جدل الطائفية والسياسة
يناير 2007
أصبح من الواضح أن طغيان البعد الطائفي علي السياسة في معظم المجتمعات العربية، وتغلغل التشدد الديني في قضايا الفكر والعمل السياسي والحياة اليومية، هو الخطر
المحـتــوي
أصبح من الواضح أن طغيان البعد الطائفي علي السياسة في معظم المجتمعات العربية، وتغلغل التشدد الديني في قضايا الفكر والعمل السياسي والحياة اليومية، هو الخطر الأكبر الذي يهدد بناء الأمة ويعوق جهود النهضة، ويجهض التحول إلي الديمقراطية، ويعيد إحياء النزعات القبلية والعشائرية بدرجة تقترب من النكوص إلي عصور الجاهلية الأولي.
فلم تعد الطائفية كما تُمارس اليوم في عدد من الدول العربية مجرد خلاف في المذهب أو الدين، ولكنها أضحت وسيلة وسببًا لتعميق الخلاف السياسي وتحويله إلي صراع شعبوي، لا يكتفي باختلاف زاوية الرؤية إلي مصالح المجتمع وأساليب معالجتها، بل يمكن أن يتجاوزه إلي تدمير النسيج الاجتماعي، ووضع بذور حرب أهلية، وتقسيمات عرقية، وإفقار كامل للهوية عندما تختزل في الولاء لطائفة بعينها. وهو ما بات يغري القوي الأجنبية بالتدخل لفرض إرادتها.
وربما كانت أولي المواجهات التي نشبت في المجتمع الإسلامي وبذرت بذور الطائفية التي نري مظاهرها الآن، ما وقع من انقسام بين أنصار علي وأنصار معاوية في معركتي الجمل ثم صفين، انبثقت منه حركة التشيع ثم حركة الخوارج. حيث بدأت مظاهر الانشطار والفرقة بين المسلمين، يصلي كل فريق منهم وراء قائده. وتفرع عنه الخلاف حول مبدأ الإمامة لدي الشيعة التي اعتبرت من أهم أركان الفقه الشيعي بعد ذلك، علي خلاف ما يعتقد به أهل السنة من أن الإمامة متروكة للشوري بين المسلمين.
وهكذا بدأت الطائفية في الأصل صراعًا علي السلطة نجم عن تعصب مذهبي سياسي، ارتدي عباءة الدين، وتطور إلي عصبية أدت إلي التعصب. وأدت في لحظات الاحتقان والتوتر إلي رفض التعايش مع الآخرين، وإنكار حقوقهم وإقصائهم بسبب الانتماء إلي مذهب ديني آخر. وقد يتخذ هذا الإقصاء شكل التهميش الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بدرجة قد تؤدي إلي الاضطهاد الطائفي والإخلال بالتوازن الاجتماعي، علي نحو يفتح الطريق إلي التدخل الخارجي.
وبعبارة أخري، فنحن بإزاء حلقة مفرغة من صراع علي السلطة تفضي إلي اختلافات مذهبية، تتحول إلي دفاع عن مصالح الطائفة التي تدين بمذهب معين تفجر صراعًا سياسيا، وقد يصل التعصب الطائفي إلي درجة تقديم الولاء للطائفة في الداخل والخارج علي مصلحة الوطن الأكبر، وتمييز طائفة من أبناء الوطن علي طائفة أخري.
ولا جدال في أن ظهور الطوائف في المجتمعات الإنسانية يعد أمرًا طبيعيا. ولكن البعد الطائفي عادة ما يظهر بقوة علي السطح في حالات القلق الاجتماعي والتحول السياسي، وانهيار الأوضاع الأمنية الداخلية، وغياب العدالة الاجتماعية، وهزيمة الفكر القومي والاستقواء بدول خارجية.
وعادة ما تكون المهمة الأولي في مرحلة النهوض بالأمة وبناء الديمقراطية أكثر تركيزًا علي تذويب الحواجز الطائفية، وبناء وحدات سياسية لا تقوم علي أساس طائفي أو قبلي، بل تقوم علي مبادئ تكرس رؤية موحدة للمصالح القومية، وبما يضمن حقوق المواطنة وتكافؤ الفرص بين أبناء الوطن الواحد، وعلمنة العلاقات الاجتماعية والسياسية.
