صحافة الصوت والصدي..
مارس 2007
أجِزْني إذا أنشدت شعرًا فإنما
بشــــعري أتـــــــــاك المادحــــــــون مُـــــــردَّدًا
ودع كل صــــــوت غير صـــــوتي فإنني
أنا الصائح المحكي والآخر
المحـتــوي
أجِزْني إذا أنشدت شعرًا فإنما
بشــــعري أتـــــــــاك المادحــــــــون مُـــــــردَّدًا
ودع كل صــــــوت غير صـــــوتي فإنني
أنا الصائح المحكي والآخر الصدي
بهذه الأبيات من القصيدة الشهيرة التي مدح بها أعظم شعراء العربية أبوالطيب المتنبي أميره سيف الدولة الحمداني، وضع الأساس قبل عدة مئات من السنين لطبيعة العلاقة الملتبسة بين المثقف والحاكم، عندما كان الشاعر يقوم بوظائف متعددة.. فهو وزير الإعلام، والمتحدث الرسمي، والمثقف التابع، والمستشار الأمين، والصحيفة الرسمية، وجهاز الإعلام الحكومي..
وقد حاول الشاعر في قصيدة تعد من أصدق قصائد المديح التي عرفها الشعر العربي، أن يقنع الأمير بمؤهلاته حتي يكون الجزاء بقدر العمل.. فهو وحده الذي يملك طلاقة اللسان، ونصاعة البيان، وقوة الحجة.. حتي ليصدقه كل الناس فيسيرون وراءه، ويقتنعون بآرائه. أما الآخرون فهم مجرد أصداء تتردد، وأصوات تأتي وتذهب، فلا أحد يصدقها أو يحاكيها. بل هم علي الأرجح مرتزقة لا يعرفون غير فنون الابتزاز والتشهير، يروجون الأكاذيب والشائعات. وما أسهل ما تسقط الأقنعة من علي وجوههم بمجرد أن يحصلوا علي الثمن، ومن ثم فلا يصدقهم أحد وليس لهم وزن ولا تأثير، وليس لكلماتهم قيمة ولا قدرة علي الإقناع.
في العصر الحديث، وفي العقود الأخيرة من القرن العشرين، اختفت الحاجة إلي مناصب وزير الإعلام في الدول الديمقراطية، التي يقوم النظام فيها علي أساس حرية التعبير وحرية تداول المعلومات والحصول عليها، حيث أصبحت وسائل الإعلام تعبر عن ضمير المجتمع، وتنوب عنه في رقابة الشأن العام، وتقوم بمهمة الإعلام والتثقيف والتنوير، ومن ثم لم يعد من حق الدولة أو السلطة التنفيذية أن تتحكم في نشر المعلومات أو حجبها، اللهم إلا في حالات الضرورة القصوي التي تتعرض فيها الأمة لأخطار فادحة مثل حالة الحرب أو التعرض لهجوم خارجي عدواني.
وما إن سقطت القيود، واختفت الرقابة، وانطلقت الحريات بغير حدود، حتي اشتدت حمي المنافسة بين وسائل الإعلام علي اختلافها، ولا سيما بعد دخول الفضائيات والشبكة الإلكترونية حلبة السباق. فتماهت الحدود بين العام والخاص، وأصبحت الشخصية العامة جزءًا من الاهتمام العام، من حق الرأي العام أن يعرف كل شيء عنها وعن مصادر ثرواتها، ويكيل لها المديح بقدر ما يوجه إليها اللوم. لا فرق في ذلك بين السياسي ونجم السينما ولاعب الكرة وكل من دخل عالم الأضواء، كما أصبح من حق الرأي العام أن يحصل علي المعلومات التي تمكنه من الإحاطة بحقائق الأمور، مهما اتسمت بالسرية والخصوصية، وبالأخص إذا تعلقت بمشكلة أو قضية عامة. إذ بناء علي ما يصدره الجمهور من حكم، تمنح الثقة لنائب أو حزب أو مرشح لمنصب عام تحسم نتائجها في الانتخابات البرلمانية أو النقابية أو غيرها من أشكال التمثيل الديمقراطي.
