لا يوجد من يدفع الثمن ..لماذا لا يتكامل العرب اقتصاديا؟
مارس 2004
رغم كثرة الحديث عن التعاون الاقتصادي العربي، أو التكامل أو حتي الاندماج، فلا تزال العلاقات الاقتصادية العربية/العربية محدودة. فمنذ إنشاء جامعة الدول
المحـتــوي
رغم كثرة الحديث عن التعاون الاقتصادي العربي، أو التكامل أو حتي الاندماج، فلا تزال العلاقات الاقتصادية العربية/العربية محدودة. فمنذ إنشاء جامعة الدول العربية في 1945 ثم المجلس الاقتصادي والاجتماعي في 1953 ومجلس الوحدة الاقتصادية العربية 1957، ورغم العديد من الاتفاقات الاقتصادية العربية، فلا تزال التجارة البينية العربية أقل من 10% من حجم التجارة الخارجية للدول العربية في حين أنها تبلغ حوالي 40% في مجموعة الدول الآسيوية وأكثر من 20% في دول أمريكا اللاتينية، فضلاً عن السوق الأوروبية التي تزيد فيها التجارة البينية علي 60%. ولا يقتصر الأمر علي ضآلة حجم التجارة العربية البينية، بل إن معدل نموها شهد في التسعينيات تناقصاً وليس تزايداً. ونأمل أن يكون في توقيع اتفاقية منطقة التجارة العربية الحرة في 1998 والبدء في تنفيذها ما يغير من هذه الأوضاع والتوجهات.
ويعترف معظم الاقتصاديين بوجود عدد من العقبات المادية أو المؤسسية التي أعاقت في وقت أو آخر من نمو التجارة العربية علي النحو المأمول به. وهناك تداخل في كثير من الأحيان بين العقبات المادية والمؤسسية. فمن بين العقبات المادية نحو نمو التجارة ضعف شبكة المواصلات من طرق وخطوط ملاحية وخدمات مرتبطة، ومع ذلك فكثيراً ما تزيد الإجراءات المتبعة من أسباب عرقلة انسياب التجارة بين الدول. فإذا كانت شبكة الطرق بين مختلف الدول غير كافية علي عكس الوضع مثلاً بالنسبة للدول الأوروبية فإن إجراءات الحدود والتخليص الجمركي كثيراً ما تزيد الأمور تعقيداً مما يؤدي إلي رفع تكلفة النقل. أضف إلي ذلك أن هناك علاقة تبادلية يختلط فيها السبب بالنتيجة في العلاقة بين نقص حجم التجارة العربية البينية ونقص خطوط الملاحة البحرية بين مختلف المواني العربية. فنتيجة لصغر حجم التجارة العربية البينية بين الدول العربية لا توجد خطوط ملاحية كافية ودائمة وبالتالي ترتفع تكلفة النقل بين هذه الدول. وبالمقابل، فإنه نظراً لعدم توافر الخدمات الملاحية بشكل كاف، فإن فرصاً للتجارة تضيع. وهكذا، تتداخل الأسباب مع النتائج، وتصبح هذه العقبة سبباً لنقص التجارة ونتيجة في نفس الوقت.
وبالإضافة إلي هذه العقبات المادية، كانت هناك عقبات سياسية ومؤسسية، وخاصة في الستينيات عندما انقسم العالم العربي إلي معسكرين، معسكر الدول «التقدمية» أو الاشتراكية من ناحية، ومعسكر الدول «الرجعية» أو الرأسمالية من ناحية أخري. وبصرف النظر عن دقة الأوصاف، فقد عكس هذا الانقسام السياسي والأيديولوجي قطيعة كبيرة في العلاقات الاقتصادية لأسباب سياسية وأيديولوجية. ورغم أن هذه الأوضاع قد تلاشت إلي بعيد منذ السبعينيات، فإن آثار هذه الفترة مازالت قائمة في الأذهان بدرجات متفاوتة. فمن ناحية مازالت هناك «ذكريات» الشكوك والريبة المتبادلة، وهناك أيضاً مؤسسات نشأت في ظل هذه الأوضاع، وبالتالي استمرت في ممارسات قديمة حيث يصعب تغييرها بين ليلة وضحاها.