ولكن لسوء الحظ جاء اندلاع الفرقة الطائفية في الوطن العربي حاليا إبان لحظة تاريخية حاسمة.. تشهد فيها المجتمعات العربية مرحلة متعثرة من الانتقال إلي الحداثة والتحول الاجتماعي والسياسي.. من مجتمعات قبلية وعشائرية إلي مجتمعات مدنية حديثة، ومن نظام يقوم علي حكم الفرد والاستبداد بالسلطة إلي مشاركة الشعوب في تقرير مصيرها ومحاسبة حكامها. ومن أنظمة أبوية ديكتاتورية إلي أنظمة سياسية ديمقراطية تقوم علي الاختيار الحر في إطار مؤسسات تشريعية وبرلمانية.
وقد يقال إن انفجار العنف الطائفي في العالم العربي، ما كان ليحدث بهذه الدرجة وعلي نطاق واسع، إلا بسبب أمريكا التي اصطنعت لأسباب ملفقة حرب العراق، ودخلت بعتادها وجنودها وأفكارها لتفرض أوضاعًا جديدة علي الشرق الأوسط، وتعيد صياغة مجتمعاته وتطهرها من بؤر الإرهاب والتخلف.. فأطلقت زلزالاً مدمرًا قلب العراق رأسًا علي عقب، وأشعل نيران التناحر والبغضاء بين طوائفه ومذهبياته. وبات يهدد جيران العراق من الدول العربية المتاخمة. وفتح الطريق أمام النفوذ الإيراني السياسي والمذهبي من أوسع الأبواب.
ولكن الواقع أن العراق عاش أكثر من 80 عامًا كدولة واحدة، من بينها أكثر من ثلاثين عامًا متصلة تحت حكم البعث الديكتاتوري.. إلا أن الانقسامات الطائفية في العراق لم تذب تمامًا في أي وقت من الأوقات، بل بقيت كامنة تحت السطح بين السنة والشيعة والأكراد، ووقعت مذابح ومآس محزنة. وهذا بالضبط ما استغله المحتل الأمريكي حين أراد أن يقسم العراق. فقد وجد مخططًا جاهزًا، وتاريخًا قديمًا، وبذرة مكنونة، وتقليدًا متبعًا، فوضع منذ بداية الاحتلال نصب عينيه الأساس لتقسيم العراق إلي دويلات طائفية. ومنذ تم إقرار الدستور العراقي تحت إشراف الاحتلال الأمريكي وضعت بذرة الاعتراف بالحكم الذاتي للأكراد وبنظام الفيدرالية الذي يسمح لبعض الأقاليم العراقية أن تتمتع بأوضاع إدارية غير خاضعة للحكم المركزي في بغداد.
ولا يماري أحد في أن المحتل الأمريكي عمل علي تأجيج الخلافات المذهبية وإثارة المنافسات والأحقاد بين الشيعة والسنة وإعطاء الأكراد وضعًا متميزًا في التركيبة العراقية. وجري تشكيل الحكومات وتوزيع الحقائب الوزارية والمؤسسات التشريعية علي أساس المحاصصة الطائفية، بل وتم تشكيل القوات العراقية والأجهزة الأمنية والاستخباراتية لتكون خاضعة للنفوذ الشيعي. ونتج عن ذلك أن «فرق الموت» التي شكلتها وزارة الداخلية العراقية بحجة مطاردة البعثيين من أنصار صدام ارتكبت مجازر بشعة ضد ألوف الأبرياء من السنة. وذلك بفضل الهيمنة الشيعية الكاملة للمجلس الأعلي للثورة الإسلامية برياسة عبدالعزيز الحكيم.
ومن المعروف أن الحكيم ارتبط بعلاقات وثيقة مع إيران، وأمضي فيها معظم سني حياته في المنفي تحت حكم صدام. وهو ما سمح للاستخبارات الإيرانية بأن يكون لها دور متصاعد في العراق. وقد وقعت عمليات قتل منظمة ضد شخصيات عراقية من الفنانين وأساتذة الجامعات والأدباء علي أساس هويتهم السنية.
ويذكر سيف الخياط في كتابه «قصة الشيعة في العراق» أن التحول الدراماتيكي