غير أن هذا المنظور الذي زاد من إيقاعه سهولة الانتقال وثورة الاتصالات والتفاعل بين الوسائط الإعلامية المتعددة، لم يجعل الحصول علي المعلومات ونشرها أقل خطرًا أو أيسر في التناول والتداول، بل أدي إلي أن تسعي مصادر المعلومات التي يهمها إبقاء القرارات الحساسة والأسرار المحرجة والاتصالات الخفية تحت السيطرة في خزائنها، فلا تذاع إلا في الوقت المناسب.. ربما بعد عشرات السنين، أو بعد أن تفقد أهميتها، أو بعد أن يخرج المسئول من منصبه ويفلت من الحساب والعقاب، أو يتدخل القدر لإنقاذه بالموت.
وفي السنوات الأخيرة، وخاصة بعد حربي أفغانستان والعراق، وما سمي بالحرب علي الإرهاب، ظهرت أساليب جديدة في إخفاء المعلومات أو تلوينها وتشويهها، بحيث تؤدي إلي تحقيق أهداف بعينها. وهو ما عرف باسم التضليل الإعلامي misinformation أي إذاعة معلومات كاذبة غير دقيقة، في ثوب معلومات صحيحة بحيث يسهل خداع المتلقي وتضليله. وقد استخدمت واشنطن هذه الوسيلة علي نطاق واسع وبأكثر الأساليب إقناعًا وخداعًا في حرب العراق، حين أقنعت أجهزة الحرب النفسية في البنتاجون قطاعات واسعة من الرأي العام الأمريكي والرأي العام العالمي بامتلاك العراق لأنواع من أسلحة الدمار الشامل تهدد الأمن العالمي. وقدم كولن باول وزير الخارجية الأمريكية أمام أعضاء مجلس الأمن عرضًا مثيرًا لمعلومات موثقة عن هذه الأسلحة، ثبت كذبها باعترافه فيما بعد.
هذه الطريقة الأمريكية لم تكن ملائمة للعقلية الأوروبية، التي ابتدعت أسلوبًا آخر، قد يختلف في الشكل، ولكنه لا يختلف في المضمون والهدف، وهو ما يعرف بفريق «الملفقين» Spin Doctors. وهم عبارة عن مجموعة من المستشارين الذين يحيطون برئيس الوزراء، مهمتهم تبرير السياسات وتلفيق الأخبار والحقائق، وتسريبها إلي الصحافة والرأي العام بما يساعد علي تجميل الصورة العامة للحكومة وبرامجها وسياساتها الخارجية أو الداخلية. وينطوي عمل «الملفقين» الذين يعتمدون علي دراسة نفسية الجماهير ومشاعرهم وتطلعاتهم، علي النفاق وتزوير المعلومات.. وعلي مدي السنوات الأخيرة برز هذا الدور بصورة واضحة في تلفيق الوقائع والأحداث التي اعتمد عليها توني بلير رئيس وزراء بريطانيا في تبرير الحروب والمجازر والجرائم التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، سواء في العراق أو في لبنان وفلسطين باعتبارها مخاضًا لولادة عالم جديد في هذه المنطقة، جريًا وراء الأوهام والمزاعم التي روجها أمراء الظلام من المحافظين الجدد في واشنطن والسياسات الفاشلة التي انتهجتها إدارة الرئيس بوش.
وما بين «التضليل الإعلامي» علي الطريقة الأمريكية و«خداع الملفقين» علي الطريقة البريطانية، يظل حجم الخداع الإعلامي وإخفاء الحقائق وأساليب الابتزاز، محصورة في نطاق زمني محدود لا يستمر طويلاً، وداخل الدوائر الإعلامية الوثيقة الصلة والمتعاونة مع مراكز صنع القرار والتي تتحمل مهمة الترويج والنشر في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمطبوعة، بهدف تخدير الرأي العام وحمله علي تصديق ما يلقي إليه من أخبار ومعلومات، بحيث يسهل بعد ذلك تصوير الهزيمة انتصارًا والفشل نجاحًا والشر خيرًا.
وفي وسائل الإعلام التي تعيش وتعمل في ظل مناخ ديمقراطي حقيقي، يصعب مهما اشتدت أساليب التضليل الحكومي