هواجس الغرب تجهض حوار الحضارات
يوليو 2006
علي مدي العقدين الماضيين برزت الدعوة إلي حوار الحضارات أو حوار الثقافات كما يحلو للبعض أن يسميه، كظاهرة ذات وجه إنساني للتغلب علي أسباب الصراع والشقاق
المحـتــوي
علي مدي العقدين الماضيين برزت الدعوة إلي حوار الحضارات أو حوار الثقافات كما يحلو للبعض أن يسميه، كظاهرة ذات وجه إنساني للتغلب علي أسباب الصراع والشقاق ومشاعر الكراهية والعداء، التي تنجم عن تباين الثقافات وتصادم القيم والتقاليد التي تحكم البيئات الاجتماعية المختلفة لشعوب العالم. وبدا وكأن أجندة السياسات العالمية بدأت تفسح الطريق أمام جهد إنساني خلاق، يعيد وضع الحضارة الإنسانية تحت مظلة اتفاق شامل، لصياغة سلم للقيم تتوافق عليه البشرية، يحافظ علي التنوع الثقافي، ويدعم وشائج التفاهم والتسامح، ويتجاوز أسباب الخلافات المصطنعة والجهالات المتفشية، ويعلي قيم الترابط والتواصل والتبادل الثقافي، بما يدحض دعاوي «صراع الحضارات» التي روج لها كثيرون علي رأسهم الأمريكي صمويل هنتنجتون.
وطوال هذه السنوات لم تكن تمر مناسبة أو تقع أزمة طارئة أو مفتعلة تعكر صفو العلاقات الدولية، أو يثور لقاء في منتدي سياسي أو ثقافي أو اقتصادي إلا وتطرح فيه وعلي أجندته دعوة حارة إلي ضرورة استمرار حوار الحضارات علي مستويات مختلفة: بين رجال الدين، علي مستوي الأديان السماوية الثلاثة تارة. أو علي المستوي الثقافي بين الأدباء والمفكرين والإعلاميين تارة أخري. أو علي المستوي السياسي والدبلوماسي لمناقشة التداعيات الدولية الناجمة عن الاختلاف والخلاف المتجذر تاريخيا وإقليميا بين الدول والتكتلات السياسية تارة ثالثة، بهدف البحث عن القواسم المشتركة، وإيجاد الأرضية الكفيلة بحل المنازعات والصراعات الإثنية والعرقية ذات الأبعاد السياسية التاريخية وتجاوز مشاعر الكراهية وعقد النقص والاستعلاء الكامنة في التعامل بين الشعوب.
ولا يوجد إحصاء دقيق لعدد الندوات والمؤتمرات التي عقدت خلال العقد الأخير، تحت أسماء وعناوين مختلفة في عواصم العالم شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا. ولكن الثابت أنها ربما تجاوزت الآلاف، وأنفقت عليها الملايين، واستهلكت آلاف الساعات والصفحات، سواء قبل أو بعد أحداث سبتمبر 2001 دون أن تفضي إلي تحقيق النتائج المرجوة، بل لعلها استخدمت في حالات كثيرة لإطفاء الحرائق المشتعلة لبعض الوقت، وللتغطية علي أهداف سياسية أبعد مدي وأكثر خطرًا مما يظنه الكثيرون، دون أن تؤخذ بالجدية الكافية.
فقبل أحداث سبتمبر جاءت الدعوة إلي حوار الحضارات كرد فعل علي حالة التوتر التي أعقبت نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي وعودة أوروبا الشرقية إلي أحضان الغرب. واستخدمت مقولة الخطر الإسلامي بديلاً عن الخطر السوفيتي، لتجميع القطعان الأوروبية الشاردة تحت راية التحالف الأطلنطي، باعتبار أن الخطر الإسلامي هو الذي يهدد حضارة الغرب وقيمه وإنجازاته، ويعرض النظام العالمي الجديد للانهيار.