علي أن الأمر لابد أن يكون أعمق مما تقدم فهذه العقبات أو معظمها، لا تعدو أن تكون أموراً وقتية ما تلبث أن تزول. وبالفعل فإن العديد من هذه العقبات مادية ومؤسسية قد تلاشت أو تضاءلت إلي حد بعيد خلال الثلاثين سنة الماضية، ولم تزل حال التكامل الاقتصادي العربي علي ما هي عليه. فمنذ السبعينيات وقد بدأ التناقض الأيديولوجي في الزوال، واتجهت معظم الدول العربية إلي الأخذ بشكل أو آخر من أشكال اقتصاد السوق والدعوة إليه. كذلك فإن الاستثمارات في البنية الأساسية، من حيث شبكة المواصلات وسعة المواني وحجم خطوط الطيران قد زادت بدرجة كبيرة. ومع ذلك فإن ذلك لم ينعكس في شكل تغيير ملحوظ في حجم العلاقات التجارية العربية، ومن ثم فلابد من البحث عن أسباب أكثر عمقاً وراء هذه الظاهرة.
ويمكن القول بأن تضاؤل النتائج المتحققة في ميدان التعاون الاقتصادي العربي يطرح قضية منطقية بالنسبة لمدي عقلانية العمل العربي. وهل يعمل «النظام العربي» لمصلحته أم ضد مصلحته؟ السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا لم يتحقق التكامل الاقتصادي العربي في الواقع رغم كثرة الحديث عنه؟
هل هناك منطق اقتصادي؟:
إذا كان صحيحاً أن مزيداً من الاندماج الاقتصادي الإقليمي (العربي) نافع ومفيد، فإن السؤال يطرح نفسه، لماذا إذن لم يتحقق هذا التقارب الاقتصادي العربي، ولماذا ظل شعاراً للمناسبات أكثر منه حقيقة علي أرض الواقع؟ هل معني ذلك انعدام في الرشادة الاقتصادية، بحيث يتجاهل المسئولون العرب مصالحهم ويتخذون مسارات ضد هذه المصلحة؟ ويتضمن طرح الموضوع بهذا الشكل عدة أمور يصعب التوفيق بينها؛ وهي أن:
1 -هناك اتفاق علي أن مزيداً من التعاون والاندماج الاقتصادي يؤدي إلي تحقيق مصلحة اقتصادية جوهرية للدول العربية.
2 -رغم الاعتراف بهذه المصلحة، فإن هذا التعاون لا يتحقق علي أرض الواقع بدرجة كافية رغم التغني بمزايا الوحدة عبر نصف قرن من الزمان.
3 -أخيراً يصعب أن ننسب إلي المسئولين في الدول العربية عدم رشادة السلوك أو انعدام المنطق في سياساتهم. فالمسئولون السياسيون في معظم الدول العربية رغم ما قد يبدو أحياناً يتصرفون عادة بدرجة كبيرة من الرشادة والدهاء السياسي ولا ينقصهم المنطق السليم في الاستقرار والاستمرار السياسي. فكيف تفوتهم هذه الحنكة السياسية عندما يتعلق الأمر بالمصالح الاقتصادية؟
هذه هي المعضلة. كيف يمكن التوفيق بين هذه المقولات الثلاث المشار إليها، كيف تكون رشيداً ومنطقياً في سلوكك السياسي بشكل عام، ولا تعمل في نفس الوقت علي تحقيق أوضاع تزيد من «المنفعة الاقتصادية العامة»؟
لعلّ الإجابة علي هذا التناقض تكمن في تحديد معني «المنفعة الاقتصادية العامة»، ومدي ما تتضمنه من تكاليف بالنسبة لمتّخذ القرار، الأمر الذي يتطلب التذكير بفكرة «السلعة العامة».
التكامل الاقتصادي «سلعة عامة»:
يعرف الاقتصاديون «السلعة» بأنها كل شيء نافع من ناحية وأن توفيرها يتطلب تكلفة أو تضحية من ناحية أخري. فالسلعة يجب أن تكون نافعة ولكنها أيضاً ليست مجانية بل إن لها تكلفة. فليس كل شيء نافع سلعة. فالهواء وهو أنفع الأشياء