفيون.
أنشر كى أعزز الخيارات العلمانية والقومية ــ اليسارية وسط طوفان التنظير للواقعية والقُطرية و«الليبرالية»، ولأدفع قدُمًا بالأدب الراقى الممتع والجريء فى خضم الرداءة والاستسهال والقيود.
أنشر لأن لا نشر أو ناشرين، كما أنه لا حرية بلا كتابة. فلو لم يكن ثمة ناشرون صلبون لما عَرفت الثقافة العربيةُ «نقد الفكر الديني» لصادق جلال العظم دار الطليعة، و«الإسلام فى الأسر» للصادق النيهوم دار رياض الريس، و«أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ دار الآداب، و«أحد عشر كوكبًا» لمحمود درويش دار الجديد، و«هوامش على دفتر النكسة» لنزار قبانى مجلة الآداب، وعشرات الإبداعات الجديدة الممنوعة فى أوطانها فى الأمس القريب واليوم.
أنشر لأنى أحب أن أشرك الآخرين فى قراءة ما يصلنى من مواد، سواء للمجلة أو للدار هاكم أحد الأسرار: أحيانًا أنشر مادة لا لأننى أحببتها، بل لأننى أحسست بأن غيرى قد يحبها؛ فإن حصل ذلك بعد النشر فعلاً، زهوت بنفسى وسعة صدري.
أنشر وفاءً وحبًا لمن اعتبروا النشر جزءًا متممًا لعملهم فى الكتابة والثقافة والسياسة، فعانوا الرقابة وإتلاف الكتب والنفى والتهميش.. ثم غادرونا وهم يخشون أن يلتفتوا إلى الوراء.
سماح إدريس