وبعد أحداث سبتمبر استولت قضية الإرهاب والحرب علي الإرهاب علي مجمل الأوضاع العالمية. وجري في الغرب إخضاع معظم القضايا والمنازعات الإقليمية لنظريتهم في الحرب علي الإرهاب باعتبارها نتيجة لتنامي الأصوليات الإسلامية المتطرفة التي تمثلها جماعات عنف راديكالية بزعامة بن لادن وأمثاله ممن خرجوا من عباءة مجتمعات إسلامية متخلفة، تحكمها نظم سياسية رجعية، معادية للديمقراطية ولقيم الحضارة الغربية القائمة علي الحريات والمساواة وحقوق المرأة. وتحركها بواعث العداء والكراهية لمجتمعات الغرب المتقدمة.. في مقابل التجاهل الكامل للمظالم السياسية والنزاعات الإقليمية وسياسة الانحياز لإسرائيل وإنكار الحقوق العربية.
وكانت هذه المفاهيم هي التي قدمت المبرر الأخلاقي والسياسي للحرب في أفغانستان والحرب ضد العراق، بحيث وقر في أذهان قطاعات واسعة من شعوب العالم: أن «الحرب علي الإرهاب» هي «حرب علي الإرهاب الإسلامي» ليختزل بعد ذلك في «الحرب علي الإسلام». واقترن هذا المناخ بتصريحات متناثرة من رؤساء دول وسياسيين كبار ومثقفين، تؤكد هذا التوجه وتزينه في عقول العامة، وعلي رأس هؤلاء بعض التصريحات المعروفة التي أدلي بها الرئيس الأمريكي بوش ورئيس وزراء إيطاليا السابق بيرلسكوني.
علي أن هذه الموجة ما لبثت أن أخذت تنحسر في شكلها الظاهري، نتيجة الانهيار الشديد الذي أصاب العلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي بدرجة باتت تهدد المصالح والعلاقات المتبادلة، وبالأخص في ضوء النتائج الكارثية لحرب العراق وسقوط الذرائع التي توسلتها واشنطن ولندن في شن ما أسمته الحرب علي الإرهاب.. لتفتح الطريق أمام قضايا أكثر أهمية تتعلق بالمصالح الاستراتيجية والاعتبارات الأمنية، والتحسب لمواجهة حالات الفوضي التي يمكن أن تنجم عن انهيار الأنظمة العربية القائمة أو تعرضها للسقوط تحت تأثير تيارات الإسلام السياسي المتنامية في العالمين العربي والإسلامي. وضاعفت منها المخاوف المتزايدة بسبب حركات النزوح والهجرات الكثيفة القادمة من أفريقيا ومن دول الجنوب الإسلامية إلي الشواطئ الأوروبية.
لقد ظل الحوار بين الحضارات أو الثقافات يفرض نفسه علي الساحة الدولية طوال العقدين الماضيين، وانخرطت فيه القوي السياسية والثقافية والإعلامية، ثم جاءت قضية الرسوم المسيئة بمثابة اختبار عملي للعديد من القرارات والتوصيات التي أسفرت عنها الجهود الحوارية، لتثبت إخفاق هذه الجهود. وكانت المواجهة الأخيرة قبل أزمة الرسوم، تلك التي دارت حول النظام العالمي الجديد للمعلومات والاتصالات، حيث كانت المواجهة بين مبادئ سيادة الدولة والانسياب الحر للمعلومات قبل انتشار الإنترنت في منتصف الثمانينيات. أما المواجهة الأخيرة فتركزت علي الدين. وفي المؤتمر المشترك الذي عقده الاتحاد الأوروبي ومنظمة المؤتمر الإسلامي في اسطنبول عام 2002، ركز علي الأبعاد السياسية للحضارة والتقدم والتناغم بين القيم المشتركة. ولكن عندما قدمت منظمة المؤتمر الإسلامي قرارًا بشأن مكافحة الإساءة للأديان للجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في جنيف في أبريل 2004 جاءت الأصوات بنسبة الثلثين من بقية العالم، مقابل الثلث من الغرب أي من دول الاتحاد الأوروبي بالدرجة الأولي.
وعندما وقعت أزمة الرسوم المسيئة ظهر عمق الهوة بين الطرفين في اللقاءات التي تمت في إطار عملية برشلونة والحوار